بحث قانوني ودراسة في الفروق العلمية بين المحاكم المختلطة والأهلية

4 – مقارنة أنواع القضايا

إذا نظرنا إلى القضايا الجنائية يصح أن نقول إنها تكاد تكون معدومة بالمحاكم المختلطة وكثيرة كثرة هائلة بالمحاكم الأهلية.
ولكن إذا قورنت هذه القضايا الجنائية بمثيلاتها بالمحاكم الأوروبية كالفرنساوية مثلاً نجد الفرق هائلاً، فهناك أغلب الجرائم له أهمية إما من حيث شخص المجرم أو بالنسبة لفظاعة جرمه، وفي الغالب تكون أهمية هذه القضايا في الدافع إليها فإنك غالبًا تجد المجرم هناك يكتسب عطف المحلفين خصوصًا إذا كان الباعث له على الأجرام – كما هو الواقع في أغلب الأحوال – شريفًا.
أما هنا فإن أغلب القضايا تتراوح بين السرقات والمضاربات، والمجرمون فيها ليست لهم شخصية هامة إلا بعض قضايا نادرة وهذه يكفيها بعض المحامين الذين اشتهروا بحق بإتقان الدفاع الجنائي.
أما باقي القضايا فإن العمل فيها لا يلذ القاضي ولا المحامي إما لصغر الدعوى أو لصغر نفس المتهم أو لدناءة الجريمة في حد ذاتها.
نعتذر عن الخروج عن الموضوع الذي رسمناه لأنفسنا وهو المقارنة بين المحاكم الأهلية والمختلطة فقط، وبما أننا قد انتهينا من مقارنة الأعمال الجنائية نقول إن هناك فروقًا عظيمة بين نوعي العمل المدني والتجاري بين القضائين.
فالعمل التجاري يكاد يكون معدومًا في المحاكم الأهلية بينما تجد له دوائر وأقلام كتاب خاصة بالمحاكم المختلطة، وربما كان هذا موضوع مقال خاص.

كذلك تجد أقلامًا لا أثر لها بالمحاكم الأهلية مثل أقلام التفاليس والمزادات والتوزيعات والأمور المستعجلة وغيرها مما سيكون أيضًا موضوع مقالات خاصة.

وعلى ذكر القضايا التجارية نقول إن المحامي المصري نصيبه منها في المحاكم المختلطة قليل لأنه ويا للأسف لا يحتك مصري بأجنبي إلا ويكون دائمًا الأول مدينًا والثاني دائنًا، وبصرف النظر عن الكفاءة يميل المتقاضون إلى المحامين الذين من جنسياتهم، فالموكل المصري دائمًا مدين ومركز الدفاع عنه صعب لدرجة أنك تجد دائرة مخصوصة لقضايا الكمبيالات بالمحاكم المختلطة تصدر كل أسبوع نحو أربعين حكمًا (هذا بخلاف القضايا الجزئية) وأكثر من ثلاثة أرباع هذه الأحكام على مصريين لأجانب.
بقيت القضايا المدنية فإذا قارنتها ببعضهما تجد النتيجة الآتية وهي أن القضايا الأهلية أكبر عددًا بالنسبة لعموم القطر ولكن القضايا المختلطة أكثر قيمة.
مرجع ذلك الوحيد هو أن الأجانب هم وسط الثروة والمعاملات الكبرى وقلما تجد عملاً هامًا ليس لأجنبي يد فيه.
تجد هناك مثلاً قضايا توزيع كثيرة تتراوح قيمتها بين 10.000 جنيه و30.000 جنيه فما فوق، تجد قضايا ناشئة عن إجراءات نزع ملكية بكميات عظيمة من الأطيان كلها مرهونة لبنوك أجنبية.
تجد قضايا المحلات التجارية العظمى التي تطالب في الغالب أعيان المصريين بمبالغ باهظة.
تجد قضايا الأجانب ضد الحكومة بالنسبة لمنازعات هامة.

– قضايا الإيجار المطلوب لشركات عقارية اختصاصها استثمار الأطيان وبيعها بالتقسيط.
– قضايا المسؤولية على الشركات الأجنبية مثل شركة الترامواي وغيرها.
– القضايا الخاصة الشهيرة مثل: قضية الضرائب ضد شركة هليوبوليس – قضية صندوق الدين ضد الحكومة بخصوص مصاريف حملة السودان – قضية توت عنخ آمون – قضية أسهم قنال السويس – أسهم شركة هليوبوليس – الويركو – قضية مدام فولك بخصوص استقلال مصر – قضية معمل الغزل لما ضربت عليه الحكومة ضريبة أيام كرومر – قضية مسؤولية حادث السباق التي رُفعت على الحكومة المصرية والنادي – قضية البحث عن المسؤول في حريق هائل حصل بمخازن القطن بإسكندرية… وغير ذلك مما يطول عدده.

بالأسف في أغلب هذه القضايا العنصر المصري مدين والمحامي المصري يضعف مركزه بضعف مركز موكله المصري.
خذ مثلاً جلسة المزادات بالمحاكم المختلطة تجد محامي البنك العقاري كل مأموريته في هذه الجلسة أن يحضر ويطلب البيع أو تأجيله أو إيقافه أما خصمه فهو في الغالب محامٍ يطلب عن مصري إما إعطاء مهلة أو بطلان الإجراءات أو إيقاف البيع لرفع دعوى استحقاق ومأموريته هذه شاقة بينما رد محامي البنك العقاري لا يكلفه أقل عناء لأن المحاكم تعلم أن هذا البنك له أقلام منتظمة تبحث العقود بحثًا دقيقًا قبل تتميمها، فضلاً عن أنه في الغالب لا يكون لطلب خصم البنك أي وجاهة – على هذا القياس يمكنك أن تقارن بين عمل المحامي المصري وزميله الأجنبي بالمحاكم المختلطة.

أما في المحاكم الأهلية فإنك وإن وجدت قضايا عديدة إلا أنك لا تجد قضايا ذات قيمة تشجع على دقة البحث وعناية الخدمة مثلما تجد بالمحاكم المختلطة – يرجع ذلك إلى فقر الأهالي وإلى أن رقي مختلف الطبقات وطوائف الأمة سلسلة مرتبطة بعضها ببعض ومعقدة يصعب إصلاحها إن لم تدركها العناية الإلهية.
يضاف إلى ذلك توسع المحاكم المختلطة في نظرية الصالح الأجنبي، وقبولها بلا استثناء نظرية المسخر الذي يحول له دين قابل للتحويل بقصد تحصيله.
وتضاف الطرق التي يتبعها المحامون بالمحاكم المختلطة لخلق صالح أجنبي مثل إدخال صاحب رهن عقاري أو غير ذلك من الأسباب التي تسلب من المحاكم الأهلية عددًا عظيمًا من القضايا.
أضف إلى ذلك وجود أقلام العقود الرسمية بالمحاكم المختلطة والتي لم أفهم لغاية الآن ما هي العلة في عدم وجودها بالمحاكم الأهلية، وربما كان ذلك موضوع مقالة خاصة.
هذه بعض مقارنات مختصرة عن أنواع العمل بالمحكمتين، وأرى أنه لن يتغير الحال إلا إذا تغيرت أحوالنا جميعها وأصبحنا أصحاب ثروات وهيهات أن يكون هذا إلا بعد زمن بعيد.

عبد الكريم رؤوف
المحامي