إن المسؤوليـة في معناها الواسع والذي حاول الكثير من الفقهاء إعطاءها تفسيرات وتعريفات كثيرة رغم الاختـلاف البسيط فيها فإن القانـون استطاع أن يضع لها نطاقا قانونيا إداريا والذي يتعلق أساسا بمسؤولية الدولة بشكل عام والإدارة بشكل خاص عن أعمالها الضارة والتي تستوجب التعويض لا محالة .
ورغم تمتع الدولة والإدارة بامتيازات منحها إياها المشرع وهذا محاولة منه لحماية المصلحة العامة فهذا لا يعني أن لا سلبيات لها فقد تتعسف في استعمال سلطاتها المخولة لها باسم القانون .
لذلك وفي محاولة شجاعة من المشرع الجزائري فعبر مراحل متتالية عمل على إيجاد حلول حقيقية قانونية خاصة بالمسؤولية (الدولة ، الإدارة ) فوضع نظاما قضائيا قائما بذاته ونصوصا خاصة تحمي المتضررين من هذين الجهازين المهمين ( الدولة ، الإدارة ) .
لذلك ومن خلال محورنا الاول سنتطرق لدراسة ماهية المسؤولية وكذا نشأتها والأسس القانونية التي تبنى عليها وفقا لأربع مباحث على الترتيب :
* المبحث الأول : ماهية المسؤولية الإدارية .
* المبحث الثاني : نشأة فكرة المسؤولية .
* المبحث الثالث : المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ .
* المبحث الرابع : المسؤولية الإدارية على أساس المخاطر .

المبحث الأول : ماهية المسؤولية الإدارية:
من خلال مبحثنا هذا سنحاول تحديد مفهوم للمسؤولية (المفهوم العام والخاص لها ) ونخص با الحديث المسؤولية الإدارية أي مسؤولية الإدارة عن أعمالها وكذا أعمال موظفيها باعتبارهم جزء منها ذلك أن نشاط الإدارة كأي نشاط آخر قد يكون سببا في إحداث أضرار وذلك باعتبار الإدارة سلطة تنفيذية تستعمل وسائل ضخمة وأحيانا خطيرة في أداء مهمتها ، وسنتطرق أيضا لمختلف الفروق بين نظام المسؤولية في القانون الإداري وما هو متداول عليه في القانون المدني باعتباره القاعدة العامة وهذا ما سنوضحه في ما يأتي من مطالب :
المطلب الأول : التعريف بالمسؤولية الإدارية .
المطلب الثاني : خصائص المسؤولية الإدارية .
المطلب الثالث : العلاقة بين المسؤولية الإدارية والمسؤولية المدنية .

المطلب الأول : التعريف بالمسؤولية الإدارية :
المسؤولية لغة : تعني تحمل التبعة أي أنها الحالة القانونية أو الأخلاقية التي يكون فيها الإنسان مسؤولا عن أقوال وأفعال أتاها إخلالا بقواعد وأحكام أخلاقية وقانونية [1].
المسؤولية الإدارية باعتبارها مسؤولية قانونية ونوع من أنواع المسؤولية القانونية تنعقد وتقوم في نطاق النظام القانوني الإداري ، وتتعلق بمسؤولية الدولة والإدارة العامة عن أعمالها الضارة ، لكن تحديد معناها بالمعنى الضيق وجزئيا ، بأنها ” الحالة القانونية التي تلتزم فيها الدولة أو المؤسسات والمرافق والهيئات العامة الإدارية نهائيا بدفع التعويض عن الضرر أو الأضرار التي سببت للغير بفعل الأعمال الإدارية الضارة سواء كانت هذه الأعمال الإدارية الضارة مشروعة أو غير مشروعة وذلك على أساس الخطأ المرفقي أو الخطأ الإداري أساسا وعلى أساس نظرية المخاطر وفي نطاق النظام القانوني للمسؤولية الإدارية ومسؤولية الدولة[2].
الأصل أن مسؤولية السلطة الإدارية قائمة على الخطأ ، لأنه لا يمكن إجبار الإدارة على تعويض الضرر أو جبره إلا بناءا على خطئها ، غير أنه في بعض الحالات تكون بصدد مسؤولية بدون خطأ إما لكون الضرر صادر عن فعل الإدارة بالرغم من كونها لم ترتكب خطأ وتكون آنذاك بصدد وجود إخلال بمبدأ المساواة أمام الأعباء العامة أو لكون نشاط الإدارة ذو مخاطر خصوصية والذي تنتج عنه أضرار لا يمكن أن تبقى دون تعويض ، فبما أن الإدارة تستفيد من ذلك النشاط فإنها في مقابل ذلك تتحمل التعويض عن الأضرار الناشئة عنه 1فمن الطبيعي أن تكون مسؤولية السلطة العامة مبدئيا مسؤولية خطيئة بمعنى لا تقوم إلا إذا كان الفعل الضار مخطئا فإذا كانت هذه المسؤولية (على أساس الخطأ) هي المسيطرة في القانون الإداري إلا أنه منذ سنة 1895وجد نوع آخر من المسؤولية وهذه الأخيرة إنها تقوم حتى ولو غاب الخطأ ، وهي مسؤولية بقوة القانون بسبب الضرر الحاصل وهذا ما سنوضحه فيما يأتي من مباحث .

المطلب الثاني : خصائص المسؤولية الإدارية:
من أهم خصائص المسؤولية الإدارية أنها مسؤولية قانونية وكذا مسؤولية غير مباشرة ومسؤولية عن الغير ، وأنها مسؤولية ذات نظام قانوني مستقل ، كما أنها مسؤولية جدا ، ومسؤولية حديثة وسريعة التطور .

أولاً :المسؤولية الإدارية مسؤولية قانونية :
vإن المسؤولية الإدارية وباعتبارها مسؤولية قانونية يتطلب لوجودها وتحققها اختلاف السلطات الإدارية والمنظمات والمرافق والمؤسسات العامة الإدارية صاحبة الأعمال الإدارية الضارة عن أشخاص المضرورين .
vكما يتطلب فيها أن تتحمل الدولة والإدارة العامة صاحبة الأعمال الإدارية الضارة عبء التعويض من الخزينة العامة بصفة نهائية للمضرور ويشترط في المسؤولية الإدارية توفر علاقة أو رابطة السببية القانونية – وفقا لنظرية السبب الملائم والمنتج – وحريات الأفراد العاديين,كما يتطلب في المسؤولية الإدارية – باعتبارها مسؤولية قانونية – عدم دخول مال في ذمة الأشخاص المضرورين من قبل الدولة والإدارة العامة بصورة مسبقة على النحو السابق بيانه في مجال تحديد مقومات وعناصر المسؤولية القانونية . 2

1_أ د/ الحسين بن شيخ اث ملويا, دووس في المسؤولية الادارية , ( كتاب اول )،(ط1), دار الخلدونية , الجزائر , 2007, ص21 .
2 _ أد/محد فؤاد مهنا, مسؤولية الإدارة في التشريعات العربية ،( دط), القاهرة , جامعة الدول العربية , 1972, ص191_197

ثانياً : المسؤولية القانونية مسؤولية غير مباشرة:
المسؤولية القانونية المباشرة هي مسؤولية الشخص مباشرة عن أفعاله الشخصية الضارة في مواجهة الشخص المضرور ، مثل المسؤولية القانونية المنعقدة والقائمة على أساس خطأ شخص واجب الإثبات .
أما المسؤولية القانونية غير المباشرة فهي المسؤولية القانونية عن فعل الغير ، كما هو الحال في مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعة ، ومسؤولية الدولة والإدارة العامة لأعمال موظفيها وأعمالها الضارة ، فالمسؤولية غير المباشرة أو المسؤولية عن فعل الغير تتحقق وتكون عندما يختلف شخص المسؤول المتبوع طبيعيا وفيزيولوجيا عن شخص التابع مع وجود رابطة أو علاقة التبعية بين التابع والمتبوع والدولة والإدارة العامة باعتبارها أشخاص معنوية عامة تفكر وتعمل وتتصرف دائما بواسطة أشخاص طبيعيين هم عمال وموظفو الدولة والإدارة العامة .
فالمسؤولية الإدارية هي دائما مسؤولية غير مباشرة ومسؤولية عن فعل الغير ، عكس المسؤولية المدنية التي قد تكون مسؤولية شخصية مباشرة وقد تكون مسؤولية غير مباشرة عن فعل الغير .

