التحليل الهيكلي لقواعد الإسناد

المؤلف :ميثم فليح حسن
الكتاب أو المصدر : طبيعة قواعد الاسناد

لمّا كان موضوع قواعد الإسناد ليس تأكيد الحق محل النزاع أو نفيه، بل تحديد القاعدة الموضوعية الواجبة التطبيق التي يراد منها بيان ذلك التأكيد أو النفي، فانه ربما يقال أن قواعد الإسناد ليست كغيرها من قواعد القانون، وهذا الكلام يقود إلى قبول اختلاف العناصر أو الأركان التي تقوم عليها قواعد الإسناد عن عناصر القواعد القانونية الأخرى، غير ان هذا الاستنتاج لا يبدو صحيحاً على إطلاقه. فقواعد الإسناد واقعاً تشترك مع سائر قواعد القانون في العناصر التي لا يمكن لأية قاعدة قانونية أن تقوم من دونها، ولكنها مع ذلك تفترق عن القواعد القانونية الأخرى في ذاتيةٍ تُظهر خصوصية هذه القواعد وتساعدها على النهوض بوظيفتها التي أناطها بها المشرع، وتلك الخصوصية جعلت هذه القواعد تنفرد بعناصر ذاتية تميزها عن غيرها من القواعد القانونية. وهذا ما نتطرق لبيانه تباعاً فيما يلي.

أولاً: العناصر الخارجية في قواعد الإسناد

إن القاعدة، بمعناها العام وفي أي علم من العلوم، هي العلاقة المُطردة بين ظاهرتين. والقواعد بهذا المعنى تنقسم إلى قسمين، الأول هي القواعد التي تصف ما هو كائن أو حادث فعلاً، وتسمى القواعد التقريرية، ومثالها قواعد العلوم الطبيعية كقواعد الفيزياء، وأما القسم الآخر فهي القواعد التي تصف ما يجب أن يحدث إذا حدثت ظاهرة معينة، وهذه تسمى القواعد التقويمية(1). وبهذا النظر فان القواعد القانونية تعتبر شقاً من القواعد التقويمية على اعتبار انها تتصل بسلوك الفرد داخل الجماعة وتقوم بتوجيه هذا السلوك وجهة معينة. والقاعدة القانونية، حالها حال القواعد الأخرى، تقوم على افتراض حالة من المتوقع حدوثها في المجتمع ثم تضع لهذه الحالة حكمها المناسب.

لذلك فان هذه القاعدة تمثل علاقة مطردة بين ظاهرتين، الأولى تسمى بالفرض والأخرى تسمى بالأثر القانوني، أو ما يطلق عليه تحديداً بظاهرة الحكم(2). وكل ظاهرة من هاتين الظاهرتين تشكل عنصراً مستقلاً من عناصر القاعدة القانونية. أما بالنسبة لقواعد الإسناد، فهي باعتبارها قواعد قانونية كغيرها من قواعد القانون، فانه لابد لقيامها من توفر العناصر الخارجية المذكورة، وهي عنصر الفرض وعنصر الحكم، ولكن مع ذلك فان الطبيعة القانونية لقواعد الإسناد والوظيفة المنوطة بها قد طبعت العناصر المشار إليها بطابع خاص ومفهوم محدد يختلف عن مفهومها في عموم القواعد الأخرى، وذلك على التفصيل التالي.

1- عنصر الفرض
من الثابت في الفن القانوني ان القاعدة القانونية تتصف بكونها قاعدة عامة مجردة، فهي من حيث نشأتها قاعدة مجردة، أي انها في صياغتها تخاطب الأشخاص بصفاتهم لا بذواتهم، وكذلك عند تحديدها للأشياء والوقائع. أما في تطبيقها فان القاعدة القانونية تكون قاعدةً عامة، بمعنى انها لا توضع لتحكم شخصاً أو شيئاً معيناً أو واقعة معينة، أو بعبارة أدق انها لا تأتي لتحكم حالة معينة متوقعة ومحددة مسبقاً بحيث تزول بعد تطبيقها على تلك الحالة(3)، بل إن القاعدة القانونية تبقى بعد التطبيق وتطبق في المستقبل على جميع الحالات المماثلة ما لم يرد بشأنها استثناء يخصص من عمومها.

