الدفع بعدم تنفيذ العقد
سعيد بن ناصر الحريسن
عند اطلاقنا لكلمة «العقد» نجدها مشعرة بالتوثيق والالتزام، والعلاقة بين طرفين وأكثر. فهو وسيلة التعامل التي يمكن القول إنها تدخل ضمن تصرفاتنا اليومية، من غير الالتفات لابرامه وذلك لكون العقود الضرورية اليومية عقوداً فورية، والالتزامات فيها يكون الوفاء بها معجلاً وفي الحال.

ولكن هنا لا أتحدث عن شأن متعلق بالعقود التي تدعو لها ضرورات الحياة اليومية، ولكن أتناول موضوعاً متعلقاً بالعقود المحررة ذات الطابع التجاري والملزم للجانبين والتي بناء عليها تنشأ التزامات متقابلة في ذمة كل من المتعاقدين فالبيع – مثلاً – عقد ملزم للجانبين فيلتزم المشتري بتسليم الثمن، ويلتزم البائع بنقل ملكية المبيع للمشتري وتمكينه من التصرف في المبيع.. فهنا كل واحد من طرفي العقد دائن للآخر ومدين له. بخلاف العقد الملزم لجانب واحد فيكون أحد طرفي العقد دائناً والآخر مديناً.

وقد يشوب هذه الالتزامات التعاقدية المتقابلة تقصير من أحد المتعاقدين في القيام بتنفيذ ما في ذمته من التزام، ويكون أمام الطرف الآخر في العقد إحدى وسيلتين:

1- اما الدفع بعدم تنفيذ العقد وبعبارة أخرى: الامتناع المشروع عن الوفاء بالعقد.

2- واما فسخ العقد، والذي يعتبر من الشروط الضمنية في العقود الملزمة للجانبين.

وأتناول في هذا المقام الوسيلة الأولى: وهي الدفع بعدم تنفيذ العقد. فكما سبق ان أوضحت ان العقود الملزمة للجانبين إذا كانت الالتزامات فيها مستحقة الوفاء جاز لكل واحد من المتعاقدين ان يمتنع عن أداء التزامه، في حالة عدم قيام المتعاقد الآخر بأداء ما عليه من التزام تعاقدي ناشئ بسبب العقد.

وهذا الامتناع عن أداء الالتزام هو «التمسك بعدم تنفيذ العقد» والأصل في هذا المبدأ هو المبدأ العام الذي ينص على «الحق في حبس الأصل» ويعتبر الدفع بعدم تنفيذ العقد تطبيقاً لهذا الأصل، ضمن إطار العقود الملزمة للجانبين.

ولعله من المناسب ان يسمى كل «حق في حبس الأصل» في أي عقد ملزم للجانبين «حق الدفع بعدم تنفيذ العقد».

ولكن هنا سؤال: هل يدخل هذا الحق في العقود الملزمة لجانب واحد؟ مثل عقد العارية، وعقد الرهن ونحوهما.

فالمعروف ان عقد العارية أو (الاستعارة) عقد ملزم لجانب واحد لكن من الممكن ان يدخل على العقد تأثيرات فيتحول بناء عليها إلى عقد ملزم للجانبين. فلو ان شخصاً استعار شيئاً بإذن مالكه وأنفق عليه المصروفات الضرورية التي لا يمكن استغلال منفعته دون فعلها فمن المعروف ان له الرجوع بهذه المصروفات التي أنفقها على المالك الأصلي. فمن بيده العين المعارة هنا يعتبر دائناً للمالك بهذه المصروفات، وفي نفس الوقت مديناً له برد العين المعارة (محل عقد العارية).

فمن هنا أرى أنه يمكن القول بتطبيق هذا المبدأ «الدفع بعدم تنفيذ العقد» في العقود الملزمة لجانب واحد، ولا نستطيع ان نقول بحصرها في إطار العقود الملزمة لجانبين فقط.

ولا يكفي في الالتزام ان يكون ملزماً للجانبين حتى نقول بجواز دفعه بالامتناع عن التنفيذ، ولكن لابد ان يكون هذا الالتزام حالاً أيضاً فالعقود المدنية التي يكون أحد الالتزامين فيها مؤجلاً نقول (لا يجوز الأخذ فيها بهذا المبدأ). لأنه قد يتطرق التقادم إلى أحد الالتزامين في العقد الملزم للجانبين، وعليه لا نستطيع الأخذ بهذا المبدأ والدفع بعدم تنفيذ العقد، لكونه اجباراً بطريق غير مباشر على تنفيذ التزام طبيعي غير واجب التنفيذ.

ثم نأتي على نقطة مهمة هي مسألة (اعذار الطرف الآخر في العقد) فلا يلزم ان يقوم الطرف المتمسك بهذا المبدأ «الدفع بعد تنفيذ العقد» بابلاغ الطرف الآخر باعماله والتمسك به لأنه ليس من الضرورة تبليغه بذلك كما هو الحال في مسألة فسخ العقد، ويكفي لاعلامه بذلك تصرف المتمسك بهذا المبدأ، وامتناعه عن أداء التزامه بحجة عدم قيام الطرف الآخر بأداء التزامه المقابل.

لكن هنا نأتي على نقطة جديرة بالاهتمام هي (الشروط الجزائية في العقود) هل تعتبر داخلة في إطار (مبدأ الدفع بعدم التنفيذ) لأنه قد يترتب عليها عدم الوفاء بكامل الاستحقاقات العقدية للطرف المطبق ضده هذا الشرط. فأرى: ان من قال بدخولها في إطار هذا المبدأ يرى ضرورة اعذار الطرف الآخر في العقد بالتمسك بهذه الشروط، ولا يكفي مجرد وجودها ضمن بنود العقد. لأن كل التزام بالتعويض عن التأخير، لا ينشأ إلاّ بالأعذار طبقاً للقواعد العامة.

ولعله من المناسب لمن يتمسك بهذا المبدأ، عدم اعذار الطرف الآخر في العقد، لأن ذلك يوجد أمامه فرصة الاستفادة من هذا المبدأ (الدفع بعدم تنفيذ العقد) فيكون بذلك إما ملزماً للطرف الآخر بأداء الالتزام المقابل، أو حاثاً له على إقامة دعوى (ضد المتمسك بالمبدأ) وحينها يكون لمن تمسك بالمبدأ، استغلاله كدافع قوي في القضية.

ومن هنا يتبين لنا ان هذا المبدأ يمر في تطبيقه بمرحلتين في الغالب، (مرحلة غير قضائية) وهي مرحلة التمسك بالمبدأ. وهي مجرد امتناع ولا تحتاج إلى عمل إيجابي.

والمرحلة الثانية (مرحلة قضائية) فالطرف الآخر في العقد قد يلجأ إلى القضاء برفع دعوى ضد المتمسك بالمبدأ (المدعى عليه) ولعله يمكننا القول ان المرحلة الثانية هي (مرحلة الرقابة القضائية) على تنفيذ هذا المبدأ.

٭ باحث قانوني

إعادة نشر بواسطة محاماة نت