ثالثاً : المسؤولية الإدارية ذات نظام قانوني مستقل :
vباعتبار أن المسؤولية الإدارية مسؤولية الدولة عن أعمالها التنفيذية الإدارية ، أي نظرا لكونها مسؤولية سلطة عامة ومسؤولية منظمات وهيئات ومؤسسات ومرافق عامة إدارية تعمل بهدف تحقيق المصلحة العامة للدولة والمجتمع في نطاق الوظيفة التنفيذية الإدارية للدولة ، فإن المسؤولية الإدارية باعتبارها حالة قانونية ونظام قانوني لابد أن تطبع وتسمع بهذه المعطيات والعوامل وتصبح لها طبيعة خاصة وخصائص ذاتية تستقل بها وتميزها عن غيرها من أنواع المسؤولية القانونية .
vباعتبار أن المسؤولية الإدارية مسؤولية قانونية عن إدارة عامة تتميز بعدة خصائص ذاتية أهمها أنها إدارة بيئوية تتأثر وتؤثر وتتفاعل مع المعطيات والعوامل والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والعلمية والحضارية والثقافية التي تشكل في مجموعها بيئة ومحيط النظام الإداري للدولة والإدارة العامة ، الأمر الذي يجعل حتما المسؤولية الإدارية تتميز بالواقعية والمرونة وشدة الحساسية للبيئة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والحضارية والعلمية والفنية المحيطة والمتفاعلة بالإدارة العامة في الدولة

رابعاً : المسؤولية الإدارية مسؤولية حديثة وسريعة التطور .
تمتاز المسؤولية الإدارية بأنها مسؤولية حديثة جدا ومتطورة بالقياس إلى أنواع المسؤولية القانونية الأخرى ، فالمسؤولية الإدارية أو مسؤولية الدولة عن أعمالها التنفيذية – الإدارية – .
باعتبارها مظهر وتطبيق من مظاهر وتطبيقات فكرة الدولة القانونية – لم تنشأ وتظهر إلا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كما سيتبين من خلال دراسة موضوع نشأة وتطور مسؤولية الدولة والغدارة العامة – ومازال النظام القانوني للمسؤولية في حالة حركة وتطور وبناء لحد الآن في بعض تفاصيله

المطلب الثالث : علاقة المسؤولية الإدارية بالمسؤولية المدنية .
للنظام القانوني للمسؤولية الإدارية صلة وعلاقة وثيقة بالنظام القانوني للمسؤولية المدنية فلهذه العلاقة طبيعة خاصة تبعا لاختلاف النظام القضائي لكل منهما عن الآخر .
وعلى ذلك فإن النظام القانوني للمسؤولية الإدارية وعلاقته بالنظام القانوني للمسؤولية المدنية تبدو جلية خاصة في النظام القانوني المبني على وحدة القضاء والقانون, وكذا العلاقة بين النظامين في النظام المزدوج القائم على ازدواجية القضاء والقانون , الأمر الذي يتطلب منا التعرض أولا إلى تأكيد مبدأ استقلالية النظام القانوني للمسؤولية الإدارية ومدى أفضليته عن النظام القانوني للمسؤولية القانونية المدنية لتطبيق) ذلك على مسؤولية الدولة والإدارة العامة عن أعمالها من واجب دعوى التعويض ثم التطرق إلى تكييف طبيعة هذه العلاقة وبيان مظاهرها ).

أولاً:استقلالية النظام القانوني للمسؤولية الإدارية وأصالته عن النظام القانوني للمسؤولية المدنية:
لما كان القانون الإداري في مجمله مجموعة قواعد استثنائية غير مألوفة منظمة لعلاقة الأفراد مع الإدارة ، فإن النظام القانوني للمسؤولية الإدارية لا يعدوا أن يكون وليد هذه الفكرة كونه يتضمن على مجموعة من أحكام وقواعد قضائية خاصة
[1]- د – عمار عوابدي ، المرجع السابق ، ص 28 .
2- د- رشيد خلوفي ، قانون المسؤولية الإدارية ،(دط)، ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر ، 1994 ، ص 07

واستثنائية غير مألوفة في صعيد قواعد النظام القانوني للمسؤولية المدنية .
ذلك أن فكرة التفرقة بين الخطأ الشخصي والخطأ الإداري المرفقي وكذا تفاصيل نظرية المخاطر كأساس قانوني للمسؤولية الإدارية وهو الأساس الحديث بعد نظرية الخطأ الذي تولدت بموجبه بدايات تبلور فكرة المسؤولية الإدارية بمعنى المسؤولية الموجبة للتعويض العادل والمنصف في حق المضرور كما سنرى في المبحثين الثالث والرابع من هذا الفصل .
فإذا كان الخطأ الشخصي الموجب للمسؤولية المدنية العادية يتميز بالثبات فإن الخطأ المرفقي أو الإداري هو خطأ متميز في ذاته متطور ومرن ، وتجدر الإشارة إلى أن تطوره ومرونته هي من الخواص المنبثقة عن القانون الخاضع له وهو القانون الإداري, بالإضافة إلى أن تطور مقتضيات وظروف المؤسسات الإدارية تعني بلا شك تطور مبدأ المسؤولية الإدارية ونظامها القانوني الذي تخضع له .
أما بالنسبة لعنصر الضرر فإنه فيما يخص المسؤولية المدنية هو ضرر مادي مباشر من شخص (فرد) إلى آخر في شخصه أو ماله أو تبعته (من كان تحت رعايته) ، فإنه يبدو ضيق النطاق ، محدود المعالم مقارنة مع الضرر الذي تلحقه الإدارة بالأفراد سواء كانوا تابعين لها (خطأ وظيفي موجب للمسؤولية التأديبية) ، أو الخارجين عنها (منتفعين بنشاطها)، فإن هذا الأخير يعتبر واسعا سعة النشاط الإداري خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المسؤولية وفق الأساس القانوني الحديث ، (نظرية المخاطر) ، تجعل الإدارة مسؤولة عن الأضرار التي تلحق الأفراد سواء أخطأت أم لم تخطئ .
ورغم جملة هذه الاختلافات بين المسؤوليتين إلا أن نطاق التداخل بينهما واضح وجلي من حيث أن كليهما (نظرية المسؤولية الإدارية والمسؤولية المدنية) يشكل أنواع المسؤولية القانونية بوجه عام .
كما أن كلا النظامين القانونيين يرتبطان ويتصلان ببعضهما فبينهما علاقة تكامل وتعاون,حيث أن النظام القانوني للمسؤولية الإدارية باعتباره حديثا غير مكتمل المعالم فإنه يستعير من النظام القانوني للمسؤولية المدنية بعض أحكامه و تقنياته, باعتباره نظاما راسخا بأحكامه, وكل هذا من أجل إقرار التعويض وأسسه التي تبنى عليه (خطأ ، ضرر ، علاقة سببية ) .
وخير دليل على ذلك هو أن البلاد التي تطبق نظام ازدواجية القضاء والقانون تخضع المسؤولية الإدارية إلى قواعد المسؤولية المدنية في بعض الحالات على سبيل الحصر استثناءا من الأصل وتختلف هذه الحالات من دولة إلى أخرى.
فحالات مسؤولية الدولة والإدارة العامة عن الحوادث والأفعال الضارة الناجمة عن المرافق والمؤسسات العامة الاقتصادية والاجتماعية وحوادث السيارات تخضع لأحكام وقواعد النظام القانوني للمسؤولية المدنية في أغلب دول الازدواجية القضائية ومنها الجزائر.
فعلاقة النظام القانوني للمسؤولية الإدارية والنظام القانوني للمسؤولية المدنية قائمة وموجودة باستمرار وهي علاقة تعاون وتكامل بصور مختلفة ومتطورة .
ومن وجهة نظرنا يمكننا القول بأن أبرز اختلاف واضح بين المسؤولية الإدارية والمدنية هو طبيعة الخطأ الموجب للضرر و الذي على أساسه تعقد المسؤولية بعد ثبوت العلاقة السببية بينهما وهو الخطأ المرفق .

ثانياً:مدى صلاحية أحكام النظام القانوني للمسؤولية الإدارية :
ونقصد بذلك مدى صلاحية أحكام النظام القانوني للمسؤولية الإدارية وأسسه في رسم الطريق نحو تحقيق التكامل بين إشباع الحاجات العامة من جهة والمحافظة على سلامة الأفراد وكذا تعويضهم في حالة حدوث الضرر الموجب للمسؤولية خاصة إذا كان أخذنا بعين الاعتبار أن أحكام هذا النظام (المسؤولية الإدارية) حديث في نشأته حداثة القانون الإداري .
فهناك جانب من الفقه يرى بضرورة الجمع بين نظامي المسؤوليتين وتوحيد أحكامها عن طريق تطبيق نظام المسؤولية القانونية غير المباشرة في القانون المدني والمؤسسة على أساس نظرية الخطأ المفترض في المسؤولية الإدارية ، ذلك أنه وفق هذا الاتجاه إن أحكام المسؤولية على أساس الخطأ المفترض في النظام القانوني لها (المسؤولية) كفيل باستغراق وتنظيم حالات المسؤولية الإدارية .
وعلى ذلك فإن منظور هذا الاتجاه يرى بتطبيق معالم المسؤولية المدنية وأسسها على المسؤولية الإدارية لاسيما تلك المتعلقة بالمسؤولية الإدارية على أساس الخطأ فيطبق في هذا المجال أحكام مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه ، ومسؤولية متولي الرقابة عن أفعال من هم تحت رقابته ، ومسؤولية الحارس بكل ما فيها (حارس حيوان ، حارس عن البناء … ) فكلها تطبق على حالات المسؤولية الإدارية وتقبل التطبيق عليها.