وصِفتي العمومية والتجريد في القاعدة القانونية يعنيان ان هذه القاعدة هي قاعدة فرضية، ذلك أن مشرع القاعدة يفترض حدوث واقعة معينة في المستقبل ويرتب عليها حكماً معيناً، وهو بهذا الافتراض يعالج حالةً سلوكية يقوم بتقويمها. ولهذا فان الفرض في القاعدة القانونية هو الواقعة التي يُرتب القانون عليها أثراً قانونياً(4).

وكذلك الحال في قواعد الإسناد، إذ باعتبارها قواعد قانونية، فإنها توصَف بكل ما توصف به هذه القواعد من العموم والتجريد، ولكن بما يتناسب مع وظيفة قواعد الإسناد في النظام القانوني الذي تنتمي إليه(5)، فحيث ان الهدف من قاعدة الإسناد هو اختيار القانون الملائم لحكم العلاقة الخاصة ذات العنصر الأجنبي من بين القوانين المتزاحمة لحكمها، فإن صفتي العموم والتجريد تظهران في صورة معينة قوامها أن القوانين المتزاحمة تتساوى أمام مشرع قاعدة الإسناد وهو في مرحلة سنَّه لهذه القاعدة(6)، بحيث ان المشرع لا يهتم سوى بالوصول إلى القانون الأقرب صلة بالعلاقة. وبهذا المفهوم تكون قاعدة الإسناد قاعدةً محايدة تبحث عن الرابطة الجدية بين العلاقة وبين القانون ومن دون أن تتغيّا تحقيق مصلحة خاصة للدولة أو لأحد أطراف العلاقة ذات العنصر الأجنبي.

وترتيباً على ذلك فان مشرع قاعدة الإسناد، ومن أجل التعرف على القانون ذات الصلة الأوثق بالعلاقة محل النزاع، يقوم بتصنيف علاقات الأفراد التي يتوقع أنْ يثار بشأنها نزاع ذات طابع دولي إلى طوائف مختلفة تضم كل طائفة منها مجموعة من العلاقات المتشابهة، وهذه الطوائف هي التي تجسد عنصر الفرض في قواعد الإسناد، فتكون قواعد الإسناد بذلك قواعد فرضية(7)، بمعنى آخر ان مشرع قاعدة الإسناد يَفترض قيام نزاع مستقبلي بشأن العلاقات التي تشكل موضوع هذه القاعدة، وهي علاقات مرتبطة بقوانين متعددة لدول مختلفة، فيرتب المشرع على هذا النزاع حكماً معيناً، وما ذلك الحكم الذي يرتبه المشرع سوى إسناد النزاع إلى أحد القوانين المتزاحمة ليكون هو القانون المختص بحكمه.

2- عنصر الحكم

تكلمنا عن ان مشرع القاعدة القانونية، وهو في معرض تقويمه لحالة سلوكية معينة، يفترض حدوث واقعة في المستقبل ويرتب عليها حكماً مناسباً، وهذا الحكم الذي يضعه المشرع هو جواب للسؤال الذي يثار في الذهن عن ماهية حكم القانون في تلك الواقعة(8). فالقانون يفترض حدوث الواقعة المثارة في الذهن عن طريق طرح الفرضية ومن ثم يضع لها حكمها المناسب. ولذلك فان الحكم أو الأثر القانوني هو عبارة عن الحل الذي يقرره القانون أو تقرره القاعدة القانونية لمواجهة الوضع الواقعي عند تحققه في العمل، وهو ينطبق عند توفر الشروط والظروف المحددة في الفرض. أما ما يتعلق بقواعد الإسناد، فهي وإن كانت منطوية على عنصر الحكم حالها حال القواعد القانونية الأخرى، إلا أنها تضفي على هذا العنصر في إطارها مفهوماً خاصاً يتلاءم مع ما سبق تقريره من الوظيفة التي أناطها بها المشرع لتمارسها في ميدان العلاقات الخاصة الدولية، والتي قوامها عدم إعطاء الحل النهائي في المسألة موضوع النزاع وإسناد هذه المسألة إلى قانون معين ليقوم ذلك القانون بتنظيمها.

