الأهلية السياسية للمرأة وصلاحيتها للولايات العامة
الدكتور / عادل عامر

يعد مجال دراسات المرأة من المجالات الحديثة في العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ إذ أدى الاهتمام المتزايد بدراسة قضايا المرأة إلى تراكم الدراسات المختلفة ثم انفصالها عن العلوم الأم وتأسيس هذا المجال البحثي المستقل الذي أصبحت له اقتراباته ومفاهيمه المتميزة، وقد أدى تداخل العلوم في الدراسات الاجتماعية الغربية إلى أن أصبح موضوع المرأة والسياسة موضوعًا مشتركًا بين العلوم السياسية ودراسات المرأة.

وتبحث الدراسة التالية في موضوع العمل السياسي للمرأة في التصور الإسلامي فتحدد الإطار المعرفي والمبادئ التي تحكم هذا التصور وتميزه، وتتناول بالتحليل النقاط التالية:

مــقدمــة: توضح منهاجية الدراسة** الأهلية السياسية: (1) تعريفها وأقسامها (2) الآراء الفقهية في أهلية المرأة (3) أخطاء منهجية في المعالجة الفقهية لقضية الأهلية ** الولايات العامة (1) تعريفها ومفهومها (2) سماتها (3) الخلاف حول أهلية المرأة للولايات العامة وأدلته الشرعية:

أولاً:النص القرآني

ثانياً: السنة النبوية (القولية/ الفعلية)

ثالثاً: الإجماع

رابعاً: المصلحة (مصلحة الأمة/ مصلحة الأسرة)

خامساً: سد الذرائع
وتتميز منهاجية الدراسة بعدة سمات أبرزها:
1 – الأصولية: التي تعني قيام هذا المنهج على ربط العقل بالوحي، قرآنًا وسنة، وتحاول المشاركة في صياغة “فقه سياسي” يرتكز من ناحية على فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد، كما يرتكز من ناحية أخرى على فقه الأولويات، وينبني على فهم للواقع وإدراك لمقاصد الشارع معتمدًا في ذلك على قواعد علم أصول الفقه، بما يكفل ربط السياسة كعلم اجتماعي إسلامي بالعلوم الشرعية، وبما يضمن تكامل العقل والوحي في المنهاجية الإسلامية ويحقق الأصولية، وهي منهاجية تتبناها الباحثة في دراسات مختلفة حول الشورى والحرية، ودراسة المرأة هنا مجرد مثال وموضوع من ضمن اهتمامات أوسع.

2- الاستقامة: وتعني تقويم الواقع وفق الرؤية المثالية الإسلامية، وهو ما يربط الاستقامة من خلال البعد القيمي بنفع الناس، فالعلم وظيفة اجتماعية هدفها الإصلاح.

3 – الشـمول: لا تتناول الدراسة فقط مسئولية المرأة وطبيعة حركتها استنادًا للدراسات النظرية السابقة في هذا المجال أو ذاك، بل تعيد النظر في بعض المسلَّمات السائدة في الدراسات السياسية الشرعية الإسلامية وكلياتها النظرية.

وتسعى الدراسة إلى إثبات أن الرؤية الإسلامية تتأسس فيها مسئولية أفراد الأمة – رجالاً ونساءً – على تحقيق مقاصد الشارع، وتغيب فيها فكرة “تقسيم العمل الاجتماعي” بمعنى اختصاص المرأة بالأدوار الاجتماعية والرجل بالأدوار السياسية، بل ترى أن هناك تداخلاً في الأدوار وتفاوتًا في مساحتها في حياة الأمة والظروف التاريخية للجماعة بشكل مركب لا يقع في المساواة الميكانيكية الغربية، وأيضًا لا يفصل بين عالم النساء والرجال، بل ينطلق من تداخل الدوائر وتكامل الأدوار والمسئوليات.

وتقسَّم الدراسة إلى قسمين:
الأول: يدرس قضية أهلية المرأة، من حيث أهلية الوجوب وأهلية الأداء، ويناقش قضية النقص في الأهلية المرتبطة بكلا النوعين من الأهلية.

والثاني: يناقش الآراء المختلفة حول مدى أهلية المرأة لتولي الولايات العامة مستشهدًا بمجموعة من الأدلة الشرعية حول هذا الموضوع ومناقشًا للفقه السائد.

وتنتهي الدراسـة: إلى أن قضية المرأة هي إحدى الموضوعات التي تحكمها المنهاجية الأصولية، والتي تربطه بقضايا الفكر الإسلامي الأخرى، وبالتالي فإن قضية العمل السياسي للمرأة لا تنفصل عن قضية التجديد في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، حيث إن الانطلاق في سبيل خروج الأمة الإسلامية من حالة السقوط الحضاري التي تمرّ بها لن يتم إلا بمشاركة المرأة الفعالة في جهود الاجتهاد والتجديد، ثم جهود الإصلاح والتنمية، وهي المشاركة التي تحتاج إلى فقه التجديد للواقع وآليات تغييره وإدراك المرأة لمسئولياتها في هذا التغيير.
تعريف الأهلية وأقسامها
الأهلية هي الصلاحية، فشرط صحة التكليف بالواجبات الشرعية التي يندرج تحتها العمل السياسي هو كون المكلف أهلاً لما يكلف به، وقد عرّفها الأصوليون: بأنها صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له أو عليه، ولصدور الأفعال منه على وجه يعتدّ به شرعًا، وقسّموها إلى أهلية وجوب وأهلية أداء.

أ – أما أهلية الوجوب، فهي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه، وهي قسمان: ناقصة وكاملة.

فأهلية الوجوب الناقصة هي: صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق له فقط، كاستحقاق الجنين للإرث. وأهلية الوجوب الكاملة هي: صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه، وهي تثبت للإنسان من ولادته إلى موته.

ب – وأما أهلية الأداء، فهي صلاحية الإنسان لأن تصدر منه أفعال يعتدّ بها شرعًا، وهي أيضًا قسمان: ناقصة وكاملة.

فأهلية الأداء الناقصة هي:صلاحية صدور بعض الأفعال دون بعض، أو صدور أفعال يتوقف الاعتداد بها على رأي من هو أكمل منه عقلاً وأعلم بوجوه النفع والضرر، كحال الصبي المميز في العقود المالية.

وأهلية الأداء الكاملة هي:صلاحية الإنسان لصدور الأفعال منه مع الاعتداد بها شرعًا وعدم توقّفها على رأي غيره، وهي الأهلية الثابتة للبالغ الراشد، وهي مناط التكاليف الشرعية وتوجه الخطاب من الشارع (1). وقد لقي مفهوم الأهلية اهتمامًا في الكتابات الفقهية والقانون المدني، وتستخدمها الدراسة في سياق آخر هو العمل السياسي؛ أي أننا نبحث ما يمكننا تسميته “الأهلية السياسية”، أي أهلية المرأة لممارسة الأنشطة السياسية في المجتمع الإسلامي.
الآراء الفقهية في أهلية المرأة :
إذا كان الفقهاء قد أقرّوا بأهلية المرأة أهلية “كاملة” في الولاية الذاتية والمتعدية على الأموال، والولاية المتعدية على الغير كالحضانة والوصاية؛ أي: الأمور المدنية مع خلاف بينهم في بعض الجزئيات (2) فإن معظمهم قد تحفظ على أهليتها لممارسة العمل السياسي بمستوياته المختلفة، وكأنهم يرونها في هذه الحال ناقصة الأهلية.

وقد استند كثير من هؤلاء إلى حديث رسول الله: “يا معشرَ النّساءِ، تصَدَّقْنَ فإنني أريتكن أكثر أهل النَارِ، فقلن: وبمَ يا رسولَ الله؟ قال: تُكثرْنَ اللَعنّ وتكفرنَ العشير، ما رأيت من ناقصاتِ عقل ودين أذهب لِلُبّ الرَجل الحازم من إحداكُن، قلن: وما نقصانُ ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادةُ المرأةِ مثلَ نصفِ شهادةِ الرّجل؟ قلن: بلى. قال فذلك من نقصان عقلها.

أليس إذا حاضَتْ لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دِينها”(3)، فتحدّث البعضُ عمّا طبع عليه النساء من “نقص واعوجاج في أخلاقهن وميلهن إلى اتّباع الهوى، في مقابل التفوّق الطبيعي في استعداد الرجال ونهوضهم بأعباء المجتمع”(4)، واعتبروا النقص صفة قرينة بأنوثة المرأة، وهو الأمر الذي أدّى في نظرهم إلى “تخفيف الشرع بعدم تكليفهن بكثير مما يجب على الرجال كالجماعة والجُمع والجهاد والجزية”(5).
أخطاء منهجية في المعالجة الفقهية لقضية الأهلية :
ويلاحظ أن هذه الآراء لم تفرّق بين المستويات المختلفة للأهلية السياسية:
– فهناك أهلية عامة لكافة المسلمين في الواجبات العينية، كالبيعة العامة والشورى العامة، وهي الأهلية التي ترتبط بالممارسة السياسية اليومية والعامة للناس كافة، وتبنى عليها مسئولية الأفراد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع عن الحقوق ومراقبة ميزان العدل في الجماعة وحفظ المقاصد الشرعية. – وهناك أهلية عامة وخاصة في الوقت ذاته، كالواجبات الكفائية التي قد تصبح في ظروف معينة واجبات عينية كالجهاد، وهي وإن كانت أهلية عامة إلا أنها تحتاج إعدادًا وتدريبًا لرفع كفاءة العامة من الناس، ولذا تسمى عامة وخاصة في آن واحد. – وهناك أهلية خاصة بالواجبات الكفائية كالولايات، وهي تستلزم قدرة فطرية، كما أن لها جوانب كسبية تأهيلية مرتبطة بالدراسة والخبرة والممارسة، ولا تنطبق على أي أحد (6).
وارتبط بهذا السياق عدم التفرقة بين مستويات نقص العقل، فهناك نقص فطري ونقص نوعي:
– أمّا النقص الفطري فهو نقص العقل أو الذكاء بدرجات متفاوتة قد تبدأ بالسفه وتنتهي بالجنون، وهي من عوارض الأهلية (7)، ولا يدخل فيه النساء؛ إذ يتحملن التكليف الشرعي والمسئولية الجنائية والمدنية ومسئولية تولي الولايات العامة.

– وأمّا النقص النوعي فهو نقص قد يكون عرضيًا يطرأ على الفطرة مؤقتًا كما في دورة الحيض أو النفاس أو بعض فترات الحمل وهو لا يخلُّ بالأهلية (8)، وقد يكون نقصًا عرضيًا طويل الأجل يطرأ على الفطرة نتيجة ظروف معيشية خاصة كالانشغال بالحمل والولادة والرضاعة، مع الانحصار بين جدران البيت حتى لا تكاد المرأة تغادره، والانقطاع التام عن العالم الخارجي مما يؤدّي إلى قلّة الوعي بمجالات الحياة وضعف الإدراك لقضايا المال وغيرها، وهو النقص الذي يمكن تداركه باستثارة الوعي، ويصعب تصوره كاملاً في ظلّ تطور أجهزة الأعلام ووسائل الاتصال، كما أنه لا يتّسق في مداه الأقصى مع ما تقوم به المرأة المسلمة من حركة اجتماعية كصلة الرحم وشهود الصلوات الجامعة والعيدين، وهي الحركة التي توفّر الحدّ الأدنى اللازم من الوعي المرتبط بالأهلية العامة (9).

“النقص” في الحديث الشريف إذن ليس نقصًا فطريًا لازمًا، بل هو مرتبط ببعض الواجبات ذات الصلة بالأهلية “العامة/ الخاصّة” و “الأهلية الخاصة”، ولا يتعارض مع وجود نساء وهبهنَّ الله قدرات عالية في مجالات ينقص فيها مستوى عامة النساء بل وعامة الرجال، بل قد يكن أفضل فيها من الرجال، لأنّ الأمر منوط بالأهلية ذات العناصر الكسبية والأهلية الخاصة(10).

والجدير بالتأمل أنّ الحديث قد حدد نقص العقل بالشهادة التي يشهد فيها رجل وامرأتان، وهي الشهادة التي حدّدها القرآن في آية الدَّين في سورة البقرة، أمّا باقي الشهادات فقد اشترط فيها القرآن العدالة ولم يشترط الرجولة، وإن تفاوت العدد المطلوب من شهادة لأخرى، وهي العدالة المرتبطة بالعقيدة والرابطة الإيمانية.

“منكم”، وهو اللفظ الذي تدخل فيه النساء لعموم الخطاب القرآني، ومن التضييق أن يتعلل بآية الدّين للطعن في ذاتية المرأة ورميها بالنقص العقلي الفطري؛ إذ أَنّ هذه الآية إرشادية لحفظ الحقوق من الضياع، ويرشد فيها عند تعذّر وجود الرجال إلى استشهاد امرأتين مع رجل واحد، والمرأة هنا قد تكون من العوام اللاتي لا خبرة لهن بمثل هذه الأمور المالية، كما قد تكون خاضعة لعارض مؤقت من عوارض الأهلية كالحيض أو النفاس، ولذا لزم الاحتياط لشهادتها فيما ليس من شأنها أن تحضره غالبًا (11)، أمّا بقية الشهادات فتتفاوت؛ منها الشهادات الكفائية التي يشترط فيها العدالة، فوجود المرأة المستوفية لشروطها فيها كشهادة الرجل كالشهادة على الوصية، كما قد تكون شهادات عينية لازمة كالشهادة في الحدود، وهنا يلزم المرأة الشهادة ويفترض فيها الأهلية العامة لفجأة حدوثها، لذا كان استخدام لفظ “منكم” عامّا في القرآن.