الرأي الراجح : (الاتجاه الثاني) .
إن الرأي أو الاتجاه القوي بخصوص هذه المسألة هو رأي أغلبية الفقهاء الفرنسيين في القانون العام وخاصة الإداري وذلك باعتبارها المصدر التاريخي لفكرة القانون والقضاء الإداري بصفة عامة والنظام القانوني الأصيل والمستقل والخاص للمسؤولية الإدارية الذي ذهب إلى ضرورة وضع نظرية متكاملة البناء ذات كيان مستقل اسمها نظرية المسؤولية الإدارية والتي تختلف في معالمها عن المسؤولية المدنية نظرا للطبيعة الخاصة والاستثنائية لها ، بحيث أنه وصلت نظرية المسؤولية غير التعاقدية للسلطة العامة إلى درجة كبيرة من التكامل .
و لقد رفض القضاء الإداري الفرنسي من أول وهلة تطبيق القواعد الموضوعية للمسؤولية المدنية على النظام الذي يحكم المسؤولية الإدارية بحيث لا يمكن تطبيق المبادئ القائمة في التقنين المدني بخصوص المسؤولية الادارية ذلك أن هذه الأخيرة متميزة بذاتها فأحكامها ليست عامة ولا مطلقة ولها قواعدها الخاصة التي تختلف وتتنوع باختلاف وتنوع حاجات المرفق العام ، وكذا ضرورة التوفيق بين حقوق الدولة وحقوق الأفراد في إطار تجانس المصلحتين العامة والخاصة .
الرأي المأخوذ به :
رغم أن الكثير من الفقهاء ذهبوا إلى ضرورة اعتبار النظام القانوني للمسؤولية الإدارية مستقل عن النظام القانوني للمسؤولية المدنية مقدمين في ذلك جملة من الحجج التي من بينها :

أن القواعد والنصوص المدنية التي ستقاس عليها مسؤولية الإدارة عن أعمالها وموظفيها تنظم وفق علاقة تبعية بين المتبوع الذي هو الإدارة والتابع الذي هو الموظف ، رغم أن العلاقة بين الطرفين (الموظف والإدارة) ليست تعاقدية ، وعلى ذلك فلا يمكن تطبيق قواعد القانون المدني على القواعد الإدارية .
vإن قواعد المسؤولية المدنية عاجزة عن مواجهة جميع مسؤوليات السلطة الإدارية وذلك في الحالات التي لا يمكن فيها إسناد الفعل الضار إلى الموظف أو إلى موظفين معينين حتى يمكن إعمال فكرة مسؤولية المتبوع عن أعمال التابع ، وكل ذلك يؤدي إلى أفضلية القواعد الإدارية في موضوع المسؤولية خاصة أنها تأخذ وتوازن بين جميع الاعتبارات.فإن الرأي الذي نأخذ به كوجهة نظر متواضعة هي الاتجاه الذي يرى بضرورة توحيد النظامين القانونيين للمسؤولية في قالب واحد يجسد التزاوج بينهما خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الناحية العمالية على الصعيد القضائي الإداري في كون القاضي وهو يفصل في النزاع يستقي حكمه من القانون المدني في ظل عدم وجود تقنين إداري مستقل ثابت ، بداية من أحكام المادة 124 من القانون المدني .

المبحـث الثـاني : نشـأة المسؤوليـــة الإداريـــة :

ظلت الدولة بصفة عامة و الإدارة بصفة خاصة و لحقبة طويلة من الزمن غير مسؤولة عن أعمالها المختلفة، و كذا عن أخطاء موظفيها، و يعود ذلك إلى الفكرة التي كانت سائدة آنذاك و هي أن الدولة شخص معنوي مجسدة في شخص الملك الذي لا يخطئ أبدا، و كذا إلى فكرة السيادة باعتبار أن المسؤولية التزام و هو ما يتناقض مع السيادة في شكلها التقليدي بما تنطوي عليه من سمو و إطلاق، إلا انه في نهاية القرن 19 و بداية القرن 20 بدأ المفهوم المطلق لعدم مسؤولية الدولة يندثر خاصة مع اتساع مجال تدخل الدولة في جميع المجالات مما ينتج عنه تعدد الأضرار على الأشخاص و الأموال، وبدأت فكرة المسؤولية تشق طريقها نحو التطبيق، وسنتطرق خلال هذا المبحث إلى المسار التاريخي الذي مرت به فكرة المسؤولية الإدارية في الأنظمة القانونية الكبرى في العالم بداية بالنظام الأنجلوسكسوني الذي تمثله إنجلترا ’ ثم النظام اللاتيني الذي تمثله فرنسا ، لنصل في الأخير إلى فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر ، وذلك وفق ثلاثة مطالب على الترتيب .
المطلب الأول: نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في النظام الأنجلو سكسوني .
المطلب الثاني: نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في النظام القانوني اللاتيني .
المطلب الثالث: نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر .

الـمطلـب الأول: نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في النظام لأنجلو سكسوني:

كانت بريطانيا في موضوع المسؤولية الإدارية تعتنق مبدأ أساسي هو عــدم مسؤوليـة الإدارة عن أعمال موظفيها بصورة مطلقة ثم حاول الفقه و القضاء ثم المشرع تطليـق هذا المبدأ عن طريق اتخاذ جملة من الاستثناءات الواردة عليه (عدم مسؤولية الإدارة ) أين تقرر مسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها في بعض المرافق العامة دون غيرها، ثـم وسعوا نطاقها,ذلك أن عدم مسؤولية الإدارة عن أعمالها و كذا أعمال موظفيها قد بيـنت على عدة مبررات منها القاعدة الدستورية القائلة بأن “الملك لا يخطئ”أين اعتبر المــلك هو الدولة و الدولة هي الملك و بالتالي فلا تسأل عن أعمالها الغير مشروعة الصـادرة فـي حق الغير و تمتد هذه الحماية إلى موظفيها فلا يسألون حتى في ذمتهم الخاصة لأنهم فـي خدمة جناح الملك الذي لا يخطئ و بالتالي فهم جزء منه و أداته في أعمالـه حتـى و إن كانت غير مشروعة1، فالمفهوم الذي كـان سائدا آنذاك هو امتـزاج و اتحـاد الدولـة فـي شخص الملك إذ لم يكن ينظر إليها كوحدة قانونية قائمة بذاتها و مجردة,لها الشخصــية المعنوية بل هي في نظر القانون ليست إلا الملك و تابعيه , فالقول بمساءلة الدولــــة و موظفيها عن الأضـرار الناجـمة عن أعمالهم أثناء أدائهـم لخدمـاته الوظيفيـة ما هـو إلا مساءلة للتاج(الملك) عن أخطـائه الشخصية وهو مالا يسمـح به
و لا تقرره القاعـدة المذكورة و الراسخة في القانون الانجليزي ، بل إن الأمـر أكثـر من ذلك حيث كان لا يسمح بالرجوع على الموظف الذي سبب خطأه الشخصي ضـررا حتى و إن كانت هذه المسالة مسألة شخصية في ذمته المالية الخاصة وعلى ذلك يمكـن اعتبار الموظف وفق هذه النظرة اله صغير2،الأمر الذي يعقد الأمور و يشل حركة الإدارة بصفة خاصة و الدولة بصفة عامة في غياب الرعاية الإلهية، ثم من أجل تفادي هـذا نظرا للقضاء الانجليزي و معه الفقه إلى مبدأ عدم مسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيـها نظرة الرفض لقسوة هذا المبدأ فأخذ يحقق منه محاولا التلطيف من حدة هذه القسوة وعلى ذلك قرر في بداية الأمر مسؤولية الموظف الشخصية استنادا إلى السند و المبرر الفقهي الانجليزي في تكييفه لطبيعة العلاقة القانونية التي تربط الموظف العـام بالادارة على أنها علاقة تعاقدية أي عقد وكالة الذي بموجبه لا يسأل الموكل على أعمال وكيله الا في حدود
1.د/محمد فؤاد مهنا , المرجع السابق , ص19_20
2 _د/ عمار عوابدي , المرجع السابق , ص43
الوكالة,فكذا الادارة لا تسأل عن اخطاء الموظف,لأنها خارجة عن حدود عقد الوكالة.