ولذلك فان عنصر الحكم في قواعد الإسناد ليس إعطاء الحكم الموضوعي للمسألة المعروضة، وإنما هو تعيين القانون المختص بحكم هذه المسألة، أو بمعنى آخر هو الإرشاد إلى القانون الذي يحكم المسألة محل النزاع أو اصطفاء ذلك القانون والأمر بتطبيقه(9). وهذا ما يظهر في النصوص القانونية المتضمنة قواعد الإسناد، ومنها على سبيل المثال ذلك النص الذي يقرر أن (الأهلية “عنصر الفرض” يسري عليها قانون الدولة التي ينتمي إليها الشخص بجنسيته “عنصر الحكم”)(10)، أو ذلك النص الذي يقرر سريان (… قانون الدولة التي ينتمي إليها الزوج وقت انعقاد الزواج “عنصر الحكم” على الآثار التي يرتبها عقد الزواج بما في ذلك من أثر بالنسبة للمال “عنصر الفرض”)(11).

وعنصر الحكم في قواعد الإسناد ينطوي في الواقع على أمرين هامين، الأمر الأول هو الإلزام الموجه للمخاطب بقاعدة الإسناد بتطبيق القانون الذي ترشد إليه هذه القاعدة وتختاره لحكم العلاقة محل النزاع، وهو إلزام ينبع من الصفة الملزمة لقاعدة الإسناد ذاتها. ولا يخفى ان المخاطب بقاعدة الإسناد هو، بصفة مباشرة وأصلية، سلطات الدولة الصادرة عنها هذه القاعدة وبالدرجة الأولى محاكم تلك الدولة.

ومع ذلك يمكن القول بأن أطراف العلاقة ذات العنصر الأجنبي هم المخاطب غير المباشر بقاعدة الإسناد، ويكون ذلك عادةً عندما تسمح قاعدة الإسناد لهم بتحديد القانون الواجب التطبيق، أو عندما يتمسكون بتطبيق قانون معين أمام القضاء أو غيره من الجهات التنفيذية الأخرى(12).

أما الأمر الثاني الذي يتضمنه عنصر الحكم في قواعد الإسناد فهو الضابط أو المعيار الذي يحدد بطريقة مجردة القانون الواجب التطبيق، أي ما يسمى بضابط الإسناد، والذي من دونه تعجز تلك القواعد عن النهوض بوظيفتها في اختيار القانون الملائم لحكم النزاع. وضابط الإسناد هذا هو المميز الأصيل لقواعد الإسناد، وهو الذي يُظهر في ذات الوقت العناصر الذاتية لهذه القواعد. وهذا ما سوف نراه فيما يلي.

ثانياً: العناصر الداخلية في قواعد الإسناد

تعتبر قواعد الإسناد الوسيلة الفضلى التي يضعها المشرع الوطني لاختيار القانون الذي يحكم العلاقات الخاصة ذات العنصر الأجنبي. وهذه القواعد، كما قلنا، هي قواعد قانونية لها طبيعة فنية ووظيفة خاصة تتمثل في اصطفاء أكثر القوانين المتزاحمة ملاءمة لحكم العلاقة وأكثرها إيفاءً بمقتضيات العدالة. وعملية اختيار القانون الواجب التطبيق تكمن في الصياغة الإسنادية التي تتميز بها قواعد الإسناد والتي كانت علة وجود هذه القواعد كمظهر لسماح المشرع بتطبيق قانون أجنبي أمام القضاء الوطني بصفة استثنائية(13).

وهذا الاستثناء الهام الذي سمح بتطبيق القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني هو الذي أخرج قواعد الإسناد إلى الساحة القانونية كقواعد فريدة في طبيعتها وبُنيتها، وهو ما جعل هذه القواعد، بما لها من خصائص ذاتية مميزة، أداة استثنائية لحل النزاعات الخاصة الدولية(14). فقواعد الإسناد، وإن كانت تشترك مع قواعد القانون الأخرى في العناصر الخارجية اللازمة لبنائها الفني، إلا ان هذه القواعد تنفرد بعناصر ذاتية أو داخلية لازمة لتمييزها عن غيرها من القواعد القانونية، ولمساعدتها على أداء وظيفتها التي تختلف عن وظائف تلك القواعد. فلو قمنا بتحليل أية قاعدة من قواعد الإسناد الواردة في التشريعات المختلفة لوجدناها تحتوي على ثلاثة عناصر داخلية، وهذه العناصر هي الفكرة المسندة وضابط الإسناد والقانون الواجب التطبيق.

