ان الإجراءات التي تتكون منها الدعوى المدنية ابتداءً من رفع الدعوى وانتهاءً بصدور الحكم، وان كانت تختلف في موضوعها وجوهرها، الا انها في الوقت نفسه تتشابه من حيث كونها تهدف إلى غاية واحدة ويجمعها مفهوم واحد، بحيث يمكن ان تنطبق على كافة تلك الإجراءات –ومنها التبليغات القضائية- وهو ما اصطلح على تسميته بـ(الإجراءات القضائية).ان البحث في الطابع الاجرائي للتبليغ القضائي، يوجب بالضرورة التطرق إلى مفهوم الاجراء القضائي على وجه الاستقلال، حيث ان معرفة الجزء لا يتم الا بعد معرفة الكل .هناك اجماع لدى الفقه الاجرائي(1). على ان الاجراء القضائي هو ذلك المسلك الايجابي أو العمل القانوني والذي يكون جزءاً من خصومة قائمة ويرتب عليها القانون أثراً إجرائياً مباشراً. ويبدو جلياً من خلال التعريف للإجراء القضائي انه حتى يمكن وصف العمل بأنه إجراء قضائي لابد ان يتوفر فيه عناصر ثلاث وهي:

أولاً. ان يكون العمل قانونياً وذو مسلك ايجابي: وبمفهوم المخالفة لا تعد من الإجراءات القضائية أعمال الذكاء المحضة، كتلك التي يقوم بها القاضي لدراسة أوراق القضية(2).كذلك لا تعد الأعمال الممهدة للقيام بأعمال قانونية في الخصومة أعمالاً إجرائية ومثالها الحضور أمام القضاء(3). والتي تعد بطبيعة الحال عبارة عن مسلك سلبي ولا ترقى للوصول إلى الإجراءات القضائية.

ثانيا. ان تترتب على الإجراءات القضائية آثاراً إجرائية مباشرة: وهنا تنبغي الإشارة ان المقصود بالأثر الإجرائي المباشر هو ما يؤثر في الدعوى وذلك بطريق مباشر والتأثير اما يكون بتعديلها أو بانقضائها، وسواء كان التأثير في بداية الدعوى أو خلال سيرها(4). وعلى هذا الأساس لا يعد إجراءاً قضائياً التنازل عن الحق الموضوعي محل الدعوى السبب في ذلك ان الأثر الإجرائي المترتب على التنازل عن الحق هو انقضاء الدعوى وهو ليس أثراً مباشراً لها(5).

ثالثا. ان يكون الاجراء القضائي جزءا من الخصومة: عليه فلا تعد من الإجراءات القضائية تلك الاعمال التي تصدر عن الاشخاص خارج نطاق الدعوى، ومثال ذلك اعذار الخصم أو عقد توكيل محام فهذه الاعمال تقع خارج نطاق الدعوى(6).خلال استعراض مفهوم الاجراء القضائي وبيان مدى امكانية اعتبار العمل اجراءاً قضائياً، يتضح وبشكل لا يقبل الشك الحقيقة القائلة باعتبار التبليغات القضائية من قبيل الإجراءات القضائية. فالتبليغات القضائية هي عبارة عن مسلك ايجابي في مسار الدعوى، يتوقف عليها باقي الإجراءات القضائية اللاحقة بحيث لا يمكن السير في الدعوى إذا لم تكن التبليغات قد تمت وفقاً للنصوص المقررة وذلك من اجل ضمان حقوق المتقاضين والحيلولة دون سلب حقوق أحد الخصوم. كذلك تعد التبليغات القضائية جزءاً من الدعوى وذلك لان مرحلة التبليغات تبدأ بعد رفع الدعوى، فبعد تحديد اليوم المعين لنظر الدعوى واستيفاء الإجراءات المتقدمة عندها تبلغ صورة من عريضة الدعوى ومستمسكاتها ولوائحها بواسطة المحكمة إلى الخصم مع دعوته للمرافعة بورقه التبليغ. فضلاً عن ذلك فان التبليغات القضائية يترتب عليها آثار اجرائية مباشرة، وتتمثل في إعلام الشخص بمضمون التبليغ الموجه إليه من المحكمة، وفي الوقت نفسه يلزم ان يكون التبليغ صحيحاً حتى يترتب آثاره والا ترتب عليه بطلان التبليغ والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا، هو عن الطبيعة القانونية للتبليغات القضائية وذلك بوصفه أحد الإجراءات القضائية. يرى جانب من الفقه(7). ان الإجراءات القضائية هي أعمال قانونية بالمعنى الواسع. الا ان الخلاف يثار حول مدى إمكانية اعتبار تلك الإجراءات تصرفات قانونية. والذي يهمنا من الإجراءات القضائية بالطبع ما يتعلق بالتبليغات، فنتساءل هل تعد التبليغات القضائية من قبيل التصرفات القانونية ام لها وصف أو تكييف آخر؟ التصرف القانوني وكما عرفه الدكتور السنهوري(8). هو عبارة عن اتجاه الإرادة نحو إحداث اثر قانوني معين، فالعقد هو تصرف قانوني قائم على أساس تطابق ارادتين والوعد بجائزة تصرف قانوني قائم على ارادة منفردة هكذا… .يرى اتجاه في الفقه الفرنسي(9). ان الاجراء القضائي يعد من قبيل التصرفات القانونية وهو بهذا الوصف يؤكد على ضرورة الرجوع إلى القانون المدني وذلك فيما يتعلق بتكييف الإجراء القضائي شانه في ذلك شان باقي التصرفات القانونية الاخرى. وطبقاً لهذا الاتجاه، تعد التبليغات القضائية من قبيل التصرفات القانونية، مما يقتضي الاعتداد بعيوب الارادة وبالسبب وذلك فيما يتعلق بصحة التصرف ووجوده، بمعنى ان الارادة حره في اتباع أية وسيله لا جراء التبليغات ومن دون التقيد بشكلية معينة. وعلى عكس الرأي السابق تماما، هناك اتجاهاً(10). معاكساً للرأي الأول يؤكد بحق عدم صحة الرأي القائل باعتبار الاجراء القضائي من قبيل التصرفات القانونية، بل يعد من قبيل الأعمال القانونية. ويبرر هذا الاتجاه موقفه بالقول ان الاجراء القضائي على وجه العموم لا يخضع لقواعد التصرف القانوني المعروف في القانون المدني، بل يخضع لقواعد قانون المرافعات، ومن المعروف ان قواعد المرافعات تتصف بالشكلية، حيث تمثل الشكلية حجر الزاوية في قانون المرافعات مما يفقد عنصر الإرادة أهميته(11).مهما يكن من أمر، فان معيار التفرقة ما بين التصرف القانوني وغيره من الأعمال القانونية ومنها التبليغات القضائية – يكمن في سلطان الارادة، ففي حين أعطى المشرع للارادة سلطاناً فيما يتعلق بالتصرفات القانونية، وذلك لتتمكن من تنظيم مصالح معينه وفقاً لرغبتها وذلك في حدود التنظيم القانوني، نجد ان الاعمال القانونية بالمعنى الضيق ينكمش دور سلطان الارادة فيها لتسير على النحو المرسوم لها قانوناً(12). نستنتج ان التبليغات القضائية تعد من قبيل الاعمال القانونية بالمعنى الضيق، وذلك لان الاعمال الصادرة عن اشخاص التبليغ القضائي لا يجعلها تصرفات قانونية، وذلك لفقدانها المقومات والعناصر التي يتمتع بها التصرف القانوني لدى كل منهم، وكما يأتي بيانه:

أولاً. أعمال القائمين بالتبليغ: لقد حدد المشرع الجهات التي يجب عليها اجراء التبليغات القضائية(13). وبين الطريقة التي يتم بموجبها اجراء تلك التبليغات، حيث يتمثل عمل هذه الجهات بوجوب ايصال ورقة التبليغ إلى الاشخاص أو الجهات المخاطبة بموجبها وذلك حتى تكون على بينة من امرها فيما يتعلق بالدعاوى المرفوعة عليها وتتمكن من الحضور في الزمان والمكان المعينين، وذلك لاعمال مبدأ المواجهة. والمشرع إذ يحدد هذه الجهات ويحدد صلاحيتها، فهو لا يترك للقائمين بها حرية اتخاذ ايه اجراء ما لم ينص عليه القانون، حيث يترتب على مخالفة الإجراءات المنصوص عليها بطلان ذلك الإجراء المتمثل بالتبليغ. عليه فان القائمين بالتبليغات لا يعملون بارادتهم وانما بإرادة القانون الذي يلتزم به فهم في تطبيقه للقانون يؤدون واجبا تجاه الدولة(14). فاذا ما اتم القائم بالتبليغ عملية التبليغ وفقاً للشكل المقرر في القانون عد ناتجاً لا ثاره وان اقتنع القائم بالتبليغ بعدم فعالية هذا الإجراء، مثلاً عند الصاق الورقة على الباب وذلك لان العبرة في التبليغات بالعلم القانوني دون العلم الفعلي. اما إذا راى القائم بالتبليغ ان هناك طرقاً اسهل وانجح في اتمام التبليغات غير المنصوص عليها في القانون فلا عبرة لتلك التبليغات وذلك لانها جاءت مخالفة للشكل المقرر قانونا. وهناك العديد من الامثلة والتي تؤكد وجوب التزام القائم بالتبليغ للطريقة التي حددها المشرع دون ان يكون للارادة الدور الفعال فيها(15).

ثانيا. اعمال طالب التبليغ: ان طالب التبليغ وهو في الغالب المدعي، ان كانت ارادته حرة في تحريك الدعوى المدنية على اعتبار ان القضاء المدني مطلوب وليس متحركاً، فهو (أي المدعي) اما ان يرفع الدعوى أولاً يرفعها، لكن إذا قام برفع دعواه، فان إرادته تتقيد فيما بعد بالشكلية التي حددها المشرع على اعتبار ان تلك الشكليات في الإجراءات إنما هي لمصلحة الصالح العام ولا تخص مصلحة شخص معين. فمن الأمور التي يتوجب على طالب التبليغ التقيد بها، هي وجوب قيامه ببيان المحل المختار والذي يختاره لغرض التبليغ(16). وتتولى المحكمة التأكد من المحل المختار في أول جلسة، يكون هذا المحل معتبراً في التبليغات في جميع مراحل التقاضي ما لم يخطر المحكمة بتغير ذلك المحل(17). وفي حال وجود خطأ أو نقص في المحل الذي اختاره المدعي للتبليغات بحيث لا يمكن اجراء التبليغات، هنا يتوجب على المدعي إصلاحه خلال مدة مناسبة والا بطلت العريضة بقرار من المحكمة(18). مهما يكن من أمر، فيظهر خضوع طالب التبليغ للطابع الإجرائي في التبليغات جلياً عندما يتقيد بالوسيلة التي حددها المشرع لا جراء التبليغات دون ان يكون لارادة طالب التبليغ حرية اتباع وسائل أخرى غير تلك التي حددها المشرع، فعلى سبيل المثال لا يكون التبليغ القضائي منتجاً لآثاره، وفي الوقت نفسه يكون غير صحيح إذا قام طالب التبليغ بنفسه بتبليغ خصمه، وذلك لان العبرة في التبليغات القضائية هو العلم القانوني دون العلم الفعلي.

ثالثاً. أعمال المطلوب تبليغه: ان التبليغ القضائي إذا تم وفقاً للنصوص المقررة، بان اتبع القائم بالتبليغ الأوضاع القانونية في التبليغات القضائية وراعى في ذلك كافة المستلزمات اللازمة لتبليغ الأوراق القضائية عد التبليغ القضائي منتجاً لآثاره كقاعدة عامة بغض النظر عن موقف الشخص المطلوب تبليغه وارادته في ذلك. فمن الامثلة على ذلك، اعتبار الشخص المخاطب بموجب ورقة التبليغ مبلغاً بتسلم احد المقيمين معه في محل اقامته من اقاربه واصهاره أو ممن يعمل في خدمته من المميزين(19). ففي هذه الحالة يعد الشخص المخاطب بموجب ورقة التبليغ مبلغاً بغض النظر عن ارادته وسواء أرضي بالتبليغ أم لا. وسواء اتجهت ارادته نحو الاثار المترتبة على التبليغ ام لا، بمعنى ان القانون يعد التبليغ حاصلاً في هذه الحالة وذلك دون الاعتداد بنوايا المطلوب تبليغه رضي بذلك ام لم يرض. من ألا مثله الأخرى بهذا الصدد، انه في حال امتناع المطلوب تبليغه عن تسلم ورقه التبليغ عندها يحرر القائم بالتبليغ شرحاً يثبت فيه ذلك ويدون فيه تاريخ ومحل حصول الامتناع ويوقعه ويعد ذلك تبليغاً قانونيا(20). هنا يعد التبليغ معتبراً رغماً عن إرادة المطلوب تبليغه، ورغم انه امتنع عن تسلم ورقه التبليغ. وفيما يتعلق بمنتسبي دوائر الدولة فيتم تبليغهم عن طريق دوائرهم وترسل الورقة المراد تبليغها بدفتر اليد أو بالبريد المسجل المرجع ويعد المخاطب مبلغاً بتاريخ التسلم ما لم يرد إشعار إلى المحكمة بانتقاله إلى دائرة أخرى(21). وهذا يعنى ان المخاطب بموجب الورقة يعد مبلغاً بمجرد تسلم دائرته ورقة دون ان تتوقف على موافقة المطلوب تبليغه. نستنتج من خلال استعراض الاعمال الصادرة عن القائمين بالتبليغ وعن طالب التبليغ والمطلوب تبليغه استبعاد الاتجاه الذي يرى ان الاعمال الإجرائية ومنها التبليغات القضائية من قبيل التصرفات القانونية، وذلك لان طبيعة هذه الاعمال تؤكد انحسار دور الإرادة في مجال الاعمال الإجرائية على عكس دور الإرادة في التصرفات القانونية والتي تشغل حيزا واسعاً ويمثل أهم حلقة في تلك التصرفات.

_____________________

1- راجع د. فتحي والي، الوسيط، مصدر سابق، ص350، د. عبد المنعم الشرقاوي، د. فتحي والي، مصدر سابق، ص41. د. محمود محمد هاشم، مصدر سابق، ص153، د. احمد مسلم، أصول المرافعات، دار الفكر العربي، القاهرة، 1978، ص389. د. ادم وهيب النداوي، فلسفة إجراءات التقاضي في قانون المرافعات، ط1، جامعة بغداد، 1988، ص18.

2- د. وجدي راغب، مصدر سابق، ص25.

3- Betti (emilio) per una classificazione degli atti procee ssuali di parte. Rav. Dr. proc. Civ. 1928، 1. P. 107.

أشار اليه فتحي والي، الوسيط، مصدر سابق، ص 350.

4- د. وجدي راغب، مصدر سابق، ص26.

5- أستاذنا د. عباس العبودي، شرح احكام المرافعات، مصدر سابق، ص131.

6- د. نبيل إسماعيل عمر، إعلان الأوراق القضائية، ط1، منشاة المعارف، الإسكندرية، 1981، ص15.

7- د. وجدي راغب، مصدر سابق، ص26.

8- د. عبد الرزاق السنهوري، التصرف القانوني والواقعة القانونية، دروس لقسم الدكتوراه، 1953-1954، ص3. اشار اليه د. ادم النداوي، فلسفة إجراءات التقاضي، مصدر سابق، ص21-22.

تجدر الاشارة ان د. فتحي والي لا يؤيد التعريف الذي اورده السنهوري بخصوص التصرف القانوني مؤكداً ان اتجاه الارادة نحو الاثار القانونية لا يعد عنصراً من عناصر تعريف التصرف القانوني، فالتصرف القانوني قد يوجد ولو لم تتجه الارادة نحو الاثار القانونية، فالارادة تتجه نحو غاية معينة ولا تتجه في كل الاحوال إلى الاثار القانونية، راجع: د. فتحي والي، نظرية البطلان في قانون المرافعات، ط1، منشاة المعارف، الإسكندرية، 1959، ص91.

9- سوليس: محاضرات ص426. موريل: بند 382 ص311، اشار اليه د. عبد المنعم الشرقاوي، د. فتحي والي، مصدر سابق، ص41.

10- د. فتحي والي، الوسيط، مصدر سابق، ص351، د. نبيل إسماعيل عمر، إعلان الأوراق القضائية، مصدر سابق، ص17.

11- د. وجدي راغب، مصدر سابق، ص26-27.

12- د. فتحي والي، نظرية البطلان، مصدر سابق، ص92.

13- راجع الفقرة (1) من المادة (13) مرافعات عراقي.

14- ان الارادة وان كانت ذو دور ضئيل في الإجراءات القضائية، الا ان ذلك لا يعني انعدامها تماماً، فالقائم بالتبليغ له ارادة واضحة وذلك عند قيامه باجراء التبليغات فالارادة متجهة نحو هذا الاجراء، الا ان الإرادة هنا ليست كتلك في التصرفات القانونية والتي لها ان تحدد ما يمكن تحقيقه وما يمكن استبعاده في تلك التصرفات.

15- راجع الفقرات (2،3،4،5) من المادة (14) مرافعات، كذلك الفقرات (1 و2) من المادة (20) والفقرة (2) من المادة (21) مرافعات عراقي.

16- راجع الفقرة (3) من المادة (16) مرافعات عراقي وتجدر الاشارة هنا ان ارادة طالب التبليغ وان كانت حرة في اتخاذ المحل المختار للتبليغ، الا انه بعد ان يحدد ذلك المحل فانه يتوجب عليه ان يتعامل مع التبليغات الموجهة اليه عن طريق ذلك المحل وليس أي محل اخر، فضلاً عن التزامه باخبار المحكمة عن أي تغير يحدث بذلك المحل بمعنى ان إرادته ليست مطلقة في اتخاذ ما يشاء من أماكن لتجرى التبليغات على ضوئها .

17- راجع الفقرات (1-2) من المادة (58) مرافعات عراقي.

18- راجع الفقرة (1) من المادة (50) مرافعات عراقي

19- راجع الفقرة (2) من المادة (14) وكذلك (18) مرافعات عراقي.

20- راجع الفقرة (1) من المادة (20) مرافعات عراقي.

21- راجع الفقرة (11) من المادة (21) مرافعات عراقي.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .