الأوامر القضائية بشأن انتهاء التحقيق الإعدادي دراسة مقارنة
يونس أسوفي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
تقديم

مما لا شك فيه أن النظام الجنائي المغربي يقوم على مؤسسات قانونية تهدف إلى تحقيق العدالة الجنائية التي تنشدها جل الشعوب، ويساير نظامنا الجنائي في ذلك جل المواثيق والاتفاقيات الدولية انطلاقا من كون المغرب عضوا نشيطا في المنظومة الدولية، وبهذا تهدف المؤسسات القانونية التي يتكون منها النظام الجنائي المغربي إلى تحقيق المحاكمة العادلة من خلال كل ما يقوم به كل جهاز من أدوار طلائعية ومهمة في الدعوى العمومية[1].

ويحدو تدشين قانون المسطرة الجنائية لمؤسسة قضاء التحقيق في اتجاه توطيد حقوق الإنسان وبناء دولة والمؤسسات، وتقوية سلطات العدالة الجنائية ضمانا لشروط المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع[2].

ومن هذا المنطلق، فقضاء التحقيق يشكل مرحلة مهمة و جسيمة على اعتبارها تتوسط البحث التمهيدي الذي تشرف عليه النيابة العامة بصفتها سلطة للمتابعة، ومرحلة الحكم التي يتولى فيها القضاء الفصل في القضايا التي تعرض عليه، فهو منزلة تتوسط مرحلة المتابعة والحكم، وبالتالي فالغاية من التحقيق ليست الفصل في الدعوى العمومية، وإنما إثبات مدى صحة نسبة الأفعال موضوع ملتمس النيابة العامة بإجراء تحقيق إلى المتهم، من عدمه، أو بتعبير المادة 221 من قانون المسطرة الجنائية، فيجب على قاضي التحقيق أن يبين الوصف القانوني للفعل المنسوب للمتهم، كما يبين بدقة الأسباب التي من شانها أن تدعم وجود أدلة كافية أو عدم وجوها[3].

وتبعا لما سبق، فقد خول المشرع لقاضي التحقيق صلاحيات وسلطات واسعة للتأكد من الإتهام ومن الأدلة المقدمة إليه لتأكد أو دفع الإتهام، من خلال الإجراءات المتعلقة بالتنقل و التفتيش و الحجز و التقاط المكالماتـ، و الاستماع إلى الشهود واستنطاق المتهم.

كما يتمتع قاضي التحقيق بسلطة إصدار مجموعة من الأوامر المتعلقة بشخص المتهم، كالأمر بالإحضار، و الأمر بالحضور، والأمر بالوضع تحت المراقبة القضائية، والأمر بالوضع تحت الاعتقال الاحتياطي، وبعد أن يكون قاضي التحقيق قد استجمع خلال التحقيق العناصر الكافية لاتخاذ قرار الحسم في النازلة المعروضة عليه، هذا بعد أن تضع النيابة العامة ملتمسها النهائي، فإنه يصدر أمره بانتهاء التحقيق والذي لا يخرج عن ثلاث أوامر، وهي إما الأمر بالمتابعة أو الأمر بعدم المتابعة أو الأمر بعدم الاختصاص.

ويجد موضوع الأوامر القضائية بشأن انتهاء التحقيق أهميته في معرفة مدى ضمان المشرع المغربي لشروط ومقومات المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع، من خلال الإجراءات و القواعد المتعلقة بإصدار الأوامر القضائية والتي يسدل بموجبها قاضي التحقيق الستار على مختلف إجراءات التحقيق، وما يستتبع ذلك من آثار تختلف بحسب إختلاف نوع القرار المتخذ في حق المتهم موضوع المتابعة.

ويمكن إبراز الإشكالية التي يطرحها الموضوع فيما يلي، إلى أي حد كان المشرع في قانون المسطرة الجنائية موفقا عند تنظيمه لسلطات قاضي التحقيق بشان إنهاء التحقيق، بالشكل الذي يتلاءم ودوره في مكافحة الجريمة وتحقيق التوازن بين حق المجتمع والضحية في توقيع العقاب تجاه كل من أخل بأمنه واستقراره، وبين حق المتهم في التمتع بضمانات المحاكمة العادلة.

ومن أجل دراسة الإشكالية التي يطرحها الموضوع اعتمدنا على المنهج التحليلي القانوني إلى جانب المنهج الوصفي، كما وظفنا المنهج المقارن، مركزين على القانون الفرنسي بالإضافة إلى التشريع المصري.

استنادا إلى المنهجية أعلاه والتي سنعتمدها للتصدي للإشكالية التي يطرحها موضوع الدراسة، فإننا ارتأينا أن نقسم الموضوع إلى مبحثين وفق الخطة التالية:

المبحث الأول: الإجراءات المسطرية لإنهاء التحقيق الإعدادي.
المبحث الثاني: الإجراءات المسطرية لإصدار الأوامر القضائية بشأن انهاءالتحقيق الإعدادي.

المبحث الأول: الإجراءات القبلية لإنهاء التحقيق الإعدادي

مما لاشك فيه، أن التحقيق الإعدادي يرمي إلى تخويل قاضي التحقيق مجموعة من الصلاحيات قصد القيام بالأبحاث الضرورية من أجل الوصول إلى الحقيقة، وبعد استنفاد قاضي التحقيق لهذه الإجراءات و تكوين قناعته في النازلة المعروضة أمامه، يتخذ قراره بناء على ما توصل إليه من حجج سواء كانت في صالح المتهم أو ضده، وعلى أساسها يصدر أمرا إما بالإحالة على المحكمة المختصة أو بالأمر بعدم المتابعة[4]، وضمانا لسلامة وصحة الإجراءات المسطرية التحقيق لإنهاء التحقيق، يتوجب على قاضي التحقيق أن يرفع إلى النيابة العامة أمرا بالإطلاع وذلك لإمكانية تقديم النيابة العامة ملتمساتها النهائية، وذلك قبل إقفال مسطرة التحقيق الإعدادي[5].

وتأسيسا على ما سبق، فإننا سنتطرق إلى الأمر بالإطلاع المرفوع على النيابة العامة بخصوص إنهاء التحقيق (المطلب الأول)، على نخصص لتقديم النيابة العامة لملتمساتها الختامية بخصوص إنهاء التحقيق (المطلب الثاني).

المطلب الأول: الأمر بالإطلاع المرفوع على النيابة العامة بخصوص إنهاء التحقيق

إن قانون المسطرة الجنائیة یقرر لقاضي التحقیق سلطات ھامة تمكنه من البحث عن كل العناصر الصالحة للإثبات تیسیرا لاتخاذ قراره بشأن المسار الذي ینبغي أن تتخذه القضیة محل التحقیق، وفي جميع الأحوال التي يبدو فيها لقاضي التحقيق أنه تبعا للمستوى التي وصلت إليه التحقيقات لم يعد هناك مبرر قانوني أو عامي في الاستمرار في هذه التحريات، فإنه يقرر إنهاء التحقيق وتختلف عملية الإنهاء باختلاف النتيجة المتوصل إليها.

وبالتالي تختلف باختلاف الوضعيات و الحالات، وخاصة كمبدأ عام عند تعذر معرفة هوية المتهم، أو في حالة عدم توفر أدلة لإثبات الأفعال الإجرامية المنسوبة إلى المتهم، أو أنه خلافا لذلك حصل على اعترافات مفصلة للمتهم أو أدلة تثبت عدم ارتكابه للفعل الجرمي، فإنه يترتب عن ذلك وحسب الأحوال إما إصدار أمر بعدم متابعة المتهم و إما إصدار أمر بالإحالة على المحكمة المختصة، وقبل إصداره لهذه الأوامر، أوجبت نصوص قانون المسطرة الجنائية على قاضي التحقيق إصدار أمر بالإطلاع موجه على لنيابة العامة من اجل تقديم ملتمساتها، ويتعين لزوما قبل إحالة الملف على النيابة العامة القيام بالإجراءات التالية:

1- إعطاء الأمر لكاتب الضبط من أجل ترقيم أوراق ملف التحقيق كاملة.

2- يجب إحالة الملف كاملا على النيابة العامة.

3- يجب أن يتم ذلك لزوما عن طريق ما يعرف بالأمر بالإطلاع.

ذلك أن النيابة العامة يمكن أن يكون لها رأي مخالف بخصوص القرار الذي سيتخذه قاضي التحقيق، مما يستدعي بالضرورة إطلاعها على الملف وما يحتويه من وثائق ومستندات ومحاضر لإمكانية إبداء هذه الأخيرة لوجهة نظرها وذلك في شكل ملتمسات كتابية.

ويصدر قاضي التحقيق الأمر بالإطلاع على الملف خلال كافة أطوار و مراحل مسطرة التحقيق، و يجب عليه خلال ذلك أن يحترم الشكل النصوص عليه قانونا و إلا ترتب عليه بطلان الإجراء بسبب عدم تضمينه البيانات المطلوبة كتوقيع قاضي التحقيق، وهذا ما ذهب إليه قرار صادر عن المجلس الأعلى سابقا محكمة النقض حاليا و الذي جاء فيه: ” يكون مجردا من القيمة القانونية الأمر الذي لا يحمل توقيع قاضي التحقيق الذي يصدر عنه، ويؤدي عدم توقيع القرار بالإطلاع من أجل انتهاء البحث إلى بطلان المسطرة اللاحقة له “[6].

ويمكن هذا المقتضى النيابة العامة من الإطلاع على الإجراءات التي يباشرها قاضي التحقيق، و التأكد من صحتها كما يعطيها فرصة في تكوين نظرة معمقة حول ما توصل إليه قاضي التحقيق حتى تتمكن من تقديم ملتمساتها النهائية سواء بمسايرة قاضي التحقيق فيما توصل إليه أو تقديم ملتمسات إضافة تطالب فيها قاضي التحقيق بالقيام بمزيد من الأبحاث التي من شأنها أن تساعد على إظهار الحقيقة[7].

المطلب الثاني: تقديم النيابة العامة لملتمساتها الإضافية و الختامية بخصوص إنهاء التحقيق

يتوجب على قاضي التحقيق عند إنهاء أبحاثه حول القضية المعروضة عليه أن يشعر النيابة العامة بانتهاء التحقيق الإعدادي، غير أن هذه الأخيرة قد لا تكتفي بالبحث المنجز من طرف قاضي التحقيق، فقد تظهر لها فائدة في اللجوء إلى إجراء إضافي من أجل استكمال التحقيق (الفقرة الأولى) أو الإدلاء بملتمساتها الختامية بعد دراسة عناصر القضية من الناحيتين الواقعية و القانونية (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: تقديم النيابة العامة لملتمساتها الإضافية

يجوز للنيابة العامة بعد اطلاعها على ملف التحقيق و التأكد من أن التحقيق لا يزال يحتاج تعميق البحث أن توجه ملتمسات إضافية إلى قاضي التحقيق، فلها أن تطلب منه الاستماع إلى الشهود و إجراء مقابلة بينهم، أو تطلب الانتقال إلى بعض الأماكن من أجل القيام بالتفتيش، أو إجراء خبرة لأن قاضي التحقيق يملك سلطة الرد على النيابة العامة بخصوص هذه الملتمسات سواء برفضها أو إنجازها[8].

فقاضي التحقيق عندما يحيل على النيابة العامة ملف التحقيق يكون ملزما باحترام الشكليات القانونية التي يترتب عنها البطلان، ولا يعني هذا أنه يكون ملزما بالاستجابة لملتمسات النيابة العامة، فله أن يرفضها بقرار معلل، تملك النيابة العامة الحق في استئنافه.

وفي هذا الصدد جاء في قرار للغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف بالرباط أنه بعد ما تقدمت النيابة العامة بملتمس إضافي قصد الاستماع إلى الشهود، و إجراء مقابلة بينهم من طرف قاضي التحقيق، أصدر هذا الأخير قرار بعدم التوسع في التحقيق، معللا إياه بكون الملتمس الإضافي الوارد عن السيد ممثل النيابة العامة يرمي إلى الاستماع إلى مجموعة من الشهود، وحيث إنه تم استدعاء شهود النازلة وأجريت مقابلة بينهم، وحيث إن الاستماع إلى هؤلاء لن يضيف إلى التحقيق جديدا، بهذا تصبح القضية واضحة وجلية، بعد استنفاد التحقيق كل الإجراءات الضرورية[9].

واتخذت النيابة العامة من هذا القرار موقفا سلبيا، واستأنفته أمام الغرفة الجنحية، لكون القرار الصادر عن قاضي التحقيق، والقاضي بعدم التوسع في التحقيق، جاء خرقا للمقتضيات القانونية لانعدام الوقائع و الأسباب المؤدية إليه ومرتكزا على أسباب ناقصة ومتساوية ليعود الفصل بين النيابة العامة و قاضي التحقيق إلى جهة قضائية محصنة، يمكنها بما خولها القانون أن تؤيد النيابة العامة في استئنافها أو تؤيد قاضي التحقيق في قراره بعد التوسع في التحقيق.