وهذا ما نراه على سبيل المثال في قاعدة الإسناد الواردة في نص المادة 19/2 من القانون المدني العراقي سالفة الذكر والتي تنص على أنْ (… يسري قانون الدولة التي ينتمي إليها الزوج وقت انعقاد الزواج على الآثار التي يرتبها عقد الزواج بما في ذلك من أثر بالنسبة للمال)، فتحليل هذا النص يُظهر بجلاء تلك العناصر الداخلية التي تحتويها قاعدة الإسناد، إذ يتمثل عنصر الفكرة المسندة بآثار الزواج الشخصية والمالية، وعنصر ضابط الإسناد بجنسية الزوج وعنصر القانون الواجب التطبيق بقانون دولة جنسية الزوج وقت انعقاد الزواج. وفيما يلي توضيح لهذه العناصر.

1- الفكرة المسندة
وهي موضوع الإسناد، أو مجموعة العلاقات التي تعنى قاعدة الإسناد بتحديد القانون المختص بحكمها(15). إذ ان قاعدة الإسناد لا تحكم علاقة واحدة معينة ومحددة، بل هي تحكم جملة من العلاقات ذات العنصر الأجنبي يجمعها المشرع في فكرة واحدة. فالعلاقات التي يمكن ان تقوم بين الأفراد على صعيد المجتمع الدولي لا يمكن أن تدخل تحت حصر، ومن الصعب تخصيص كل واحدة منها بقاعدة إسناد منفردة أو بقانون معين.

وإزاء ذلك فقد لجأ المشرع في مختلف الأنظمة القانونية إلى تصنيف هذه العلاقات إلى فئات أو طوائف مختلفة تتضمن كل طائفة منها مجموعة من العلاقات المتقاربة أو المتشابهة(16)، وكل فئة من العلاقات المتجانسة على هذا النحو يضع لها المشرع ضابطاً خاصاً يسندها إلى قانون معين، وهذه الطوائف أو الفئات هي التي تسمى الأفكار المسندة(17). ومثال ذلك أن يجمع المشرع مختلف الأوضاع التي تتعلق بصحة الزواج من حيث الموضوع في فكرة واحدة، فيصوغ قاعدة إسناد خاصة بشروط صحة الزواج من حيث الموضوع ويسندها مثلاً إلى قانون دولة كل من الزوجين، أو يجمع الأوضاع المترتبة على رابطة الزوجية في فكرة واحدة فيسن قاعدة إسناد خاصة بآثار الزواج ويسند هذه الفكرة مثلاً إلى قانون الدولة التي ينتمي إليها الزوج وقت انعقاد الزواج. وكذلك شأن الأوضاع المتعلقة بكسب الحقوق العينية وانتقالها وانقضائها، والحيازة والآثار المترتبة عليها، حيث يُدخلها المشرع في فكرة واحدة هي فكرة الأموال وينص مثلاً على ان مركز المال يخضع لقانون موقعه.

ويقال مثل هذا أيضا بالنسبة للأوضاع المتعلقة بانتقال الأموال بطريق الإرث، وبالنسبة للأوضاع المرتبطة بالفعل الضار أو النافع وبشكل التصرفات القانونية أو موضوعها، إلى غير ذلك. وهذا التصنيف للعلاقات الخاصة الدولية وتقسيمها إلى أفكار مسندة إنما يقوم على أسس فنية تختلف من تشريع إلى آخر. فكما ان التشريعات تتباين بشأن اختيار ضوابط الإسناد التي يتخذها المشرع معياراً لتحديد القانون الواجب التطبيق، فإنها تتباين أيضا بالنسبة لتقسيمها للأفكار المسندة(18). فنجد مثلاً ان المشرع العراقي قد نص على أن (قضايا الميراث يسري عليها قانون المورث وقت موته…) (19)، ويتضح من هذا النص أن القانون العراقي قد جعل مآل الأموال بطريق الميراث فكرة مسندة واحدة من دون تمييز بين العقارات والمنقولات فأخضع الميراث بصفة عامة لقانون جنسية المورث. في حين ان بعض القوانين الأخرى قد فرقت بين المنقولات والعقارات فأخضعت الميراث في المنقولات لقانون موطن المورث، بينما يحكم الميراث في العقارات قانون موقعها(20). ومعنى هذا انه لا توجد في التشريع العراقي سوى فكرة مسندة واحدة خاصة بالميراث، بينما توجد في تشريعات أو قوانين أخرى فكرتان مسندتان وبالتالي قاعدتا إسناد خاصتان بالميراث، تتعلق الأولى بالميراث في المنقول وتتعلق الثانية بالميراث في العقار.