وقد أدى غياب هذه التفرقة إلى اختلاف العلماء في أمر شهادة المرأة اختلافًا واضحًا (12)، في حين أنه لو كان النقص العقلي في الحديث نقصًا فطريًا لكانت تعدية الثنائية المشروطة في الآية القرآنية واجبة في كلّ ما يثبت عن طريق امرأة حتى الولادة والبكارة وما يعدّ من شأن النساء، وهو ما قبِلَ العلماءُ شهادتها فيه منفردة بلا خلاف، ولَما قُبِلت شهادتها في شأن اللِّعان مع الرجل(13).

ويلاحظ أنه برغم اختلاف العلماء بشأن الشهادة فإنهم قد أجمعوا على قبول رواية المرأة (14)، وقد استدركت السيدة عائشة على الصحابة فحفظت عن رسول الله ما نسيه بعضهم (15)، كما شهد مجال رواية الحديث العديد من المحدِّثات؛ سواء كنّ صحابيات أم تابعيات (16).

وإذا كان البعض قد أرجع هذه التفرقة بين الرواية والشهادة إلى أن “الرواية تقع فيها المشاركة غالبًا فيروي مع المرأة غيرها ويظهر مع طول السنين أي خلل، بخلاف الشهادة التي ينقضي زمانها فلا يطلع على الغلط أحد لذا لزم التحوط” (17)، فإن آخرين رأوا العدالة لازمة في الشهادة والرواية على حدّ سواء؛ إذ “الضرورة تدعو لحفظ الشريعة في نقلها وصونها عن الكذب، وكذلك الفتوى” (18)،، مما يثير تساؤلاً: كيف تقبل رواية المرأة للحديث إذا كانت مجبولة على النقص فتضيع الشريعة، ولا تقبل شهادتها في الحوادث العارضة؟ويُعَد قبول الرسول -صلى الله عليه وسلم – لإجارة (أمان) المرأة أحد الأدلّة على الأهلية السياسية؛ إذ أجارت المرأة على عهده الكافر في دار الإسلام، ولو كانت المرأة ناقصة الأهلية لما وثق في تقديرها، ولما أجيزت تصرفات لها متعلّقة بمصلحة الأُمّة.

وقد أجاز الجمهور أمان المرأة، في حين ذهب البعض إلى أنه موقوف على إذن الإمام، وأنه جاز لأن رسول الله أجازه لا لصحته في ذاته، رغم تكرر حوادث الإجارة التي أجازها رسولُ الله أكثر من مرة (19)، فهو لم يردّ أمان امرأة قط، فإن قيل: إنّ إجارة الإمام لازمة فهي في الواقع لازمة للرجال أيضًا كي لا تتعارض مع المصلحة. ويلاحظ أن الاختلاف هنا راجع لاختلاف الآراء في أهلية المرأة، فمن رأى نقص المرأة ذهب إلى عدم جواز أمانها، ومن قاسها على الرجل ولم يرَ بينهما فرقًا ذهب إلى جوازه (20).

وبدلاً من أن تكون إجازة رسول الله لأمان المرأة دليلاً من أدلة أهليتها أضحت الآراء المختلفة في أهليتها دليلاً على جواز الإجارة من عدمه، مما جعل الفقه حجّة على السُّنّة لا العكس، وهو ما يناقض أوليات المنهج الأصولي، وهو ما يعزز الرأي الذي نتبناه وهو أن المرأة تتمتع بالأهلية السياسية التي يشترط توافرها لمن يتولى الولايات العامة.

إن استيعاب مسألة الأهلية السياسية للمرأة لا يتمّ كما ذكرنا إلا بضبط المسألة من خلال أنواع الأهلية وفئات النساء وطبيعة التكاليف الشرعية، وهو ما يجعل تحديد: أي امرأة؟ وفي أي مجال؟ هو مفتاح فهم الأحكام وتنزيلها، وهو ما تتناوله الدراسة من خلال دراسة كلّ فعالية سياسية على مستوى الأُمة ومجال المرأة فيها

الولايــات العامــة للمرأة
تعريف الولاية العامة ومفهومها : لم تورد كتب السياسة الشرعية ولا كتب الفقه معنى محدّداً للولاية العامة، رغم تناولها للولايات عامّها وخاصّها، وقد عرّفتها بعض الكتابات الحديثة بأنها: “سلطة تعطيها الشريعة لشخص أهل لها تجعله قادرًا على إنشاء العقود والتصرفات، نافذة من غير توقّف على إجازة أحد” (21)، في حين رأتْ كتابات أُخرى أنها: “السلطة الملزِمة في شأن من شئون الجماعة كولاية سَنّ القوانين والفصل في الخصومات وتنفيذ الأحكام والهيمنة على القائمين بذلك”، وهو ما يميزها عن الولاية الخاصة التي هي: “سلطة يملك بها صاحبها التصرّف في شأن من الشئون الخاصة بغيره كالولاية على الصغار والأموال والأوقاف وغيرها” (22).

ويختلف مفهوم الولاية عن مفهوم “الوظيفة”؛ حيث إن الولاية سلطة شرعية تستمدّ قوّتها من الشرع، ولا يتدخّل في زوالها هوى أو غرض، بل يحدّدها الشرع بحدود واضحة وما اختُلِفَ فيه يُرَدّ لله ورسوله، أما الوظيفة فتستمد قوّتها من الدولة ذات السيادة العامة، وعليه فإن متولّيها مقيّد بالتزام ما تضعه له الدولة من أُطُر وقوانين، ويخضع زوالها لهذه القوانين أو للمصلحة العامة أو لهوى موليها (23).

سمات الولايات العامة والولايات العامة كالولاية الكبرى (الخلافة) والقضاء والحسبة وولاية الشورى وغيرها تدخل جميعًا في الواجبات الكفائية (24)، وتتّسم بالسِّمات التالية:
(1) أمانة ومسئولية:
– إنها ليست منصبًا يُسعى إليه، بل هي أمانة ومسئولية كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم – لأحد صحابته: “لا تَسأل الإمارة فإنك إن أُوتِيتَها عن مسألة وكلت إليها، وإنْ أُوتيتها من غير مسألة أُعِنْتَ عليها” (25)، كما قال -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر حين قال له: “يا رسولَ الله ألا تستعملني؟”، فضرب بيده على منكبيه، ثم قال: “يا أبا ذر.. إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا مَن أَخَذَها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها” (26).

(2) مرتبطة بالأهلية الخاصة:
إن الولاية يشترط فيها – بحكم كونها من الواجبات الكفائية – الأهلية الخاصة كما سبق توضيحها في أنواع الأهلية، والتي وصفها ابن تيمية بأنها تقوم على قاعدتين: القوة، والأمانة، “فالقوة في كل ولاية بحسبها”، والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي عليه الكتاب والسنُّة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام، والأمانة ترجع إلى خشية الله، فإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشدّ قُدِّم الأمين، وإن كانت الحاجة للقوة والأمانة جمع بين المصلحتين، وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم برجل واحد جمع بين عدد، فلا بد من ترجيح الأصل أو تعدد المُولى إذا لم تقع الكفائية بواحد تام. والمهم في هذا الباب معرفة الأصلح، وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية ومعرفة طريق المقصود، فإن عرفت المقاصد والوسائل تمّ الأمر (27) فالأمر منوط بالأهلية، لذا فإنه لا يرتبط برغبة الفرد بل بقدرته، ولا يولى من سأله أو حرص عليه (28).

(3) ملتزمة بالشريعة وأحكامها:
إن أولياء الأمور ملزمون بالشريعة وأحكامها، ويجب صدور القرارات التي تتصل بأداء النظام العام وقواعده والمعاملات المختلفة من خلال آليات الشورى، وترتبط طاعتهم بمقدار التزامهم بالشرع (29)؛ إذ لا طاعة في معصية الله، “إنّما الطاعةُ في المعروف” (30). و”إذا قضى الحاكمُ بجورٍ أو بخلافِ أهل العلم فهو ردّ” (31).

الخلاف حول أهلية المرأة للولايات العامة وأدلته الشرعية:
وقد اختلفت الآراء بشأن أهلية المرأة للولايات العامة، فذهب فريق إلى عدم أهليتها لتولّي الولايات العامة كافة (32)، وأجاز فريق ثـانٍ تـوليها الولايات العامة مـا عـدا الخلافـة(33)، في حين قَصَرَ فريق ثالث أهليتها على ولاية القضاء فيما تشهد فيه على مذهبهم (34).

وتبيّن قراءة الكتابات المختلفة في هذا الصدد أن الخلاف يدور حول مجموعة من الأدلة الشرعية هي:

أولاً: النص القرآني:
ثار الخلاف حول الآية الكريمة: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) ( النساء:34 )، فرأى فريق أنها دليل على أن القوامة محصورة في الرجال دون النساء، لما للرجال من فضل التدبير والرأي وزيادة القوة في النفس والطبع، ولغلبة اللين والضعف على النساء.

وما دام الرجل قوّامًا على المرأة فلا يجوز أن تتولى ولاية عامة تجعلها صاحبة سلطة وقوامة عليه أو حتى مشاركة له في القوامة. فالنص صريح – في رأيهم – بأن القوامة للرجال دون النساء، ويرون أنه حتى لو تمّ التسليم جدلاً بأن الآية خاصة بالمسئولية في الأسْرة وليست عامة فالحجّة تبقى قائمة، فإذا كانت المرأة عاجزة عن إدارة أُسرتها فمن باب أولى أن تكون عاجزةً عن إدارة شئون الناس والفصل في أمورهم (35).

وقد ذهب فريق آخر إلى أن العلاقة بين الرجال والنساء في الأمور العامة هي علاقة “ولاية”، وأن ذكر الدرجة والقوامة في القرآن لم يأتِ إلا في سياق الحديث عن الحياة الزوجية التي يلزم في إدارتها انتهاء سُلم المسئولية للرجل (36)، مع ملاحظة أن صرفه عن النساء في الأسرة ليس دليل عدم أهليّة أو عجز بل هو تقديم للأصلح، فإن غاب الرجل فالمرأة تتولّى أمور بيتها وتصبح مسئولة ووصية على شئونه وشئون أولادها (37)، ولا مجال هنا لتعدية الحكم إلى الولايات العامة التي مناطها الأهلية الخاصة بتعريفها السالف، وهو الرأي الذي يتّسق مع الإطار المعرفي ومدخل الاستخلاف الذي يشمل النساء والرجال ويتحمل أمانته المؤمنون والمؤمنات في ظل علاقة الولاية مصداقًا لقول الله تعالى: “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ” [التوبة:71].

ثانيًا: السُّنّة النبوية 1
– السُّنّة القولية: حيث اختلفت الآراء بشأن الحديث النبوي الذي رواه البخاري عن أبي بكرة، قال: “لمَا بَلَغَ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – أنّ فارسًا مَلّكُوا ابنةَ كِسْرى قال : لن يُفْلِحَ قومٌ وَلَّوْا أمْرَهُم امرأةً” (38). – فذهب فريق إلى أنه يشمل كلَّ النساء في كلّ الولايات (39). – ورأى فريق آخر أنه خاص بالخلافة دون غيرها من الولايات (40).

– وأنكر بعض المعاصرين صحّة الحديث بالكلّية، فوصفوه بأنه موضوع ومنسوب كذبًا إلى الرسول، ودفع فريق منهم بأنه حتى لو ثبتت صحته فإنه حديث أحاد أي ذو صبغة ظنّية، وبذا لا يؤخذ به في الأمور الدستورية (41). ويلاحظ أن الفريق الأول لم يردّ الحديث إلى ما ورد في هذا الشأن من الآيات القرآنية، كما أنه لم يربطه بباقي الأحاديث النبوية المرتبطة به ولا بكلّيات الشريعة، وأن الفريق الثاني فعل نفس الشيء غير أنه خصّصه ولم يربطه بالأهلية (42). أما الفريق الأخير فقد ردّ صحيح السُّنّة وأهمل العمل بالأحاد وهي قضية لا يمكن تمريرها بسهولة عند محاولة صياغة رؤية إسلامية صحيحة (43).

ونلاحظ على الحديث النبوي ما يلي: – أنه لا بدّ أن يفهم في ضوء الأحاديث الواردة في السُّنّة عن فارس وكسرى، حيث إنه ورد في سياق حادثة معيّنة هي أن فارسًا ملّكوا عليهم ابنة كسرى، ويذكر ابن حجر العسقلاني في شرحه لصحيح البخاري أن الحديث تتمة لقصة كسرى الذي مزّق كتاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فسلّط عليه ابنه فقتله، ثم قتل إخوته، فلما مات مسمومًا انتهى الأمر بتأمير ابنته بوران بنت شيرويه بن كسرى، فذهب مُلْكَهم ومُزِّقُوا كما دعا عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم – (44).

وقد روى البخاري حديثين آخرين بشأن فارس، هما: “عن ابن عباس – رضي الله عنه – أنّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – بعث بكتابه إلى كِسْرى مع عبد الله بن حذافَهَ السَّهمي فأمرَهُ أن يدفَعَه إلى عظيم البحريْنِ فدَفَعَهُ عظيمُ البحرين إلى كِسْرى فلمّا قرأه مزّقهُ – فحسِبتُ أنَّ سعيد بن المسيب قال – فدعا عليهم رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – أن يمَزَّقُوا كُلَّ مُمزَّقِ (45).

و”أنّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا هَلَكَ قيصر فلا قيصر بعدَه، وإذا هَلَكَ كِسْرى فلا كِسرى بعده، والذي نفسي بيدِه لتنفقن كنوزهما في سبيلِ الله” (46). فالحديث خاصّ بقوم فارس ويدخل في إطار الإخبار والبشارة لا في باب الحكم الشرعي. – أنه وإن كانت القاعدة الأصولية هي أن ” العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب “، فإن هناك قرينة على خصوص سبب الحديث، وهي الآيات القرآنية التي تروي قصة بلقيس ملكة سبأ (47)،

والتي تولَّتْ أمر قومها بالشورى وتمتعت بالحكمة وإدراك السّنن الاجتماعية، فأفلحت وأفلح قومها(48).

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الآيات لا تدخل في إطار “شرع من قبلنا” الذي يمكن للحديث النبوي أن ينسخه (49)؛ إذ أن الحديث كما ذكرنا لا يتضمن حكمًا، بل هو إخبار بعدم الفلاح، كما أن الأهلية لا ترتبط باختلاف الشرع بل بقدرة المرأة وعقلها، وهذه فطرة وسُنّة وليست حكمًا ينسخ . ولو كان الحديث عامًا لنشأ بذلك تعارض بين القرآن والسُّنّة، وهذا لا يكون، مما يؤيّد دعوى خصوصية الحديث بقوم فارس وعدم انسحابه على أية ولاية للمرأة. 1

– السُّنّة الفعلية:
حيث يركّز المعارضون لتولية المرأة على أن رسول الله لم يُوَلِّ، ولا أحد من خلفائه، ولا من بعدهم، امرأةً قضاء ولا ولاية بلد، ولو جاز ذلك لم يخلُ منه جميع الزمان غالبًا، مع أن دواعي اشتراك النساء مع الرجال في الشئون العامة كانت متوفّرة إلا أن المرأة لم تطلب أن تشترك في شيء من تلك الولايات، ولم يطلب منها هذا الاشتراك. ولو كان ذلك مسوّغًا في كتاب أو سُنّةُ لما أهملت مراعاته من جانب الرجال والنساء بالمرة.

ويؤكدون على أن هذا ما فهمه أصحاب رسول الله وجميع أئمة السَّلف، ولم يستثنوا من ذلك امرأة ولا قومًا ولا شأنًا من الشئون العامة (50). وقد ردّ عليهم البعض بأن عمر بن الخطاب ولَّى امرأة تسمى “الشفاء” حسبة السوق، وهو ما أنكره الفريق الأول وطعن في صحّته، ورأى أنه من دسائس المبتدعة على سيرة عمر (51). ونرى أنه سواء أكانت هناك نماذج لولاية امرأة في عصر الخلفاء أم لا فإن هذا لا يقدح في أهلية المرأة للولايات العامة؛ إذ أنه في ظل ما سبق تحليله من آيات قرآنية وأحاديث نبوية فإن عدم اشتراك المرأة في الشئون الإدارية للدولة مردّه إلى طبيعة الحياة الاجتماعية في صدر الإسلام، وليس من شأنه أن يعطّل الأحكام الشرعية، لأن الكتاب والسُّنّة الثابتة هما مصدر التشريع والأحكام (52).

ويدلّ على طبيعة هذه الحياة الاجتماعية رواية لعمر بن الخطاب يقول فيها: “كنّا لا نعد النساءَ شيئًا، فلما جاء الإسلام وذكرهن الله رأينا لهن حقًا من غير أن ندخلهن في شيء من أمورنا” (53)، فلم يكن من الممكن نقل مثل هذا المجتمع من عدم اعتبار النساء بالمرة إلى توليتهن، وهو ما راعاه التشريع والتزمه الرسول في الأمور الخاصة بالعرف الاجتماعي ما لم يكن ماسًّا بالعقيدة. وتقول عائشة -رضى الله عنها-: “لو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا” (54)، فلم يكن العرف الاجتماعي بشأن المرأة أيسر على التغيير، لذا لم تتم تولية المرأة في العصر الأول، ومن ميزة الإسلام التدرج في الأحكام والتدرج في تغيير العرف الاجتماعي، و”الترك ليس بحجة” (55).

ثالثا ً: الإجماع
فقد دفع الكثير من الفقهاء والباحثين بأن هناك إجماعًا على عدم تولّي المرأة الولاية الكبرى، وإجماعًا على عدم ولايتها القضاء فيما لا تجوز فيه شهادتها، حيث أجاز أبو حنيفة أن تقضي فيما تشهد فيه، كما قرّروا أن الاتفاق على عدم ولايتها في باقي الولايات العامة كالحسبة والوزارة والمظالم وغيرها (56).

وقراءة المصادر الفقهية توضّح بطلان دعوى الإجماع؛ إذ أن ابن جرير الطبري قد أجاز للمرأة أن تكون حاكمًا على الإطلاق في كل شيء، وهو ما أورده عنه الكثيرون كابن رشد وابن قدامة وابن حزم والشوكاني (57)، وإذا كان البعض قد أنكر نسبة هذا القول إلى ابن جرير (58) فإن مجرد الخلاف بشأنه يجعل الإجماع ظنيًا (59).

وحتى لو قبل ثبوت الإجماع جدلاً، فإنه من اللازم النظر في مدى انبناء الإجماع على التعبّد أو على المصلحة؛ ذلك أن “التعبّد لا خِيرة فيه واعتبار المصلحة فيه الخيرة، وما فيه الخيرة يصح تخلفه عقلاً(60). فالإجماع الذي لا تجوز مخالفته هو “الإجماع المتحقّق الثابت منقولاً من طريق صحيح على حكم لا تتغير مصلحته على مدى الأيام”(61).
رابعًا : المصلحة
ذهب البعض إلى أن تولية النساء تتعارض مع المصلحة من وجهين:
1- مصلحة الأُمة:
حيث إن المرأة في نظرهم عرضة للانحراف عن مقتضى الحكمة والاعتدال. والولايات فيها طلب الرأي وثبات العزم، وهو ما تضعف عنه النساء، فالسياسة حرام على المرأة صيانة للمجتمع من التخبط وسوء المنقلب(62). كما أن الولايات لها أعباء لا تقدر عليها المرأة، فالإمامة الكبرى مثلاً تستوجب حفظ الدين وتنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وحماية البيضة وإقامة الحدود وتحصين الثغور والجهاد ومباشرة الإمام الأمور بنفسه بل وإمامة المسلمين في الصلاة، وهو ما لا تقدر عليه المرأة؛ إذ أنّ منها ما هو مصروف عنها بحكم الشرع(63). وعلى ذلك فإن مشاركتها العامة يجب أن تقتصر على إدارة شئون النساء في المؤسسات الاجتماعية والقيام بمهام التعليم والتمريض(64)، أو على أقصى تقدير القضاء في أمور النساء وولاية أمورهن إذا خصصت لهن وزارة أو هيئة لرعاية شئونهن(65)
. 2- مصلحة الأُسْرة:
حيث إن عمل المرأة بالولايات وقيامها بحقها يؤدّي إلى انشغالها عن بيتها وانهيار الأسرة، ويرى أصحاب هذا الرأي أنه إذا كانت بعض النساء تستطيع ذلك فالعبرة بالمجموع والفطرة وليس بالحالات الفردية(66). ويلاحظ على الرأي الخاص بتعارض ولاية المرأة مع المصلحة العامة أنه ينبني على افتراض نقص الأهلية، وهو ما فَنَّدَتْه الدراسة آنفًا، كما أنه يدرك مسألة الولاية، خاصة الولاية الكبرى، باعتبارها منوطة بشخص واحد إذا صلح صلح الأمر وإذا ضعف فسد الأمر، وهو تصوّر لا يتضمّن أبعاد الشريعة والشورى، كما أنه يدرك الدولة ونظامها بشكل أقرب إلى الدولة- المدينة، أو الشكل القبلي للمجتمع لا الدولة ذات الامتداد والتركيب(67)، بما يحصر تصور الدولة الإسلامية في شكل تاريخي معين ولا يتّفق وعالمية صيغة الدولة الإسلامية زمانًا ومكانًا. أما عن مصلحة الأُسْرة فإن تأسيس الواجبات الكفائية – والولايات منها – على عدم التكليف إلاّ بالوسع يستلزم أن لا تتولى بداهة إلا المرأة التي تؤهّلها ظروفها الخاصة لتحمل أعباء الولاية، والأمر في هذه الحالة لا يُبنى كما ذهب هؤلاء على المجموع بل يتأسس على الاستثناء والخواص، لأنه من فروض الكفاية(68).
خامسًا: سد الذرائع
دفع المعارضون لولاية المرأة بأن الولايات تتطلّب البروز في مباشرة الأمر مما هو عليهن محظور؛ حيث أمرن بالقرار في البيوت، كما أن ذلك يستلزم الاختلاط الذي منعته الشريعة(69). وهذا القول مردود بالسُّنة الفعلية الصحيحة عن رسول الله؛ حيث إن القرار في البيت كان خاصًا بنسائه دون غيرهن، أما باقي النساء فكن يخرجن للمشاركة في العبادات والمعاملات وطلب العلم والجهاد، بل والعمل المهني(70). ولا يجوز تعدية حكم زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- على كافة النساء وإلا كان ذلك إنكارًا للسُّنة الفعلية، فالمحظور في الشرع هو التبرج والخضوع بالقول وإدامة النظر والخلوة الكاملة.

أما ما عدا ذلك مما تتطلبه الحياة الاجتماعية فمباح. ومسألة الخوف من الفتنة العارضة أو سدّ ذريعتها لا يصحّ أن تجعل دليلاً لتغيير حكم من أحكام الدين بحظر أو إباحة(71)، حيث لا يتيسر للمرأة القيام بكلّ التكاليف بدون الاجتماع مع الرجال. ولا يحتج بوجود الفتنة فالحكم الشرعي المقرر في الكتاب والسُّنّة أو النصوص التي يبنى عليها الاجتهاد إنّما أنزلها ربّ عليم بما يكون وما سيكون عليه الناس من تقوى أو فساد(72).

والخلاصة هي أنّ الولايات العامة تستلزم أهلية خاصة، وأنّ من النساء من يملكن تلك الأهلية ويصلحن لتحمل مسئولية هذا الواجب الكفائي، ولا حجّة للرأي الذي يعارض ذلك، وإن كنّا نظن واقعيًا أنّ عدد النساء اللائى يمكنهن في الواقع العملي الجمع بين أعباء الولاية ومسئوليات الأُسرة قليل، مع ملاحظة أن قلّته المحتملة في المجتمع الإسلامي لا تمثّل بحال مؤشرًا على ضعف مشاركة المرأة الاجتماعية والسياسية؛ إذ أن مجالات فاعليّتها في الرؤية الإسلامية متنوعة ومتعددة، ولا تقل أهمية وتأثيرًا؛ خاصة في ظل المفهوم الإسلامي للممارسة السياسية الذي يجعل ما يسمى بالمجال الخاص أو مجال الأسرة مساحة واسعة للنشاط والتأثير السياسي، ولنا في هذا الموضوع كلام طويل يمكن لمن أراد أن يرجع فيه إلى النصف الثاني من كتابنا “المرأة والعمل السياسي: رؤية إسلامية”،

والذي يفصّل الوظيفة السياسية للأسرة ومساحات الأمة والجماعة التي تقوم بأدوار سياسية في النظرية السياسية الإسلامية جنباً إلى جنب مع الدولة أو النظام. التيار الإسلامي في الفكر السياسي المصري أ.د. محمد سليم العوا تحاول هذه الورقة تلخيص الموقف الفكري الإسلامي في خبرة السياسة المصرية على امتداد المساحة الزمنية بين الجيل الذي افتتح القرن الماضي بجهاده في “مشروع التحرر” (خاصة بعد حملة نابليون على مصر) وبين الجيل الذي خُتم ذلك القرن وهو يبحث عن مشروعية الوجود السياسي الرسمي.

وتبدأ المسيرة مع جمال الدين الأفغاني الذي تبنَّى فكرة الإسلام المجاهد ضد الطغيان الداخلي والخارجي، وكذلك فكرة الإسلام المتحرِّر من قيود التقليد. ثم انتقلت المسيرة بعد ذلك إلىالشيخ محمد عبده الذي دعا إلى المنهج “الإصلاحي” “التربوي” “التدريجي” وأعقب الشيخ محمد عبده المرشد حسن البنا الذي قام بتشكيل جماعة الإخوان المسلمين. وتبنَّى حسن البنا مفهوم “النهضة”،

أي نهضة الأمة الإسلامية التي لا تتمّ نهضتها إلا بجانب الله والإيمان وسلوك سبيله”، وكذلك دعا إلى كون “الدولة والقومية والعلم من أركان الإسلام”، وأن الإسلام شامل لكل أوضاع الكون والمجتمع والفرد. ثم جاء سيد قطب ليعلن عن الجاهلية التي أصيبت بها المجتمعات المسلمة، ومن ثم فقد رأى أن التحرر الوحيد من براثن الجاهلية يتم من خلال تطبيق الحاكمية، وتلا سيد قطب حسن عشماوي وتوفيق الشاوي الذي تبنَّى فكرة التسليم بالوجود الإلهي والإيمان بالحرية الفردية.

وأخيرًا.. وصلت المسيرة إلى مشروع تيار الوسط الذي انتقل من إطار الفكر الدفاعي إلى إطار الفكر البنائي الذي يستجيب لمتطلبات الواقع. واختتم الدكتور محمد سليم العوا بحثه بتساؤل مفاده: لمصلحة من تتمّ محاصرة كل هؤلاء الإسلاميين؟دخل جمال الدين الأفغاني مصر مرتين؛ أولاهما: كانت سنة 1869م (1286هـ) ولم يمكث في مصر في تلك المرة سوى أربعين يومًا، توجه بعدها إلى الأستانة، والثانية: كانت عام 1871م (1288هـ) واستمرت إقامته في مصر هذه المرة ثماني سنوات ولم يخرج منها إلا مُكرهًا سنة 1879م حيث نفي بسعاية من الإنجليز إلى الهند، وهناك اعتقل في حيدر آباد ثم كلكتة، ثم سمح له بمغادرة الهند بعد قمع الثورة العرابية واحتلال الإنجليز عسكريًا لمصر(9).

7 – وقد وصف “محمد عبده” أثر جمال الدين الأفغاني في مصر فقال: “جاء إلى هذه الديار في سنة 1286هـ رجل غريب، بصير بالدين، عارف بأحوال الأمم، واسع الاطلاع، جمُّ المعارف، جريء القلب، وهو المعروف بالسيد “جمال الدين الأفغاني”… وهو في جميع أوقات اجتماعه مع الناس لا يسأم الكلام فيما ينير العقل، أو يطهر العقيدة، أو يذهب بالنفس إلى معالي الأمور، أو يستلفت الفكر إلى النظر في الشؤون العامة مما يمس مصلحة البلاد وسكانها.

وكان طلبة العلم ينتقلون بما يكتسبونه من تلك المعارف إلى بلادهم أيام البطالة (الإجازة الدراسية)، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحبائهم، فاستيقظت مشاعر وانتبهت عقول، وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد خصوصًا في القاهرة” (10).

8 – يقول الأستاذ “أحمد أمين” عن جمال الدين الأفغاني: “ولقد طوَّف في فارس والهند والحجاز والأستانة، وأقام فيها، ولكن لعل أخصب زمنه، وأنفع أيامه، وأصلح غرسه: ما كان في مصر مدة إقامته بها من أول محرم سنة 1288هـ إلى سنـة 1296هـ. ثماني سنين كانت من خير السنين بركة على مصر وعلى الشرق.. لأنه فيها كان يدفن في الأرض بذورًا تتهيأ في الخفاء للنماء، وتستعد للظهور ثم الإزهار، فما أتى بعدها من تعشق للحرية وجهاد في سبيلها فهذا أصلها، وإن وجدت بجانبها عوامل أخرى ساعدت عليها وزادت في نموها..لقد جرَّب السيد أن يبذر بذورًا في فارس والأستانة فلم تنبت، ثم جرَّبها في مصر فأنبتت” (11).

9 – وكانت لجمال الدين الأفغاني قدرة تامة على كسب الأنصار وجمع المريدين من النابهين والأذكياء حوله: فمحمود سامي البارودي وأحمد عرابي وعبد الله النديم ومصطفي كامل ومحمد عبده وسعد زغلول وإبراهيم الهلباوي وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين وإبراهيم اللقاني وعشرات غيرهم كانوا من تلامذته المباشرين، أو أخذوا عنه بطريق غير مباشر (12).

10 – ويقوم المشروع الفكري والإصلاحي لجمال الدين الأفغاني على أربعة أركان؛ أولها: الالتزام بمبادئ الإسلام والاقتداء بسلف الأمة، والثاني: تحرير الأمة من الاستبداد الداخلي والخارجي، والثالث: توحيد الأمة في جامعة إسلامية، والرابع: الأخذ بأسباب القوة من العلوم والنظم الغربية (13).

11 – ومن الكلمات التي تصوِّر منهج جمال الدين الأفغاني قوله: “إن الممالك الإسلامية هذه إنما هي من الانحطاط والهوان بحيث لا تستطيع أن تكون قوَّامة على شؤون نفسها بنفسها، في حين أن تلك الدول (يقصد الدول الأوربية المستعمرة) عينها لا تكف عن التذرع بألوف الذرائع، حتى بالحرب والحديد والنار، للقضاء على كل حركة من حركات الإصلاح والنهضة في البلاد الإسلامية، ومن ثَم يجب على العالم الإسلامي أن يتحد في حلف دفاعي كبير ليستطيع بذلك أن يصون نفسه من الفناء، وللوصول إلى هذه الغاية يجب عليه أن يأخذ بأسباب التقدم في الغرب، وأن يكتنه أسرار تفوقه وقدرته”.

12 – وكانت التعاليم الثورية لجمال الدين تدعو إلى التحرر من المستعمر أو المسيطر الأجنبي، وتدعو إلى التخلص من ظلم الحكم المحلي معًا، فهو يخطب في الإسكندرية فيقول: “أنت أيها الفلاح المسكين تشق قلب الأرض لتنبت ما تسد به الرمق، وتقوم بأود العيال، فلماذا لا تشق قلب ظالمك؟! لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك؟!”.

وهو يقول: “لن تنبعث شرارة الإصلاح في وسط هذا الظلام الحالك إلا إذا تعلَّم الشعب، وعرف حقوقه ودافع عنها، ومتى عرف الشعب هذه الحقوق وجد نفسه مضطرًا إلى المطالبة بها والمحافظة عليها إذا نالها”. 13 – وحين استقبله الخديوي توفيق وقال له: “إن دروسكم وأقوالكم المهيجة ستؤدي بالشعب والبلاد إلى التهلكة”.

رد عليه جمال الدين قائلاً: “ليسمح لي سمو أمير البلاد أن أقول بحرية وإخلاص: إن الشعب المصري كسائر شعوب العالم لا يخلو من وجود الخامل والجاهل بين أفراده، لكن هذا لا يمنع من وجود العالم والعاقل أيضًا، فبالمنظار الذي تنظرون به إلى الشعب المصري ينظر به إلى سموكم. وإذا قبلتم نصحي وأسرعتم لإشراك الأمة في حكم البلاد، فتأمرون بإجراء انتخاب نواب عن الأمة، تسن القوانين فإن ذلك أثبت لعرشكم وأدوم لسلطانكم”.

وكان جمال الدين يرى أن الحاكم العادل “إما أن يكون موجودًا أو تأتي به الأمة فتملكه على شرط الأمانة والخضوع لقانونها الأساسي.. وتؤكد للحاكم أن التاج سيبقى في رأسه ما دام محافظًا أمينًا على صون الدستور، أما إذا حنث بقسمه وخان دستور الأمة، فإما أن يبقى رأسه بلا تاج أو تاجه بلا رأس!” (14).

14 – ولم يقف الأفغاني -في بذر البذور التحررية- عند مقاومة الاستبداد الداخلي والسيطرة الأجنبية، ولكنه بدأ -في الوقت نفسه- مقاومة الجمود الفقهي: “ما معنى أن باب الاجتهاد مسدود؟! وبأي نص سُدَّ؟! وأي إمام قال: لا يصح لمن بعدي أن يجتهد ليتفقه في الدين، ويهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث؟! والاستنتاج والقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية، وحاجات الزمان وأحكامه؟!” (15).

وهو يصف سبيل الخروج من حال التبعية والسيطرة الأجنبية على الأمة الإسلامية فيقول: “إن علاجها الناجح إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها، والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته، وإرشاد العامة بمواعظه الوافية بتطهير القلوب وتهذيب الأخلاق.. إن الأصول الدينية الحقة المبرَّأة عن محدثات البدع تنشئ للأمم قوة الاتحاد، وتبعثها على اقتناء الفضائل وتوسيع دائرة المعارف، وتنتهي بها إلى أقصى غاية في المدنية” (16).

15 – وهكذا أسَّس جمال الدين الأفغاني -في الفكر السياسي الإسلامي المصري- لفكرتي الإسلام المجاهد ضد الطغيان الداخلي والخارجي، والإسلام المتحرر من قيود التقليد، المنطلق في رحاب حرية الفكر وسعة الاجتهاد. وهي البذور التي أنبتت فيما بعد ألوانًا مختلفة من النبات والثمر فَضَّل الناس بعضها على بعض في الأكل، وأخذت الأفهام منها -على اختلافها- على قدر القرائح والعقول، واتخذت الأحزاب والجماعات والأفراد من نتاجها سكَرًا ورزقًا حسنًا؛ إذ كل ميسر لما خلق له. أخذ محمد عبده -الأستاذ الإمام- عن جمال الدين الأفغاني منهج الإصلاح الديني باعتباره السبيل إلى تجديد حياة الشرق والشرقيين. وقدَّم بهذا المنهج بناءً فكريًا مكتمل القسمات (17).

ولا غرابة في ذلك، فقد كان الأستاذ الإمام أنبه تلامذة جمال الدين، وأعظمهم نبوغًا، وأعلاهم همة، وأتاحت له صحبته إياه في باريس، مدة سنتين تقريبًا، ومشاركته في إدارة العروة الوثقى (المجلة والتنظيم السري) أن يأخذ عنه ما لم يأخذه سواه.

16 – ومحمد عبده مشروع إصلاحي متكامل في الثقافة والتربية واللغة والأدب والفكر الاجتماعي وتفسير القرآن الكريم والإفتاء والاجتهاد الفقهي والعمل الثوري والفكر السياسي.. وكان -في ذلك كله وبه- “عقلاً من أكبر عقول الشرق والعروبة والإسلام في عصرنا الحديث” (18).

17 – وفي مجال الفكر السياسي قدَّم محمد عبده النظرية “الإصلاحية” في مقابل النظرية “الثورية” التي كان يروِّج لها جمال الدين الأفغاني. فكان محمد عبده يرى أن التدرج في “الإصلاح” هو الطريق الأقوم والأضمن في تحقيق الغاية المقصودة من العمل السياسي، وهي نهضة الشرق وتحرره.

18 – كان رأي محمد عبده أن التربية المستندة إلى الدين بعد تجديده بواسطة المؤسسات التربوية الجديدة آنذاك -مثل كلية دار العلوم-، والمؤسسات العتيقة -مثل الأزهر والأوقاف والقضاء الشرعي- هي السبيل الوحيدة لبلوغ غاية الشرق في التحرر الفكري والتحرير السياسي. وقد ظهر التمايز بين الفكر “الثوري” للأستاذ جمال الدين الأفغاني، والفكر “الإصلاحي” لتلميذه محمد عبده منذ غياب الأفغاني عن الساحة المصرية واستقلال محمد عبده بالعمل فيها وانفراده بتبوُّء موضع الأستاذية من المفكرين وأصحاب الرأي والزعماء والساسة؛ وتبلورت آراؤه الإصلاحية في مقالاته بجريدة “الوقائع المصرية” (19).

19 – ولم يخالف محمد عبده منهجه الإصلاحي التدريجي حتى وهو ينادي بإصلاح الأوضاع السياسية؛ ففي الوقت الذي كانت الأرض المصرية فيه تميد بالإرهاصات التي سبقت الثورة العرابية كان المطلب الأساسي هو تحرك الضباط المصريين في الجيش لتحقيق آمال الأمة في الحكم الدستوري النيابي، وفي التخلص من النفوذ الأجنبي المسيطر على البلاد، وفي هذا الوقت نفسه كان محمد عبده يدعو إلى التدرج في الإصلاح بدلاً من القفز إليه بالثورة العسكرية، وإلى تكوين رأي عام يصلح للممارسة الدستورية والحياة النيابية قبل أن توجد هذه المظاهر في شعب لا يقيم وزنًا لها.

وكتب في 4 أبريل 1881 في “الوقائع المصرية” سلسلة مقالات بعنوان “خطأ العقلاء” بيَّن فيها أفكاره في الإصلاح السياسي في مواجهة تيار الدعوة إلى الحركة العسكرية، فكان مما دلَّل به على وجوب التدرج ومراعاة ما أسماه “عوائد الأمة المقررة في عقول أفرادها” قوله: “إننا نستحسن حالة الحكومة الجمهورية في أمريكا، واعتدال أحكامها، والحرية التامة في الانتخابات العمومية في رؤساء جمهورياتها وأعضاء مجالس نوابها وما شاكل ذلك،.. وتتشوق النفوس الحرة أن تكون على مثل تلك الحالة الجليلة، ولكننا لا نستحسن أن تكون تلك الحالة بعينها لأفغانستان، مثلاً حال كونها على ما نعهد من الخشونة…. فإذا أردنا إبلاغ الأفغان -مثلاً- إلى درجة أمريكا فلا بد من قرون تبث فيها العلوم، وتهذب العقول، وتذلل الشهوات الخصوصية، وتوسع الأفكار الكلية حتى ينشأ في البلاد ما يسمى بالرأي العمومي، فعندئذ يحسن لها ما يحسن لأمريكا…”(20).

هل نقول: ما أشبه الليلة بالبارحة؟! وهل كان محمد عبده يقول غير هذه المقالة نفسها لو عاش مثلنا في عصر ما بعد الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال الروسي؟ وهل هناك أصدق من واقع الحالة الأفغانية دليلاً على صحة منهج محمد عبده “الإصلاحي” “التربوي” “التدريجي”؟؟ 20 – وكان موقف الإمام محمد عبده من الثورة العرابية منذ البدء هو موقف المعارض، فقبل مظاهرة عابدين (9 سبتمبر 1881) بعشرة أيام فقط التقى محمد عبده بأحمد عرابي وعدد من قادة الثورة العرابية في منزل أحد أعيان البلاد (طلبة باشا)، فكان رأي محمد عبده الذي أعلنه للثوار: “إن أول ما يجب البدء به هو التربية والتعليم لتكوين رجال يقومون بأعمال الحكومة النيابية على بصيرة مؤيَّدة بالعزيمة، وحمل الحكومة على العدل والإصلاح… وطلبُ ذلك -المشاركة الشعبية في إدارة أمور الحكم- بالقوة العسكرية غير مشروع، فلو تم للجند ما يسعى إليه، ونالت البلاد مجلس شورى لكان على أساس غير شرعي، فلا يلبث أن ينهدم ويزول” (21).

ولكن نجاح الثورة العرابية في تحقيق مسعاها بالحصول على الدستور وإنشاء المجلس النيابي جعل محمد عبده يعدل عن رأيه، قال: “لم تكن الثورة من رأيي، وكنت قانعًا بالحصول على الدستور في ظرف خمس سنوات، فلم أوافق على عزل رياض (مصطفى رياض باشا رئيس النظار) في سبتمبر 1881م.. لكن لما منح الدستور انضممنا جميعًا إلى الثورة لكي نحمي الدستور” (22). وأدَّى هذا التطور العملي بنجاح الثورة إلى تطور فكري مهم في آراء محمد عبده. فقد كتب في برنامج “الحزب الوطني المصري”: إن المصريين وقد عرفوا الآن معنى الحرية في هذه السنين الأخيرة، فعقدوا خناصرهم على توسيع نطاق التهذيب، وهم يرجون أن يكون ذلك بواسطة: مجلس شورى النواب الذي انعقد الآن، وحرية المطبوعات بطريقة ملائمة، وبتعميم التعليم ونمو المعارف بين أبناء الأمة. وهذا كله لا يحصل إلا بثبات هذا الحزب وحزم رجاله” (23). ولم يكن بين نجاح الثورة العرابية وانضمام محمد عبده إليها، وبين إخفاقها والقبض على رؤوسها -ومنهم محمد عبده نفسه- سوى عشرة أشهر (أكتوبر1881م-يوليو1882م)، عاد محمد عبده بعدها إلى طريق “الإصلاح” الذي لا يتجنب الثورة فقط، بل يهاجم دعاة سلوك سبيلها في كثير من الأحيان. 21 – ولكن هذه العودة إلى العمل “الإصلاحي التربوي” لم تمنعه من المشاركة -في أثناء المدة التي أمضاها في المنفى- في تنظيم سياسي سري، هو جمعية “العروة الوثقى”، التي كوَّنها الأفغاني من باريس، وكان رئيسها، وكان محمد عبده نائب الرئيس. وقد انبعثت فروع هذه الجمعية في أغلب الأقطار الإسلامية، وجعلت تعمل على ترويج الأفكار الإصلاحية التي كانت تعبِّر عنها مجلة “العروة الوثقى” التي لم تكن إلا أثرًا من آثار الجمعية السرية نفسها. وقد كان اهتمام الجمعية الأكبر بفكرة “الجامعة الإسلامية”، التي كان الأفغاني شديد الحماس لها، ويتجلى ذلك في القَسَمِ الذي كان يقسمه عضو الجمعية عند انضمامه إليها، وكان هذا القسم يتضمن التعهد “بأن يبذل ما في وسعه لإحياء الأخوة الإسلامية، وألا يقدِّم إلا ما قدَّمه الدين، ولا يؤخِّر إلا ما أخَّره الدين، وأن يوسع معرفته بالعالم الإسلامي من كل نواحيه بقدر ما يستطيع” (24). ولا يرى الدكتور محمد عمارة في العمل السياسي الذي مارسه محمد عبده في هذه المدة -حوالي العام- مؤشرًا على تغير موقفه الفكري، وإنما يعزو قيامه بذلك إلى ظروف النفي وصلته بجمال الدين الأفغاني الذي كان القائد الحقيقي والمحرك الرئيسي لهذا العمل الثوري (25). 22 – ولم يكن عمل محمد عبده تحت راية فكرة “الجامعة الإسلامية” يعني -بأي صورة- أنه كان يرى أن تقوم في مصر، أو في أي بلد من بلدان الإسلام حكومة دينية. فمحمد عبده يرفض بشكل قاطع أن يكون الإسلام نصيرًا لقيام سلطة دينية في المجتمع بأي وجه من الوجوه. فهو يرى أنه “ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خوَّلها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خوَّلها لأعلاهم يتناول بها أدناهم”. وهو يرى أن إحدى المهمات التي جاء من أجلها الإسلام ونهض بها في المجتمع الذي ظهر فيه هي قلب السلطة الدينية: “أصل من أصول الإسلام قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها. هدم الإسلام بناء تلك السلطة، ومحا أثرها، حتى لم يَبْقَ لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم، ولم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانًا على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه. على أن رسول الله كان مبلغًا ومذكرًا، لا مهيمنًا ولا مسيطرًا… وليس لمسلم -مهما علا كعبه في الإسلام- على آخر -مهما انحطت منزلته فيه- إلا حق النصيحة والإرشاد…” (26). والإسلام -كما يقول محمد عبده- “دين وشرع، فقد وضع حدودًا، ورسم حقوقًا… فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود، وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة، وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى في عدد كثير، فلا بد أن تكون في واحد، وهو السلطان أو الخليفة، والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه..” (27). والموقف نفسه يُضَمِّنُهُ محمد عبده المادة الخامسة من برنامج “الحزب الوطني المصري” فيقول فيها: إن الحزب سياسي لا ديني (بمعنى أنه ليس حزبًا دينيًا لا بمعنى أنه ضد الدين) فإنه مؤلَّف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وجميع النصارى واليهود، وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليه… وهذا مسلَّم به عند أخص مشايخ الأزهر الذين يعضدون هذا الحزب ويعتقدون أن الشريعة المحمدية الحقة تنهى عن البغضاء، وتعتبر الناس في المعاملة سواء..” (28). 23 – ومسألة الإمامة (الخلافة) والفقه المتعلِّق بها لا ينبغي أن تكون محل بحث و”كلام” في رأي الأستاذ الإمام، فقد حذف بنفسه هدفًا من أهداف مجلة المنار التي أنشأها تلميذه محمد رشيد رضا هو “تعريف الأمة بحقوق الإمام، والإمام بحقوق الأمة”، وكتب معلِّقًا عليه: “إن المسلمين ليس لهم اليوم إمام إلا القرآن، وإن الكلام في الإمامة مثار فتنة يخشى ضرره ولا يرجى نفعه الآن” (29). وما يمثِّله الإسلام من “رابطة اعتقادية وأدبية وروحية بل وجنسية تجمع كل المسلمين لا يمنع من تأسيس الولايات السياسية على أسس قومية ووطنية في إطار هذا المحيط الإسلامي الكبير” (30). وقد كان ذلك والخلافة الإسلامية العثمانية قائمة، فماذا تراه كان يقول بعد سقوطها؟؟ 24 – وكثيرًا ما ينتقد محمد عبده بزعم أنه كان داعية إلى الاستبداد ومحبذاً للديكتاتورية. ويستشهد أصحاب هذا الانتقاد على صحته بمقالة لمحمد عبده نشرتها مجلة “الجامعة العثمانية ” في أول مايو سنة 1899 (أي منذ أكثر من مائة عام) تعليقًا على مقالة نشرت في المجلة نفسها عن “الإخاء والحرية”. كان عنوان مقالة محمد عبده “إنما ينهض بالشرق مستبد عادل”، وقدمت لها المجلة بأنها “كلام كتبه الشيخ محمد عبده منذ سنوات”. والمقال يدعو إلى الإصلاح السياسي تدريجيًا في مدى يحدده بخمس عشرة سنة، تنشأ في نهايتها المجالس النيابية. والواقع أن كلمة “مستبد” في هذا المقال تعني القادر على التصرف واتخاذ القرار، أي نقيض معنى العجز وعدم القدرة. ومن معاني المستَبد لغةً من يأخذ في الشيء فلا يتركه إلا إلا بعد إتمامه”. [المنجد، والقاموس]. وبنقيض معني العجز استعمل الشاعر العربي الكلمة فقال: ليت هندًا أنجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما تجد واستبدت مرةً واحدةً إنما العاجز من لا يستبد!! ولم يستعملها محمد عبده إلا بهذا المعنى، وبمعنى الإتمام لأمر بدئ فيه، ولذلك قال في نهاية مقالته نفسها: “هل يعدم الشرق مستبدًا من أهله، عادلاً في قومه، يتمكن به العدل أن يصنع في خمس عشرة سنة ما لا يصنعه العقل وحده في خمسة عشر قرنًا؟! وكأنه بذلك يشير إلى عجز حكام الشرق الواقعين تحت سلطان المستعمر الأجنبي وجيوشه المدججة بالسلاح. فلم يكن محمد عبده- إذن- داعية إلى الاستبداد والديكتاتورية. وإنما كان داعية إلى الإصلاح السياسي الذي لا يقدر عليه إلا حكام بيدهم -فعلاً- مقاليد الأمور، يحكمون بالعدل، لا بالهوى والغرض، وفق خطة محكمة ينفذونها في أمد محدود. وحديث محمد عبده عن “المستبد العادل” هو نفسه حديث أستاذه الأفغاني عن “القوي العادل”. وقد كتب جمال الدين الأفغاني عن هذا الموضوع فقال: “لا تحيا مصر ولا يحيا الشرق بدوله وإماراته إلا إذا أتاح الله لكل منهم رجلاً قويًا عادلاً يحكمه بأهله على غير طريق التفرد بالقوة والسلطان؛ لأن بالقوة المطلقة الاستبداد، ولا عدل إلا مع القوة المقيَّدة. وحكم مصر بأهلها أعني به الاشتراك الأهلي بالحكم الدستوري الصحيح”(30م) فالمستبد العادل عند محمد عبده هو القوي العادل عند جمال الدين الأفغاني، وهو حاكم دستوري مقيدة سلطته بسلطة الشعب ومشاركته، وكان محمد عبده يوقن أن هذا لا يتم إلا بالتدرج الحكيم الذي يؤدي إلى المطلوب دون طفرة غير مأمونة ودون ثورة مجنونة. وهذا نفسه أمل لا يزال يحلم به الإصلاحيون في بلادنا بعد قرن كامل من نشر مقالة محمد عبده!! 25 – لقد كانت إضافة محمد عبده إلى الفكر السياسي الإسلامي بمنهجه الإصلاحي الذي بدأ به حياته واختتمها إضافة تمثل اجتهادًا جديدًا أساسه توجهه الأصيل إلى الإصلاح الديني الذي عرَّفه بقوله: إنه يعني “تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى..” أو كما قال في موضع آخر: “لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله، بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف، وإنما يجب عليه قبل ذلك أن يُحَصِّل من وسائله ما يؤهله للفهم..” (31). وهذا هو الذي صنعه محمد عبده نفسه، فاستحق المكانة الباقية له حتى اليوم في سلسلة روَّاد 26 – “حسن البنا” وحركة “الإخوان المسلمين” اسمان لا يفترقان، ولا يفهم أحدهما دون الآخر، ولا يذكر أحدهما إلا استدعت الأذهان والألسنة قرينَه وصاحبَه!. وقد كُتب عن حركة الإخوان المسلمين ما لا يقع تحت حصر بلغات العالم كلها. وكُتب عن حسن البنا كذلك. والواقع أن كل كتابة عن الحركة تناولت -بالضرورة واللزوم- مؤسسها نفسه، بحيث يجد المرء نفسه في بحر لا ساحل له من المؤلفات المتعاطفة والناقدة، والتي تروم أن تكون محايدة! وهذه الورقة ستحاول الإشارة -فقط- إلى أهم معالم الدور الفكري السياسي لحسن البنا -الإمام الشهيد- دون غيره من جوانب مساهمته الفعالة في الحركة السياسية المصرية أو من آثار وجود حركة الإخوان المسلمين (كبرى الحركات الإسلامية في العصر الحديث) في الحياة السياسية والإسلامية المصرية. 27 – قدَّم حسن البنا نفسه باعتباره “مرشداً”، “والمرشد” معلم ومصلح، قبل أن يكون شيئًا آخر. ولكن حسن البنا جمع إلى ذلك كونه ثائراً وداعياً إلى الثورة. فهو أشبه بالأفغاني، في هذا الصدد، منه بمحمد عبده، لكنه يتفوق علي الأفغاني بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين بما لا يزال لها من أثر بالغ في الحياة السياسية المصرية، بل العربية والعالمية كذلك. وهو يحدد هدفه مبكرًا سنـة 1929 بقوله: “لا بد -إذن- مـن السعي لإصـلاح الشرق وتوجيه جهود الأمم إلى غاية منتزعة مـن روح الشـرق، وملائمة لمـزاج أهـله لا تنحـصر في تقليد لأوروبا ولا لغيرها، بل قوامها إنهاض الشرق من كبوته واستخدام قواه الكامنة” (32). 28 – وكان أول ما لفت نظره في تأسيس الإصلاح على ما يتفق مع طبيعة “الشرق”، ولا يكون تقليدًا للغرب: قضية المصطلحات المتداولة في الكتابة والخطابة الدينية والسياسية، فهو يرى أن الناس “يستخدمون الألفاظ التي تداولها المؤرخون لمسميات ذلك العصر (يقصد عصر النهضة في أوروبا)، فيقولون رجال الدين، والسلطة الروحية..، ولعل هذا اللبس اللفظي هو الذي جعلهم يتورطون في تشبيه النظم الإسلامية بغيرها من النظم، وواجبنا أن نرفع عن أعينهم حجاب الوهم، ونوضح لهم ذلك العبث اللفظي وخداع العناوين التي وضعها مؤرخو أوروبا لذلك العهد” (33). 29 – والمفهوم الرئيسي في كتابات حسن البنا وخطبه هو مفهوم “النهضة”. وهو يقدمه باعتباره نقيض حالة “الانحطاط” التي نعبر اليوم عنها بكلمة “التخلف”. وهو يستمد هذا المفهوم من القرآن مباشرة -وهي خاصية شائعة في كل فكر حسن البنا-، فيرى أن النهضة تقوم على ثلاثة أركان؛ الأول: هو المثل الأعلى “الذي كلما سما سمت نهضة الأمة وتوفرت لها وسائل القوة، ولهذا كان المثل الأعلى الذي وضعه القرآن لأمته هو الإيمان بالله أولاً، ومن هذا الإيمان تستمدّ الأمة سيادتها في قوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). وهذا المعنى للنهضة معنى تنفرد به الأمة الإسلامية؛ إذ تستند نهضتها إلى جانب الله والإيمان وسلوك سبيله، وهو لا يكون في غيرها من النهضات” (34). والركنان الآخران للنهضة -عند حسن البنا- هما القوة المعنوية والقوة المادية، وبهذه الأمور الثلاثة يتكامل الإطار النظري للنهضة، فإذا قويت روح الأمة وأخلاقها تبع ذلك حتمًا دوام التفكير في وسائل القوة المادية، والتفكير في القوة نفسها، وهذا هو ما يشير القرآن إليه في قوله تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وقوله (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (35). ولذلك كان طبيعيًا أن يرى حسن البنا في السعي إلى تقليد الغرب، ومحاولة أن نكون “قطعة من أوروبا” مخاطر جسيمة تهدِّد كيان المسلمين والشرقيين عمومًا وتنسيهم “كرامتهم وعزتهم ومقدساتهم وتنسيهم مهمتهم” (36). وهو يقرر بألفاظ مختلفة في المناسبات كلها أن أساس النهضة هو تقديم الإسلام باعتباره “دينًا قيمًا فيه النظام الشامل والقانون المحكم والدستور الكافل لسعادة الأمم ورفاهيتها وصلاحها في الحياة وبعد الحياة”. وأن علينا أن نجعل هذا الإسلام المتمكن في نفوس أهله أساسًا للنهضة الشرقية الحديثة، بذلك تصطبغ نهضتنا بصبغة شرقية مجيدة تجذب نحوها أفئدة الشعوب، وتعيد للشرق مجده المسلوب وعزه المغتصب”.بل هو يرى أن منهجه في الدعوة إلى هذه النهضة هو الذي يحقِّق للأمة الإسلامية أن تستعيد “قيادة العالم إلى الخير” أو “أستاذية العالم”، فهي ليست دعوة إلى نهضة محلية فحسب، وإنما هي إيمان بأن الإسلام هو مستقبل الشرق والغرب معًا في ظل الأخوة الإسلامية العالمية” (37). 30 – وحسن البنا لا يرى إلا صورة الإسلام الشامل الذي يحكم الحياة كلها، فهو يرد على الدكتور طه حسين حين ينشر كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، فيقول: “الذي نخالف فيه الدكتور طه حسين، وغير الدكتور طه حسين ممن يؤمن بفكرته هذه: ادعاء أن هذا التفريق بين الدين والسياسة، وبين الدين والقومية، وبين الدين والعلم نافع لنا متفق مع تعاليم ديننا. هذه دعوى ينقصها الدليل النظري والدليل التاريخي، وتتنافى مع مصلحتنا ومقومات نهضتنا. والذي يريد أن يجرِّد الإسلام عن معناه القومي وعن معناه الثقافي يريد بمعنى آخر ألا يكون هناك شيء اسمه الإسلام تؤمن به هذه الأمة وتدين به” (38) وحسن البنا يخاطب مخالفيه -في المقال نفسه- بقوله: “ألستم مسلمين أيها الناس؟ ألا ترضون الإسلام حَكَمًا؟.. نرجو أن تكونوا صرحاء… وإن كنتم آمنتم بالإسلام على أنه حق ثابت فنحن نرضى أن نتحاكم جميعًا إليه وحينئذ سنلتقي وسنتفق وستعلمون أن الدولة والقومية والعلم من أركان الإسلام”.وهو في رفضه لصورة الحياة الغربية، ومحاولة نقلها إلى بلادنا يعلن أن “الإخوان سيحاربون بكل قوة كل داعية يدعو إلى فرنجة هذا الشعب أو صبغه بصبغة تتعارض مع روح الإسلام وأحكامه، وإذا أصر الداعون إلى التقليد الأعمى على موقفهم فنحن لهم بالمرصاد وسننتصر بإذن الله” (39). 31 – ولذلك كانت حرب حسن البنا على الاستعمار مستمرة في أطوار دعوته كلها، وهو يسميه “الاستخراب”، ويقول: إن لفظ “الاستعمار” بما يفيده من التعمير والإصلاح يستعمل “في هذه الأيام لغير ما وضع له”، لأنه عامل فساد وإفساد في حياة الشعوب، فهو لا يحمل للشعوب المستعمَرَة إلا البطش والغطرسة والذل والفقر والمسكنة، وكلما دخل بلدًا سلب الذمة من أهله ففسد خلقهم، وضعفت نفوسهم، وشاع الظلم، ومات العلم وفشا الجهل” (40). والمستعمرون -كما يرى البنا- “جعلوا نصب أعينهم كتم أنفاس المسلمين وخنق حريتهم، وتهديد ثقافتهم المجيدة وإبدالها بثقافة خليعة مستهترة لا تمت إلى الفضيلة ولا تنتسب إلى الرجولة.. وهم يرون أن تعاليم الإسلام وشدة روحانيته أكبر عائق أمامهم يعترض مطامعهم..” (41). 32 – ومنهج المقاومة عند حسن البنا لا يوجد إلا في القرآن ومبادئ الإسلام. والجانب الروحي فيه هو بعث “الإيمان بالله” وتقويته لتبديد اليأس من النفوس، وترسيخ الأمل فيها، فالقرآن يضع اليأس في مرتبة الكفر، ويقرن القنوط بالضلال, والقرآن يقرر ناموسًا ربانيًا لا يتغير، ونظامًا ربانيًا لا يتبدل: أن الأيام دول (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ). والجانب المادي لا تقوم له قائمة إلا إذا اقترنت به “القوة الروحية” و”الخلق الفاضل” و”النفس النبيلة” و”الإيمان بالحقوق ومعرفتها” و”الإرادة الماضية في سبيل الواجب” و”الوفاء الذي تنبني عليه الثقة والوحدة”.والدعائم الفكرية لهذا المنهج ثلاث؛ أولها: تحرير العقل وفتح آفاق التفكير أمامه، كما دعا القرآن الكريم إلى ذلك وحث عليه، و”البنا” يرى التفكير عبادة لا تعدلها عبادة، لأن “القرآن ربط بين القلب المؤمن والعقل المفكر”. والعقل “محكوم بحدود الشرع، ولا بد أن يسلِّم لخالق الكون ومدبر الأمر كله”. وثانيها: العلم الذي يؤازر القوة الروحية، ويوجهها أفضل توجيه ويمدها بما تحتاج إليه من مخترعات ومكتشفات، والقرآن يجعل العلم فريضة كالقوة تمامًا، لا يفرق بين علم الدين وعلم الدنيا، بل أوصى بهما جميعًا. ولكن التمييز بين العلم الضار والعلم النافع ضروري، فنحن “لم نبرع في المخترعات كما برعنا في الرقص والتمثيل، ولم ننبغ في العلوم والمعارف نبوغنا في التهتك والخلاعة”. والأخذ عن الغرب يجب أن يفرِّق بين النافع والضار من خصائص حضارته، فإن لكل عصر وجهين: جميلاً وقبيحًا، ومن الغبن أن نترك جمال العصر “العلم العملي” لقبحه “التحلل والإلحاد والإباحية..إلخ”، ومن الخطأ أن نتهاون في قبحه لجماله، بل نقف موقف الناقد البصير الذي يأخذ الطيب وينفي الخبيث” (42). وثالثها: تجديد التراث وتوحيد الثقافة، وهو في ذلك متابع لاهتمام محمد عبده الذي يُعتبر رائد مدرسة تحقيق التراث وتجديد الثقافة العربية بما صنعه من تحقيق مقامات بديع الزمان، ونهج البلاغة للشريف الرضي، وأسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني وغيرها (43). 33 – أما الدعائم السياسية للنهضة فيراها حسن البنا في أربعة أمور: أولها: القيادة التي تُحدث في الأمة ثورة فكرية تدفع الإنسانية كلها -وليس أمة القائد فقط- إلى الأمام عدة مراحل. والمثل الأعلى في ذلك هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.وثانيها: هو الوحدة التي ستزيل كل عوامل الفُرقة التي تمزِّق شمل الأمة وهي -عنده- شرط لازم للاستفادة “من وحدة الأوطان التي تمتدّ من المحيط إلى المحيط”، وصورة هذه الوحدة عند البنا صورة عملية تتم بأن تقرِّر كل أمة من أمم العالم الإسلامي شعارًا ثلاثيًا هو النظام الإسلامي الاجتماعي في الداخل، والتحرر من كل سلطان أجنبي في الخارج، والتعاون بين الأمم الإسلامية في جميع أنحاء الأرض، وهذه خطوة في سبيل الوحدة السياسية الكاملة التي تأتي بعد ذلك في أوانها. وثالث الدعائم السياسية للنهضة: التحرُّر من الاستعمار، فهو عدو كل نهضة، وعائق كل تقدُّم، ولا سبيل إلى التحرر من الاستعمار إلا باستخدام القوة، وأهم وسائلها الجهاد المسلح. والدعامة الرابعة: الحكم الإسلامي، ويقصد به البنا إقامة السلطة السياسية الوازعة التي تجعل “نظام الحكم إسلاميًا قرآنيًا” والحكومة “إسلامية صحيحة الإسلام صادقة الإيمان مستقلة التفكير والتنفيذ..” (44). 34 – والبنا -كما يقول إبراهيم البيومي غانم- لا يعترف للأنظمة التي كانت قائمة في وقته بأنها إسلامية، ومن ثَم فهو لا ينتقدها فحسب، وإنما يؤدي منطقه إلى نفي شرعيتها، ولو بطريقة غير مباشرة (45). وأيًا ما كان الرأي في مدى واقعية الدعائم التي تصوَّرها حسن البنا أساسًا للنهضة، وفي مدى التحديد أو التداخل الذي يبدو في أفكاره فإن الثابت أن الفكرة التي أدلى بها حسن البنا دلوه في مجرى الفكر السياسي الإسلامي هي فكرة الإسلام الشامل لكل أوضاع الكون والمجتمع والفرد، الجامع لكل أطراف الحياة، المهيمن على كل شؤون البشر عقيدة وشريعة وسلوكاً. فبالعقيدة تتحدَّد نظرة الإنسان إلى الكون وموقفه منه، وبالشريعة تتحدَّد أسس نظرته إلى المجتمع ومكانه فيه وواجبه نحوه وحقه عنده، وبالسلوك تتحدَّد وسائل التعامل بين الفرد والآخرين مسلمين كانوا أم غير مسلمين. فالإسلام -كما تقدمه دعوة حسن البنا وفكره السياسي- فلسفة وقانون وأخلاق، وهو يحكم عقل الإنسان وقلبه وظاهر أمره وباطنه. وهذا هو الإسهام الجديد الذي أضافه حسن البنا إلى الفكر السياسي الإسلامي (46) 35 – بين اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا (1949) وصدور الطبعة الأولى من “معالم في الطريق” (1964م) كانت الدنيا قد تغيَّرت تغيرًا كبيرًا، والعلاقة بين نظام الحكم المصري وبين الإخوان المسلمين قد مرَّت بمنعطفات بالغة الشدة والعنف، والتوجُّه الاشتراكي للحكم أصبح مسفرًا عن وجهه مع استمرار منع الحركة الإسلامية من الوجود الرسمي أو النشاط العلني. وقد أدَّى ذلك إلى ظهور منهج جديد في الفكر السياسي الإسلامي، أحدث آثارًا بالغة الخطورة في الحياة السياسية والثقافية المصرية والعربية، ذلكم هو منهج سيد قطب الذي عبَّرت عنه آراؤه في أخطر كتبه -سياسيًا- كتاب: “معالم في الطريق”.وليس من شأني -الآن- أن أقوِّم فكر الأستاذ سيد قطب -رحمه الله-، ولا أن أحاول تحليله، وإنما حسب هذه الورقة أن ترصد أهم معالمه، كما حاولت أن تصنع مع من سبقوه من روّاد الفكر السياسي الإسلامي في مصر. 36 – يبدأ سيد قطب من إفلاس الديمقراطية الغريبة، ومن التنبؤ بإفلاس الاشتراكية الماركسية -وهو ما وقع بعد ذلك بثلاثة عقود من الزمان-، ليقول: إن قيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال، لأنه لم يعد يملك رصيدًا من القيم يسمح له بالقيادة. والإسلام وحده هو الذي يملك مقومات هذه القيادة. لكن الإسلام لا يملك أن يؤدي دوره إلا في مجتمع، أي أمة. ويقرر سيد قطب -عند هذه النقطة- أن “وجود الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة.. فالأمة المسلمة ليست “أرضًا” كان يعيش فيها الإسلام، وليست “قومًا” كان أجدادهم في عصر من العصور يعيشون بالنظام الإسلامي.. إنما “الأمة المسلمة” جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامي.. وهذه الأمة -بهذه المواصفات- قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعًا”. 37 – “إن العالم يعيش اليوم كله في “جاهلية” من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها. جاهلية لا تخفِّف منها شيئًا هذه التيسيرات المادية الهائلة، وهذا الإبداع المادي الفائق!” ولذلك فإنه لا بد -حسبما يقول سيد قطب- من بعث الأمة المسلمة التي واراها ركام التصوُّرات وركام الأوضاع وركام الأنظمة، التي لا صلة لها بالإسلام، ولا بالمنهج الإسلامي.. وإن كانت ما تزال تزعم أنها قائمة فيما يسمى “بالعالم الإسلامي” (47) . 38 – والإسلام -عند سيد قطب- لا يعرف إلا نوعين اثنين من المجتمعات، مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي. المجتمع الإسلامي: هو الذي يطبَّق فيه الإسلام عقيدة وعبادة، شريعة ونظامًا، وخلقًا وسلوكًا.. والمجتمع الجاهلي: هو المجتمع الذي لا يطبق فيه الإسلام، ولا تحكمه تصوراته وقيمه وموازينه، ونظامه وشرائعه، وخلقه وسلوكه. ليس المجتمع الإسلامي هو الذي يضم ناسًا ممن يسمون أنفسهم “مسلمين”، بينما شريعة الإسلام ليست هي قانون هذا المجتمع، وإن صلى وصام وحج البيت الحرام… وقد يكون المجتمع -إذا لم يطبق الشريعة- مجتمعًا جاهليًا ولو أقر بوجود الله -سبحانه-، ولو ترك الناس يقيمون الشعائر لله في الِبَيعِ والكنائس والمساجد (48) . 39 – والتحرُّر الحقيقي هو أن تكون الحاكمية العليا في المجتمع لله وحده -متمثلة في سيادة الشريعة الإلهية- فتكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحررًا كاملاً وحقيقيًا من العبودية للبشر… والمجتمع الإسلامي هو وحده المجتمع الذي يهيمن عليه إله واحد، ويخرج فيه الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده (49) . 40 – هاتان الفكرتان: “الجاهلية” التي أصابت المجتمعات الإسلامية -بل البشرية كافة- والتحرر منها والانعتاق من أسرها بتطبيق “الحاكمية”، هما الفكرتان الرئيستان في منهج سيد قطب الفكري، وهما الإضافة التي زوّد بها سيد قطب نهر الفكر السياسي الإسلامي. وحول هاتين الفكرتين تدور كل الأفكار الأخرى التي تصادفنا في كتب سيد قطب، وفي مقالاته، بل وفي تفسيره للقرآن الكريم “في ظلال القرآن”، كلما تعلَّق الأمر بالفكر السياسي أو بالحياة الاجتماعية. 41 – والتطور ملحوظ في الخط الفكري الإسلامي منذ محمد عبده إلى سيد قطب. فمحمد عبده كان يرى الجماهير “جاهلة” يجب أن “تعلّم” و”تهذب” ويرى الحكومات -مهما تكن ظالمة- محتاجة إلى أن تقوَّم بسلطان الشريعة والقانون “بما يلائم عوائد الناس”. و”حسن البنا” مضى خطوة أبعد، حين نفى شرعية الحكومات القائمة -في عصره- لقيامها على أسس غير إسلامية. ثم بلغ الأمر غايته عند سيد قطب، فحكم على المجتمعات كلها بأنها “جاهلية” وعلى “الأمة الإسلامية” بأنها “منقطعة عن الوجود” و”غائبة عن الشهود”، ونفى الإسلام عن المجتمع الذي لا يقر “بالحاكمية” ولو “صلى وصام وحج البيت الحرام”! 42 – ومن باب هاتين الفكرتين القطبيتين دخلت إلى الفكر السياسي الإسلامي وإلى العمل الحركي جميع أفكار المقاطعة والتكفير والاستحلال واستباحة الدماء والأموال، وعشرات النتوءات الفاسدة التي نُسبت إلى الإسلام ظلمًا وزورًا، وشوَّهت صفحته الناصعة بخطايا أصحابها التي لا يزال المفكرون والفقهاء والدعاة يجاهدون لنفي صلتها بحقائق الإسلام؛ ولا يزال خصوم الفكرة الإسلامية يجيدون إعادة عرضها -وأحياناً إعادة صناعتها وإخراجها- للتدليل على أن الشعار الإسلامي لا يدلّ على حقيقة نتائجه. ومهما يكن الأمر في تأويل(50) كلام الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- فإنه كان من الخطورة وبُعد الأثر إلى حد دفع المرشد العام الثاني للإخوان المسلمين -المستشار حسن الهضيبي- إلى أن يخرج باسمه كتابًا عنوانه “دعاة لا قضاة” ينفي فيه عن الإخوان اعتناقهم الفكر المؤدي إلى تكفير المجتمع أو الخروج عليه بقوة السلاح. وأنشأ حركة فكرية ساهم فيها -للرد عليه ومناقشته- عدد غير قليل من المفكرين الإسلاميين، أكثرهم من الذين عاشوا أزمانًا تحت مظلة فكر الإخوان المسلمين وتنظيمهم (51) 43 – حسن العشماوي أحد الرموز البارزة في الحركة الإسلامية المعاصرة كان عضوًا مرموقًا في تنظيم الإخوان المسلمين، وقام بدور خاص جدًا في العلاقة بين الإخوان المسلمين والضباط الأحرار، في أثناء التحضير للثورة وفي سنتيها الأوليين، إلى أن اختفى في صعيد مصر ثلاث سنين عقب حادثة المنشية، ثم هاجر من مصر، وبقي يعيش في مهجره إلى أن توفي في الكويت في 2 فبراير 1972. 44 – في هذا البحث يقول حسن العشماوي: إن نظرته “إلى مشكلة الحكم تقوم على ركيزتين رئيسيتين متكاملتين متجاوبتين: التسليم بالوجود الإلهي، والإيمان بالحرية الفردية، الحرية الفردية التي عليها أن تثبت وجودها أمام تحديات الغيب والحاضر معًا.. الحرية الفردية التي ترعى ذاتها بمقدار ما ترعى غيرها، وإلا اصطدمت بالوجود الإلهي”(52) . 45 – والحركة الإسلامية لا تدعو -عند حسن العشماوي- إلى إقامة حكومة دينية، ومفكروها لا يمكن أن يفهم حديثهم عن “الحكومة الإسلامية” ولا عن أن الإسلام “دين ودولة” على أنهم يريدون إقامة حكومة دينية. لقد جرَّبت الأرض الحكومة الدينية أكثر من مرة، جرَّبتها على يد كهنة الإلهة المتعددين في أكثر من مكان، فكانت المآسي في الحكم باسم الآلهة. وجرَّبتها على يد أحبار اليهود الذين أباحوا -باسم السماء- قتل زكريا ويحيى، وحكموا بإعدام المسيح، وجرَّبتها على يد الكنسية والملوك والقياصرة أصحاب الحق الإلهي، فرأت محاكم التفتيش وإحراق القديسين والعلماء والمجدِّدين في المذهب، ورأت شهداء المسيحية الأصلية في مصر تقتلهم الواسطة الرومانية التي ادَّعت أنها تحكم باسم السماء.. وجرَّبتها أمة المسلمين مع من ظنوا أن الخلافة ظل الله في الأرض، وأن قولها هو قول السماء، فرأت مبكرًا محنة مالك وابن حنبل، ثم رأت حبس أو قتل كل من اجتهد ليواجه أحداث العصر أو سطوة الحكم، ثم رأت اضطهاد كل مجدد -أخطأ أو أصاب- يريد أن يرجع إلى أصل الدين لا شكله وقشوره”… “هذا لا نريده أبدًا.. وبُعدًا لولاء الفرد لحكومة تكون واسطة بين السماء والأرض” (53) . 46 – وعن فكر “الحاكمية” يقول حسن العشماوي: “ويقال: بالدين تتحقَّق حاكمية الله في الأرض.. فهل دلونا ما المقصود بحاكمية الله في الأرض؟” ويتحدث عن النواميس والسنن الطبيعية، ثم يقول: “هل أراد الله أن تحكم الأرض على شكل معيَّن؟ هل رسم لها صورة للحكم؟ لا.. أقولها بكل ثقة، وأتحدى من يقول غير هذا أن يأتيني بدليل”. “إن حاكمية الله في الأرض، بمعنى سيادة نواميسه قائمة بحكومة دينية أو غير دينية.. وبغير حكومة على الإطلاق. أما حاكمية الله في الأرض على النحو الذي يرفعونه شعارًا للحكم، فلا يعني إلا أحد أمرين: إما حكومة دينية متسلِّطة، قد تعدل إذا صادف العدل طبيعة أفرادها أو هواهم، وقد تظلم إن شاءت، ولا اعتراض عليها، لأنها حكم الله في الأرض. وإما فوضى، كل فئة ترى نفسها قيّمة على حكم الله في الصغيرة والكبيرة، فتسعى إلى تنفيذه، فتتفرق الجماعة، ويقتل بعضنا بعضاً” (54) . 47 – ويرفض حسن العشماوي الحكومة المنكرة كما يرفض الحكومة الدينية سواء بسواء، ثم يعرض تصوُّره للحكومة الإسلامية، التي تسعى إليها الحركة الإسلامية، فيصفها بأنها “تسعى لحكومة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر، تطبِّق قوانين المسلمين التي تنبع عن الشريعة الإسلامية وتتطوَّر لمواجهة متطلبات العصور المتطورة”.. أما التطبيق فهو -عند حسن العشماوي- “يحتمل أكثر من حل للمشكلة الواحدة بحيث يكون للأمة -بل للأمم- أن تختار حسب ظروفها ما يناسبها من حلول” و”الحركة الإسلامية ليست نظرية يعتنقها البعض تفرض حتمية معيَّنة تشبه حتمية الماديين.. ولكنها حركة تجاهد لتطبيق جوهر فهم السلف”.. “والسلفية لا تعني تقليد السلف فيما فعلوا، ولكنها تعني اعتناق مفهوم السلف الذي دعاهم إلى فعل ما فعلوا” (55) . 48 – ويدعو حسن العشماوي إلى حرية تعدُّد الأحزاب: “الأصل العام في الحرية.. أن نقبل علانية التجمع السياسي على رأي … وعلانية الدعوة له.. والأمر المرفوض كلية هو أن تلزم الأمة بحزب واحد، يحكمها وفق مبدأ جامد -دينيا كان هذا المبدأ أو منكرًا-، فلا يسمح لغير أعضائه أن يتولى فيها أمرًا. إن الحزب الذي يقبل لذاته الوجود في بلد من البلاد، يجب أن يسلِّم لغيره بالوجود، وإلا أوجد لنا طبقة جديدة ممتازة، تحكم الناس باسم الحزب.. فينحدر بنا في رجعية دينية أو ملحدة، ترفضها الأمة العربية، وتأبى قيامها” (56) . 49 – وهكذا يقدم حسن العشماوي تفرقة جريئة -بالمعايير التي يقاس بها تطوُّر الفكر السياسي الإسلامي- بين الإلهي والبشري. فالإلهي هو النواميس الكونية وأحكام الشريعة. والبشري هو التطبيق، والاختيار من بين الحلول المتعددة التي تتيحها الثوابت الدينية. والحاكمية لله لا تعني سوى سيادة نواميسه، وهي قائمة على كل حال، أما الحكم فهو شأن من شؤون الناس تقيدهم فيه الشريعة الموحاة، ثم يختارون لأنفسهم من النظم والأشخاص ما يشاءون. ويضيف الدكتور توفيق الشاوي -أحد أعلام الحركة الإسلامية الفكرية والسياسية في هذا العصر- تفصيلات عديدة عن مبدأ الشورى ونظام الحكومة، أهمها في هذا المقام دعوته إلى فصل الإمامة الدينية التي يتولاها الفقهاء المجتهدون عن الإمامة السياسية التي يتولاها الحكام المنتخبون. وكتابه “فقه الشورى والاستشارة” مليء بالآراء الدقيقة التفصيلية في الفكر السياسي، وفي نظام الحكم على السواء، وكلها تتصل من قريب أو بعيد بفكرته الأساسية القائمة على إبعاد رجال السياسة عن شؤون الشريعة والتشريع لإبقاء ذلك لرجال الفقه المجتهدين 50 – “في منتصف السبعينيات توسَّعت ظاهرة الإحياء الإسلامي (ضمن ظاهرة الإحياء الديني في العالم)، وتعاظم الانتماء العفوي للناس في صفوف التيار الإسلامي (بمختلف هيئاته ومؤسساته وجماعاته التي تنوَّعت وتعدَّدت، حتى باتت عصية على الحصر)، فتوفَّر رصيد هائل من العناصر الإسلامية النشطة، التحق قسم منها فيما بعد بالجماعات الحركية السياسية بمختلف اتجاهاتها، التي لم تتمكن ضمن ظروفها التاريخية (ومنها الإخوان) من تقديم رؤى فكرية تجعل من حركة الانتماء العفوي صحوة إسلامية مجددة لا تقتصر على أفكار واجتهادات السلف. فـ “الفكر المطروح كان “فكر أزمة” له ظروفه وملابساته ووسائله وأدواته.. ولعل معظم الإسهامات الفكرية أو الأدبيات الإسلامية للمشروع الإسلامي الحركي، يمكن تصنيفها في إطار الفكر الدفاعي الذي يعني من بعض الوجوه تحكُّم الأعداء الذين أصبحوا يحدِّدون ابتداءً خارطة اهتمامات العقل المسلم، وساحة نشاطه بما يلقون إليه من مشكلات واتهامات وقضايا، تجعل نشاطه مجرد ردود أفعال. يضاف إلى ذلك انشغال أصحاب المشروع الحركي بالمواجهة، وشؤون الضبط والربط والتنظيم على الطريقة الحزبية المعاصرة. الأمر الذي لم يدع فرصة كافية للتأمل والتنظير والتقويم والمراجعة، إلا من بعض المساهمات الفكرية التي لم تحقِّق القدر المطلوب، الأمر الذي جعل المشروع الحركي بحاجة إلى الأوعية والحلول والمعالجات الفكرية التي تهتم بالبناء أكثر من اهتمامها بالدفاع والتعبئة” (57) . 51 – “وضمن هذا السياق التاريخي -اتساع عفوية الانتماء للإسلام والجماعات الحركية الإسلامية، وعجز هذه الجماعات عن التجديد-، واستجابة لهذا الواقع ظهرت رموز فكرية مجدِّدة على الساحة الإسلامية في كل البلاد العربية والإسلامية. لا يرتبط معظمها ارتباطًا تنظيميًا بالجماعات الحركية، وقيودها الفكرية، وسرعان ما توسَّعت جهودهم وتأثيراتهم لتشمل عدداً متزايدًا من الأكاديميين والباحثين، كما تأسَّست مجلات وتجمعات تعبر عن أطروحاتهم الجديدة، وطريقتهم في التفكير والتقويم، للفكر الإسلامي السائد” (58) . 52 – في ظل هذه الأوضاع، وفي ظلال هذا الفكر نشأ -سياسيًا- جيل “مشروع حزب الوسط”، وتكوَّن فكره الخاص، الذي خالف فكر التنظيمات الإسلامية، التي اتخذت العنف طريقاً للتغيير السياسي، ثم فكر الإخوان المسلمين الذي انتقلت غالبية هؤلاء الشباب إلى صفوفهم بعد إخفاق تجربتهم مع الجماعات الأخرى. 53 – وقد تبلور فكر هذا الحزب- المشروع في برنامج حزب الوسط. فهو مشروع حضاري يقدِّم مرجعتيه للمسلمين والمسيحيين معًا؛ فهي بالنسبة للمسلمين “مرجعية دينهم الذي به يحيون وعليه يموتون ويبعثون”، وهي بالنسبة لغير المسلمين “مرجعية الحضارة التي تميَّزت بها بلادهم، وفي ظلالها أبدع مفكروهم وعلماؤهم وفنانوهم، وبلغتهم نطق وعاظهم وقديسوهم.. وهم فيها صناع أصلاء، وفي ظلال غيرها من الحضارات أتباع أو دخلاء”. ولذلك لم يرد في برنامج الحزب ذكر لأهل الكتاب باعتبارهم جماعة يجب الحفاظ على حقوقها، بل هم شركاء متساوون ينتمون إلى المرجعية نفسها، والحضارة ذاتها. 54 – ومشروع الحزب يعالج “حقوق الناس” في مقابلة “حقوق الإنسان”، لأن “حقوق الناس” يراد بها “تأسيس الحقوق الكلية لمجموع المواطنين يتمتَّع بها الجَمْعُ والأفراد منهم، ويدافع عنها الكل للكل في تأسيسها وإقرارها” (59) . 55 – وقد أحدثت محاولة تأسيس حزب الوسط شرخًا في العلاقة بين مؤسسيه وبين جماعة الإخوان المسلمين، ليس هنا مكان تفصيل أسبابه ونتائجه، ولكنها في الوقت نفسه استدعت تأييد عدد من رموز الفكر الإسلامي والحركة الإسلامية، فكتب العلامة المجدِّد الدكتور يوسف القرضاوي يقول: “إنه رحَّب بفكرة حزب الوسط، ويعتبرها حركة طيبة، ولعلها تكون فرصة للخروج من العزلة المفروضة على الحركة الإسلامية”. وقال أيضًا: “أخشى على الحركة الإسلامية أن تضيق بالمفكرين الأحرار من أبنائها، وأن تغلق النوافذ في وجه التجديد والاجتهاد، وتقف عند لون واحد من التفكير لا تقبل وجهة نظر أخرى، تحمل رأيًا مخالفًا في ترتيب الأهداف أو في تحديد الوسائل” وقال عنهم د. توفيق الشاوي: “إن ما ذكره الدكتور القرضاوي من أسباب تبرِّر تأييده للمؤسسين يشاركه فيها كثيرون من ذوي الفكر والرأي الذي عرفتهم” (60) . ولم يكن رد فعل الحكومة بأقل حدة من رد فعل الإخوان المسلمين، فقد قبض على ثلاثة عشر رجلاً، من بينهم وكيل المؤسسين نفسه، واتهموا بأنهم حاولوا “التحايل على الشرعية بتأسيس حزب سياسي”!! واستفزت هذه التهمة -التي ليس لها سابقة في التاريخ- بعض الكتاب، فقال: “إنها تهمة لا توجد في القانون المصري، ولا في أي قانون لبلد شمَّ رائحة الحضارة”، وقد أمسى الوسط “الحزب” “سجينًا في أشخاص هؤلاء الأبرياء من المواطنين الشرفاء الذين صدَّقوا أن من حقهم طلب تشكيل حزب سياسي، فاتبعوا القانون القائم رقم 40 لسنة 1977 بشأن الأحزاب السياسية، وتقدَّموا بطلب لتأسيس حزب الوسط، فانتهوا سجناء بتهمة جوهرها تصديق دعوى الديمقراطية. أما “الوسط” التيار الفكري، والاعتدال السياسي، والاعتراف بحق الآخر في الوجود، وبعطائه للشعب في الحاضر والماضي، والتعاون معه من أجل عطاء متجدِّد في المستقبل. الوسط الذي يمثل جمهرة المصريين من الرجال والنساء البسطاء. وهم في الغالب فقراء، لكنهم دائمًا صادقون ومخلصون ومتدينون وشرفاء. ضد التبعية والتغريب، ومع الشعب العربي في كل أرض ضد عدوه من كل لون، ومع المقهورين المسلمين والمسيحيين ضد الطغاة الظالمين.. بقلبه وعقله وشعوره، إن لم يستطع -من شدة الخوف- أن يفعل ذلك بيده أو بقلمه أو بلسانه.. هذا الوسط باقٍ.. لا يسجن، ولا يوأد ولا يفنى حتى يرث الله الأرض ومن عليها.. لأنه من جذور الأصول جاء.. وهي مهما طال بها ليل الابتلاء لا تحوَّل إلى عدم، ولا تكف عن الإنبات حتى يقف الليل والنهار عن التوالي والتكرار، فليكن شعار اليوم والغد: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ) (61) . ومن العلم أن لجنة شؤون الأحزاب لم توافق على تأسيس حزب الوسط، ولم يكن حظ الحزب أحسن حالاً أمام المحكمة المسمّاة “محكمة الأحزاب السياسية” في مجلس الدولة. وحاول المؤسسون -مرة ثانية- عادوا منها كما عادوا من المحاولة الأولى بغير طائل، وهم لا يزالون حتى اليوم يبحثون عن طريق يحصلون به على الشرعية القانونية بعد أن أعلنوا مراراً أن خيارهم هو: العمل العلني في ظل القانون مهما كان جائرًا، أو ضيَّق الصدر بالعمل الإسلامي، أو مقيِّداً للنشاط السياسي. وهو اختيار صحيح مهما خالفه بعض أهل الرأي فقد وافقه آخرون، ولو لم يكن له من أثر إلا تحريك المياه الآسنة في الحياة السياسية المصرية، وتشجيع تيارات العنف السياسي على الإعلان عن نبذها إياه، ومحاولتها تشكيل أحزاب سياسية، لكفى بذلك نجاحًا الحركة الإسلامية بين الانتماء للطائفة والتعبير عن الأمة في البدء فإن حديثنا هذا يتنزل في فضاء اجتهادي يحتمل الخطأ والصواب، وليس في فضاء عقائدي لا يتحمّل إلا الحلال والحرام. من هذا المنطلق فإني أزعم أن حديثي صائب يحتمل الخطأ، ورأي مخالفي خطأ يحتمل الصواب. إن الحديث عن التغيير ذو شجون، والتأمل في أوضاع الأمّة المتأزمة والمهزومة يملي مشروعية طرحه مجددًا، رغم أنه مبحث قُتل دراسة وتنظيرًا. لقد شهد العالم الإسلامي في هذا القرن صحوة تغييرية شاملة ساهمت فيها أطراف مختلفة ومشارب متنوعة وأيديولوجيات متعددة، هدفها التمكين وإخراج بلدانها من ربقة الاستعمار والتخلف والتبعية والاستبداد، إلى أحضان الحرية والعدل والتقدم والازدهار. وقد كانت الحركة الإسلامية رقمًا هامًّا وفاعلاً في هذا الإطار، غير أن مشوارها التغييري ومنهجياتها المطروحة شابتهما الضبابية أحيانًا والتشتت والاختلاف أحيانًا أخرى، وطُرح الشيء ونقيضه، وساهم الداخل والخارج في تحييدها أو تحجيمها طوعًا أو كرهًا، ففشل أغلبها في الوصول إلى الهدف الذي كرست مسيرتها من أجل تحقيقه، رغم توفّر الزخم الجماهيري والمعطى الثقافي والمرجعية الدينية. وتعددت التساؤلات والإجابات حول الأسباب الكامنة وراء هذا الفشل، فمن ابتلاء وجب قبوله حتما والصبر على تجاوزه، إلى عقاب استحقته لانزلاق بعضها ها وابتعادها عن روح الإسلام، إلى عدم فهم بعضها لواقعها الوطني وعدم إدراك للمعادلات الإقليمية والدولية وحتى الداخلية… إلخ. غير أن سؤالاً ظل غائبًا أو منسيًّا، وهو: لماذا لا يكون تحزب بعض الحركات الإسلامية نفسها هو أحد الأسباب الرئيسية والعميقة وراء هذا الفشل؟ هذا التحزب الذي اعتبرتْه هذه القطاعات من الحركة الإسلامية حقًّا شرعيًّا، ومطلبًا سعت إلى كسبه، والعمل على الحصول على تأشيرة بروزه! وقد ساهم الداخل من سلطة ومعارضة، والخارج في اللعب على أوتاره، بين دفع وسحب، وتطميع وصدّ، والذي يبدو أن الحركة الإسلامية وقعت في حباله وكأنها تبحث عن حتفها بنفسها! التحزب مواجهة للأمة إن دعوة جل الحركات الإسلامية إلى التحزب وتبنيه وممارسته يجعلها طرفًا في الصراع على السلطة؛ فتصبح ممثلة لمجموعة معينة، لها أبعادها وأهدافها وأدواتها ورجالها؛ وهو ما يقزِّم مشروعها، ويحجم تأثيرها، ويمكن أن يجرها إلى مواجهة الأمة دون قصد منها. ففي منازلتها للسلطة القائمة تتعالى أصوات كثرة من الإسلاميين عن غياب السند من الأمة، التي في أحسن الحالات تلتزم الصمت والانسحاب، إن لم تكن طرفا مناهضا. لقد سمعت مرة أن أحد قيادي الحركة الإسلامية وهو من وراء القضبان ظلّ ينتظر ويتعجب كيف لم تقم الجماهير بمهاجمة السجن وإطلاق سراحه منه! وقد غفل الشيخ الكريم أنه أضحى هو وخطابه لا يمثلان كل الأمة، بل هو طرف في صراع يمثل قسما منها، محدود العدد والعدّة. وعلى الصعيد الفكري يرى بعض المفكرين في الحزبية سبيلاً إلى الطائفية، يسحب عن الأمة مسؤولية إقامة الدين وعمارة الدنيا، ويجعلها في أيدي مجموعة مهما كبر عددها، هي تلك المجموعة التي اعتبرت نفسها – وحدها – تتحدث باسم الإسلام في مواجهة آخرين لا يتحدثون باسمه. وكان هذا الخطأ فادحًا. فالأمة مكلفة ومسؤولة، والحزبية تنزع أو تخفف عنها هذا التكليف، والخطاب القرآني واضح في هذا المجال حيث يلقي المهمة كاملة على الأمة وليس على طرف منها “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ” (النساء: 135). وما يحصل الآن من تعدد للأوصياء على المشروع الإسلامي ومن تنوع وتباين شاسع في فهمه وتنزيله، يُعتبر تواصلاً ولونًا معاصرًا للفرقية والمذهبية القديمة. وحتى إن اعتبرنا مزايا هذا التنوع في مجال الفقه من توسعة للأمة وتسيير لها، فإن الفرقية السياسية قديما وكذا الفرقية الحاملة للمشروع الإسلامي حديثًا لم تنجح إلا في زيادة خلافات الأمة وتعميق تشرذمها، وفشل أغلبها في الوصول إلى سدة الحكم. وحتى التي وصلت لم تترك لنا نماذج تُحتذى ونجاحات تُعتبر، لأن غياب الأمة كان ملازما لفشلها ولو بعد حين.