وأكدت الغرفة الجنحية في قرارها المذكور أن قاضي التحقيق استنفد كل الإجراءات القانونية للبحث في القضية، وبعد استنطاق المتهمين ابتدائيا وتفصيليا، واستماعه إلى الشهود وبعدما أجرى كل المقابلات الضرورية بينهم وبين المتهمين، أصدرت بذلك قرارها الذي أيدت به قرار قاضي التحقيق، الرامي إلى عدم التوسع في التحقيق.

الفقرة الثانية: تقديم النيابة العامة لملتمساتها النهائية

لئن كانت الغاية من التحقيق الإعدادي هي تعميق البحث من أجل الوصول إلى الحقيقة، فإنه بمجرد قيام قاضي التحقيق بذلك و اتخاذ قراره بشأن الملف موضوع التحقيق، فإنه يصدر أمرا بانتهاء التحقيق ويحيل الملف إلى النيابة العامة للإطلاع عليه لكي تحدد موقفها النهائي من التحقيق و مآله من خلال تقديم ملتمساتها الكتابية النهائية في الموضوع وذلك داخل أجل ثمانية أيام من تاريخ توصلها بالملف عملا بالمادة 214 من ق.م.ج[10].

ويترتب عن عدم تقديم النيابة العامة ملتمساتها الكتابية بمفهوم المخالفة، إصدار قاضي التحقيق لأحد الأوامر التي يتم بموجبها إنهاء التحقيق اعتبارا لكون انصرام أجل ثمانية أيام دون تقديم ملتمساتها يعبر ضمنيا عن قبول النيابة العامة للنتائج التي آل إليها التحقيق.

أما المشرع الفرنسي فقد ألزم قاضي التحقيق بإعلام ممثل النيابة العامة من أجل تقديم ملتمساتها النهائية بشأن انتهاء التحقيق داخل أجل ثلاثة أيام إذا كان المتهم في حالة سراح، أو شهر واحد إذا كان المتهم معتقلا طبقا لمقتضيات المادة 175 من ق.إ.ج.ف[11].

و الظاهر أن المشرع الفرنسي، قد مدد من مدة تقديم النيابة العامة لملتمساتها النهائية، إيمانا منه بأن النيابة العامة تمثل المصلحة العليا للمجتمع، و أن بعض القضايا المعقدة تقتضي الإطلاع الجيد والبحث الدقيق لما توصل إليه قاضي التحقيق في ملف التحقيق، لذلك فإبداء رأيها يتطلب نوعا من التريث و الوقت، إذا علمنا أن النيابة العامة تقوم بدور فعال إلى جانب الجهات القضائية الأخرى.

وفي نفس السياق أوجب المشرع المصري على قاضي التحقيق إرسال أوراق الملف إلى النيابة العامة من أجل تقديم طلباتها خلال ثلاثة أيام إذا كان المتهم محبوسا أو عشرة أيام إذا كان مفرجا عنه، وذلك وفقا للمادة 153 من ق.إ.ج.م[12].

المبحث الثاني: الإجراءات المسطرية لإصدار الأوامر القضائية بشأن انهاء التحقيق الإعدادي

سبق و أكدنا أن قاضي التحقيق يحاول من خلال قيامه بالتحقيق الإعدادي، تقدير إمكانية إسناد التهمة إلى المتابع أو نفيها عنه، وفق الأدلة التي توصل إليها طيلة البحث، فبعد أن ينتهي التحقيق، يحيل قاضي التحقيق الملف إلى النيابة العامة من أجل الإطلاع عليه وتقديم ملتمساتها النهائية، ليصدر قاضي التحقيق بعد ذلك الأوامر التي يخولها له القانون، والتي لا يمكن أن تخرج عن واحد من هذه الأوامر، إما الأمر بعدم الاختصاص (المطلب الأول) الأمر بعدم المتابعة و الأمر بالإحالة (المطلب الثاني).

المطلب الأول: الأمر بعدم الاختصاص

يعتبر الأمر بعدم الاختصاص من مستجدات قانون المسطرة الجنائية، وان كان من قبل يمكن أن يندرج في الأمر بعدم المتابعة في الحالة التي تكون فيها الوقائع المنسوبة للمتهم رغم ثبوتها لا يمكن المتابعة بها، لأن لها طابع أو صبغة مدنية مثلا أو فاقدة لأحد الأركان أو حدث سبب من أسباب سقوط الدعوى العمومية بشأنها[13].

فبعدما ينتهي قاضي التحقيق من إجراءات التحقيق، وتبين له أن الأفعال المكونة للتهمة موضوع التحقيق ليست من اختصاصه، صرح بعدم الاختصاص، ويحيل الملف إلى النيابة العامة قصد اتخاذ ما تراه مناسبا داخل أجل ثمانية أيام[14].

وسنقوم فيما سيأتي بتناول حالات إصدار الأمر بعدم الاختصاص (الفقرة الأولى)، على أن نعرض لآثار الأمر بعدم الاختصاص (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: حالات إصدار الأمر بعدم الاختصاص

من بين الحالات التي يصدر فيها قاضي التحقيق أمرا بعم الاختصاص، الحالة التي يتبين فيها لقاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بعد إجراء التحقيق في قضية ما أن الأمر يتعلق بجناية، باعتبار أن التحقيق في هذه الأخيرة يكون من اختصاص قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف، بحيث يجب عليه و الحالة هذه أن يصدر أمرا بعدم الاختصاص ويحيل الملف إلى النيابة العامة من اجل اتخاذ ما يراه مناسبا عملا بالفقرة الأخيرة من المادة 217 من ق.م.ج، وهذا ما أكدته أحد القرارات الصادرة عن قاضي التحقيق، حيث قرر أن: ” قيام الظنينة بتعرية الضحية بالعنف عمدا أمام جموع الناس بحيث اطلعوا على عورتها يجعل الفعل الذي أتته هتكا واضحا للعرض يعتبر جناية طبقا للفصل 485 من القانون الجنائي خصوصا لما ترتب عنه الإجهاض، يجعل قاضي التحقيق في الجنح بالمحكمة الابتدائية وفقا لما تنص عليه المادة 215 و 217 من ق.م.ج، غير مختص بفتح المتابعة[15].

ويسري نفس المقتضى في حالة ما إذا تعلق الأمر بمتهمين ينتمون إلى القوات المساعدة أو القوات المسلحة الملكية، حيث يكون قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية غير مختص مما يستوجب على قاض ي التحقيق إصدار أمره بعدم الاختصاص.

وهذا ما أكدته الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف بالرباط في أحد قراراتها الذي جاء فيه: ” أنه بمجرد ما يتأكد قاضي التحقيق من محتويات الملف أن الأشخاص المتابعين ينتمون إلى القوات المساعدة، بناء على قرار بالإطلاع الصادر عن قاضي التحقيق، وبعد ملتمس النيابة العامة الرامي إلى التصريح بعدم الاختصاص أصدر قاضي التحقيق قراره الرامي إلى عدم اختصاصه مع توجيه مستندات الملف و المحاضر المثبتة و لائحة بأدوات الاقتناع إلى السلطة المختصة[16].

وإذا تعلق الأمر بجناية صرح قاضي التحقيق لدى المحكمة الابتدائية بعدم اختصاصه وأحال الملف على النيابة العامة[17].

واذا صرح قاضي التحقيق سواء لدى المحكمة الابتدائية أو لدى محكمة الاستئناف بعدم اختصاصه فإنه يحيل ملف القضية على النيابة العامة داخل أجل ثمانية أيام ابتداء من تاريخ صدور هذا الأمر.

الفقرة الثانية: آثار الأمر بعدم الاختصاص

يحتفظ كل أمر بعدم الاختصاص يكون قد أصدره قاضي التحقيق ضد المتهم بقوته التنفيذية كما هو الشأن بالنسبة لباقي الأوامر، كالأمر بإلقاء القبض أو الإيداع في السجن كما تحتفظ إجراءات المتابعة والتحقيق المنجزة بأثرها القانوني، بحيث تعتبر الأدلة التي توصل إليها قاضي التحقيق ومنها الاعتراف منتجة في الإثبات ويتعين على الجهة المحال عليها الملف أن تعتمدها[18].

وفي هذا الإطار أصدر قاضي التحقيق لدى محكمة الاستئناف بالرباط أمرا بعدم الاختصاص، ومما جاء في تعليل هذا الأمر ما يلي: “حيث ثبت من خلال وثائق الملف خصوصا بعد الاطلاع على الملف الجنائي رقم 14 – 04 – 22 والمدرج بجلسة 13- 10 – 2004 ووثائقه أن المتهم…. أصدر في حقه قاضي التحقيق بالغرفة الرابعة أمرا بإلقاء القبض، ثم تابعه بجريمة القتل العمد وأمر بإحالة الملف على غرفة الجنايات لمحاكمته، وأن هاته الأخيرة باشرت الإجراءات المتعلقة بالمسطرة الغيابية، والملف لازال مدرجا بجلسة 13 – 10 – 2004 وحيث تطبيقا لما ذكر أعلاه وإعمالا للقانون، فإن قاضي التحقيق يبقى غير مختص لإجراء التحقيق فيما نسب إلى المتهم ……، خصوصا وأن الملف معروض أمام غرفة الجنايات بنفس المحكمة.

وحيث يتعين والحالة هاته القول بوقف إجراءات التحقيق في الملف 111/ 04 وإحالته ومستندات الدعوى على السيد الوكيل العام للملك لدى هاته المحكمة لإحالته والمتهم على الجهة المختصة”[19].

المطلب الثاني: الأمر بعدم المتابعة و الأمر بالإحالة

خول المشرع لقاضي التحقيق إصدار أمر بعدم المتابعة إذا تبين له أن الأفعال لا تخضع للقانون الجنائي أو لم تعد خاضعة له أو أنه ليست هناك أدلة كافية أو أن الفاعل ظل مجهولا[20]، كما يجوز له خلال سير إجراءات التحقيق أن يصدر أمرا بعدم المتابعة جزئيا[21].

وإذا تبين لقاضي التحقيق لدى محكمة الاستئناف أن الأفعال تكون جناية فإنه يصدر أمرا بإحالة المتهم على الغرفة الجنائية.

أما إذا تبين له أن الأمر يتعلق بجنحة أو مخالفة أصدر أمره بالإحالة على المحكمة المختصة[22]، وبالنسبة لقاضي التحقيق لدى المحكمة الابتدائية فإنه يأمر بإحالة الملف على النيابة العامة إذا تبين له أن الأفعال تكون مخالفة وإذا تعلق الأمر بجنحة أصدر أمرا بالإحالة على المحكمة المختصة[23].

وعلى هذا الأساس فإننا سنتناول الأمر بعدم المتابعة (الفقرة الأولى)، ثم سنتطرق بعدئذ إلى الأمر بالإحالة (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: الأمر بعدم المتابعة

عالج المشرع المغربي الأمر بعدم المتابعة في المادة 216 من ق.م.ج، في حين نص عليه المشرع المصري في المادة 154 من قانون الإجراءات الجنائية، حيث جاء فيها: “إذا رأى قاضي التحقيق أن الواقعة لا يعاقب عليها القانون أو الأدلة على المتهم غير كافية، يصدر أمرا بأن لا وجه لإقامة الدعوى

يمكن كذلك لقاضي التحقيق أن يصدر أمرا بعدم المتابعة جزئيا عندما تحيل عليه النيابة العامة ملتمسها بإجراء التحقيق في عدة جرائم، ويصدر قاضي التحقيق أمرا بعم متابعة المتهم إما عن كل الجرائم أو بعضها “[24].

من المعلوم أن مهمة قاضي ترتكز أساسا على جميع الإجراءات التي يخولها له القانون لكي يوصل في نهاية التحقيق إلى مصير المتهم، من خلال الاستدلال على الوقائع المكونة للنازلة المعروضة عليه، فإذا تأكد أن الأفعال لا تخضع للقانون الجنائي، أي أنها لا تشكل أي صورة من صور الجريمة سواء كانت جناية أو جنحة أو مخالفة، فإنه يصدر أمره بعدم متابعة المتهم، لكوته مثلا في حالة دفاع شرعي أو نفذ أمر السلطة الشرعية أو كان في حالة الضرورة أو سقوط الدعوى العمومية بالتقادم أو العفو.

أو في حالة عدم توافر الأدلة الكافية على ثبوت قيام الجريمة أو نسبتها إلى المتهم، وليس المقصود هنا الأدلة الكافية أو المكونة للاقتناع الوجداني للقاضي، لأن هذا الاقتناع تستقل به محكمة الموضوع دون قاضي التحقيق الذي قد يكتفي بقيام أدلة تعزز المتابعة و لو لم تكن مقنعة، ليصدر أمره بالمتابعة أما إن ظهر له العكس فيصدر أمره بعدم المتابعة[25].

وكمثال للأمر بعدم المتابعة، نذكر أن قاضي التحقيق لدى محكمة الاستئناف بالرباط أصدر أمرا بعدم المتابعة لعدم كفاية الأدلة، ومما علل به هذا الأمر ما يلي:

“حيث أنكر المتهم خلال سائر أطوار البحث والتحقيق معه قيامه بالأفعال المنسوبة إليه سواء ما تعلق بشكاية المسماة ….. أو شكاية …..، وحيث تراجعت المشتكية …… عن ما ورد بتصريحاتها لدى الضابطة القضائية وأفادت أثناء التحقيق على أنه لم يصدر من المتهم أي فعل جرمي في حقها وأن ما ادعته كان تحت عامل الخوف وقت إيقافها من طرف الشرطة.

وحيث إنه بذلك فإن البحث المجرى في النازلة لم يسفر عن أية قرينة قانونية تدحض إنكار المتهم المتوالي، الشيء الذي يتعين معه عدم متابعته من أجل جميع الأفعال المنسوبة إليه لعدم كفاية الأدلة”[26].

والجدير بالذكر أنه يجوز أن يصدر قاضي التحقيق أمرا بالإحالة مع المتابعة جزئيا، وفي هذا الإطار يمكن أن نشير إلى أن قاضي التحقيق لدى محكمة الاستئناف بالرباط أصدر أمرا بالإحالة على غرفة الجنايات وبعدم المتابعة جزئيا، ومما جاء في هذا الأمر أنه: “وحيث إن إنكار المتهم خلال مرحلة التحقيق للمنسوب إليه ما هي إلا محاولة منه للإفلات من العقاب وتكذبها المعطيات التي تم سردها أعلاه بحيث أن فعل المشاركة عملا بمقتضيات الفصل 129 من القانون الجنائي يبقى وباقي الأفعال ثابتة في حقه، باستثناء واقعة جنحة عدم التبليغ التي لا يمكن لا واقعا ولا قانونا أن تنسب إلى المتهم على اعتبار أنه لا يمكن أن يقوم بفعل جرمي ويبلغ عنه، الشيء الذي يتعين معه عدم متابعته من أجل ذلك.

وحيث إن باقي الأفعال التي وردت ثابتة في حق المتهم وارتكبت بالدائرة القضائية الخاضعة لنفوذ هذه المحكمة…”[27].

وسنحاول التصدي بالدراسة إلى حالات الأمر بعدم المتابعة (أولا) ثم آثار الأمر بعدم المتابعة (ثانيا).

أولا– حالات الأمر بعدم المتابعة

نصت المادة 216 من قانون المسطرة الجنائية على أن قاضي التحقيق يصدر أمرا بعدم المتابعة في حالات ثلاثة:

الحالة الأولى: إذا ثبت لديه بعد دراسة وقائع النازلة ومعطيات الملف أن الأفعال المرتكبة من طرف المتهم لا تخضع لقواعد القانون الجنائي كأن يتعلق الأمر بجريمة ويتبين انها خاضعة لأسباب التبرير المنصوص عليها في الفصول 124 و 125 من القانون الجنائي، أو أن هذه الأفعال لم تعد تشكل جريمة في ظل القانون المعمول به، ففي هذه الحالة يصدر قاضي التحقيق أمرا بعد المتابعة لانتفاء العنصر الجرمي.

الحالة الثانية: إذا تبين لقاضي التحقيق بعد مجموع الأبحاث التي باشرها أنه ليست هناك أدلة كافية ضد المتهم موضوع التحقيق، وليس المقصود هنا أدلة مقنعة و يقينية على ارتكاب الجريمة، و إنما وجود قرائن أو أدلة ولو كانت بسيطة على نسبة التهمة إليه لأن الأمر يختلف عما هو عليه الحال بالنسبة لقاضي الموضوع الذي يجب عليه أن يصدر حكمه القاضي بالإدانة مبنيا على الجزم و اليقين، أما بالنسبة لقرار المتابعة فيكون مبنيا على الشك وليس على اليقين، وهكذا فإنه إذا تبين لقاضي التحقيق عدم وجود أدلة كافية على نسبة الجريمة إلى المتهم فإنه يصدر أمره بعدم المتابعة[28].

الحالة الثالثة: إذا أجرى قاضي التحقيق جميع التحريات والإجراءات اللازمة للكشف عن هوية المتهم، غير أنه ظل مجهولا، فإنه في الحالة هذه يصدر أمرا بعدم المتابعة بمنظور أن الإحالة على المحكمة المختصة تكون ضد شخص معلوم وليس ضد شخص مجهول.

والجدير بالذكر أن المشرع الفرنسي تبنى نفس المقتضى، حيث نص على أنه يصدر قاضي التحقيق أمرا بعدم المتابعة، إذا تبين أن الأفعال موضوع التحقيق لا تكون جريمة يعاقب عليها القانون، أو عند عدم كفاية الأدلة، أو ظل المتهم مجهولا عمالا بالمادة 177 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي[29].

وفي نفس الإطار، ذهب بعض الفقه إلى التمييز بين الأسباب القانونية والأسباب الواقعية لعدم المتابعة.

فحسب هذا الاتجاه تكون الأسباب قانونية في حالة ما إذا كانت الأفعال رغم إسنادها المتهم إلا أنها مع ذلك لا تشكل جناية ولا جنحة ولا مخالفة، وكذلك في الحالات التي يسقط فيها الركن القانون للجريمة، كاستفادة المتابع مثلا من أسباب تبرير الجريمة أو من أسباب مانعة من تحريك الدعوة العمومية، كتحقيق واقعة التقادم عن الأفعال المتابع عنها، أو صدور عفو شامل بسببها، أو إلغاء القانون الجنائي الذي كان يحكمها، أو موت المتهم بارتكابها، أو عدم وجود نص صريح في القانون يعاقب على محاولة جنحة من الجنح.

أما الأسباب الواقعية فإنها تؤسس على الواقع فقط، ويدخل تحت هذه الزمرة من الأسباب حالات عدم كفاية الأدلة في النازلة، والتي بمقتضاها ترجح إمكانية التبرئة على الإدانة، كما تدخل تحت لوائها حالة بقاء فاعل الجريمة رغم حصولها مجهولا[30].

بالإضافة إلى أن الأوامر المؤسسة على أسباب قانونية لا تسمح بإعادة التحقيق من جديد خلافا للأوامر المبنية على أسباب واقعية، التي لا تمنع من العودة إلى فتح تحقيق كلما ظهرت أدلة جديدة تسمح بذلك[31].

ثانيا- آثار الأمر بعدم المتابعة

يترتب عن صدور الأمر بعدم المتابعة أثار متعددة، بحيث ينتهي مفعول الاعتقال الاحتياطي والمراقبة القضائية ويفرج حالا عن المتهمين المعتقلين ما لم يكونوا معتقلين لسبب آخر رغم استئناف النيابة العامة[32].

كما يبت قاضي التحقيق في شأن رد الأشياء المحجوزة، ويصفي صوائر الدعوى، فإذا كان في القضية مطالب بالحق المدني، فإنه يحمله كل الصائر أو بعضه، أو يعفيه منه إذا كان حسن النية ولم يكن هو من أثار الدعوى العمومية.

وفي ظل قانون المسطرة الجنائية الجديد يملك قاضي التحقيق صلاحية الأمر بنشر القرار الصادر عنه بعدم المتابعة إما كليا أو جزئيا، بصحيفة أو عدة صحف، وذلك بناء

على طلب الشخص المعني بالأمر أو بطلب من النيابة العامة ولقاضي التحقيق أن يحدد البيانات القابلة للنشر[33].

وقد تم سن إجراء نشر الأمر بعدم المتابعة لحماية قرينة البراءة، ولتمكين المتهم من المطالبة به لرد اعتباره لشخصه وتثبيت صفاء صورته لدى عامة الناس[34].

ويقبل الأمر بعدم المتابعة الطعن بالاستئناف أمام الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف طبقا للشروط المحددة في المادتين 222 و 223 من ق.م.ج[35].

وللنيابة العامة الطعن في جميع مقتضيات هذا الأمر بينما يجوز للمتهم الطعن فقط في شقه القاضي بالنشر وكذا المتعلق برد الأشياء المحجوزة طبقا للمادة 223 من قانون المسطرة الجنائية.

الفقرة الثانية: الأمر بالإحالة

بالنظر لخطورة بعض الجنح والتي تصل عقوبتها القصوى إلى خمس سنوات حبسا أو أكثر فقد تم بمقتضى قانون المسطرة الجنائية الجديد إحداث مؤسسة قاضي التحقيق لدى المحاكم الابتدائية بالإضافة لاستمرار المؤسسة الموجودة لدى محاكم الاستئناف[36].

وسنعمل على بحث حالات إصدار الأمر بالإحالة (أولا)، ثم التطرق إلى آثار الأمر بالإحالة (ثانيا).

أولا- حالات إصدار الأمر بالإحالة

حدد المشرع الحالات الخاصة بإصدار الأمر بالمتابعة أو بالإحالة من طرف قاضي التحقيق لدى المحكمة الابتدائية وتلك المتعلقة بنظيره لدى محكمة الاستئناف.

وهكذا فإن قاضي التحقيق لدى محكمة الاستئناف يصدر أمرا بإحالة المتهم على غرفة الجنايات إذا تبين له أن الأفعال تكون جنائية، وهذا الأمر لا يقبل الطعن إلا بالنقض طبقا للشروط المنصوص عليها في المادة 523 و 524 من ق.م.ج[37].

وحسب نص المادة 524 المشار إليها لا يمكن طلب نقض قرارات الإحالة إلى محكمة زجرية إلا مع الحكم في الجوهر، مع مراعاة مقتضيات المادة 227 من ق.م.ج، والتي جاء فيه أنه لا يمكن الدفع ببطلان إجراءات التحقيق بعد صدور قرار الغرفة الجنحية القاضي بالإحالة على هيئة الحكم.

وبعد إصدار قاضي التحقيق أمرا بالإحالة على غرفة الجنايات، يحيل ملف القضية على الوكيل العام للملك، الذي يسهر على توجيه الاستدعاءات لأطراف الدعوى طبقا للشروط المحددة في المادتين 419 و 420 من ق.م.ج.

ويجب أن يتضمن الأمر بالإحالة على غرفة الجنايات مجموعة من البيانات، حددها نص الفقرة الثانية من المادة 218 من ق.م.ج، إذ يجب أن يشير إلى هوية المتهم والأفعال الجرمية، وجميع الظروف التي من شأنها أن تشدد أو تخفف العقوبة والوصف القانوني للجريمة مع الإشارة إلى النصوص المطبقة.

ولا بد لقاضي التحقيق عند إصدار هذا الأمر من تعليله على غرار باقي أوامر الإحالة، وهذا ما نستشفه من خلال أمر صادر عن قاضي التحقيق بالإحالة على غرفة الجنايات جاء فيه: “حيث تبين من خلال الإطلاع على محتويات الملف و ظروف النازلة أن الجاني أعلاه عمد إلى القيام باغتصاب الضحية، الذي نتج عنه افتضاض بكارتها…

وحيث أن إنكار المتهم لما نسب إليه ورد مجردا وتنقصه القرينة القانونية المدحضة لما ورد بتصريحات الشاهد أعلاه”[38].

أما المشرع المصري فلم ينص صراحة عن وجوب على وجوب تسبيب أوامر التصرف في التحقيق، ويسايره في ذلك الفقه المصري بالقول: ” فإن إيجاب التسبيب في هذه الأحوال تعقيد لا مبرر له، ولذلك نرى أنه لا محل للطعن في هذه الأوامر بالبطلان لمجرد عدم تسبيبها، لعدم وجود نص يوجب التسبيب”[39].

أما اذا تعلق الأمر بجنحة أو مخالفة فإن قاضي التحقيق يصدر أمرا بالإحالة على المحكمة المختصة، ويبت في شأن الاعتقال الاحتياطي والوضع تحت المراقبة القضائية.

فإذا تبين لقاضي التحقيق لدى المحكمة الابتدائية بأن الأفعال تكون مخالفة أحال الملف على النيابة العامة، وأمر بوضع حد للوضع تحت لمراقبة القضائية وبالإفراج الفوري عن المتهم المعتقل ما لم يكن بطبيعة الحال معتقلا لسبب آخر.

وقد انتقد بعض الفقه المشرع المغربي ونحن نؤيده في هذا التوجه، حين أمر قاضي التحقيق بإحالة الملف على النيابة العامة إذا تبين له أن الأمر يتعلق بمخالفة، واعتبر أنه كان جديرا بالمشرع أن ينص والحالة هاته على أن يقوم قاضي التحقيق بإحالة الملف على الجهة المختصة وهي حاليا قضاء القرب، عوض إحالة الملف من طرف النيابة العامة عليه[40].

أما إذا تعلق الأمر بجنحة فإنه يصدر أمرا بإحالة المتهم على المحكمة المختصة، ويبت في شأن الاعتقال الاحتياطي والوضع تحت المراقبة القضائية، ويحيل ملف القضية على وكيل الملك لدى نفس المحكمة، من أجل توجيه استدعاء لأطراف الدعوى طبقا لأحكام المادتين 308 و 309 من ق.م.ج.

ثانيا- آثار الأمر بالإحالة

يترتب عن صدور الأمر بالإحالة من طرف قاضي التحقيق مجموعة من الآثار ولعل أهمها يتجلى من خلال ما جاء في الفقرة الأولى من المادة 309 المذكورة سابقا، حيث يتعرض للإبطال الاستدعاء والحكم إذا لم يفصل بين تاريخ تبليغ الاستدعاء واليوم المحدد للحضور بالجلسة أجل ثمانية على الأقل، غير أن هذا الأجل يخفض إلى خمسة أيام إذا كان المتهم معتقلا وذلك عملا بنص الفقرة الرابعة من المادة 217 من قانون المسطرة الجنائية.

وخلافا للأمر بعدم المتابعة الذي يترتب عن صدوره الإفراج حالا عن المتهمين المعتقلين رغم استئناف النيابة العامة وانتهاء مفعول الأمر بالوضع تحت المراقبة القضائية[41]، فإنه في حالة الإحالة على غرفة الجنايات يبقى الأمر الصادر بإلقاء القبض على المتهم أو بإيداعه في السجن قابلا للتنفيذ، إلى أن يصبح مقرر هيئة الحكم مكتسبا لقوة الشيء المقضي به ويبت قاضي التحقيق بشأن الوضع تحت المراقبة القضائية[42].

وتجدر الإشارة إلى أن أمر إحالة القضية إلى المحكمة المختصة الصادر عن قاضي التحقيق، لا يعتبر إدانة مسبقة للمتهم، ذلك أن الأمر الإحالة ليس قاطعا في نسبة الجريمة إلى المتابع، و إنما يعود الأمر إلى محكمة الموضوع في تقدير ما وصل إليه قاضي التحقيق، فيمكنها انطلاقا من قناعتها ودراستها للقضية أن تحكم بإدانة المتهم أو براءته، وليس في ذلك أي مساس بمصداقية أمر قاضي التحقيق الذي أحال القضية على المحكمة[43].

خاتمة:

في الختام، نؤكد من خلال هذه الدراسة أن المشرع المغربي قد عزز من حجم السلطات الممنوحة لقاضي التحقيق لاسيما فيما يتعلق بإصدار الأوامر بمناسبة إنتهاء التحقيق الإعدادي، رغبة منه بإعطاء هذه المؤسسة مكانتها في الدعوى العمومية، بشكل يجعل قاضي التحقيق بين ملتمسات النيابة العامة وحقوق المتهم، وذلك لكون هذه المرحلة تعرف تكريسا مهما لحقوق الدفاع، عكس ما هو عليه الأمر خلال مرحلة البحث التمهيدي.

وبالتالي يتعين على قاضي التحقيق أن يبذل كل ما في وسعه، للتحقيق في كل الأفعال و الوقائع التي تحيلها عليه النيابة العامة، وأن لا يقتصر التحقيق على فعل دون آخر، وأن لا يتجاوز قاضي التحقيق الأفعال التي وردت في ملتمس النيابة العامة إلى أفعال جديدة، مما قد يشكل تعسفا في إصدار الأوامر بشأن انتهاء التحقيق في حق المتهم، وإخلالا صارخا بسير المسطرة ككل.

المراجع المعتمدة:

فريد خير الدين، علاقة النيابة العامة بقاضي التحقيق في ظل قانون المسطرة الجنائية المغربي.
محمد أحداف، شرح قانون المسطرة الجنائية، مسطرة التحقيق الإعدادي، الجزء الثاني، المطبعة غير مذكورة، الطبعة الاولى، 2013-2012.
عبد الواحد العلمي، شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الخامسة، 2017.
عصام أمسمير، الرقابة القضائية على إجراءات التحقيق الإعدادي على ضوء قانون المسطرة الجنائية المغربي.
محمد المسعودي/ سمير الستاوي، سلطات قاضي التحقيق : دراسة ميدانية على ضوء العمل القضائي و أحكام الفقه و القضاء و القانون المقارن، رسالة نهاية التمرين بالمعهد العالي للقضاء، السنة الدراسية 2003-2005.
وزارة العدل، شرح قانون المسطرة الجنائية، الدعوى العمومية السلطات المختصة بالتحري عن الجرائم، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية و القضائية، الطبعة الخامسة، الجزء الأول.
محمد المسعودي/ سمير الستاوي، سلطات قاضي التحقيق : دراسة ميدانية على ضوء العمل القضائي و أحكام الفقه و القضاء و القانون المقارن.

[1] – فريد خير الدين، علاقة النيابة العامة بقاضي التحقيق في ظل قانون المسطرة الجنائية المغربي، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة القاضي عياض، مركش، ص 1.

[2] – أستاذنا أحمد قيلش، مجيدي السعدية، محمد زنون، الشرح العملي لقانون المسطرة الجنائية، مطبعة الأمنية الرباط، طبعة 2015، ص 137.

[3] – تنص المدة 221 من ق.م.ج على أنه: ” تصدر الأوامر القضائية الصادرة عن قاضي التحقيق عملا بمقتضيات هذا الفرع بعد ملتمسات النيابة العامة.

تشمل هذه الأوامر، مع مراعاة مقتضيات المادة 143 أعلاه،اسم المتهم العائلي والشخصي ونسبه وتاريخ ومحل ولادته و القبيلة التي ينتمي إليها ومحل سكناه ومهنته.

يبين في الأوامر القضائية الوصف القانوني للفعل المنسوب للمتهم، كما تبين فيها بدقة الأسباب التي من شأنها أن تدعم وجود أدلة كافية أو عدم وجودها”.

[4] – فريد خير الدين، علاقة النيابة العامة بقاضي التحقيق في ظل قانون المسطرة الجنائية المغربي، مرجع سابق ص99 وما بعدها.

[5] – محمد أحداف، شرح قانون المسطرة الجنائية، مسطرة التحقيق الإعدادي، الجزء الثاني، المطبعة غير مذكورة، الطبعة الاولى، 2013-2012، ص442.

[6] – قرار المجلس الأعلى عدد 93 صادر بتاريخ 01-07-1958، أورده محمد أحداف، شرح قانون المسطرة الجنائية، مسطرة التحقيق الإعدادي، م.س، ص 444.

[7] – عبد الواحد العلمي، شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الخامسة، 2017، الجزء الثاني، ص 111.

[8] – فريد خير الدين، علاقة النيابة العامة بقاضي التحقيق في ظل قانون المسطرة الجنائية المغربي، مرجع سابق، ص 101-102.

[9] – قرار أشار إليه عصام أمسمير، الرقابة القضائية على إجراءات التحقيق الإعدادي على ضوء قانون المسطرة الجنائية المغربي، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص،كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية ،جامعة القاضي عياض، مراكش،الموسم الجامعي 2011-2012، ص 102.

[10] – تنص المادة 214 من ق.م.ج: ” يوجه قاضي التحقيق الملف إلى النيابة العامة بعد ترقيم أوراقه من طرف كاتب الضبط بمجرد ما يعتبر أن البحث قد انتهى، وعلى النيابة العامة أن توجه إلى قاضي التحقيق ملتمساتها خلال ثمانية أيام على الأكثر من توصلها بالملف.

[11] – « Le procureur de la République dispose alors d’un délai d’un mois si une personne mise en examen est détenue ou de trois mois dans les autres cas pour adresser ses réquisitions motivées au juge d’instruction. Copie de ces réquisitions est adressée dans le même temps aux parties par lettre recommandée.

Les parties disposent de ce même délai d’un mois ou de trois mois à compter de l’envoi de l’avis prévu au premier alinéa pour adresser des observations écrites au juge d’instruction, selon les modalités prévues par l’avant-dernier alinéa de l’article 81. Copie de ces observations est adressée en même temps au procureur de la République ».

Article 175,C.Pr.Pen.francais, Modifié par LOI n°2016-731 du 3 juin 2016 – art. 86-87.

[12] – عصام أمسمير، الرقابة القضائية على إجراءات التحقيق الإعدادي على ضوء قانون المسطرة الجنائية المغربي، م.س، ص46.

[13] – محمد المسعودي/ سمير الستاوي، سلطات قاضي التحقيق : دراسة ميدانية على ضوء العمل القضائي و أحكام الفقه و القضاء و القانون المقارن، رسالة نهاية التمرين بالمعهد العالي للقضاء، السنة الدراسية 2003-2005، ص255.

[14] – تنص المادة 215 من ق.م.ج على انه: ” إذا ارتأى قاضي التحقيق أن الأفعال ليست من اختصاصه، يصدر أمرا بعدما لاختصاص.

يحتفظ كل أمر يكون قد أصدره قاضيا لتحقيق ضد المتهم بقوته التنفيذية.

يحيل قاضي التحقيق داخل أجل ثمانية أيام ابتداء من صدور هذا الأمر ملف القضية إلى النيابة العامة…”.

[15] – أمر صادر عن قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بالروماني، بتاريخ 10/07/2007، في الملف عدد 0715 منشور بمجلة رسالة المحاماة، العدد 28، ص315.

[16] – قرار صادر عن الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف بالرباط، في الملف عدد 117/1976،أشار إليه عصام أمسمير، الرقابة القضائية على إجراءات التحقيق الإعدادي على ضوء قانون المسطرة الجنائية المغربي، م.س، ص 48.

[17] – حسب مقتضيات المادة 215 من ق.م.ج.

[18] – وزارة العدل، شرح قانون المسطرة الجنائية، الدعوى العمومية السلطات المختصة بالتحري عن الجرائم، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية و القضائية، الطبعة الخامسة، الجزء الأول، الصفحة – 288

[19] – ملف تحقيق رقم 111 – 2004، غرفة التحقيق الثانية لدى محكمة الاستئناف بالرباط،، أورده محمد المسعودي/ سمير الستاوي، سلطات قاضي التحقيق : دراسة ميدانية على ضوء العمل القضائي و أحكام الفقه و القضاء و القانون المقارن، م.س، ص 256.

[20] – طبقا لمقتضيات المادة 216 من ق.م.ج.

[21] – وفقا لأحكام المادة 219 من ق.م.ج.

[22] – تبعا لما نصت عليه المادة 218 من.ق م.ج.

[23] – حسب ما جاء في إطار المادة 217 من ق.م.ج.

[24] – المادة 154 من قانون الإجراءات الجنائية المصري.

[25] – فريد خير الدين، علاقة النيابة العامة بقاضي التحقيق في ظل قانون المسطرة الجنائية المغربي، مرجع سابق، ص105.

[26] – ملف تحقيق عدد – 74 – 2004 ، غرفة التحقيق الثانية، أمر بعدم المتابعة صدر بتاريخ 07 – 05 – 2004 مشار إليه عند ص 260.

[27] – محمد المسعودي/ سمير الستاوي، سلطات قاضي التحقيق : دراسة ميدانية على ضوء العمل القضائي و أحكام الفقه و القضاء و القانون المقارن، رسالة نهاية التمرين بالمعهد العالي للقضاء، السنة الدراسية 2003-2005، ص 261.

[28] – عصام أمسمير، الرقابة القضائية على إجراءات التحقيق الإعدادي على ضوء قانون المسطرة الجنائية المغربي، م.س، ص 49.

[29] – « Si le juge d’instruction estime que les faits ne constituent ni crime, ni délit, ni contravention, ou si l’auteur est resté inconnu, ou s’il n’existe pas de charges suffisantes contre la personne mise en examen, il déclare, par une ordonnance, qu’il n’y a lieu à suivre ».

Article 177 , C.Pr.Pen.francais, Modifié par LOI n°2008-174 du 25 février 2008 – art. 4.

[30] – محمد المسعودي/ سمير الستاوي، سلطات قاضي التحقيق : دراسة ميدانية على ضوء العمل القضائي و أحكام الفقه و القضاء و القانون المقارن، مرجع سابق، ص259.

[31] – عبد الواحد العلمي، شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، مرجع سابق، ص117- 118. .

[32] – الفقرة الرابعة والخامسة من المادة – 216 من ق م ج.

[33] – الفقرة السادسة من المادة 216 من ق.م.ج، في حين نص عليه المشرع الفرنسي في الفقرة الأولى من المادة 177 من قانون الإجراءات الجنائية.

[34] – وزارة العدل، شرح قانون المسطرة الجنائية، المرجع السابق، الصفحة 289.

[35] – الفقرة الأخيرة من المادة 216 من ق.م.ج.

[36] – محمد المسعودي/ سمير الستاوي، سلطات قاضي التحقيق : دراسة ميدانية على ضوء العمل القضائي و أحكام الفقه و القضاء و القانون المقارن، مرجع سابق، ص262.

[37] – طبقا لمقتضيات المادة 210 من ق.م.ج.

[38] – أمر بالحالة على غرفة الجنايات صادر عن قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بالرباط في الملف عدد 56/03 أشار إليه فريد خير الدين، علاقة النيابة العامة بقاضي التحقيق في ظل قانون المسطرة الجنائية المغربي، مرجع سابق، ص 111.

[39] – حسب ما ذهب إليه إيهاب عبد المطلب في مؤلفه إجراءات الاتهام و التحقيق، ص210، نقلا عن فريد خير الدين، علاقة النيابة العامة بقاضي التحقيق في ظل قانون المسطرة الجنائية المغربي، مرجع سابق، ص 111.

[40] – عبد الواحد العلمي، شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، مرجع سابق، ص 113.

[41] – انظر نص المادة 216من ق.م.ج.

[42] – راجع الفقرتين الخامسة والسادسة من المادة 218 من ق.م.ج

[43] – عبد الواحد العلمي، شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، مرجع سابق، ص 113.