وكما تختلف الأفكار المسندة من حيث تقسيمها، فكذلك تختلف من قانون إلى آخر من حيث مضمونها(21). فجميع القوانين مثلاً تعرف فكرة صحة الزواج من حيث الموضوع ومن حيث الشكل، ولكنها اختلفت فيما بينها بشأن ما يسمى بالطقوس الدينية في الزواج، أي إبرام الزواج على يد رجل الدين، فمن القوانين ما يَعتبر تدخل رجل الدين في الزواج من الشروط الموضوعية لصحة الزواج، كالقانون اليوناني(22)، في حين إن قوانين أخرى تَعتبره شرطاً لصحة الزواج من حيث الشكل، وهذا ما استقر عليه القضاء في العراق(23). وتطبيقاً لذلك فانه لا يتسنى للقاضي أن يعين القانون الواجب التطبيق إلا إذا تبين أولاً تحت أية فكرة مسندة تندرج العلاقة محل النزاع. فإذا طرح أمام القضاء نزاع يتعلق بمسألة معينة تتضمن عنصراً أجنبياً، فان على القاضي أن يعطي وصفاً محدداً لهذه المسألة لتحديد طبيعتها تمهيداً لإدراجها ضمن الفكرة المسندة الملائمة التي تتضمنها، وهو ما درج الفقه على تسميته بالتكييف(24). فإذا ما تم ذلك للقاضي تَيَسر له أن يكشف عن القانون الواجب التطبيق على المسألة محل النزاع، ويكون ذلك عن طريق ضابط الإسناد الذي حدده المشرع للفكرة المسندة التي تتضمن تلك المسألة.

2- ضابط الإسناد
أو ما يسمى ضابط الاختيار، أو عامل أو ظرف أو نقطة الإسناد. وهذا الضابط هو الذي يحدد، بطريقة مجردة، القانون الواجب التطبيق، فهو المعيار الذي يُظهر إرادة المشرع في تفضيله لقانون معين أو إعراضه عن باقي القوانين التي تَعرض حلولها الموضوعية لتنظيم العلاقة ذات العنصر الأجنبي، ويُنم عن أن قانوناً معيناً أفضل القوانين لحكم الفكرة المسندة موضوع قاعدة الإسناد، وبحسب تعبير بعض الفقهاء فان ضابط الإسناد هو (الواسطة التي تربط ما بين الفكرة المسندة وقانون دولة معينة) (25). ونظراً لأهمية هذا العنصر في إبراز الصفة الإرشادية لقواعد الإسناد فقد ارتأينا أن نعرض له بشيء من التفصيل في موضع لاحق من هذا المطلب.

3- القانون الواجب التطبيق
أو ما يسمى القانون المسند إليه تنظيم العلاقة محل النزاع. وهذا القانون قد يكون هو قانون القاضي وقد يكون قانوناً أجنبياً آخر، والأصل انه لا فرق بين الحالتين. حيث ان قاعدة الإسناد بصفتها قاعدة مزدوجة، كما سيظهر لنا فيما بعد، فإنها تنطبق سواء أشارت إلى قانون القاضي أو إلى قانون أجنبي(26.ولكن مع ذلك فان النزعة الإقليمية أحياناً ما تتدخل مؤثرةً في مشرعي بعض الدول ودافعة إياهم إلى وضع قاعدة إسناد احتياطية تجلب الاختصاص للقانون الوطني الذي تنتمي إليه لتزيد من حالات تطبيق هذا القانون(27)، من ذلك مثلاً ما قرره المشرع العراقي في المادة 19/5 من القانون المدني رقم 40 لعام 1951 من عقد الاختصاص للقانون العراقي في المسائل المتعلقة بالرابطة الزوجية متى كان أحد الزوجين عراقياً وقت الزواج(28). ومن المؤكد أن القانون الذي تشير قواعد الإسناد باختصاصه وتسند إليه تنظيم العلاقة ذات العنصر الأجنبي هو قانون واجب التطبيق، أي يتعين تطبيقه وإعمال أحكامه طالما تم اختياره باعتباره القانون الأصلح لحكم النزاع، وهذا هو مضمون الإلزام الموجه للمحاكم بصفتها الجهة المخاطَبَة أساساً بقواعد الإسناد، والذي يُعد كذلك شقاً في عنصر الحكم في هذه القواعد كما سبق بيانه. ولا شك ان الخروج عن هذا الإلزام يُفرغ قواعد الإسناد من مضمونها ويضيع الهدف الذي أراده المشرع من ورائها.

ولا يفوتنا، ونحن في معرض الكلام عن القانون الواجب التطبيق، أن نشير إلى أمرين مهمين، الأول هو بيان ان الإلزام بتطبيق القانون الذي تختاره قاعدة الإسناد لحكم النزاع لا يختلط بصفة الإلزام في قاعدة الإسناد ذاتها، أي وجوب تطبيقها من عدمه بشأن العلاقات الخاصة الدولية(29). فالإلزام بتطبيق القانون المختار يثور بعد إعمال قاعدة الإسناد، أما وجوب تطبيق هذه القاعدة من عدم تطبيقها فيثور قبل ذلك الإعمال. والأمر الثاني مضمونه أن الإسناد الذي تنفذه قواعد الإسناد إلى القانون الواجب التطبيق هو إسناد كامل أو إجمالي إلى ذلك القانون الذي تم اختياره لحكم العلاقة ذات الطابع الدولي، بغض النظر عن كون ذلك القانون هو القانون الوطني للقاضي أو قانون أجنبي، بمعنى انه إسناد إلى مجموع النظام القانوني لدولة محددة بما فيه من قواعد القانون الخاص وقواعد القانون العام والقواعد ذات التطبيق الضروري، على ما سيأتي بيانه في محله(30).
__________________
1- د. رمضان أبو السعود. الوسيط في شرح مقدمة القانون المدني (المدخل إلى القانون وبخاصة المصري واللبناني). الدار الجامعية. بيروت. 1985. ص49.
2- د. رمضان أبو السعود. المصدر السابق. ص49-50.
3- د. منذر الشاوي. فلسفة القانون. المجمع العلمي العراقي. بغداد. 1994. ص234-236.
4- د. جعفر الفضلي و د. منذر الفضل، المدخل للعلوم القانونية. دار الكتب. جامعة الموصل. 1987. ص20. وانظر كذلك محمد سليمان الأحمد. عناصر القاعدة القانونية (الفرضية والحكم)، دراسة تحليلية. مجلة الرافدين للحقوق. كلية القانون. جامعة الموصل. العدد الخامس. 1998. ص108. والواقعة بحسب تعريف بعض شراح القانون المدني هي (عمل مادي يقع باختيار الإنسان أو بغير اختياره ويرتب القانون عليه أثراً قانونياً معيناً)، د. عبد الرزاق السنهوري. مصادر الحق في الفقه الإسلامي، دراسة مقارنة بالفقه الغربي. المجلد الأول. الجزء الأول. المجمع العلمي العربي الإسلامي. بيروت. 1953-1954. ص66. ويضيف في الصفحة ذاتها أن(مَثل الواقعة الاختيارية العمل غير المشروع والحيازة، ومَثل الواقعة غير الاختيارية الميلاد والموت).
5- سَيَمر بنا فيما بعد ان مشرع قاعدة الإسناد غالباً ما يتأثر في صياغته للقاعدة بجملة من الاعتبارات والمصالح المتنوعة التي يحاول تحقيقها أو التوفيق فيما بينها، ولكن مع ذلك تبقى هذه القاعدة محتفظة بصفة التجريد وإنْ على صعيد إعمالها من جانب القضاء. راجع ما يأتي ص99 وما بعدها من نفس الاطروحة.؟
6- د. صلاح الدين جمال الدين. القانون الدولي الخاص. (الجنسية وتنازع القوانين)، دراسة مقارنة. ط1. دار الفكر الجامعي. الإسكندرية. 2008. ص252-253.
7- د. محمد كمال فهمي. أصول القانون الدولي الخاص. ط2. مؤسسة الثقافة الجامعية. الإسكندرية. 1978. فقرة 245. ص330.
8- محمد سليمان الأحمد. عناصر القاعدة القانونية (الفرضية والحكم)، دراسة تحليلية. مجلة الرافدين للحقوق. كلية القانون. جامعة الموصل. العدد الخامس. 1998ص113.
9- د. احمد عبد الكريم سلامة. علم قاعدة التنازع والاختيار بين الشرائع أصولا ومنهجاً. ط1. مكتبة الجلاء الجديدة. المنصورة. 1996. فقرة 42. ص49.
10- مادة 18/1 من القانون المدني العراقي رقم 40 لعام 1951، وتقابلها مادة 11/1 من القانون المدني المصري رقم 131 لعام 1948.
11- مادة 19/2 من القانون المدني العراقي، وتقابلها مادة 13/1 من القانون المدني المصري.
12- د. احمد عبد الكريم سلامة. علم قاعدة التنازع. المصدر السابق. فقرة 43. ص50-51.
13- د. عوض الله شيبه الحمد السيد. الوجيز في القانون الدولي الخاص (الجنسية. مركز الأجانب. تنازع القوانين. الاختصاص القضائي الدولي. تنفيذ الأحكام الأجنبية). ط2. دار النهضة العربية. القاهرة. 1997. ص332.
14- راجع ما ذكر في ص61-62. من هذه الرسالة.
15- د. صلاح الدين جمال الدين. عقود نقل التكنولوجيا (دراسة في إطار القانون الدولي الخاص والقانون التجاري الدولي). دار الفكر الجامعي. الإسكندرية. 2004. ص260.
16- انظر في ذلك د. عكاشة محمد عبد العال. أحكام القانون الدولي الخاص اللبناني، دراسة مقارنة. الجزء الأول (تنازع القوانين). الدار الجامعية. بيروت. 1998. ص17.
17- د. هشام خالد. التنازع الانتقالي في تنازع القوانين. من دون نشر. 2001. ص252-253.
18- د. عوض الله شيبه الحمد السيد. المصدر السابق. ص337-338.
19- مادة 22 من القانون المدني رقم 40 لعام 1951، وتقابلها مادة 17/1 من القانون المدني المصري رقم 131 لعام 1948.
20- هذا ما استقر عليه العمل في القضاء الفرنسي وأخذ به القضاء الانكليزي. د. فؤاد عبد المنعم رياض و د. سامية راشد. الوسيط في تنازع القوانين. مصدر سابق. فقرة 322. ص348.
21- د. محمد كمال فهمي. مصدر سابق. فقرة 10. ص16. وانظر في هذا الشأن عبد الرسول عبد الرضا. تغير ضوابط الإسناد في عقود القانون الخاص. رسالة ماجستير. كلية القانون. جامعة بابل. 1999. ص 6.
22- مادة 1367 من القانون المدني لعام 1946، نقلاً عن د. احمد عبد الكريم سلامة. علم قاعدة التنازع. مصدر سابق. فقرة 645. ص783.
23- د. ممدوح عبد الكريم حافظ. القانون الدولي الخاص الأردني والمقارن. مصدر سابق. ص93. وهو كذلك ما استقر عليه القضاء في مصر وفي فرنسا. د. احمد عبد الكريم سلامة. علم قاعدة التنازع. المصدر السابق. فقرة 645. ص783.
24- انظر في فكرة التكييف. محمد صالح القويزي. التكييف، دراسة فقهية قانونية. مجلة القضاء. نقابة المحامين في الجمهورية العراقية. العدد الثاني. السنة الرابعة والعشرون. 1969. ص61 وما بعدها.
25- د. محمد كمال فهمي. أصول القانون الدولي الخاص. ط2. مؤسسة الثقافة الجامعية. الإسكندرية. 1978. فقرة 249. ص333.
26- د. عز الدين عبد الله. القانون الدولي الخاص. الجزء الثاني (في تنازع القوانين وتنازع الاختصاص القضائي الدوليين). ط7. دار النهضة العربية. القاهرة. 1972. فقرة 48. ص89.
27- د. إبراهيم أحمد إبراهيم. القانون الدولي الخاص (تنازع القوانين). من دون نشر. 1997. ص154-155.
28- جاء في هذه الفقرة أنه (في الأحوال المنصوص عليها في هذه المادة إذا كان احد الزوجين عراقياً وقت انعقاد الزواج يسري القانون العراقي وحده)، وتقابلها مادة 14 من القانون المدني المصري رقم 131 لعام 1948.
29- د. احمد عبد الكريم سلامة. علم قاعدة التنازع. مصدر سابق. فقرة 46. ص54.
30- في بيان موضوع قواعد الإسناد وطبيعة القوانين التي تختارها هذه القواعد، راجع ما يأتي ص120 وما بعدها.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت