قانون الفكر وقانون الواقع
خالد بن محمد العنقري

في كل مجال من مجالات الحياة وعلم من العلوم ثمة اختلاف كبير بين التنظير والواقع، بل إن كثيرا من التصورات تختلف عندما نعايش واقعها، حتى قيل في المثل الغربي “يجب على من يدخل السوق أن يضع عقله على الرف”. وفي مجال القانون ثمة خلاف حاد بين الأكاديميين والممارسين من قضاة ومحامين وحتى بين الفقيه والقاضي على المستوى الشرعي، وقد أشار لذلك ابن عربي بقوله: “فأما علم القضاء فلعمر إلهك إنه لنوع من العلم مجرد، وفصل منه مؤكد، غير معرفة الأحكام والتبصر بالحلال والحرام، ففي الحديث(أقضاكم علي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل)”، كما أشار إلى ذلك ابن فرحون بقوله “علم القضاء يفتقر إلى معرفة أحكام تجري مجرى المقدمات بين يدي العلم بأحكام الوقائع الجزئيات، وغالب تلك المقدمات لم يجر لها في دواوين الفقه ذكرا ولا أحاط بها الفقيه خبرا وعليها مدار الأحكام، والجاهل بها يخبط خبط عشواء في الظلام”.

إن القانون ثابت مطلق بينما وقائع الحياة متغيرة فلا يمكن قياس واقعة بأخرى نظرا إلى النصوص العامة كما أن الأحكام قد تتغير باختلاف الزمان والمكان فهي تأخذ حكم الفروع وهذا سر من أسرار صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان لما تتصف به من ثبات في المبادئ العامة ومرونة في الفروع.

إن هذا الخلاف بين التطبيق النظري والعملي يدركه كل ممارس، بل قد يصل الأمر أحيانا إلى فهم ما تعذر إدراكه كليا أو جزئيا مما سبق تلقيه نظريا، ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا الخلاف يعد عاملا إيجابيا في صقل كل مهنة والحث على الاستنباط وإيجاد الفكر الخلاق ومحاربة الجمود فلا غنى لإحداهما عن الآخر في كل مهنة، ومع اتفاقنا على قرب القرار القضائي إلى الصواب من غيره لمعرفته بواقع القضية محل القرار وإطلاعه على دقائقها وملابساتها وصلاحياته في تفسير النص القانوني وهو رافع بذات الواقعة أي خلاف؛ إلا أن ذلك لا يعني عدم مناقشته ونقده.

إن نقد الحكم القضائي ليس نقد القضاء فالحكم اجتهاد، وفي النهاية فإن القضاء هو صاحب كلمة الفصل إلا أن هذا النقد متى كان هادفا ومن متخصص كان له أثره في بناء الثقافة القانونية وليس ثمة عيب أو حرج في خطأ القاضي ففي الحديث “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر” والفهم عزيز وقد يختلف بما يفتح الله به على من يشاء قال تعالى “وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذا نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ….”. إن القانون حمال وجوه وليس ثمة حكم إلا والقاضي قادر على أن يحكم بخلافه غالبا فهو بحاجة للقوة في الحجة والأمانة باتخاذ القرار.

ومع ثورة الأنظمة في السعودية أضحت الحاجة ملحة بشكل أكبر للتخصصات الدقيقة وتأهيل القاضي تأهيلا شاملا في مجال تخصصه وتمكينه من معرفة واقع ما يحكم به بدقة، ولعلنا نتفق جميعا أن الخبرة الشخصية حول الواقعة مؤثرة في قرار القاضي، كما أن الإلمام بمستجدات الواقعة والاستئناس بأهل الخبرة أحرى بصدور القرار الرشيد وعدم النفرة من بعض القرارات التي قد لا تناسب واقع الحال. إن القاضي الذي يستنفد جهده في القضية ويصدر حكمه بعد نضوج موضوعها للحكم لا يملك المنصف إلا ثناء عليه حتى ولو اختلف معه في وجهة النظر. ختاما، فإن تسبيب الحكم تسبيبا شافيا يكشف عنه كثيرا من الضبابية التي تعرض لعين الناقد كما أنه سابقة تتضح بها معالم الطريق مستقبلا للقاضي والمتقاضي وهي أقرب إلى العدالة وتحقيقها. وبالله التوفيق،،،،
إعادة نشر بواسطة محاماة نت