وقد حمل القضاء الانجليزي الإدارة التدخل في تحمل التعويض نيابة عن الموظف في بعض بعض الأحيان, رغم أن هذا التدخل لا يعتبر و لا يشكل مسؤولية الإدارة بالمعنى القانوني للمسؤولية لأنها في هذه الحالة تتحمل عبء التعويض المحكوم به على الموظف رحمة و شفقة عليه وليس التزام عليها. وعلى ذلك يمكننا القول:” بأن الأساس التاريخي للمسؤولية الإدارية في انجلترا خاصة بني على الفكرة التيوقراطية القائم على أساس تأليه الملك و بالتالي عصمته من الخطأ اذ من غير المعقول وفق نظرتهم ان يخطئ الاله” ,و في الوقت الذي أحس الأفراد بخطورة الموقف من خلال هذا المبدأ حتى مع جملة التغييرات الشكلية الطفيفة عليه بقي الأمر خطيرا بحيث أصبح الأفراد متخوفين عن ضياع مصالحهم في إطار استمرار الشعور بعدم الاطمئنان,مما أدى إلى تطور فكرة الفقه و القضاء إلى ضرورة تكوين لجنة قانونية عام 1921 لبحث مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيهاو قد رفعت هذه اللجنة مذكرة بمشروع قانون 1927 يقيم هذه المسؤولية لكن البرلمان الانجليزي رفض إقراره مستندا في ذلك إلى أن إقرار هذا المبدأ يعرض الثروة العامة للضياع نظرا لما يحكم به للأفراد من تعويضات مما يؤثر على مكانة الدولة و مقدرتها المالية.إلا أن المشروع ما لبث أن أحس بخطورة الموقف و عدم عدالة الوضع فوضع قانون 1947 قانون الإجراءات الملكية الذي قرر نهائيا مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها صراحة و أصبح ساري المفعول في مطلع 1948.1
وقد تطلب المشرع الانجليزي في القانون المشار اليه لقيام هذه المسؤولية شروط ثلاثة :
1 _ أن يكون من وقع منه الفعل الضار من الذين تم تعيينهم بمقتضى قوانين الحكومة المركزية , وأنه بمقتضى البنود الواردة في الميزانية العامة , او تلك البنود التي صادق عليها وزير الخزانة بتفويض من البرلمان حتى تتوفر علاقة التبعية التي توجب و تعقد مسؤولية الادارة عن اعمال موظفيها .
2_كما يتعين ثبوت خطا من الموظف العام اثناء او خلال تاديته ما عهد اليه من أعمال .
3 _كما تطلب هذا القانون ضرورة تحقق الضر المتطلب للتعويض حتى يقضي بالمسؤولية (ومعنى ذلك وجب لعقد مسؤولية الادارة عن اعمالها و عن موظفيها توافر الشروط المعهودة في إقرار المسؤولية المدنية وهي الخطا , ضرر , علاقة سببية )
1 _د / عمار عوابدي: المرجع السابق ، ص 44 .
وقد وردت على هذا القانون جملة من الاستثناءات , بحيث حتى مع تحقق هذه الشروط فالدولة تكون غير مسؤولة عن أعمالها وعن موظفيها وهي :

1 _عدم مسائلة الادارة عن الاضرار الناتجة عن ضياع أو تلف او تأخير الرسائل العادية أو البرقية الناتجة عن خطأ موظفيها ، فيما عدا المسؤولية المحدودة المتعلقة بالخطابات الموصى عليها الداخلية .
2 _ كما تعفى الدولة من مسؤوليتها عن أعمال موظفيها غير المشروعة الصادرة عن أفراد القوات المسلحة التي ينتج عنها ضرر جسماني او موت أحد افراد تلك القوات أثناء تأديته لوظائفه المنوطة به في الزمان والمكان المحددان لذلك .
3 _اعفاء الدولة من المسؤولية عن الأعمال الضارة التي يرتكبها الأشخاص المعهود اليهم القيام بأعمال قضائية ، باسثناء الاعمال القضائية التي يقوم بها الوزراء والاداريون.

المطلب الثاني: نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في النظام القانوني اللاتيني :
لقد أجمعت مختلف الدراسات في القانون الإداري أن فكرة المسؤولية الإدارية ارتبطت في نشأنها بنشوء القانون الإداري الذي ظهر في فرنسا ، وهي مرتبطة بتاريخها و نظام الحكم فيها.
وكغيرها من الدول القديمة خضعت فرنسا لمقولة ” الملك لا يسيء صنعا ” و أنه امتداد لإرادة و ظل الله في أرضه، و هو ما جعله يتمتع بسلطة مطلقة في تسيير شؤون الدولة و عدم خضوعه للرقابة بما فيها الرقابة القضائية، و اعتباره مصدرا للعدالة، و التكفل شخصيا بالفصل في أي منازعة، و كذا وقف تنفيذ الأحكام أو إصدار حق العفو فيها[3]، و بانتقال فرنسا بعد الثورة الفرنسية سنة 1789 من النظام الملكي إلى الجمهوري، و ظهور نظرية مونتسكيو المتعلقة بالفصل بين السلطات، ظهر جدل فقهي كبير حول عدم مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية .إذ أن مناقشة تصرفات الإدارة أمام القضاء، و إعلان مسؤوليتها و إلزامها بالتعويض عن الأخطاء التي يرتكبها موظفوها، يؤدي إلى تدخل السلطة القضائية في أعمال السلطة التنفيذية على خلاف ما يقضي به مبدأ الفصل بين السلطات، و لم يكن الااختلاف قائما حول المبدأ و إنما حول تفسيره، إذ يأخذ البعض بالفصل المطلق بين سلطات الدولة، و هو ما كان يميل إليه رجال الثورة الفرنسية متأثرين في ذلك باعتبارات تاريخية تتمثل في تعسف محاكم النظام القديم.
في حين كان الاتجاه الغالــب و الواقع العملي يرجح فكرة الفصل النسبي لما يسمح به من وجود نوع من الرقابة المتبادلة بين سلطات الدولة للحيلولة دون استبداد كل سلطة باختصاصاتها. إلا أن النظام القانوني الفرنسي كان مبنيا في بداياته على فكرة أساسية مناطها عدم تدخل السلطة القضائية في نشاط الإدارة ، حيث رأت السلطة الفرنسية أن المحاكم العادية قد تعرقل الإصلاحات التي تعزم الإدارة القيام بها لذلك عملت على إبعاد منازعات الإدارة عن ولاية المحاكم العادية ، و تجسيدا لهذه الأفكار صدر قانون16 -24سنة 1790 الذي نص في المادة 13 منه ” إن الوظائف القانونية تبقى دائما مستقلة عن الوظائف الإدارية و أن القضاة لا يمكنهم تعطيل أعمال الإدارة بأي طريقة كانت أو مقاضاة أعوانها من اجل أعمال تتصل بوظائفهم و أن كل خرق لهذا المنع يعتبر خرقا فادحا للقانون”
وتأكد هذا المبدأ مرة أخرى بالقول: ” أن القضاة لا يمكنهم التعدي على الوظائف الإدارية أو محاكمة رجال الإدارة عن أعمال تتصل بوظائفهم ، ويحضر على المحاكم حضرا مطلقا النظر في أعمال الإدارة أيما كانت هذه الأعمال”.1
و قد اعتبر المدافعون عن قانون 1790 أن مقاضاة الإدارة أو أعوانها أمام القضاء يؤدي إلى عرقلة أعمالها التي تهدف إلى تحقيق الصالح العام، فمثلا إذا تمت مقاضاة الإدارة حول نزع الملكية من أجل المصلحة العامة فإن ذلك سيؤدي حتما إلى تعطيل المشاريع التي تم من أجلها نزع العقار من مالكه .

وتطبيقا لهذا القانون فإن المنازعات التي تكون الإدارة المركزية طرفا فيها فإنها تحال مباشرة على الملك،أما المنازعات التي تكون الإدارة المحلية طرفا فيها فقد اختص بها حكام الأقاليم.

ومن هنا اجتمع في الإدارة صفة الخصم والحكم لذلك سميت هذه المرحلة بمرحلة الإدارة القاضية.

1_أد/عمار بوضياف، المرجع السابق ، ص77 . .
2_د/لشعب محفوظ ، المسؤولية في القانون الاداري ،(دط)، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر ، 1994 ، ص13

“ان الاخذ بفكرة الادارة القاضية من شأنه أن يخل بمبدأ العدالة ، بالاضافة الى ذلك يعني عدم وجود فصل بين السلطات في اطار امتزاج السلطتين القضائية و التنفيذية في يد هذهالاخيرة ، أما بالنسبة للسلطة التشريعية فهي تعمل تحت امرة الملك “.وهو ما أعاق تحقيق وتكريس مبدأ الفصل بين السلطات، إذ أنه منع على السلطة القضائية البث في القضايا الإدارية في حين منح للسلطة الإدارية سلطة الفصل في منازعاتها و أمام رفض الفقهاء و القضاء لتمتع الإدارة بهذا الاختصاص الممتاز، تم فصل الإدارة العاملة عن الإدارة القاضية، عرفت فرنسا تحولا جذريا في مجال منازعات الإدارة إذ بصدور دستور السنة الثامنة من عهد نابليون بونابرت نصت المادة 52 منه على إحداث مجلس الدولة كما تم إنشاء مجالس المحافظات في باقي الأقاليم , و أرجع الكثير من الكتاب سبب إنشاء هذه الأخيرة إلى سيل الطلبات المرفوعة ضد الادارة انذاك ،إلا أن قرارات المجلس لم تكن سوى آراء و مشاريع قرارات معلقة على مصادقة رئيس الدولة، إذ أنها لم تكتسي الطابع القضائي، و لم تكن شاملة و لا نهائية، كما أنه لم يعتمد حال فصله في المنازعات على قواعد خاصة تطبق فقط على المنازعات الإدارية، و إنما طبق قواعد القانون الخاص1بل أن جملة القرارات الصادرة عن المجلس في هذه المرحلة لم تخرج عن كونها مشاريع قرارات بخصوص منازعات معينة وجب أن ترفع أمام القنصل العام باعتباره رئيس الدولة الذي كان له وحده حق المصادقة عليها أو رفضها.
فولاية المجالس لم تكن كاملة و شاملة و أحكامه لم تكن نهائية ، أما مجالس الأقاليم فقد كانت قراراتها قابلة للطعن أمام مجلس الدولة الذي يبدي بشأنها أيضا الرأي ليرفع فيما بعد أمام القنصل العام الذي إن شاء أضفى عليها الصبغة التنفيذية لها و إن شاء رفضها، و على ذلك سميت هذه المرحلة بمرحلة القضاء المحجوز وذلك لأن الفصل في أي منازعة إدارية كان موقوفا على مصادقة وموافقة الرئيس ، و موافقته بالضرورة ستكون وفق ما يخدم مصالحه الشخصية .
1 _أد/عمار بوضياف ، الوجيز في القانون الاداري ،ص 79_80.
2_أد/عمار بوضياف،القضاء الاداري في الجزائر، بين نظام الوحدة والازدواجية ،(ط1)، دار الريحانة،2000 الجزائر، ص12.
كما نصت المادة 75 من دستور السنة الثامنة من الثورة الفرنسية لسنة 1800 على ضرورة استئذان مجلس الدولة قبل رفع قضايا التعويض على موظفي الحكومة بسب أعمالهم ووظائفهم.1
إلا أن هذه المرحلة لم تدم طويلا إذ صدر بتاريخ 24/05/1872 قانونا اعترف لمجلس للدولة بصلاحية الفصل في المنازعات الإدارية دون الحاجة لمصادقة السلطة الإدارية على قراراته ، ولم تعد الأحكام تصدر باسم رئيس الدولة بل باسم الشعب الفرنسي ، و منذ دلك التاريخ أصبح لمجلس الدولة صفته كجهة قضائية عليا بأتم معنى الكلمة ، حيث تم الفصل بين القضاء الإداري و القضاء العادي.

وعلى ذلك فإن الوظيفة القضائية لمجلس الدولة تتمثل في صلا حيته كمحكمة أول درجة للنظر في المنازعات الواردة على سبيل الحصر ومنها :
*الطعون الخاصة بتجاوز السلطة، أو دعاوى الإلغاء الموجهة ضد المراسيم اللائحية أو الفردية.
*المنازعات المتعلقة بالمراكز الفردية للموظفين المعينين بمرسوم .
*الطعون الموجهة ضد أعمال إدارية بتجاوز نطاق تطبيقها دائرة اختصاص محكمة إدارية واحدة .
*كما ينظر المجلس في المنازعة الإدارية باعتباره جهة إستئنافية بخصوص الطعون المرفوعة ضد أ حكام المحاكم الإدارية الإقليمية .
*إلا أن الصعوبة تكمن خاصة في كيفية تعليل عدم صلاحية قواعد القانون الخاص لأن تحكم منازعات النشاط الإداري.2
وبصدور قرار بلانكو الشهير الذي يعتبر نواة القانون الإداري تجسدت فكرة مسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها.
والذي تتمثل وقائعه فيما يلي :” تعرضت بنت صغيرة تدعى إيجيتر بلانكو لحادث تسببت فيه عربة لوكالة التبغ ، و التي كانت تنقل إنتاج هذه الوكالة من المصنع إلى المستودع.

1_أد/عمار بوضياف : (الوجيز في القانون الإداري) ، المرجع السابق، ص80
2_د/ فتحي الفكري ، مسؤولية الادارة عن أعمالها غير التعاقدية (دط)، دار الكتاب الحديث ، 1995 ،ص 16 .
قام ولي البنت برفع دعوى تعويض عن الضرر المادي الذي حصل لابنته أمام المحكمة العدلية أو محكمة القضاء العادي على أساس أحكام القانون المدني الفرنسي ..
.اعتبرت وكالة التبغ أن النزاع يهم الإدارة و أن مجلس الدولة هو صاحب الاختصاص بالنظر في الدعوى
أحيل الأمر على محكمة التنازع بتاريخ 08 /02/1873 ، أجابت كما يلي:
” حيث أن المسؤولية التي يمكن أن تتحملها الدولة بسبب الأضرار التي يمكن أن يلحقها أعوان المرفق العام بالأفراد لا يمكن أن تخضع لأحكام القانون المدني الذي يضبط علاقة الأفراد فيما بينهم .
حيث أن هذه المسؤولية ليست عامة أو مطلقة بل لها قواعدها التي تتغير حسب مقتضيات المرفق العام و ضرورة التوفيق بين مصلحة الدولة و حقوق الأفراد ….و بالتالي السلطة الإدارية وحدها المختصة بنظر النزاع.”1
ومنذ تلك اللحظة أسس مجلس الدولة قراراته على روح القانون العام أحيانا و على حسن سير العدالة وكذا المرافق العامة أحيانا أخرى.
وعلى ذلك نستنتج : ” أن المسؤولية الإدارية كانت فكرة نظرية تجسدت على الصعيد العملي بفضل قرار بلانكو الشهير” .
المطلب الثالث: نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر:
لدراسة فكرة مسؤولية الإدارة عن أعمالها و موظفيها ونشأتها في الجزائر يجدر بنا التطرق إلى ثلاثة مراحل أساسية بداية من مرحلة ما قبل الاحتلال ، وأثناء الاحتلال، لنصل في الأخير لدراسة مبدأ مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها بعد الاستقلال نظرا لما مرت به الجزائر تاريخيا ، وذلك وفق ثلاثة فروع على الترتيب الفرع الأول : فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر قبل الاحتلال . الفرع الثاني : فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر أثناء الاحتلال.
الفرع الثالث : فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر بعد الاستقلال.
1_ أد/لشعب محفوظ ،المرجع السابق ،ص27
2_أد/عمار بوضياف : (الوجيز في القانون الإداري) ، المرجع السابق، ص80

الفرع الأول :فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر قبل الاحتلال:
لإبراز فكرة المسؤولية في هذه المرحلة ينبغي أن نتطرق لتاريخ الجزائر القانوني و بمعنى أدق التاريخ القانوني الإسلامي الذي كان مطبقا في الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي لها إلى جانب العادات الوطنية التي أثرت فيها أحكام الشريعة الإسلامية حتى أصبحت تشكل عنصرا من عناصرها الجلية ” .
وحيث أنه توجد في الشريعة الإسلامية قواعد قانونية عامة تقرر رفع الأضرار عن الرعية مهما كانت الجهة التي تسببت في إحداثها، ومن هذه القواعد قوله صلى الله عليه وسلم ” لا ضرر ولا ضرار في الإسلام .”
وهذه القاعدة الشرعية العامة التي تفيد أن الضرر يزال وأن الظلم يرفع ولو كان من الوالي بل ولو كان من الخليفة الأعظم الذي اختير اختيارا شرعيا .
“ومعنى ذلك أن المسؤولية يتحملها الجميع سواء كان فردا عاديا أو دولة كاالوالي أو الخليفة على قدم المساواة ، والعبرة في ذلك هي جبر ضرر المضرور الذي اعتبره التشريع الاسلامي ظلم وجب رفعه بجبره ”
ويعد المذهب الإسلامي أول مذهب أقر المسؤولية بصفة عامة و الإدارية بصفة خاصة عن الأضرار الناتجة عن السلطة التنفيذية الممثلة في الخلفاء و أعوانهم أو السلطة القضائية الممثلة في القضاة و معاوينهم ، و ذلك تطبيقا لمبادئ الشريعة الإسلامية التي تحث على رفع الأضرار عن الرعية و مساءلة مسببيها مهما كانت الجهة التي صدر عنها الضرر .و من هذه المبادئ و القواعد ” قوله صلى الله عليه وسلم : ” كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ” وقوله تعالى :”يا عبادي اني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا “

[1]- الدكتور عمار عوابدي نظرية المسؤولية الإدارية) ، المرجع سابق، ص 49 .
2 د/ أحمد أنور رسرون : مسؤولية الدولة غير التعاقدية ، الطبعة الثانية ، دار النهضة العربية ، 1982 ، ص155 .

وفي الدولة الجزائرية فقد حذا حكامها حذو حكام الدولة الإسلامية في عهدها الأول فكان يطبقه على إطلاقه وهذا أمر منطقي كون الدولة الجزائرية دولة مسلمة،إلا أنه و مع التطور التاريخي الذي عرفته الأمة الإسلامية و غلبة الطابع الدنيوي أصبح من الضروري إيجاد نظام قانوني و قضائي يتولى تطبيق مبدأ المسؤولية و تعويض المتضررين عن الأضرار الناجمة عن أعمال الدولة أو موظفيها، فظهر ديوان المظالمكجهة قضائية إدارية بالمفهوم الحديث تتولى مقاضاة الولاة رجال الدولة الذين لا يمكن للقضاء العادي مقاضاتهم ، و قد باشر الخلفاء الراشدون النظر في المظالم بعد الرسول صلى الله عليه و سلم بأنفسهم كما فعلعثمان بن عفان وعمر بن عبد العزيز و أوبواسطة معاونيهم.
و قد كرسوا هذا المبدأ بإعمال قاعدة مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه في نطاق المسؤولية المدنية و التي يتطلب قيامها ثلاثة شروط، علاقة التبعية بين التابع و المتبوع، خطأ التابع و العلاقة السببية بين خطأ المتبوع و ما استخدم التابع من أجله.
و إذا ما بحثنا عن تطبيق مبدأ المسؤولية في الدولة الجزائرية فإننا نجد أن أمراء بني الأغلب و الفاطميين و سلاطين الموحدين و المرابطين و بني مرين و بني زيان يجلسون لنظرا لمظالم و يعتبرونها من صلب وظيفة الإمارة.
و قد أبقي على ولاية المظالم في عهد الأتراك مع بعض الاختلاف ، و في عهد الأمير عبد القادر طبق مبدأ مسؤولية الدولة بصفة واسعة و موضوعية ، إذ حذا حذو الخلفاء الراشدين و تولى النظر بنفسه في ولاية المظالم و حرص على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، إذ كان يفصل في التظلمات المرفوعة إليه ضد موظفي الدولة و يتولى معاقبتهم مهما سمت درجة وظائفهم و مراكزهم، و يصدر في ذلك أحكام نهائية غير قابلة للطعن فيها.1

الفرع الثاني: المسؤولية الإدارية في عهد الاحتلال:
لما كان الاحتلال الفرنسي للدولة الجزائرية غير مشروع بكافة المقاييس، ذلك أنه كان يهدف لتحقيق مصالحه اللامشروعة على حساب سيادة الدولة الجزائرية من جهة وحقوق وحريات الشعب ولاسيما مقدساته من جهة أخرى. .ـــــــــــــــ.
[1]- د/ عمار عوابدي نظرية المسؤولية الإدارية) ،المرجع السابق ، ص52 .
كان حتميا عليه أن تضع مبدءا أساسيا هو عدم مسؤوليتها عن الأعمال الضارة التي تمس بالجزائريين فقط .”وكما نرى أن هذا ما يجعل تطبيق مبدأ المسؤولية الادارية في الجزائر مقصورا على الفرنسيين و الاجانب ، الامر الذي من شأنه أن يجعل هذا المبدأ نسبي طالما أن تطبيقه لم يشمل الجزائريين مما يفتح باب التعسف تجاههم ، وكل ذلك بهدف ارغامهم على الاعتراف بفرنسية الجزائر “وهو ما يتعارض مع مبدأ المسؤولية الإدارية وفق النظرية الغربية للمسؤولية الإدارية القائمة على تطبيقها بصورة متكاملة شاملة و ليست جزئية نسبية ،حيث امتد تطبيق مبدأ المسؤولية الإدارية إلى الجزائر وفق نفس القواعد و الأسس المقرة لمسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها و مرت بذات التطورات التي مر بها القضاء الإداري الفرنسي ، حيث أقام النظام القضائي الفرنسي في الجزائر جهات قضائية خاصة للفصل في المنازعات الخاصة بمسؤولية الإدارة عن أعمالها و موظفيها ، إذ أنشأت بمقتضى المرسوم المؤرخ في 30/09/1953 محاكم القضاء الإداري الثلاث في الجزائر وهي : محكمة الجزائر ، قسنطينة ووهران التي كانت تفصل في المنازعات الإدارية و التي من جملتها المنازعات الخاصة بالتعويض الإداري تحت إشراف مجلس الدولة الفرنسي بباريس كجهة قضائية للاستئناف و النقض .

الفرع الثالث : المسؤولية الإدارية بعد الاستقلال:
اختارت الدولة الجزائرية بعد الاستقلال الاستمرار في تطبيق التشريع الفرنسي خوفا من الوقوع في فراغ قانوني و طبقت ذلك وفقا للقانون 62-153 المؤرخ في 31/12/62، الذي قضى باستمرارية تطبيق التشريع الفرنسي إلا ما يتنافى مع السيادة الوطنية كأن يتعلق الأمر بالسياسة الداخلية و الخارجية للدولة الجزائرية أو التفرقة العنصرية، و قد ورد في ديباجة هذا القانون تبرير حول إختيار المشرع لهذا التمديد بقوله: ” إذا كانت الظروف لا تسمح بإعطاء البلاد تشريع يتماشى مع احتياجاتها و طموحاتها فإنه من غير المعقول تركها تسير بدون قانون ،و لذلك كان من الضروري تمديد مفعول القانون القديم و إستبعاد الأحكام التي تتنافي و السيادة الوطنية إلى أن يتم التمكن من وضع تشريع جديد.

1-د/ عمار عوابدي: ( نظرية المسؤولية الإدارية) ، المرجع السابق، ص52 .
2- أد/ عمار بوضياف: (القضاء الإداري في الجزائر بين نظام الوحدةو الازدواجية) ، المرجع السابق، ص25
و بموجب الأمر رقم 63-218 المؤرخ في 18/06/1963 تم إنشاء المجلس الأعلى كجهة نقض بالنسبة للقضاء العادي و الإداري،و لم تدم المرحلة الإنتقالية التي شهدها النظام القضائي طويلا، إذ صدر الأمر رقم 65-278 المؤرخ في 16/11/1965و تضمن عدة إصلاحات و تنظيم قضائي جديد، إذ وضع حدا للازدواجية في مجال المنازعات بإلغاء المحاكم الإدارية الثلاثة(الجزائر، وهران، قسنطينة) و نقل اختصاصاتها للغرف الإدارية بالمجالس القضائية التي أنشأت بموجب المادة الأولى منه 15 خمس عشرةمجلسا، و أسند للغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى مهمة النظر ابتدائيا و نهائيا في الطعون بالبطلان في القرارات الإدارية و تفسيرها و فحص مدى مشروعيتها ، كما تولى مجلس الثورة مهمة التشريع خلفا للمجلس الوطني، و قد جعلت هاته الإصلاحات و غيرها من النظام القضائي الجزائري نظاما متميزا عن النظام الفرنسي، و أثبتت الدولة الجزائرية من خلالها أنها حققت نجاحا على مستوى المنظمة القانونية و القضائية بالقضاء على نظام الازدواجية باعتبار أحد مخلفات الاستعمار.1
و في المقابل كان تطبيق مبدأ مسؤولية الدولة بعد الاستقلال أمر حتمي و ضروري بعد المعاناة الطويلة التي عانى منها الجزائريين من استبداد و تعسف الإدارة الاستعمارية التي طبقت مبدأ عدم المسؤولية بكل أبعاده و آثاره رغم تقدم النظرية الفرنسية و تكريس مبدأ المسؤولية في فرنسا و حتى في الجزائر لكن بالنسبة للفرنسيين و الأجانب فقط.1″ومعنى ذلك أن تطبيق مبدأ المسؤولية الادارية كان نسبيا بل و عنصري في تطبيقه بدليل أنه كان مقصورا على المستعمر و المستوطنين الأجانب فقط ” و قد سار القضاء الجزائري و حتى المشرع على نفس درب التشريع و القضاء الفرنسي، إذ طبق النظرية الفرنسية المتكاملة قضائيا و تشريعا و فقهيا المتعلقة بمبدأ المسؤولية الإدارية، و كرسها في العديد من القرارات القضائية الصادرة عن المجلس الأعلى أو مجلس الدولة بعد إنشائه بموجب القانون العضوى98-01 المؤرخ في 30/05/98 ، و كذا من خلال العديد من النصوص التشريعية و التي نذكر البعض منها فقط على سبيل المثال:
1_د/عمار عوابدي : المرجع السابق، ص 53
2_أ/عمور سلامي: دروس في المنازعات الإدارية، جامعة الجزائر، كلية الحقوق بن عكنون، السنة الدراسية 2001/2002 ، ص35
صدرت عدة نصوص تشريعية هامة تم بموجبها التوسع في أسس المسؤولية القانونية من الخطأ الشخصي للموظف إلى الخطأ المرفقي ثم ظهرت نظرية المخاطر الإدارية، و من بين هذه النصوص المادة 17/2 من القانون الأساسي للوظيفة العامة.
و المادة 139-145 من قانون 90-08 المتعلق بالبلدية.1 التي كرست مسؤولية البلدية عن الأخطاء التي يرتكبها رئيسالمجلس الشعبيالبلدى و المنتخبون البلديون و موظفي البلدية و كذا مسؤولية البلدية عن الخسائر و الأضرار الناجمة عن الجنايات و الجنح المرتكبة بالقوة العلنية أو بالعنف أو خلال التجمهر والتجمعاتو هو ما تقره أيضا المادة 118 من قانون 90-09 المتعلق بقانون الولاية.2 التي تكرس مسؤولية الولاية.
و تجدر الإشارة إلى انه قد تقررت أيضا مسؤولية الإدارة بموجب نص دستوري المادة 145 من دستور 1996 .
و بتفحصنا لقرارات الغرفة الإدارية لمجلس قضاء بجاية وجدنا أن هناك تكريس واضح و كبير لمبدأ مسؤولية الإدارة، و مثال ذلك القرار الصادر بتاريخ17/02/98 بين ع. ل القطاع الصحي لخراطة ، و القرار الصادر بتاريخ 10/06/2003. بين ورثة (ب.ع) ورئيس بلدية أوزلاقن ، وكذا القرار الصادر بتاريخ 24/02/2004 بين خ. س و إدارة الجمارك. و يمكن تلخيص العوامل التي أدت إلى انهيار مبدأ عدم مسؤولية الإدارة ليقوم مقامه مبدأ مسؤوليتها، إذ أضحى هو الأصل بعد أن كان الاستثناء و لتتحقق المساواة بين الإدارة و الأفراد في نقاط هي التالية :
1- الفهم الصحيح لمبدأ سيادة الدولة، إذ بعد أن كانت تفهم على أنها سلطة مطلقة لا تقيد بالقانون و بالتالي لا يمكن مقاضاتها أو إلزامها بدفع تعويض، فلم تعد حاليا تتنافي مع الخضوع للقانون و لا مطلقة، إذ تقيد بأحكام القانون الدولي العام على مستوى العلاقات الدولية، و تقيد بالقانون الداخلي على مستوى علاقاتها مع الأفراد، و بالتالي يمكن مساءلتها و تتحمل دفع تعويضات إذا ما ألحقت ضررا بأحد المواطنين.وإن كان الفقيهان دوجي وجيز يريان أن فكرة السيادة خاطئة و تتنافي مع المنطق و المبادئ القانونية الحديثة، لأن الحكام و ممثليهم على مستوى الإدارات يتولون اختصاصاتهم في حدود القانون، و يسألون في حالة خروجهم عنه.

1 _قانون المتعلق بالبلدية 90 /08 المادة 139 _145 2 _ قانون المتعلق بالولاية رقم90 / 09 الماد 118
2-انتشار الديمقراطية في معظم دول العالم، و هي النظام الأكثر تقبلا لفكرة المسؤولية و رقابة القضاء، و احتراما للقانون، إذ تقوم أساسا على مبدأ المشروعية و خضوع الجميع حكاما و محكومين للقانون.
3-انتقال الدول من المذهب الفردي الحر إلى مذهب التدخل و تبلور دورها من مجرد حارسة تنحصر مهمتها في حماية الأفراد و السهر على أمنهم و سلامتهم داخليا و خارجيا إلى تدخلها في مختلف الأنشطة و اتساع دورها، و هو ما جعلها تقوم بأنشطة مشابهة لأنشطة الأفراد.مما نجم عند ازدياد الأضرار التي تسببها الأفراد كما و نوعا، وزادت معه الحاجة الملحة لمساءلتها و تعويض الأفراد.

المبحــــــــث الثالـث: المسؤولية الإداريـة على أساس الخطـأ:
تقوم المسؤولية بصفة عامة على ثلاثة أركان أساسية هي ركن الخطأ ، ركن الضرر
وركن العلاقة السببية بينهما ولما تقرر مبدأ مسؤولية الإدارة عن أعمالها فإن أول أساس اعتمد عليه لتقريرها هوالخطأ، وعلى هذا الأساس سنتطرق في هذا المبحث إلى بيان طبيعة الخطأ الموجب للمسؤولية الإدارية و صوره وكذا معايير التفرقة بينه وبين الخطأ الشخصي وفق ثلاثة مطالب على الترتيب .
المطلب الأول : طبيعة الخطأ الموجب للمسؤولية الإدارية .
المطلب الثاني: صور الخطأ الموجب للمسؤولية الإدارية .
المطلب الثالث : معايير التفرقة بين الخطأ المرفقي و الخطأ الشخصي

المطلب الأول : طبيعة الخطأ الموجب للمسؤولية الإدارية :
اتفق الفقه على أن الخطأ الذي يعقد المسؤولية الإدارية و يقرها ليس أي خطأ بل إنه خطأ من نوع خاص يختلف عن الخطأ المعهود الذي بموجبه تتقرر المسؤولية المدنية يعبر عنه بالخطأ المرفقي ، ونظرا لخصوصيته فإنه من الصعوبة بما كان إيجاد تعريف شامل له على الصعيدين الفقهي و القضائي، و لعل سبب ذلك كونه قضائي النشأة شأنه شأن القانون الإداري ،ويرى الدكتور سليمان محمد الطماوي أن هذا المصطلح ( الخطأ المرفقي ) يرجع للفقه الإداري الفرنسي وقد عرف الخطأ المرفقي بأنه:1
ــــــــــــــــ
1-د/ سليمان محمد الطماوي ’ القضاء الإداري’ قضاء التعويض وطرق الطعن في الأحكام، الكتاب الثاني، (دط ) ’ ’ دار الفكر العربي ’ 1968 ’ ص 133
” الخطأ الذي يشكل إخلالا بالتزامات وواجبات قانونية سابقة عن طريق التقصير و الإهمال الذي ينسب إلى المرفق العام ذاته ويعقد المسؤولية الإدارية.”
فالخطأ في طبيعته خطأ شخصي من موظف عام ولكن نظرا لاتصاله بالوظيفة العامة صبغ بصبغتها فتحول إلى خطأ وظيفي .
كما يعرفه الدكتور عمار عوابدي بأنه : ” الخطأ الذي يشكل إخلالا بالتزامات وواجبات قانونية سابقة عن طريق التقصير و الإهمال الذي ينسب ويسند إلى المرفق العام ذاته ويقيم ويعقد المسؤولية الإدارية ويكون الاختصاص بالفصل و النظر فيه لجهة القضاء الإداري في النظم القانونية ذات النظام القضائي الإداري .”
المطلب الثاني : صور الخطأ الموجب للمسؤولية الإدارية
إن التطرق لصور الخطأ الموجب للمسؤولية الإدارية يعني التطرق لصور الخطأ المرفقي ، فإذا كان هذا الأخير يتجسد في إخلال الإدارة بالتزاماتها ، فإن أمثلة هذا الإخلال تتعدد و تتنوع بتنوع الأنشطة الإدارية خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الهدف الذي تسعى له و المتمثل دائما في تحقيق المصلحة العامة .
ولذلك فإن صور إخلال الإدارة بالتزاماتها يتجلى لنا في ثلاثة صور أساسية نبرزها في ثلاثة فروع على الترتيب .
الفرع الأول : التنظيم السيئ للمرفق العام .
الفرع الثاني : سوء سير المرفق العام .
الفرع الثالث : عدم سير المرفق العام .

الفرع الأول : التنظيم السيئ للمرفق العام
وتتحقق هذه الصورة في الحالة التي تكون فيها الأضرار اللاحقة بالضحية ناتجة عن التنظيم السيئ للمرفق العام ، فعندما تتوفر له كل الإمكانات المادية و البشرية لكنه لا يحسن استغلال هذه الوسائل ليضمن السير الحسن للمرفق العام ينسب الخطأ للمرفق ويتحمل عبء التعويض.

1عمار عميروش: الخطأ الشخصي و المرفقي في المسؤولية الإدارية مذكرة تخرج من المدرسة الوطنية للإدارة،2001 ، ص20 .
2- د/عمار عوابدي : المرجع السابق ، ص 120 .
وكذلك الأمر إذا ما تباطأت الإدارة في تنفيذ أمر كان يتحتم عليها تنفيذه تباطأ أكثر من اللازم والمعقول في أداء تلك الخدمات وترتب عنه ضرر للأشخاص فتقوم بذلك مسؤوليتها (الإدارة ) وتتحمل عبء التعويض وقد طبق القضاء الجزائري هذه الحالة عندما قضت الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا بموجب قرارها المؤرخ في 08/04/1966 ، وتتلخص وقائع القضية في إن الإدارة وظفت السيد حميطوش وفق شروط غير قانونية ولم تنتبه إلى هذه الوضعية إلا بعد مرور ثمانية سنوات عن توظيفه فأرادت الإدارة تصحيح هذه الغلطة ، فلجأت إلى إلغاء قرار توظيفه .
-رفع النزاع إلى الغرفة الإدارية التي قررت بأن هذا التأخير يشكل خطأ مرفقيا موجبا لمسؤولية الإدارة .1

الفرع الثاني : سوء سير المرفق العام: و تتمثل الخطأ هنا في الأعمال الإيجابية التي تؤدي بها الإدارة خدماتها ، ولكن على وجه سيء مما يسبب الإضرار بالغير سواء تجسد الخطأ هنا في صورة عمل مادي أو في صورة قرار إداري مخالف للقانون
ويمكننا ذكر قضية فصلت فيها الغرفة الإدارية للمحكمة العليا قرار رقم 52862بتاريخ 16/05/1988
وتتمثل في أن أحد المجانين (مريض عقلي ) أدخل المستشفى ووضع في نفس الغرفة التي يتواجد بها المطعون ضده (ب) حيث قام المطعون ضده بأعمال عنف أدت إلى وفاة ابن المطعون ضده ، رفضت الغرفة الإدارية جميع دفوع المستشفى الرامية إلى تقرير عدم مسؤوليته، حيث أن الغرفة الإدارية عرضت حيثياتها كما يلي :
– حيث أن إدارة المستشفى تقر بعلم عمال المستشفى وكذا المرضى بأن المدعو (م) مصاب بمرض عقلي، و أنه كان يتعين بالتالي حراسة خاصة عليه باعتباره يشكل خطرا محققا بالنسبة لنزلاء المستشفى ، و أن الأعوان الذين قرروا وضع المريض في نفس غرفة الضحية (ب ، م) خلقوا خطأ تتحمل الإدارة تبعته ، وأنه يوجد بالفعل في هذه القضية خطأ مرفقي ” ففي هذه القضية نلاحظ إهمال رقابة مريض عقلي تمثل سوء سير المرفق العام ( المستشفى) كصورة من صور الخطأ المرفقى .2

1-عمار عميروش ، الخطأ الشخصي و المرفقي في المسؤولية الإدارية ، (نفس المذكرة)2001 ص35.
2-محمد عاطف البنا : الوسيط في القضاء الإداري ، دار الفكر العربي ، ص 398

الفرع الثالث: عدم سير المرفق العام
هذه الصورة من صور الخطأ المرفقي أحدث نسبيا من الصور السابقة ، و ترجع إلى تبلور الأفكار الخاصة بسير المرافق العامة كون أن المبدأ الحديث المتجسد هو أن ” سلطات الإدارة لم تعد امتيازا لها تباشره كيفما شاءت ومتى أرادت ، ولكنها واجب على الموظف يؤديه بكل أمانة و مع حرصه التام على المصلحة العامة ويتمثل الخطأ هنا في ذلك الموقف السلبي الذي يتخذه المرفق بامتناع أحد أدواته ( الموظف ) عن أداء خدماته أو الأعمال التي يكون ملزما بها قانونا .
“وعليه يمكننا القول أن كل امتناع من شأنه أن يعطل السير المطرد للمرفق العام ويؤدي بذلك إلى تعطيل المصلحة العامة للأفراد يعني بالضرورة عدم سير للمرفق العام وهو ما يقر المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ المرفقي”
وقد بدأ مجلس الدولة الفرنسي أولى تطبيقاته في هذه الحالة بمناسبة الأضرار الناجمة عن الأشغال العامة ، لكن يجب عدم الخلط بين الأضرار الناجمة عن قيام المسؤولية الإدارية على أساس المخاطر والمسؤولية الإدارية عن الخطأ .
فإذا ترتب الخطأ نتيجة إهمال الإدارة في رقابة الأشخاص التي يجب عليها رقابتهم , ومثاله أن يكون تلميذ في مدرسة ويلحقه ضرر نتيجة الإهمال في الرقابة ، وكما لو أهملت إدارة المستشفى الأمراض العقلية رقابة المجانين فتمكن أحدهم من الهرب أو أشعل حريقا .1
وقد أخذ القضاء الإداري الجزائري بهذا الاتجاه ودليل ذلك أن الغرفة الإدارية فصلت في قضية عرفت باسم صاحبها وهو السيد ( بلقاسي ) ضد وزير العدل
الذي صدر فيها قرار في 19/04/1972
وتتلخص وقائع هذه القضية في تلقي أحد كتاب الضبط المحكمة في شكل أوراق تمت مصادرتها من طرف الضبطية القضائية بمناسبة توقيف السيد (بن قاسي ) غير أن كاتب الضبط سهى عن تقديمها لوكيل الجمهورية
ــــــــــــــــــــ
1- محمد عاطف البنا :المرجع السابق ، ص 399.

وفي هذه الأثناء قررت الإدارة تبديل الأوراق المالية المتداولة بأوراق جديدة ’ و هكذا بقي المبلغ المحجوز في خزينة المحكمة دون تبديل.
وبعد الإفراج عن صاحبه (السيد بن قاسي ) ، قام هذا الأخير برفع دعوى ضد وزير العدل مطالبا بتعويضه عن الأضرار اللاحقة به جراء عدم قيام كاتب الضبط بواجباته ( عدم تبديل الأوراق المالية ) باعتباره موظف في مرفق القضاء .ومن أشكال عدم سير المرفق العام التي ترتب المسؤولية الإدارية ، انعدام الصيانة العادية وهي صورة من صور المسؤولية عن الأشغال العمومية و التي قد تؤدي في بعض الحالات لحوادث المرور .1
وتجدر بنا الإشارة إلى انه في مجال الأشغال العمومية يتعايش نظامان للمسؤولية الإدارية ، نظام المسؤولية غير الخطيئة والتي نقصد بها تلك المسؤولية المبنية على أساس المخاطر عندما يتعلق الأمر بالأضرار التي تصيب الغير ،و نظام المسؤولية الخطيئة في الضرار التي يتسبب المشاركين في الأشغال العمومية وكذا المنتفعين منها .2
وقد تطور مفهوم المسؤولية الخطيئة الى المسؤولية الغير خطئيه وهذا من أجل حماية الضحية أكثر ، ولهذا لم يعد مهما إثبات الخطأ وتأسيس المسؤولية عليه بقدر ما أصبح ضروريا الأخذ بعين الاعتبار المخاطر الاستثنائية للنشاط الإداري خاصة على مستوى الأشغال العمومية و المنشآت العامة و بالتالي التعويض عن الأضرار الناجمة عن مختلف هذه المخاطر بغض النظر ن وجود خطأ (مرفقي ) أو لا .
وهو ما يجسد لنا بداية تغير الأساس القانوني للمسؤولية الإدارية من المسؤولية على أساس الخطأ إلى المسؤولية على أساس المخاطر ، و الحكمة في ذلك تبقى دائما من أجل توسيع نطاق المسؤولية بالنسبة للإدارة .

1 _ قرار الغرفة الإدارية ( المجلس الأعلى سابقا ) ، المجلة الجزائرية 1973 ، ص 541 . 2-:مقال الدكتور 2_ د/مسعود شيهوب ، مقال في المسؤولية الإدارية عن انعدام الصيانة العادية وتطبيقاتها في مجال المرور، ألقاه في الملتقى الوطني حول حوادث المرور في نوفمبر 1998

المطلب الثالث : معايير التفرقة بين الخطأ المرفقي و الخطأ الشخصي
إن اقتران الخطأ المرفقي بالخطأ الشخصي أمر لا مناص منه خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المرفق العام لا يمكن أن يسير باطراد ويحقق الغاية المرجوة منه إلا إذا توفر على مجموعة من الإمكانات أهمها البشرية ، هذه الأخيرة التي تتجسد في شخص الموظف،هذا الأخير الذي لا يمكن عصمته من الخطأ .
ولذلك فمن الأهمية بما كان التفرقة بين الخطأين لما في ذلك من أثار، خاصة من حيث تحديد الطبيعة القانونية للمسؤولية إن كانت مدنية أو إدارية ، وكذا تحديد الجهة القضائية المختصة بالفصل في منازعات التعويض التي يرفعها صاحب الشأن المضرور1
عرفه العميد هوريو بأنه : ” الخطأ الذي يمكن فصله عن أعمال الوظيفة وواجباتها انفصالا ماديا و معنويا”. يمكن تعريف الخطأ الشخصي على أنه : ” ذلك الخطأ الذي يرتكبه الموظف العام إخلالا بواجبات قانونية و التزامات يقرها
القانون المدني ، فيكون بذلك الخطأ الشخصي للموظف العام خطأ مدني يرتب ويقيم المسؤولية الشخصية وقد يكون الإخلال بالواجبات القانونية و التزامات المقررة و المنظمة بواسطة قواعد القانون الإداري ، فيكون الخطأ المرتكب في هذه الحالة خطأ تأديبيا مقيما للمسؤولية التأديبية للموظف.
أما الفقيه لافيير فقد عرفه بأنه : ” إن الخطأ يكون شخصيا عندما يصدر فعل ضار من الموظف في تأديته لوظيفته وكان هذا الفعل مطبوعا بطابع شخصي يتميز بعدم الحرص و التبصر ويكشف عن وهن الإنسان و أهوائه عد هذا الخطأ شخصيا ، وبذلك وجب البحث عن نية الموظف أثناء تأدية وظيفته “.
ونستطيع أن نستخلص من هذه التعاريف أن الخطأ الشخصي هو ذلك الخطأ الذي يرتكبه الموظف العام تحقيقا لمصلحة شخصية من شأنها أن تحدث ضررا للغير .

2-الدكتور عمار عوابدي ’ (المسؤولية الإدارية ) ’المرجع السابق ’ ص 119 .

وقد تعددت معايير التفرقة بين نوعي الخطأ لان القضاء لا يلتزم بقواعد ثابتة و معايير محددة وإنما يهتم بوضع الحل الملائم لكل حالة على حدى حسب الظروف المحيطة بها ’ وهو ما سنسلط عليه الضوء وفق ثلاثة فروع على الترتيب .
الفرع الأول : الخطأ الخارج عن نطاق الوظيفة
الفرع الثاني : الخطأ العمدي .
الفرع الثالث : الخطأ الجسيم .

الفرع الأول : الخطأ الخارج عن نطاق الوظيفة
يعتبر الخطأ شخصيا إذا كان الموظف أثناء ارتكابه له يقوم بعمل خارج عن نطاق الأعمال الوظيفية , وعلى ذلك فمتى كان الخطأ أثناء ارتكابه غريبا عن مجال العمل الإداري عد خطأ شخصيا .
أما إذا كان الموظف يقوم بأعمال تدخل في نطاق مهامه الوظيفية بشكل سيء عد مرتكبا لخطأ مرفقي موجب للمسؤولية الإدارية ، وهو ما سبق بيانه في المطلب الثاني .
وعلى هذا الأساس يعتبر خطأ شخصي الأفعال التي تتصل بالحياة الشخصية للموظف العام كلية و الأعمال التي لا تدخل في نطاق مباشرة الوظيفة ، ففي مثل هذه الحالات يسأل الموظف شخصيا عن الفعل الضار بصرف النظر عن نيته أو مدى جسامة الخطأ وينفصل هذا النوع من الخطأ عن الوظيفة ماديا وبالمقابل تنعقد المسؤولية الشخصية للموظف وفقا لقواعد القانون المدني و أمام المحاكم العادية ( المدنية ) وذلك .