دراسة وبحث قانوني عن الحقوق والحريات الأساسية في الدساتير المغاربية، المغرب ـ الجزائرـ موريتانيا

-_-_-_-_-_-_-_-_-_-_-_-_-_-_-_-_-_-_-_-_-_-
قصة الحقوق قصة الحياة، حياة الإنسان في المجتمع، وقد ولدت مع الإنسان حقوقه وسايرت نشأته، وتحولت مع الزمان، لتحظى باهتمام أكبر منذ الحرب الباردة.

إن الحرية حق طبيعي للإنسان، بل هي أقدس حقوقه وأغلاها، يحرص عليها حرصه على الحياة. وقد أدركت شعوب العالم أهمية الحرية فناضلت منذ البدء من أجلها وعلى مر العصور، حيث قطعت البشرية في تاريخها الطويل شوطا مهما في سبيل القضاء على المظالم وأنواع القهر، وذلك رغبة في تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها، فسعت إلى إصدار إعلان عالمي يؤكد حقوق الإنسان وحرياته ويضمنها ويحميها ويصونها، وتم وضع ترسانة مهمة من القوانين والتي من شأنها وضع منظومة قانونية متكاملة تعزز هذا التوجه وخاصة مع مطلع القرن العشرين.

الحق بمعناه العام هو الرخصة التي يقررها الشرع لشخص بالنسبة لفعل معين، ويقابله الواجب وهو الالتزام الذي يقرره الشرع بالنسبة لفعل معين. وقانونا الحق عبارة عن مصلحة يحميها القانون، وعرف بأنه قدرة على السلوك بصورة معينة يمنحها القانون ويحميها تحقيقا لمصلحة يقرها.

وحقوق الإنسان اصطلاحا يطلق على “مجموعة من الحقوق الطبيعية والحريات الأساسية التي يتمتع بها الفرد كانسان ، فترعى نطاق حريته، كما تعمل على ازدهار شخصيته وسعيه الدائم لنيل المثل العليا”. فهي تلك الحقوق الطبيعية الأصلية التي نشأت مع الإنسان منذ الخلق الأول وتطورت مع الحضارة، ويجب أن تثبت لكل فرد في كل زمان ومكان بمجرد كونه إنسانا، وتميزه عن سائر الكائنات الأخرى.

ومن ناحية المفهوم القانوني لا يوجد تعريف محدد وثابت وشامل لمفهوم حقوق الإنسان، وذلك لاختلاف الثقافات والشعوب والأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ويمكن تعريفها ب ” مجموعة القواعد والمبادئ المنصوص عليها في الإعلانات والمعاهدات الدولية والإقليمية والدساتير الوطنية التي تؤمن حقوق وحريات الأفراد والشعوب، وهي لصيقة بالإنسان، وغير قابلة للتنازل عنها وتلزم الدولة بحمايتها من الاعتداء”.

وحسب منظمة الأمم المتحدة هي ” ضمانات قانونية عالمية لحماية الأفراد والجماعات من إجراءات الحكومات التي تمس الحريات الأساسية والكرامة الإنسانية”. ويعرفها رينيه كاسان أحد واضعي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأنها” فرع خاص من الفروع الاجتماعية يختص بدراسة العلاقات مع الناس استنادا إلى كرامة الإنسان وتحديد الحقوق والرخص الضرورية لازدهار شخصية كائن إنساني”.

وبصفة عامة يمكن تعريف حقوق الإنسان على أنها تلك الحقوق الأصلية في طبيعتها، والتي بدونها لا نستطيع العيش كبشر، وهي أساس الحرية والعدل والسلام، ومن شأن احترامها إتاحة فرصة تنمية الفرد والمجتمع تنمية كاملة.فهي حقوق تولد مع الإنسان وتتميز بأنها واحدة في أي مكان في المعمورة، فهي ليست وليدة نظام قانوني معين، وتتميز بوحدتها بحيث يجب احترامها وحمايتها[[1]]url:#_ftn1 .

أما الحريات فقد جاء تعريفها في الإعلان الفرنسي للحقوق والحريات صحيحا في معناه. فالحريات قوامها القدرة على عمل كل شيء لا يضر بالآخرين، ولا تحدد ممارسة الحقوق الطبيعية لكل إنسان إلا بالحقوق التي تؤمن للأعضاء الآخرين في المجتمع، ولا يجوز أن تحدد هذه الحدود إلا بالقانون[[2]]url:#_ftn2 . وحسب الأستاذ كوليار الحريات العامة “حالات قانونية مشروعة ونظامية حيث يسمح للفرد أن يتصرف كيفما شاء ومن دون قيود في إطار مضبوطة من طرف القانون الوضعي، ومحددة تحت رقابة قاض، من قبل سلطة بوليسية مكلفة بحفظ النظام العام، هذا القانون الذي يكون محميا بواسطة عمل قضائي[[3]]url:#_ftn3 .

وبصفة عامة إنها جانب من حقوق الإنسان الذي يمنح للفرد في كل مجالات الحياة حرية اختيار سلوكه بمحض إرادته، وهذه الحقوق تحظى بحماية القانون الوضعي الذي يرقى بها في النظام الوطني إلى المقام الدستوري، ويسمو بها في المجال الدولي إلى موقع الأولوية والقداسة عن التشريعات الوطنية للدول.

إن الحقوق الأساسية للإنسان لها تاريخ طويل تمتد جذوره إلى الحضارات الأولى التي عرفتها البشرية[[4]]url:#_ftn4 . حيث استقى حقوق الإنسان أصوله من نظريات القانون الطبيعي ومن المذاهب السياسية لنظريات العقد الاجتماعي التي سبقت الثورة الفرنسية، وأثناء اندلاع الثورات البورجوازية، احتل منزلة القانون الوضعي بتكريسه في إعلانه سنة 1789 [[5]]url:#_ftn5 . وابتداء من هذا الحدث عرف هذا الحقل دورا واتساعا كميا ونوعيا، وأخذت معظم الدول الحديثة تهتم بهذا الميدان في حياتها الدستورية. وفي عام 1948 شكل الإعلان العالمي الصادر عن هيأة الأمم المتحدة، موضوعا لحقوق الإنسان والحريات، جاعلا من أحكامه قانونا دوليا بين الأمم. وبعد مرور 10 سنوات تعزز هذا الحقل بإصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1966 الميثاق الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية والميثاق الدولي المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية[[6]]url:#_ftn6 .

أطلق على الحقوق والحريات تسمية الحقوق والحريات الفردية في عصر ازدهار المذهب الفردي على أساس أنها مقررة ليتمتع الفرد بها، ثم أطلق عليها بعد ذلك الحقوق المدنية للدلالة على مضمونها باعتبار أن الفرد عضو في جماعة مدنية منظمة. وفي الدساتير الحديثة التسمية الأكثر استخداما هي الحقوق والحريات وذلك بسبب تضمينها امتيازات للأفراد في مواجهة السلطة العامة من ناحية، وإلى عموميتها وتمتع جميع الأفراد بها بصفة عامة على قدم المساواة وبدون تمييز بين المواطنين والأجانب من جهة ثانية.

ولقد أصبحت اليوم جزءا من دساتير أغلب الدول، وكرست كل القوانين التي أصدرها المجتمع الدولي الدعوة الصريحة لضرورة حمايتها بما يضمن صيانتها وعدم انتهاكها، وأصبح هذا الموضوع من أهم علوم القانون والعلوم السياسية، وحظي باهتمام كبير من قبل المفكرين والحقوقيين والفاعلين في مجال الحريات قصد إثراءه.

مع بداية القرن العشرين سجلت عودة قوية للحقوق وبوثيرة متسارعة، خصوصا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث تم إغناء المضمون المادي للنصوص الدستورية بالحقوق والحريات، إذ لا يخلو أي دستور في العالم من أحكام تتعلق بحقوق الإنسان والحريات الأساسية، مما جعل الدساتير تظهر وكأنها مواثيق اجتماعية[[7]]url:#_ftn7 .

لقد اقتبست العديد من الدساتير الوطنية الصادرة بعد 1948 أحكامها العامة في تعداد حقوق المواطنين وتحديد مفاهيمها من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهكذا اهتمت الدول المغاربية بتضمين دساتيرها اعترافا بالحقوق والحريات نظرا لأهمية إقرارها بموجب قواعد دستورية، وتم ترسيخ ترسانة من الحقوق والحريات والضمانات ترقى في مجملها إلى مستوى المجتمعات الديمقراطية .

وتظل قضية الحرية والإصلاح الديمقراطي الحلقة المركزية في التطور السياسي والاجتماعي للمجتمع المغاربي، حيث أضحت مطلبا مشتركا لمختلف الفاعلين و النشطاء السياسيين ولقطاعات واسعة من الشعب[[8]]url:#_ftn8 . ولعل كلمة حرية أكثر كلمات القاموس السياسي استعمالا عند عرب اليوم[[9]]url:#_ftn9 . وقد أدى اتساع المطالبة بالديمقراطية والحرية السياسية إلى استجابة الأنظمة السياسية المغاربية ودخولها في مجموعة من الإصلاحات السياسية والدستورية الجوهرية أبدت اهتماما كبيرا لبناء دولة الحق والقانون ولمسألة الحقوق والحريات، سواء من حيث توسيع مجالها، أو من حيث تعزيزها من خلال الضمانات التي توفرها لممارسته.

انطلق المغرب منذ استقلاله في مسيرة بناء دولة القانون والديمقراطية ، هذه المسيرة التي تبلورت منذ الدستور الأول ، ومن بعده الدساتير اللاحقة، الذي التزم فيه بالمواثيق الدولية وإقرار مجموعة من الحقوق ، ليتوج بدستور 1992 الذي تم التأكيد فيه على التزام المغرب بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، وخصص لها بابا مستقلا. وتواصل النهج ذاته مع دستور 1996 الذي نص على تشبث المملكة بجميع المبادئ والحقوق والحريات التي تقتضى بها مواثيق المنظمات الدولية التي هي عضوا فيها، ليتعزز هذا المفهوم أكثر في الدستور الجديد 2011 والذي يمكننا الحديث عن أنسنة حقوقية قوية طبعت هذا الدستور في الجانب المتعلق بالحقوق والحريات. ففي إشارة قوية الدلالات بوأ دستور 2011، الموسوم بدستور حقوق الإنسان، الحقوق والحريات كما هي متعارف عليها عالميا، مرتبة رفيعة جعلتها بحق واسطة عقده وخيطه الناظم. فقد شكل الحضور القوي والوازن لهذه الحقوق، من التصدير إلى أخر فصل منه، السمة البارزة التي تنم عن إرادة قوية لإعلاء شأن هذه الحقوق والحريات في مختلف تجلياتها، وتضمن جردا شموليا للأجيال الثلاثة لحقوق الإنسان على غرار الدستورين الألماني والبرازيلي[[10]]url:#_ftn10 . فقد حضرت في هذا الدستور مختلف الحقوق والحريات وبوأ لها مكانة متميزة في الباب الثاني، والذي يتضمن 21 فصلا ركزت على المضامين الحقوقية وإحالات عامة بلغت 60 إشارة في هذا المجال.

والجزائر بدورها كانت دائما واعية بضرورة احترام حقوق الإنسان رغم بعض العثرات الناتجة عن الأزمات التي عرفتها قبل الاستقلال وبعده، فعملت منذ البداية على تضمين دساتيرها اعترافا بالحقوق والحريات العامة وبوأتها مكانة مهمة، حيث أقرت مجموعة من الحقوق والحريات ضمن فصل كامل في كل الدساتير واختلف مجالها حسب التوجه الذي انتهجه كل دستور.

وبعد الاستقلال اختارت الجزائر التوجه الاشتراكي ونظام الحزب الواحد وكرست هذه الخيارات بوصفها مبادئ دستورية مهمة في دستوري 1963 و 1976، والذين ضيقا كثيرا من نطاق الحقوق والحريات السياسية لهذا الغرض، حيث أن كل هذه الحقوق تخدم أهداف الحزب الواحد الذي يؤطر المواطنين[[11]]url:#_ftn11 .

وفي أواخر الثمانينات عرفت الجزائر تغييرا جذريا وخاصة بعد أحداث أكتوبر 1988 نتج عنه إقرار دستور1989 يقوم على مبادئ جديدة تماما، التعددية الحزبية، اعتماد اقتصاد السوق، وتم التنصيص على مجموعة من الحقوق والحريات والتي لا يمكن الحد منها إلا بالقانون[[12]]url:#_ftn12 . وفي سنة 1996 تم إقرار دستور جديد والذي جاء أكثر تحررا وتطورا من الدساتير السابقة فيما يتعلق بموضوع الحقوق والحريات ، والتي جاءت في شكل قائمة وخصص لها فصل خاص يضم 31 مادة.

خضعت موريتانيا لتطورات سياسية هامة، فمنذ استقلالها عرفت ثلاثة دساتير، صدر الأول منها سنة 1959 و أقر مجموعة من الحقوق منها إمكانية تأسيس أحزاب سياسية وتجمعات على أساس احترامها للمبادئ الديمقراطية والسيادة الوطنية ووحدة الجمهورية. وما أن حصلت على الاستقلال التام حتى بادرت إلى وضع دستور جديد سنة 1961 والذي أكد في ديباجته على تعلق الجمهورية الإسلامية الموريتانية بالمبادئ الديمقراطية كما ينص عليها إعلان حقوق الإنسان 1789 والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر 1948، وأقر مجموعة من الحقوق والحريات بما فيها حرية التجمع والتعددية الحزبية، لكن سرعان ما عمل على التضييق على هذه الحريات واتجه نحو إقرار الحزب الواحد الذي كان له الأثر البالغ في الممارسة السياسية وعلى الحقوق والحريات، حيث رسخ شخصانية السلطة. واستمر العمل بهذا الدستور إلى غاية إلغاء العمل بمقتضياته عندما استولى الجيش على السلطة لتدخل البلاد في فترة استثنائية استمرت إلى حدود وضع دستور جديد سنة 1991 والذي يمكن اعتباره أهم تجربة دستورية وسياسية عرفتها موريتانيا، حيث أعاد الأمل إلى نفوس المواطنين بالعيش في ظل تجربة ديمقراطية تصان فيها كرامة الفرد ويسمح له بممارسة حقوقه وحرياته العامة[[13]]url:#_ftn13 . وأولى اهتماما كبيرا لهذه المسألة، سواء من حيث توسيع مجال هذه الحقوق أو من حيث الضمانات التي يوفرها لممارستها، حيث أدرج قائمة مفصلة للحقوق والحريات العامة في متن الدستور تضم 22 مادة.

تتخذ الدراسة من المفهوم السياسي الجغرافي للمغرب العربي نطاقا لها، إلا أن الدراسة ستقتصر على ثلاث دول وهي المغرب، الجزائر، موريتانيا، على اعتبار أن هذه الدول تتوفر، في الوقت الراهن، على دساتير سارية المفعول، بينما تونس وليبيا لا زالت لم تصدر بعد دستوريها بعد التحول الذي شهدته بعد الربيع الديمقراطي والذي أدى بسقوط نظامي زين العابدين بن علي وامعمر القدافي.

وستنصب الدراسة بوجه خاص على التجارب الدستورية الأخيرة، الدستور المغربي لسنة 2011، الدستور الجزائري لسنة 1996 وفق آخر تعديل 2008، الدستور الموريتاني لسنة 1991 المعدل سنة 2006، باعتبارها استفادت من التجارب الدستورية السابقة، مع العودة إلى الدساتير السابقة كلما دعت الضرورة لذلك.

وتهدف الدراسة إلى التطرق إلى موضوع حقوق الإنسان والحريات العامة في ظل هذه الدساتير، والتعرف عليها وعلى ضماناتها، وإبراز ما تنطوي عليه من آليات فعلية لحماية هذه الحقوق والحريات، ومدى انسجام هذه النصوص الدستورية مع المعايير الدولية المتعلقة بهذا الشأن.

فكيف تعاملت الدساتير المغاربية مع موضوع الحقوق والحريات؟ ماهي مكانة حقوق الإنسان والحريات العامة في هذه الدساتير؟ ماهي الآليات والميكانيزمات الدستورية الضامنة لممارسة فعلية للحقوق والحريات في هذه الدساتير؟.

للإحاطة بهذه التساؤلات يقتضي الأمر اعتماد دراسة قانونية تحليلية
مقارنة مع أسلوب وصفي، ولهذا ارتأينا تناول الموضوع في محورين نخصص الأول لمكانة الحقوق والحريات ومضمون مختلف صورها في متن هذه الدساتير(الفرع الأول) وفي المحور الثاني نتطرق للضمانات الدستورية لهذه الحقوق والحريات ( الفرع الثاني).

الفرع الأول: أنواع الحقوق والحريات الأساسية في الدساتير المغاربية.

أخذت الأنظمة المغاربية على غرار جل الأنظمة العالمية بمبادئ المذهب الدستوري الذي ساد في العالم، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تستوحي الدساتير المغاربية فلسفتها العامة ومبادئها الأساسية من الديمقراطية الغربية مع تشبثها بالثوابت الدينية والحضارية والتاريخية التي تميز هذه الشعوب، حيث أقرت مجموعة من المبادئ التي تشكل في الواقع ما يمكن تسميتها بمقومات الدولة، إلى جانب التمسك بالديمقراطية كمنهج للحكم وإقرار الحقوق والحريات كمقتضى أساسي[[14]]url:#_ftn14 .
إن معالجة المؤسس الدستوري المغاربي لموضوع الحقوق والحريات الأساسية لا تختلف عن غالبية الدساتير العالمية بإقرار مجموعة من الحقوق والحريات التي تشمل الجيلين الأول والثاني من حقوق الإنسان، و تحتل مكانة مهمة، حيث تصدرت هذه الدساتير مقدمات أكدت تشبثها بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وسيادة القانون وإرساء قواعد دولة المؤسسات، سواء بطريقة مباشرة (المغرب وموريتانيا)، أو غير مباشرة (الجزائر). وخصصت فصولا متعددة للحقوق والحريات، غير أن مجال هذه الحقوق يختلف حسب التوجه السياسي الذي انتهجه المؤسس الدستوري من قطر لآخر، ومن دستور لآخر من مرحلة لأخرى في القطر الواحد.
يتخذ تصنيف الحقوق والحريات العامة صورة وظيفية، ذلك أن لائحتها وتعدادها يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الإنسان ووظائفه في المجتمع. وقد تعددت تقسيمات الفقهاء لهذه الحقوق، غير أن مسألة تصنيفها مسألة شكلية إلى حد كبير، إذ أن اختلاف التقسيمات لا يؤثر في القيمة والمضمون، بل تنطلق من منطلق تجميع هذه الحقوق والحريات في مجموعات رئيسية لتسهيل التعرف على مضمونها.
وعلى العموم يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أقسام، حقوق وحريات الإنسان ككائن طبيعي، تتعلق بكيانه وحياته، وهي حقوق السلامة الشخصية والحياة الخاصة. وككائن اجتماعي، ترعى وجوده داخل المجتمع وتتعلق بفكره وعقله، ويوجد ضمنها الحقوق المدنية والسياسية. و كفاعل اقتصادي يتمتع بحقوق ذات طبيعة خاصة، يقترن وجودها بنشاط الإنسان وحرية نشاطه الاقتصادي.
وتأسيسا على هذا نميز في هذا المجال بين الحريات الفردية أو الخاصة المرتبطة بوجود الإنسان وكينونته وتهم حياته الحميمية (الفقرة الأولى)، والحريات الجماعية أو العامة والتي تهم الإنسان بحكم انخراطه في المجتمع وتعنى بمشاركته في السلطة( الفقرة الثانية)، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (الفقرة الثالثة). وقد انتهجت الدساتير المغاربية أسلوبين مختلفين عند تكريسها لهذه الحقوق، تجسد الأول في التأكيد عليها مباشرة، والثاني في التنصيص عليها في متن الدستور.

الفقرة الأولى: الحقوق والحريات الفردية.

وهي تلك الحقوق والحريات التي يجب أن تتوفر لكل فرد، وهي تترتب للفرد باعتباره شخصا. فهي حقوق طبيعية أزلية تولد معه وتبقى لصيقة بشخصه وذاته، سابقة على وجود الدولة وعلى القوانين الوطنية، وبدون هذه الحقوق لا يمكن أن تتحقق الحقوق الأخرى[[15]]url:#_ftn15 .
ويطلق عليها حقوق الجيل الأول، وتم تكريسها في كافة الأدوات العالمية لحقوق الإنسان وبصورة دقيقة. وشكلت هذه القاعدة بمفهومها العام محور النصوص الدستورية في القرن التاسع عشر، وبالنسبة للدول المغاربية فإن إقرار هذه الحقوق في دساتيرها ليس سوى تتويج لنضال شعوبها وكفاحها ضد الاستعمار.
ونميز في هذا الصدد بين حقوق السلامة الشخصية (أولا) والحريات الخاصة (ثانيا).

أولا: حقوق السلامة الشخصية .

تعد من الحقوق الأساسية التي تتعلق بكيان الإنسان، ومن الحقوق الطبيعية للإنسان. وتتمثل في الحق في الحياة والوجود، والتمتع بالأمان وكل ما يتصل بها، من حق الفرد في سلامته من تحريم التعذيب واعتقاله تعسفا، وتحريم استرقاقه، والحق في الدفاع الشرعي وضمان الأمن الفردي في محاكمة عادلة.

” 1ـ الحق في الحياة. “

يعتبر حق أساسي من حقوق الإنسان وأسماها، بل هو أساسها جميعا. ويعني تحريم أي اعتداء على حياة الإنسان وحريته. وقد ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[16]]url:#_ftn16 ، وتم التأكيد عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[[17]]url:#_ftn17 . وتم التنصيص عليه في مختلف الدساتير الوطنية .
وبالنسبة للدساتير المغاربية انفرد الدستور المغربي الجديد 2011 بالتنصيص، لأول مرة، صراحة على هذا الحق في الفصل 20 بعبارة ” الحق في الحياة هو أول الحقوق لكل إنسان، ويحمي القانون هذا الحق”. ومن خلال التنصيص في الفقرة الأخيرة من الفصل 23 على ” يعاقب القانون على جريمة الإبادة وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وكافة الانتهاكات الجسيمة والممنهجة لحقوق الإنسان”. وهي ثمرة من ثمار تفاعل الدولة مع مطالب وتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة يمكن أن يشكل أرضية مناسبة للإستجابة لمطلب إلغاء عقوبة الإعدام التي تنادي به مجموعة من الفعاليات الحقوقية والمدنية والسياسية.

” 2ـ الحق بالتمتع بالأمن/ الأمان الشخصي. “

حق أي فرد في أن يعيش في أمان واطمئنان وسلامة دون رهبة أو خوف من القبض عليه أو حبسه أو اعتقاله بصفة تعسفية، وحق الفرد في الدفاع الشرعي وضمان الأمن الفردي في محاكمة عادلة. وقد ورد التنصيص على هذا الحق في المادتين 5 و 9 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[18]]url:#_ftn18 .
نصت مختلف الدساتير المغاربية على هذا الحق وتباينت نوعا ما في التأكيد عليه من دولة لأخرى، بل و في القطر الواحد من دستور لأخر.ففي المغرب نصت جميع دساتيره على حق الفرد العيش في أمان بصيغة صريحة حيث ينص الفصل 10 من جميع الدساتير على أنه “لا يلقى القبض على أحد ولا يعتقل ولا يعاقب إلا في الأحوال وحسب الإجراءات المنصوص عليها”. ومن خلال إقرار مبدأ عدم رجعية القوانين المنصوص عليه في الفصل 4 ، والذي يفيد بأنه لا يجوز توجيه التهمة لشخص أو إدانته من أجل فعل لم يكن محل تجريم قبل ارتكابه.

وفي ظل الدستور الجديد تعزز هذا الحق وذلك بدسترة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة من خلال التنصيص صراحة في الفصل 20 ” لكل فرد الحق في سلامة شخصه وأقربائه وحماية ممتلكاته”. ومن خلال العمل على تجريم الاعتقال التعسفي أو السري وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية وكافة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، حيث جاء في الفصل 22 ” لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، وفي أي ظرف، ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة… ممارسة التعذيب بكافة أشكاله، ومن قبل أي أحد، جريمة يعاقب عليها القانون”. ويضيف الفصل 23 ” لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون، الاعتقال التعسفي أو السري والاختفاء القسري من أخطر الجرائم، وتعرض مقترفيها لأقسى العقوبات، ….يعاقب القانون على جريمة الإبادة وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وكافة الانتهاكات الجسيمة والممنهجة لحقوق الإنسان”. ومن خلال التنصيص أيضا على حقوق الدفاع التي تمكن الشخص من الدفاع عن نفسه وعن مصالحه والتي تعتبر حجر الزاوية للديمقراطية[[19]]url:#_ftn19 . هذه الحقوق التي تنطلق من مبدأ البراءة كأصل عام[[20]]url:#_ftn20 ، فقد نص الدستور الجديد صراحة في الفصل 23على أن قرينة البراءة مضمونة، وينص الفصل 119 على أن” كل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي مكتسب للشئ المقضي به”.

ومن بين حقوق الدفاع التي نص عليها الفصل 23 من الدستور الجديد كذلك ، والتي أقرها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[[21]]url:#_ftn21 ، إلزامية إجبار كل شخص تم اعتقاله على الفور وبكيفية يفهمها بدواعي اعتقاله وبحقوقه، ومن بينها حقه في التزام الصمت، ويحق له الاستفادة في أقرب وقت ممكن من مساعدة قانونية، ومن إمكانية الاتصال بأقربائه طبقا للقانون. ويمكن اعتبار أهم المستجدات الدستورية في هذا المجال هو ضمان الدستور للحق في المحاكمة العادلة[[22]]url:#_ftn22 ، من خلال التنصيص: في الفصل 23 على ضمان الحق في محاكمة عادلة. وفي الفصل 120 على أن الحكم يجب أن يصدر في داخل أجل معقول. وفي الفصل 121 على مجانية التقاضي. وفي الفصل 122 على حق الحصول على تعويض عن كل تضرر من خطأ قضائي. وفي الفصل 123 على علانية الجلسات إلا في الحالات التي يقرر فيها القانون خلافا لذلك. وفي الفصل 124 على أن الأحكام تصدر وتنفذ باسم الملك وطبقا للقانون. وفي الفصل 161 على أن جميع هذه الأحكام تصدر معللة وفي جلسة علنية.

وعلاوة على هذا تم التأكيد على الأمان الشخصي من خلال دسترة ضمانات معيارية ومؤسساتية للحقوق والحريات كالتنصيص على القضاء كسلطة والتأكيد على استقلاليتها[[23]]url:#_ftn23 ، ودسترة المجلس الوطني لحقوق الإنسان[[24]]url:#_ftn24 ، والمجلس الأعلى للأمن[[25]]url:#_ftn25 .

وفي الجزائر ورد هذا الحق في جميع دساتيره وتلازم التأكيد على الحق في الأمن مع التصريح بالدور الذي يجب أن يضطلع به القضاء لضمانه، حيث تم التنصيص في الدستور الجديد 1996على مبدأ قرينة البراءة في المادة 45 “كل شخص يعتبر بريئا حتى تثبت جهة قضائية نظامية إدانته، مع كل الضمانات التي يتطلبها القانون”[[26]]url:#_ftn26 . وعلى مبدأ عدم رجعية القوانين بنص المادة 46″ لا إدانة إلا بمقتضى قانون صادر قبل ارتكاب الفعل المجرم”[[27]]url:#_ftn27 . ولكي يحس المواطن بالأمن تنص المادة 47 ” لا يتابع أحد ولا يوقف أو يحتجز إلا في الحالات المحددة بالقانون، وطبقا للأشكال التي ينص عليها”[[28]]url:#_ftn28 . وتضيف المادة 48″ يخضع التوقيف للنظر في مجال التحريات الجزائية للرقابة القضائية، ولا يمكن أن تتجاوز 48 ساعة، يملك الشخص الذي يوقف للنظر حق الاتصال فورا بأسرته، ولا يمكن تمديد مدة لتوقيف للنظر إلا استثناءا ووفقا للشروط المحددة بالقانون”[[29]]url:#_ftn29 .

وعلاوة على هذا التنصيص الصريح تم إقرار الحق في التعويض عن الخطأ القضائي بنص المادة 49″ يترتب على الخطأ القضائي تعويض من الدولة، ويحدد القانون شروط التعويض وكيفياته”[[30]]url:#_ftn30 .

وفي موريتانيا تم التأكيد صراحة على ضمان الأمن الشخصي في دستور 1991 حيث تنص المادة 48″ يعتبر كل شخص بريئا حتى تثبت إدانته من قبل هيئة قضائية شرعية، لا يتابع أحد أو يوقف أو يعتقل ويعاقب إلا في الحالات وطبق الإجراءات التي ينص عليها القانون”. وتضيف المادة 91 ” لا يعتقل أحد ظلما، فالسلطة القضائية الحامية تحمي الحرية الفردية تضمن احترام هذا المبدأ في نطاق الشروط التي ينص عليها القانون”.

ثانيا: الحريات الخاصة.

وهي تلك الحقوق والحريات اللصيقة بشخص الإنسان وذاته، وتشمل عموما مختلف الحقوق التي تستوجبها حماية الحياة الخاصة للإنسان في مظاهرها الحميمية المتمثلة في علاقاته العائلية وحرية التنقل والاستقرار وحرمة المسكن والمراسلات من جهة، والقناعة الفكرية والأخلاقية والدينية من جهة أخرى.
أجمعت الدساتير المغاربية التنصيص على مثل هذه الحقوق والحريات وانتهجت أسلوبين مختلفين عند تكريسها لها، تجسد الأول في التأكيد عليها مباشرة والثاني في التنصيص عليها في متن الدستور.

” 1ـ حرية الفكر والوجدان والمعتقد و الدين. “

يعني حق الفرد في اعتناق دين معين وعقيدة محددة وإظهاره بتعبد وعن طريق إقامة شعائر، وقد كرسه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[31]]url:#_ftn31 . وتم التأكيد عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[[32]]url:#_ftn32 .
أجمعت الدساتير المغاربية التنصيص على هذا الحق ، لكن بصيغة تباينية من دستور لآخر، وانتهجت أسلوبين مختلفين عند تكريسها لهذا الحق، حيث تم التأكيد عليه مباشرة أو التنصيص عليه بعد التذكير بأن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة.
فالدستورين المغربي والموريتاني قد تضمنا بصيغة احترازية تكريس هذا الحق، تتجلى من خلال تنصيص الدستور المغربي لسنة 2011 في المادة 3 على أن “الإسلام دين الدولة والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية” وهي نفس الصيغة التي جاءت في جميع الدساتير المغربية السابقة. وقد أضاف هذا الدستور التأكيد على هذا الحق في ديباجته الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من الدستور، على حظر ومكافحة كل أشكال التمييز بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة.
ونص الدستور الموريتاني لسنة 1961 في المادة 2 على أن “الإسلام دين الشعب وتضمن الجمهورية لكل فرد حرية الاعتقاد وحق ممارسة تراعى الخلق والنظام العام”. أما الدستور الجديد 1991 فقد تعمد استبعاد حرفية حرية العقيدة وعوضها بحريات أخرى كحرية الرأي والتفكير والتعبير[[33]]url:#_ftn33 . ولعل سبب ذلك هو أن الدستور نص بصريح العبارة في الديباجة على تمسك الشعب الموريتاني بالدين الاسلامي الحنيف وجعله المصدر الوحيد للقانون. والتنصيص في الفصل 1 بأن “موريتانيا جمهورية إسلامية” ، وفي المادة 5 بأن” الإسلام دين الشعب والدولة”.

وعلى العكس من ذلك شكلت حرية الفكر والمعتقد أحد الأهداف الأساسية للجمهورية الجزائرية منذ الدستور الأول، وظلت تشكل مبدأ من مبادئ الحريات الأساسية في كل الدساتير الجزائرية. وعبر المؤسس الدستوري لسنة 1996 بصيغة جازمة وإطلاقية عن هذا الحق، وتبنى نفس الصيغة الواردة في دستور 1976 مع إضافة عبارة حرية لإعطاء قيمة أكبر لكرامة الإنسان حيث تنص المادة 36″ لا مساس بحرمة حرية المعتقد وحرمة حرية الرأي”. وأصر في المادة 29 على” نبذ أي تمييز بين المواطنين يعود سببه إلى المولد أو العرق أو الجنس أو الرأي أو أي شرط أو أي ظرف أخر شخصي واجتماعي”.

” 2ـ حرية التمتع بحياة خاصة. “

لكل مواطن الحق في التمتع بحياة خاصة، سواء في منزله ومسكنه، أو في مراسلاته أو في اتصالاته وعلى الدولة حمايتها. فلكل فرد أن يحيا حياته الخاصة داخل مسكنه دون مضايقة أو إزعاج من أحد، ولهذا لا يجوز أن يقتحم أحد مسكن فرد أو تفتيشه أو انتهاك حرمته إلا في الحالات التي يحددها القانون. ولا يجوز انتهاك أو إفشاء سرية المراسلات المتبادلة بين الأشخاص سواء اتصالات هاتفية أو طرود بريدية أو رسائل. وقد ورد هذا الحق في المادة 12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[34]]url:#_ftn34 ، وفي المادة 17 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[[35]]url:#_ftn35 .
أكدت جميع الدساتير المغاربية على حرية التمتع بحياة خاصة وعلى احترام الشخصية وحصانة الفرد المضمون من قبل الدولة وذلك بالتنصيص على حرمة المسكن وسرية المراسلات والاتصالات بمختلف أشكالها، وجاءت الدساتير الجزائرية أكثر دقة مقارنة مع نظيراتها المغربية والموريتانية.

ففي المغرب تكرس هذا الحق منذ الدستور الأول 1962 وتواتر التنصيص عليه في الدساتير اللاحقة، وجاء بصيغة مقتضبة مكتفيا بالإشارة في الفصل 10 إلى أن ” المنزل لا تنتهك حرمته، ولا تفتيش ولا تحقيق إلا طبق الشروط والإجراءات المنصوص عليها في القانون”، وجاء في الفصل 11 ” لا تنتهك سرية المراسلات”. وفي ظل الدستور الجديد 2011 تم تعزيز هذا الحق بالتأكيد عليه صراحة وبعبارة تتسم بدقة أكثر حيث ينص الفصل 24 على أن ” لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة، لا تنتهك حرمة المنزل، ولا يمكن القيام بأي تفتيش إلا وفق الشروط والإجراءات التي ينص عليها القانون، لا تنتهك سرية الاتصالات الشخصية كيفما كان شكلها، ولا يمكن الترخيص بالإطلاع على مضمونها أو نشرها كلا أو بعضا، أو باستعمالها ضد أي كان، إلا بأمر قضائي ووفق الشروط والكيفيات التي ينص عليها القانون”.

وفي الجزائر تم التنصيص على هذا الحق في جميع دساتيره، وجاء في دستور 1996 بصيغة تتسم بدقة أكثر مقارنة مع سابقيه، حيث احتفظ تقريبا بنفس الصيغة الواردة فيما يخص المسكن والمراسلات وأضاف حرمة المواطن الخاصة وشرفه فنص من جهة أولى في المادة 39 على “عدم جواز انتهاك حرمة حياة المواطن الخاصة، وحرمة شرفه ويحميها القانون، سرية المواصلات والاتصالات الخاصة بكل أشكالها”[[36]]url:#_ftn36 . ومن جهة ثانية نص في المادة 40 على أن ” تضمن الدولة عدم انتهاك حرمة المسكن، فلا تفتيش إلا بمقتضى القانون وفي إطار احترامه، ولا تفتيش إلا بأمر مكتوب صادر عن السلطة القضائية المختصة”[[37]]url:#_ftn37 .
أما في موريتانيا فخلافا للدساتير السابقة تدارك الدستور الجديد لسنة 1996 الفراغ الحاصل بخصوص حماية الحياة الخاصة، ونص في المادة 13 على أن “الدولة تضمن شرف المواطن وحياته الخاصة وحرمة شخصه ومسكنه ومراسلاته”.

” 3ـ حرية التنقل والتجول والإقامة والاستقرار. “

تعني أن الإنسان حر في الانتقال والسفر من مكان لأخر، ذهابا وإيابا، داخل حدود الدولة أو خارجها وقتما شاء أيا كانت الوسيلة المستخدمة في هذا الانتقال. وحرية العودة إلى الوطن والاستقرار فيه دون قيود أو موانع إلا ضمن بعض القيود التي ينص عليها القانون. وتتضمن أيضا على حق الفرد في الهجرة من الوطن ومغادرته إلى أي وطن أخر.
ورد هذا الحق في المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[38]]url:#_ftn38 ، وأكد عليه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[[39]]url:#_ftn39 . وفي الدول المغاربية إن مختلف الانتهاكات التي تعرضت لها حرية التنقل أيام الاستعمار[[40]]url:#_ftn40 ، هي التي جعلت كافة الدساتير المغاربية تنص وتؤكد على هذا الحق ضمن مقتضياتها.
نصت جميع الدساتير المغربية السابقة في الفصل 9 على ضمان “حرية التجول وحرية الاستقرار بجميع أرجاء المملكة، ولا يمكن أن يوضع حد لهذه الحريات إلا بمقتضى القانون”. غير أنها أغفلت التنصيص على حق اللجوء ومغادرة التراب الوطني . وفي ظل الدستور الجديد تعزز التأكيد على هذا الحق بالتنصيص صراحة في الفصل 24 على ضمان” حرية التنقل عبر التراب الوطني، والاستقرار فيه والخروج منه والعودة إليه”. كما تم التنصيص على حماية حقوق الأجانب حيث ينص الفصل 30 “يتمتع الأجانب بالحريات الأساسية المعترف بها للمواطنين والمواطنات المغاربة وفق القانون…يحدد القانون شروط تسليم الأشخاص المتابعين أو المدانين لدول أجنبية وكذا شروط منح حق اللجوء”.

وفي الجزائر يأخذ مفهوم التنقل مدلولا واسعا بحيث يشمل التنقل داخل التراب الوطني وكذا الدخول إلية والخروج منه، وقد تم التنصيص عليه لأول مرة في دستور 1976، وجعل هذا الحق، بمقتضى المادة 57 ، في متناول كل مواطن يتمتع بحقوقه المدنية والسياسية وفي نطاق القانون. وفي دستور 1989 تم التوسع في مجال هذا الحق حيث جاءت المادة 41 بشيء جديد وهو حرية اختيار المواطن لمنطقة إقامته. وهي نفس المقتضيات التي أوردها الدستور الجديد 1996 في المادة 44 التي تنص” يحق لكل مواطن يتمتع بحقوقه المدنية والسياسية، أن يختار بحرية إقامته، وأن ينتقل عبر التراب الوطني، حق الدخول إلى التراب الوطني والخروج منه مضمون له”.كما حرصت مختلف الدساتير الجزائرية التنصيص على عدم جواز حرمان الفرد من حرية التنقل بتوقيفه أو حجزه إلا في الحالات المحددة في القانون، وأخضعت التوقيف للنظر للرقابة القضائية[[41]]url:#_ftn41 .

وعلاوة على هذا نصت على حماية حقوق فئة الأجانب شرط تسوية أوضاعهم القانونية[[42]]url:#_ftn42 . ولا يسلم أحد خارج التراب الوطني إلا بناء على قانون تسليم المجرمين وتطبيقا له[[43]]url:#_ftn43 .
وفيما يخص حق اللجوء السياسي فالجزائر نصت منذ دستورها الأول على ضمان حق اللجوء لكل من يناضل في سبيل الحرية، وقد استعمل المؤسس الدستوري أسلوبا جزميا يتجلى من خلال التنصيص على أنه” لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يسلم أو يطرد لاجئ سياسي يتمتع قانونا بحق اللجوء[[44]]url:#_ftn44 .
وعلى نهج الدساتير المغربية والجزائرية سار الدستور الموريتاني 1991 وعمل على التأكيد على هذا الحق ، حيث تنص المادة 10 على أن ” الدولة تضمن لكافة المواطنين حرية التنقل والإقامة في جميع أجزاء تراب الجمهورية، وحرية دخول التراب الوطني وحرية الخروج منه”. وتنص المادة 22 على أن ” يتمتع كل أجنبي موجود بصفة شرعية على التراب الوطني بحماية القانون لشخصه وممتلكاته، ولا يسلم أحد خارج التراب الوطني إلا طبقا لقوانين أو معاهدات التسليم”.

الفقرة الثانية: الحريات الجماعية .

وهي مجموعة من الحقوق والحريات التي ترعى وجود الإنسان داخل المجتمع. تلك الحقوق والحريات المتعلقة بالفرد في حياته المدنية وعلاقته مع الأفراد الآخرين داخل محيط اجتماعي معين. ويطلق عليها حقوق الجيل الأول، ونميز داخلها بين الحريات العامة التي تهم الفرد بحكم انخراطه الحتمي في شبكة العلاقات الاجتماعية (أولا)، والحريات السياسية التي تعنى بمشاركة المواطن في السلطة (ثانيا).

أولا: الحريات العامة.

تشمل مختلف الحريات المتعلقة بفكر الإنسان والتي من خلالها يربط الإنسان جسور التواصل مع غيره من أفراد المجتمع، وهي كلها تخضع لمبدأ المساواة. وتتمثل أساسا في: حرية الرأي بجميع صورها، حرية التجمع والاجتماع، حرية تأسيس الجمعيات والحريات النقابية.

1ـ حرية الرأي والتعبير.

يقصد بها حرية الشخص في التعبير عن أفكاره ووجهات نظره الخاصة ، ونشر هذه الآراء بوسائل النشر المختلفة من خلال وسائل الإعلام السمعية والبصرية والصحافة المكتوبة. وقد ورد هذا الحق في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[45]]url:#_ftn45 ، وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[[46]]url:#_ftn46 .
نصت الدساتير المغاربية على هذه الحريات بكيفية متباينة من قطر لأخر، بل ومن دستور لأخر. فنصت الدساتير المغربية السابقة في الفصل 9 على ضمان حرية الرأي والتعبير بجميع أشكاله. وتم تعزيزها بمقتضى الدستور الجديد 2011 في الفصل 25 الذي أضاف إلى هذه الحريات حرية الفكر وحرية الإبداع والنشر والعرض في مجالات الأدب والفن .
وفي الجزائر، خلافا للحريات الفردية ، تأثرت الحريات الجماعية بطبيعة نظام الحكم وتوجهاته في مرحلة صدور الدستور[[47]]url:#_ftn47 . وهكذا تم التأكيد على ضمان حرية التعبير منذ دستور 1963 وجاء هذا الحق أكثر دلالة مع دستور 1976 الذي عمل من خلال المادة 19 على تحديد مدلول حرية التعبير في حرية الإعلام ووسائل الإعلام الأخرى، غير أنه قد قيد وضيق من نطاقها بمقتضى المادة 55 التي تشترط عدم استعمالها والتذرع بها لضرب أسس الثورة الاشتراكية.
وفي ظل دستوري 1989 و1996 تم الحرص على ضمان هذه الحريات أكثر من أي وقت مضى ، ولم يوردا أي قيد عليها. بحيث لم تكتف بالتنصيص على هذه الحريات بكيفية محتشمة ، بل أكدت أن “لا مساس بحرمة حرية الرأي”[[48]]url:#_ftn48 ، وأن “حرية التعبير مضمونة للمواطن”[[49]]url:#_ftn49 .
أما الدستور الموريتاني لسنة 1991 أكد على ضمان هذه الحريات، خلافا للدساتير السابقة عليه التي لم تشر صراحة إليها ، فنص في المادة 10 على أن ” تضمن الدولة لكافة المواطنين الحريات العمومية والفردية وعلى وجه الخصوص حرية الرأي وحرية التعبير، ولا تقيد الحرية إلا بالقانون”.

2ـ حرية الإجتماع والتجمع.

تعني هذه الحرية تمتع الفرد بحق في الاجتماع مع من يريد من الأفراد الأخرين في مكان معين وفي وقت يراه مناسب للتعبير عن أراء وجهات نضره بالخطب وندوات المحاضرات. وتشمل حرية عقد التجمعات العمومية والمظاهرات والتجمهر السلمي. وهي بمثابة المرآة العاكسة التي تعكس حقيقة النظام السياسي المكرس دستوريا ومجال الحريات التي يتمتع بها الفرد. وقد نصت عنها المادة 20 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[50]]url:#_ftn50 ، والمادة 21 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[[51]]url:#_ftn51 .
نصت مختلف الدساتير المغاربية على حرية الاجتماع والتجمع وتباينت فيما بينها فيما يخص هذا التنصيص من قطر لآخر. وفي هذا الصدد نصت جميع الدساتير المغربية السابقة في الفصل 9 على ضمان الدستور” لجميع المواطنين حرية الاجتماع ولا يمكن أن يوضع حدا لممارستها إلا بمقتضى القانون”.
وفي ظل الدستور الجديد تم التأكيد على هذه الحرية وتم تعزيزها بدسترة حرية التجمهر والتظاهر السلمي وأقر ضمانها حيث ينص الفصل 29 على أن” حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي مضمونة ويحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات”.
وفي الجزائر نصت مختلف الدساتير الجزائرية على حرية الاجتماع، غير أن دستوري 63 و76 ضيق من نطاقها حيث قيداها بشرط عدم استعمالها للمساس باستقلال الأمة أو السلامة الترابية، أو الوحدة الوطنية أو مؤسسات الجمهورية أو أسس الثورة الاشتراكية أو مبدأ أحادية جبهة التحرير[[52]]url:#_ftn52 . أما الدستور الحالي ، سيرا على نهج دستور 1989، فلم يرد على حرية الاجتماع أي قيد، واكتفى بالتنصيص في المادة 41 على أن ” حرية الاجتماع مضمونة للمواطن”.
وعلى هذا النهج سار الدستور الموريتاني الحالي ونص في المادة 10 على أن ” تضمن الدولة لكافة المواطنين حرية الاجتماع، ولا تقيد إلا بالقانون”.

3ـ حرية الانتماء السياسي وتأسيس وتكوين الجمعيات

لكل فرد الحق في تكوين وإنشاء الجمعيات ذات الأغراض المختلفة ( السياسية، الثقافية، الاجتماعية، الرياضية…)، وذلك للاجتماع مع الأعضاء الآخرين للبحث في المسائل التي تهم هذه الجمعيات ولتحقيق الأغراض التي أسست من أجلها، وللدفاع عن المبادئ التي قامت عليها، ولكل شخص الحرية في الانضمام إلى هذه الجمعيات متى شاء ودون ضغط. وقد نصت عليه المادة 20 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[53]]url:#_ftn53 ، والمادة 22 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[[54]]url:#_ftn54 .
وردت هذه الحرية في مختلف الدساتير المغاربية غير أن مدلولها يختلف من دستور لأخر ولو داخل القطر الواحد. ففي المغرب أكدت جميع دساتيره على حرية تأسيس الجمعيات بمختلف أنواعها، مدنية، سياسية، ثقافية، رياضية…، فنصت الدساتير السابقة في الفصل 9 على أن ” يضمن الدستور لجميع المواطنين حرية تأسيس الجمعيات وحرية الانخراط في أية منظمة نقابية وسياسية حسب اختيارهم ولا يمكن أن يوضع حد لممارسة هذه الحريات إلا بمقتضى القانون”. وفي ظل الدستور الجديد تم التأكيد على هذه الحرية وتعزيزها أكثر ، حيث ينص الفصل 29 ” حرية تأسيس الجمعيات والانتماء النقابي والسياسي مضمونة، ويحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات”. وينص الفصل 12 على أن” تؤسس جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية وتمارس أنشطتها بحرية في نطاق احترام الدستور والقانون”.
ومن مستلزمات الانتماء السياسي الأخذ بنظام التعدد الحزبي هذه الضمانة التي كفلتها جميع الدساتير المغربية بمقتضى الفصل 3 الذي ينص على أن ” الأحزاب السياسية تساهم في تنظيم المواطنين وتمثيلهم ونظام الحزب الوحيد نظام غير مشروع”. وينص الفصل 7 من الدستور الجديد على أنه” تؤسس الأحزاب وتمارس أنشطتها بحرية في نطاق احترام الدستور والقانون…ويجب أن تكون تنظيم الأحزاب السياسية وتسييرها مطابقا للمبادئ الديمقراطية، ولا يجوز أن تؤسس الأحزاب على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جهوي، وبصفة عامة على أي أساس من التمييز أو المخالفة لحقوق الإنسان، ولا يجوز أن يكون هدفها المساس بالدين الإسلامي، أو بالنظام الملكي أو المبادئ الدستورية، أو الأسس الديمقراطية أو الوحدة الوطنية أو الترابية للمملكة. ويحدد قانون تنظيمي تأسيس الأحزاب وأنشطتها ومعايير تخويلها الدعم المالي للدولة وكيفيات مراقبة تمويلها”. ويضيف الفصل 9 أنه ” لا يمكن حل الأحزاب والمنظمان النقابية أو توقيفها من لدن السلطات العمومية إلا بمقتضى مقرر قضائي”.
وفي الجزائر وردت هذه الحرية في كافة دساتيرها غير أن معناها يختلف من دستور لأخر.ففي الدساتير ذات الصبغة الاشتراكية تنحصر في حرية إنشاء الجمعيات غير السياسية فقط، باعتبار أن دستوري 63 و 76 استبعدا صراحة التعددية الحزبية بنصهما على وحدة السلطة وعلى أحادية العمل السياسي الذي يقتصر على جبهة التحرير الوطني الحزب الواحد في البلاد[[55]]url:#_ftn55 ، على الرغم أن الدستورين وضعا حكما عاما بقولهم” حرية إنشاء الجمعيات معترف بها وتمارس في إطار القانون”.
وفي ظل دستور 1989 عرف مفهوم الجمعيات تحولا كبيرا وجاء مختلفا عن سابقيه بكيفية جوهرية، بحيث لم يعد محصورا في المجالات الاجتماعية والثقافية والعلمية والرياضية، بل أصبح ينصرف إلى العمل السياسي حيث اعترفت المادة 40 من بحق إنشاء الجمعيات ذات الطابع السياسي[[56]]url:#_ftn56 .

أما الدستور الجديد 1996 فجاء بصيغة أكثر وضوحا بحيث لم يكتفي بالتنصيص في المادة 41 على أن ” حرية إنشاء الجمعيات مضمونة للمواطن”، بل نص صراحة في المادة 42 على أن ” الحق في إنشاء الأحزاب السياسية معترف به ومضمون”، مدشنا بذلك عهد التعددية الحزبية بالجزائر. ولقد حرص على ضبط ممارسة هذا الحق بالتأكيد على القيود المحددة في المادة 40 من دستور 89 وأضاف إلى ذلك قيودا أخرى بحيث ،بنص المادة 42، لا يمكن التذرع بهذا الحق لضرب الحريات الأساسية، والقيم والمكونات الأساسية للهوية الوطنية، والوحدة الوطنية، وأمن التراب الوطني وسلامته، واستقلال البلاد، وسيادة الشعب، وكذا الطابع الديمقراطي والجمهوري للدولة. ولا يجوز تأسيس الأحزاب على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جنسي أو مهني أو جهوي، ولا يجوز اللجوء إلى الدعاية الحزبية التي تقوم على العناصر المذكورة أو إلى استعمال العنف أو الإكراه مهما كانت طبيعتهما أو شكلهما ويحظر على الأحزاب كل شكل من أشكال التبعية للمصالح الأجنبية. وتضيف الفقرة الأخيرة من المادة 42 أنه تحدد التزامات وواجبات أخرى بموجب القانون[[57]]url:#_ftn57 .

وعلى نهج نظيريه المغربي والجزائري سار الدستور الموريتاني لسنة 1991 ونص صراحة في المادة 10 ” تضمن الدولة لكافة المواطنين الحريات العمومية والفردية وعلى وجه الخصوص ، حرية إنشاء الجمعيات وحرية الانخراط في أية منظمة سياسية ونقابية يختارونها، ولا تقيد الحرية إلا بالقانون”. وعملت المادة 11 على ضبط هذه الحرية حيث نصت على أن ” تتكون الأحزاب والتجمعات السياسية وتمارس نشاطها بحرية شرط احترام المبادئ الديمقراطية وشرط ألا تمس، من خلال غرضها ونشاطها، بالسيادة الوطنية والحوزة الترابية ووحدة الأمة والجمهورية، يحدد القانون شروط إنشاء وسير وحل الأحزاب السياسية”.

4ـ الحريات النقابية.

تتمثل في حرية الفرد في تكوين نقابات مع الآخرين والانضمام إليها من أجل حماية مصالحه والدفاع عنها، والتي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[58]]url:#_ftn58 ، والميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[[59]]url:#_ftn59 .وحرية النشاط النقابي وحق ممارسة الإضراب والتي نص عليها الميثاق الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية[[60]]url:#_ftn60 .
شكلت هذه الحريات واجهة الصراع بين الحركات الوطنية في الدول المغاربية والسلطات الاستعمارية التي جعلت هذه الحريات امتياز يحظى به الأجانب فقط ، لذلك عملت مباشرة بعد الاستقلال على تضمين دساتيرها هذه الحريات لكن بصورة محتشمة حيث لم تكرس في جميع الدساتير، بل تم أحيانا التراجع عن الاعتراف بها والتنكر لها[[61]]url:#_ftn61 .
أكدت جميع الدساتير المغربية السابقة في الفصل 9 على حق تكوين جمعيات نقابية وعلى حرية الانخراط والانتماء النقابي، وفي الفصل 14 على ضمان حق الإضراب. وهو نفس النهج الذي سلكه الدستور الجديد حيث احتفظ بالتأكيد على هذه الحريات فنص في الفصل 29 على أن” حريات تأسيس الجمعيات والانتماء النقابي والسياسي مضمونة ويحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات، حق الإضراب مضمون ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته”. وبمقتضى الفصل 8 أناط بالمنظمات النقابية والغرف المهنية والمنظمات المهنية للمشغلين المساهمة في الدفاع عن الحقوق والمصالح الاجتماعية والاقتصادية للفئات التي تمثلها، وتمارس أنشطتها بحرية في نطاق احترام الدستور والقانون. ولا يمكن حلها أو توقيفها من لدن السلطات العمومية إلا بمقتضى مقرر قضائي حسب منطوق الفصل 9.

وعلى خلاف هذا نجد أن الدساتير المغاربية الأخرى تغافلت الإشارة إلى مجموع الحريات النقابية والتنصيص عليها بكيفية صريحة. ففي الجزائر إذا كان دستور 63 قد أكد في المادة 20 بأن” الحق النقابي وحق الإضراب ومشاركة العمال في تدبير المؤسسات معترف بها جميعا وتمارس في نطاق القانون”، فدستور 76 ضيق كثيرا من الحريات النقابية. فرغم أنه لم يمنع إنشاءها وأقر بحرية تكوينها وأكد على الحقوق النقابية بتنصيصه في المادة 60 ” حق الانخراط في النقابة معترف به لجميع العمال ويمارس في إطار القانون”، إلا أنه لم يسمح بقيام منظمات أخرى إلى جانب النقابة الوحيدة آنذاك الإتحاد العام للعمال الجزائريين. كما أنه وإن كان قد اعترف بحق الإضراب بموجب المادة 61 التي تنص ” في القطاع الخاص حق الإضراب معترف به، وينظم القانون ممارسته”، غير أن هذه المادة تجعل ضمنيا حق الإضراب محرما في المؤسسات العمومية والقطاع العام[[62]]url:#_ftn62 .وعلاوة على هذا وكل تنظيم هذين الحقين إلى القانون والذي جعلهما ، حسب المادة 73 من الدستور، قابلين للإسقاط إذا استعملا “قصد المساس بالدستور أو بالمصالح الرئيسية للمجموعة الوطنية أو بوحدة الشعب والتراب الوطني أو بالأمن الداخلي والخارجي للدولة أو بالثورة الإشتراكية”.

وعلى نقيض هذا جاء دستور 1989 والدستور الحالي 1996 ليؤكدا من جهة على حق إنشاء النقابات فنص هذا الأخير في المادة 56 على أن ” الحق النقابي معترف به لجميع المواطنين” وهي نفس العبارة التي وردت في دستور 89 في المادة 53. ومن جهة أخرى اعترف بالحق في الإضراب في كل القطاعات العام والخاص، على حد سواء،حيث تنص المادة 75 (تقابلها المادة 54 من دستور 89) على أن ” الحق في الإضراب معترف به، ويمارس في إطار القانون، يمكن أن يمنع القانون ممارسة هذا الحق أو بجعل حدودا لممارسته في ميادين الدفاع الوطني والأمن، أو في جميع الخدمات أو الأعمال العمومية ذات المنفعة الحيوية للمجتمع”.
أما فيما يخص موريتانيا فإذا كانت قد بقيت متشبثة بنظام النقابة الوحيدة وقيدت إمكانية اللجوء للإضراب بكيفية صارمة في ظل دستور 1961 فإن الدستور الحالي 1991 جاء ليؤكد على حرية تأسيس النقابات ونص في المادة 10 على ” حرية إنشاء النقابات والانخراط في أية منظمات سياسية أو نقابية”. واعترف بحق الإضراب حيث تنص المادة 14 على أن ” حق الإضراب معترف به ويمارس في إطار القوانين المنظمة له، يمكن أن يمنع القانون الإضراب في المصالح أو المرافق العمومية الحيوية للأمة، يمنع الإضراب في ميادين الدفاع والأمن الوطنيين”.

ثانيا: الحقوق والحريات السياسية.

حقوق وحريات الإنسان باعتباره كائن اجتماعي، وهي نابعة من مبدأ المساواة، تمكن المواطن في أن يصبح ناخبا ومنتخبا وتتيح له المشاركة في إدارة الشؤون العامة، ولا تجد هذه الحقوق نموا وانتعاشا إلا من خلال الديمقراطية.
إن الحقوق والحريات السياسية ببعدها الدولي تعود إلى القرن 18 مع الثورة الفرنسية والإعلان عن حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789، وجاء الإعلان العالمي لحقوق الانسان ومن بعده العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ليؤكدا عليها.
خلافا للحريات العامة والخاصة التي اعترف بها كحقوق للإنسان بغض النظر عن انتماء الشخص الوطنية والجنسية التي يتمتع بها، فالحريات السياسية، كقاعدة عامة، لا يتمتع بها الأفراد إلا باعتبارهم مواطنين للدولة ويحظون بجنسيتها[[63]]url:#_ftn63 . وتتمثل حسب المواثيق الدولية في حق المشاركة في الشؤون العامة، حق الانتخاب، حق تقلد الوظائف العامة.
احتلت الحقوق والحريات السياسية مكانة بارزة في جملة المطالب التي بلورتها الحركة الوطنية المغاربية، إن لم نقل أولاها، وبعد الاستقلال نصت كل الدساتير المغاربية على مختلف هذه الحقوق، أسوة بدساتير دول العالم، لكنها اختلفت في المضامين التي يجب أن تكتسيها هذه الحقوق[[64]]url:#_ftn64 .

1ـ حق المشاركة في تسيير الشؤون العامة.

وذلك في الاشتراك في الانتخابات والاستفتاءات المتنوعة وكذلك حق الترشح للهيئات والمجالس المنتخبة. وقد ورد هذا الحق في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[65]]url:#_ftn65 ، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[[66]]url:#_ftn66 . وحق المشاركة يفترض بداهة عدم احتكار العمل السياسي وإقرار التعددية ، وهذا ما أقرته صراحة مختلف الدساتير العالمية ومنها الدساتير المغاربية الحالية.
أجمعت مخلف الدساتير المغربية التنصيص في الفصل 2 على أن ” السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرة بواسطة المؤسسات الدستورية” وقد تم تبديل عبارة المؤسسات الدستورية بعبارة ممثليها في الدستور الحالي. وفي الفصل 3 اعتبرت أن نظام الحزب الوحيد نظام غير مشروع، بل أن الدستور الحالي بنص الفصل 7 جعل الأحزاب السياسية ” تعمل على تأطير المواطنين والمواطنات وتكوينهم السياسي وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وفي تدبير الشأن العام ، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين والمشاركة في ممارسة السلطة على أساس التعددية والتناوب” .
وفي الجزائر نصت كل دساتيرها على أن” السيادة الوطنية ملك للشعب “[[67]]url:#_ftn67 ، وأضاف الدستور الحالي عبارة وحده حيث تنص المادة 6 ” السيادة الوطنية ملك للشعب وحده”. وتنص المادة 7 بأن السلطة التأسيسية ملك للشعب يمارس الشعب سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها.

هذه السيادة التي اختلفت صور ممارستها حسب التوجه السياسي والاقتصادي لكل دستور، ففي دستوري 63 و 76 تم اعتماد مبدأي وحدة السلطة والاشتراكية،في حين تم التخلي عن المبدأين في ظل الدستورين 89 و96 وتم اعتماد التعددية وحرية إنشاء الأحزاب السياسية دون الحديث عن دورها كما فعل الدستور المغربي[[68]]url:#_ftn68 .كما نص الدستور الحالي في المادة 10 على أن ” الشعب حر في اختيار ممثليه”، وفي المادة 14 على أن ” تقوم الدولة على مبادئ التنظيم الديمقراطي، المجلس المنتخب هو الإطار الذي يعبر فيه الشعب عن إرادته ويراقب عمل السلطات”، وتضيف المادة 16 ” يمثل المجلس المنتخب قاعدة اللامركزية، وكان مشاركة المواطنين في تسيير الشؤون العامة”.

أما الدستور الموريتاني الحالي فنص في المادة 2 على أن ” الشعب هو مصدر كل سلطة، والسيادة الوطنية ملك للشعب الذي يمارسها عن طريق ممثليه المنتخبين وبواسطة الاستفتاء، ولا يحق لبعض الشعب ولا لفرد من أفراده أن يستأثر بممارستها”.
وعلى خلاف الدستور الأول المعدل سنة 1965 الذي أقر نظام الحزب الوحيد المتمثل في حزب الشعب الموريتاني[[69]]url:#_ftn69 ، نص دستور 1991 في المادة 11 على حرية تكوين الأحزاب السياسية التي تساهم في تكوين الإرادة السياسية والتعبير عنها.

2ـ الحق في الانتخاب/ الحق في الترشح والتصويت.

الانتخاب هي تلك العملية التي عن طريقها يختار الشعب من ينوب عنه في إدارة الشؤون العامة وممارسة السلطة نيابة عنه لفترة محددة. وهو حق نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[70]]url:#_ftn70 ، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[[71]]url:#_ftn71 .
تجسد الانتخابات حرية الاختيار والمشاركة السياسية، وتشكل حجر الزاوية في الأنظمة الديمقراطية لأنها تؤمن للقوى السياسية الحاكمة شرعيتها القانونية، وتعتبر الأسلوب الرئيسي لانبثاق السلطة عن الشعب صاحب السيادة. وعلى هذا الأساس نصت مختلف الدساتير العالمية على هذا الحق، وعلى هذا النهج سارت الدساتير المغاربية وأجمعت التنصيص على حق الانتخاب والترشيح والتصويت، وأقرت مبدأ الاقتراع العام المباشر والسري.
أقرت جميع الدساتير المغربية حق الانتخاب في الفصل 2 ، والدستور الجديد جاء بعبارات أكثر دلالة وتفصيلا حيث أضاف فقرة جديدة إلى الفصل الثاني والتي تنص على أن ” تختار الأمة ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع الحر والنزيه والمنتظم”. ونص في الفصل 11 على أن ” الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة هي أساس مشروعية التمثيل الديمقراطي، السلطات العمومية ملزمة بالحياد التام إزاء المترشحين وبعدم التمييز بينهم،…، يحدد القانون شروط وكيفيات الملاحظة المستقلة والمحايدة للانتخابات طبقا للمعايير المتعارف عليها دوليا، كل شخص خالف المقتضيات والقواعد المتعلقة بنزاهة وصدق وشفافية العمليات الانتخابية يعاقب على ذلك بمقتضى القانون، تتخذ السلطات العمومية الوسائل الكفيلة بالنهوض بمشاركة المواطنات والمواطنين في الانتخابات”.

ونص صراحة في الفصل 30 على أن لكل مواطن ومواطنة الحق في التصويت وفي الترشح للانتخابات شريطة بلوغ سن الرشد القانونية والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية،وجعل حق التصويت حق شخصي وواجب وطني. ومتع المغاربة المقيمين في الخارج بحقوق المواطنة كاملة بما فيها حق التصويت والترشح في الانتخابات بمقتضى الفصل 17.

علاوة على هذا تحدث عن هذا الحق، كما فعلت الدساتير السابقة عنه، عند حديثه في الفصل 62 عن انتخاب أعضاء مجلس النواب الذين ينتخبون عن طريق الاقتراع العام المباشر، وفي الفصل 63 عند حديثه عن انتخاب أعضاء مجلس المستشارين والذين ينتخبون بالاقتراع العام غير المباشر.
وفي الجزائر إذا كان دستور 1963 قد اكتفى بالنص على حق التصويت دون الترشح لكل من بلغ سن 19 سنة كاملة، وضيق من ممارسة هذا الحق بسبب الأخذ بمبدأ الاشتراكية ونظام الحزب الوحيد، فجميع الدساتير اللاحقة نصت على أنه “لكل مواطن تتوفر فيه الشروط القانونية الحق في أن ينتخب و ينتخب”[[72]]url:#_ftn72 . ونص الدستور الحالي في المادة 10 أن “الشعب حر في اختيار ممثليه ولا حد لتمثيل الشعب إلا ما نص عليه الدستور وقانون الانتخابات”. وقد تحدث أيضا عن هذا الحق عند حديثه في المادة 71عن انتخاب رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع العام المباشر والسري، وعند حديثه في المادة 101 عن انتخاب أعضاء المجلس الشعبي الوطني بواسطة الاقتراع العام المباشر والسري، وانتخاب أعضاء مجلس الأمة عن طريق الاقتراع غير المباشر والسري.

أما الدستور الموريتاني لسنة 1991 فقد تم إقرار هذا الحق بتنصيصه في المادة 3 على أن” الاقتراع يكون مباشر أو غير مباشر حسب الشروط المنصوص عليها في القانون، وهو عام على الدوام متساوي وسري، ويعتبر ناخبا كل من بلغ سن الرشد ويتمتع بحقوقه المدنية والسياسية”. وعند حديثه في المادة 26 عن اختيار رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع العام المباشر، وعند حديثه في المادة 47 عن انتخاب أعضاء البرلمان.

3ـ الحق في تقلد الوظائف العامة.

يعني التسليم لجميع المواطنين بالحق في تولي الوظائف العامة دون أي تمييز بسبب الأصل أو الجنس أو اللغة أو الرأي أو أي سبب آخر في استبعاد أحد من تقلدها مادامت الشروط تتوافق مع تلك التي حددها القانون. وقد ورد هذا الحق في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[73]]url:#_ftn73 ، وفي الميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[[74]]url:#_ftn74 .
أكدت الدساتير المغاربية صراحة على حق تقلد الوظائف العمومية دون أي تمييز، فنص المغرب منذ دستوره الأول في الفصل 12 أنه ” يمكن لجميع المواطنين أن يتقلدوا الوظائف والمناصب العمومية وهم سواء فيما يرجع للشروط المطلوبة لنيلها”. والدستور الجديد جاء بمقتضيات جديدة في هذا الميدان حيث ينص الفصل 31 ” تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية ،على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في ولوج الوظائف العمومية حسب الاستحقاق”.

وفي الجزائر عرف هذا الحق تطورا كبيرا في ظل دستوري 98 و 96 ،مقارنة مع الدساتير السابقة ذات التوجه الاشتراكي، وعبرا عن هذا الحق بصراحة وبصياغة أكثر بساطة، حيث تنص المادة 51 من دستور 1996( المادة 48 من دستور 89) ” يتساوى جميع المواطنين في تقلد المهام والوظائف في الدولة دون أي شروط أخرى غير الشروط التي يحددها القانون”. متجاوزا بذلك التناقض الذي طبع دستور 76 والذي نص في المادة 44 بأن” وظائف الدولة والمؤسسات التابعة لها متاحة لكل المواطنين وفي متناولهم بالتساوي وبدون شرط ماعدا الشروط المتعلقة بالاستحقاق والأهلية” وتضيف المادة من جهة ثانية أن” الوظائف الحاسمة في الدولة تسند إلى أعضاء في قيادة الحزب”.

أما فيما يخص موريتانيا فإذا كانت المقتضيات الدستورية السابقة لا تعترف إلا ضمنيا بهذا الحق من خلال إقرارها بمنع التمييز بين المواطنين، فالدستور الحالي نص صراحة، إسوة بنظيريه المغربي والتونسي، على هذا الحق في المادة 12 والتي تنص ” يحق لكافة المواطنين تقلد المهام والوظائف العمومية دون شروط أخرى سوى تلك التي يحددها القانون”.

الفقرة الثالثة: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

جاء هذا الصنف من الحقوق للإجابة عن أهمية الحقوق السياسية والمدنية ، فهي امتدادات ضرورية لإعمال الحقوق المدنية والسياسية، وبدأت تأخذ مكانتها في سجل حقوق الإنسان نتيجة للتطور الذي لحق بفكرة الحرية ذاتها منذ الحرب العالمية الأولى. وأكدت على قانونيتها مختلف المواثيق الدولية لحقوق الإنسان لما بعد الحرب العالمية الثانية، وفصل العهد الدولي المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مضمونها.
ويطلق عليها حقوق الجيل الثاني، وتتطابق مع المساواة. وتتمثل في حق : التملك، الزواج وتكوين أسرة، العمل وفقا لأجر عادل، العلاج، التعليم، الدخل المناسب، الضمان الاجتماعي ، تشكيل النقابات،الإضراب، الحق في الحياة الثقافية ومنافع التقدم العلمي، الحق في مستويات معيشية مناسبة[[75]]url:#_ftn75 .
تحتل هذه الحقوق خلال العصر الحالي مكانة أساسية في جل دساتير الدول الحديثة التي عملت التنصيص عليها، وعلى هذا المنوال سارت الدساتير المغاربية وأوردت نصوصا تخص هذه الحقوق تختلف صياغتها من دستور لآخر.

أولا: الحقوق والحريات الاقتصادية.

حقوق ذات طبيعة خاصة يقترن وجودها بنشاط الإنسان وعمله، فهي مجموعة من الحقوق المتعلقة بالنشاط الاقتصادي بكل جوانبه ومجالاته وعمله وسعيه لبلوغ الحياة الكريمة وما ينتج عن هذا النشاط من ثروات مادية أو غيرها،. ويدخل ضمنها الحق في العمل، حرية التمتع بشروط عمل عادلة ومرضية، حق اختيار المهنة، الحق في الضمان الاجتماعي، حق الملكية، حرية التجارة والصناعة.

1ـ الحق في العمل.

حق لكل فرد في أن يكون أمامه فرصة كسب معيشته أو رزقه عن طريق العمل الذي يختاره أو يقبله بحرية والذي يكفل له العيش وتأمين حياته وأسرته ويجعله مطمئنا على حاضره ومستقبله[[76]]url:#_ftn76 . وهو حق نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[77]]url:#_ftn77 ، وتولى العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية بتفصيل وتبسيط حق الإنسان في العمل وتمكينه من كسب عيشه ومن وسائل التكوين المهني والتدريب التقني اللازمين لتنمية قدراته وتطوير معارفه[[78]]url:#_ftn78 .
تباينت الدساتير المغاربية في التنصيص على حق العمل، فنص الدستور المغربي الجديد على هذا الحق صراحة، بصيغة مفصلة، في الفصل 31 ” تعمل الدولة لتيسير استفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة من الحق في الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل، أو في التشغيل الذاتي”، عكس الدساتير السابقة التي اكتفت بالتنصيص عليه بصيغة مقتضبة جدا في الفصل 13 ” الشغل حق للمواطنين”.

وعلى عكس الدساتير المغربية التي تحاشت التفصيل في حقوق العمل، نصت الدساتير الجزائرية ذات التوجه الاشتراكي على حق العمل بجميع مشمولاته وبتفصيل( حق العمل، الحق في الحماية والأمن والوقاية الصحية، الحق في الراحة) وخصصت مقتضيات مطولة تتسم بحمولة إيديولوجية واضحة[[79]]url:#_ftn79 .

أما الدساتير الجزائرية التي اعتمدت الاقتصاد المتحرر فقد خصت هذا الحق بمادة وحيدة ، حيث تنص المادة 55 من دستور 1996(المادة 52 من دستور 89) على أن ” لكل المواطنين الحق في العمل، يضمن القانون أثناء العمل الحق في الحماية والأمن والنظافة، الحق في الراحة مضمون ويحدد القانون كيفيات ممارسته”.
وعلى خلاف الدساتير المغربية والجزائرية لم ينص الدستور الموريتاني صراحة على حق العمل، واكتفى فقط بالإشارة إليه ضمنا عندما نص في الديباجة على الضمان الأكيد للحقوق ومبادئ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

2ـ الحق في الضمان الاجتماعي.

يعتبر من الحقوق التي استحدثت لتغطية المخاطر الحياتية والآفات التي قد يتعرض لها الفرد أو من هم تحت كفالته كالمرض، الشيخوخة، العجز أو كل ما من شأنه أن يحرم العامل من الاستفادة من أجره. وقد ورد هذا الحق في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[80]]url:#_ftn80 ، وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية[[81]]url:#_ftn81 .
مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية عملت مختلف الدول على تكريس الحق في الضمان الاجتماعي على صعيد النصوص الدستورية، وعلى هذا النهج سارت الدساتير المغاربية وتباينت في التنصيص على هذا الحق بين التلميح والإقرار الصريح. فإذا كانت الدساتير الأولى قد اكتفت بالتلميح فقط ، باستثناء الدساتير الجزائرية التي أكدت على هذا الحق بكيفية غير مباشرة عند تنصيصها على الواجبات الملقاة على عاتق الدولة تجاه المواطنين، فإن الدساتير الأخيرة ، تداركت الأمر، ونصت جميعها على حق الضمان الاجتماعي، إما بصيغة صريحة كما فعل الدستور المغربي لسنة 2011 والذي ينص في الفصل 31 على ” حق الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية والتضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة”. أو ضمنا كما فعل الدستور الجزائري لسنة 1996 بتنصيصه في المادة 59 على أن ” ظروف معيشة المواطنين الذين لم يبلغوا سن العمل، والذين لا يستطيعون القيام به، والذين عجزوا عنه نهائيا مضمونة. أو تلميحا كما فعل الدستور الموريتاني لسنة 1991 بتنصيصه في ديباجته على حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

3ـ حرية الملكية أو التملك.

تمثل الملكية ثمرة النشاط والعمل الفردي، وتعد من الحقوق الطبيعية للإنسان. ويقصد بها حق الإنسان في امتلاك الأموال والعقارات والمنقولات وحيازتها، إما بمفرده أو بالاشتراك مع الغير. وقد ورد هذا الحق في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[82]]url:#_ftn82 ، ومنه استقته معظم الدساتير العالمية وجعلته حقا نسبيا لا يتمتع بطابع مطلق. والدساتير المغاربية تباينت في إقرار هذا الحق من قطر لأخر، بل ومن دستور لأخر داخل القطر الواحد.
أكدت جميع الدساتير المغربية على ضمان الملكية وأعطت للقانون صلاحية الحد من نطاقها في حالة إذا دعت إلى ذلك دواعي المنفعة العامة، حيث ينص الفصل 35 من الدستور الجديد على ” يضمن القانون حق الملكية، ويمكن الحد من نطاقها وممارستها بموجب القانون، إذا اقتضت ذلك متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، ولا يمكن نزع الملكية إلا في الحالات ووفق الإجراءات التي ينص عليها القانون”، وهي تقريبا نفس الصياغة التي جاءت في الفصل 15 من الدساتير السابقة.
أما في الجزائر فلم يتم التنصيص على الحق في الملكية الخاصة إلا في الدساتير الأخيرة ذات التوجه الليبرالي، عكس الدساتير الأولى ذات التوجه الاشتراكي التي جاءت خالية من أي إشارة إلى هذا الحق، فنص دستور 1996 على حرية التملك بصيغة مقتضبة جدا، حيث تنص المادة 52 على أن ” الملكية الخاصة مضمونة”. وتنص المادة 20 على أنه ” لا يتم نزع الملكية إلا في إطار القانون، ويترتب عليه تعويض قبلي عادل ومنصف”.
وفي موريتانيا نص دستور 1991 على ضمان حرية الملكية[[83]]url:#_ftn83 ، ونص في المادة 15 على أن ” حق الملكية مضمون، للقانون أن يحد مدى ممارسة الملكية الخاصة إذا اقتضت متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ذلك، لا تنزع الملكية إلا إذا فرضت ذلك المصلحة العامة وبعد تعويض عادل مسبق، يحدد القانون نظام نزع الملكية “. وتضيف المادة 19 أنه ” على كل مواطن أن يحترم الملكية الخاصة”.

4ـ حرية التجارة والصناعة.

تعني مباشرة الفرد للأنشطة التجارية والصناعية وما يتفرع عنها من تبادل ومراسلات وإبرام عقود وعقد صفقات[[84]]url:#_ftn84 . وقد تحاشت أغلب الدساتير المغاربية الإشارة إلى هذه الحرية، إلا أن التعديلات الدستورية الأخيرة تداركت هذا النقص وعملت على توسيع مجال الحقوق الاقتصادية.
ففي المغرب إذا كانت الدساتير السابقة قد اقتصرت فقط على إقرار حق الملكية وحرية المبادرة الخاصة، فالدستور الجديد تطرق إلى حقوق جديدة تذهب في اتجاه تكريس مبادئ القانون الدستوري الاقتصادي، فتم التنصيص صراحة في الفصل 35 على ” حرية المبادرة والمقاولة والتنافس الحر”، و أضاف في الفصل 36 ” يعاقب القانون على المخالفات المتعلقة بحالات تنازع المصالح، وعلى استغلال التسريبات المخلة بالتنافس النزيه، وكل مخالفة ذات طابع مالي، وعلى السلطات العامة الوقاية من كل أشكال الإنحراف المرتبط بإبرام الصفقات العمومية وتدبيرها والزجر عن هذه الانحرافات. يعاقب القانون على الشطط في استغلال مواقع النفوذ والامتياز، ووضعيات الاحتكار والهيمنة وباقي الممارسات المخالفة لمبادئ المنافسة الحرة والمشروعة في العلاقات الاقتصادية”.

وعلاوة على هذا نص على إحداث هيئة وطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ( الفصل 36) وتم دسترتها ( الفصل 107). وعمل على دسترة مجلس المنافسة ( الفصل 166) والذي ترجم في الحقيقة دسترة لقواعد منافسة اقتصادية جديدة من بين مرتكزاتها الرئيسية عدم الجمع بين السلطة وأعمال المال في كل المسؤوليات التنفيذية والإدارية والقضائية[[85]]url:#_ftn85 .

وفي الجزائر انفرد الدستور الأخير بالتنصيص صراحة على حرية الصناعة والتجارة تكريسا للتوجه الاقتصادي المتحرر الذي اعتمد منذ سنة 1989، ونص في المادة 37 على أن ” حرية التجارة والصناعة مضمونة، وتمارس في إطار القانون”. ونص في المادة 19على أن ” تنظيم التجارة الخارجية من اختصاص الدولة، يحدد القانون شروط ممارسة التجارة الخارجية ومراقبتها”.
ولم يخرج الدستور الموريتاني لسنة 1991 عن هذا النهج ونص في المادة 10 على أن ” تضمن الدولة لكافة المواطنين حرية التجارة والصناعة، ولا تقيد إلا بالقانون”.

ثانيا: الحقوق الاجتماعية.

تستمد هذه الحقوق قانونيتها من ضرورة ترشيد المردودية الاجتماعية التي تتمحور حولها الدولة الخيرية، وليس من شعور وواجب الإحسان أو ممارسته للشفقة[[86]]url:#_ftn86 . وحسب الأدوات الدولية لحقوق الإنسان تتمثل هذه الحقوق في: الحق في الزواج وتكوين أسرة، حماية الأسرة والأمومة و الطفولة ، الحق في مستوى معيشي ملائم، الحق في الصحة.
أكدت العديد من الدساتير العالمية على مختلف الحقوق الاجتماعية، أما الدساتير المغاربية فقد تباينت في إقرار مثل هذه الحقوق، حيث لا نجدها حاضرة في جميع الدساتير، كما أنها تكتسي مدلولا خاصا في بعضها.

1 ـ الحق في حماية الأسرة والأمومة والطفولة.

وردت هذه الحقوق في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[87]]url:#_ftn87 ، وأكد عليها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية[[88]]url:#_ftn88 ، ووردت في الدساتير المغاربية بصيغة تباينية من قطر لأخر.
عكس الدساتير المغربية السابقة، التي لم تشر لا من قريب ولا من بعيد إلى حماية الأسرة والأمومة والطفولة ، تولى الدستور الجديد 2011 التنصيص على حق تكوين الأسرة وعلى العمل على معالجة الأوضاع الهشة لفئات من النساء والأمهات والأطفال والأشخاص المسنين والفئات من ذوي الإحتياجات الخاصة، وإعادة تأهيل الأشخاص الذين يعانون من إعاقات جسدية، والتي طالما أحثت الحركة الحقوقية المغربية وهيأة الإنصاف والمصالحة على ضرورة دسترتها، وهكذا نص صراحة على حماية هذه الفئات في الفصل 32 والذي ينص” الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع، تعمل الدولة على ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة بمقتضى القانون، بما يضمن وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها، تسعى الدولة لتوفير الحماية القانونية والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال بكيفية متساوية بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية”.
كما عمل أيضا على مأسسة مجلس استشاري للأسرة والطفولة والذي يتولى، حسب الفصل 169 ، مهمة تأمين تتبع وضعية الأسرة والطفولة وإبداء أراء حول المخططات الوطنية المتعلقة بهذه الميادين. وبمقتضى الفصل 34 أناط للسلطات العمومية ” السهر على معالجة الأوضاع الهشة لفئات من النساء والأمهات، والأطفال والأشخاص المسنين والوقاية منها، إعادة تأهيل الأشخاص الذين يعانون من إعاقة جسدية، أو حسية حركية، أو عقلية وإدماجهم في الحياة الاجتماعية والمدنية، وتيسير تمتعهم بالحقوق والحريات المعترف بها للجميع”. ويضيف الفصل 35 على أن ” الدولة تسهر على الرعاية الخاصة للفئات الاجتماعية الأقل حظا”.
وفي الجزائر تم التنصيص على مسؤولية الدولة في حماية الأسرة التي هي الخلية الأساسية في المجتمع منذ الدستور الأول (المادة 17)، وأضاف دستور 1976 إلى هذا الحق، في مادته 65 “حماية الطفولة والأمومة والشبيبة والشيخوخة بواسطة سياسة ومؤسسات ملائمة”. واستلهم دستور 1989 المقتضيات الواردة بخصوص الأسرة والطفولة من دستور 76 والميثاق الوطني لسنة 1986 وأكد في المادة 55 على أن ” القانون يجازي الآباء على القيام بواجب تربية أبنائهم ورعايتهم، كما يجازي الأبناء على القيام بواجب الإحسان إلى أبائهم ومساعدتهم” مما يفيد بأن الدولة مسؤولة فقط على حماية الأسرة أما حماية الفئات الأخرى فتندرج ضمن الواجبات الملقاة على عاتق المواطنين أنفسهم، مما يضيق من حجم هذه الحماية، بذلك يعكس تراجعا على مستوى الحماية الواجب توافرها بالنسبة للطفولة والشبيبة والشيخوخة.
وفي ظل الدستور الحالي تعززت هذه الحقوق حيث حظيت هذه الفئات بعناية كبيرة فنص في المادة 58 ” تحظى الأسرة بحماية الدولة والمجتمع “. ونص على حق رعاية وحماية الأطفال والمسنين في المادة 59 ” ظروف معيشة المواطنين الذين لم يبلغوا سن العمل، والذين لا يستطيعون القيام به، والذين عجزوا عنه نهائيا مضمونة”. إلى جانب ضمان الدولة لحماية الأسرة والطفولة والشيخوخة نص هذا الدستور، في المادتين 63 و 66، على إدراج حماية هذه الفئات ضمن الواجبات الملقاة على عاتق المواطنين.

وعلى عكس الدستورين المغربي والجزائري لم ينص الدستور الموريتاني الحالي على حماية جميع الفئات الثلاث، واكتفى فقط بالتنصيص، في ديباجته، على حماية الحقوق المتعلقة بالأسرة كخلية أساسية للمجتمع. وأورد مادة خاصة تؤكد هذه الحماية ونص في المادة 16 على أن ” الدولة والمجتمع يحميان الأسرة”.

2ـ حق العيش الكريم.

حق كل فرد في مستوى معيشي ملائم، ومناسب لنفسه ولعائلته بما في ذلك الغذاء والملبس والمسكن والتطبيب والخدمات الاجتماعية وتحسين أحواله المعيشية بصفة مستمرة، تكفي لضمان الصحة والرفاهية له ولأسرته. وهو حق نصت عليه المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[89]]url:#_ftn89 والمادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية[[90]]url:#_ftn90 .
اكتفت الدساتير المغاربية بالتلميح فقط لهذا الحق، إما في ديباجتها أو في صدر مقتضياتها كما فعلت الدساتير المغربية التي اعتبرت في الفصل 1 بأن ” نظام الحكم في المغرب نظام ملكية دستورية ديمقراطية اجتماعية” وفي دستور 2011 أضيفت عبارة برلمانية. وفي ظل هذا الدستور تعزز حق العيش الكريم بالتنصيص في الفصل 31 على ” ضمان الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية حق العلاج والعناية الصحية، الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، السكن اللائق، الشغل”.
وعلاوة على هذا تم مأسسة المجلس الاقتصادي والاجتماعي كمؤسسة دستورية تقدم الاستشارات في جميع القضايا التي لها طابع اقتصادي واجتماعي منذ دستور 1992، مما يترجم انشغال الدولة المغربية بجعل رغد عيش المواطن من الأهداف الأساسية والأولية[[91]]url:#_ftn91 .

وعلى هذا النهج سارت الدساتير الجزائرية ونصت على ضمان معيشة لائقة لبعض الفئات من المجتمع. حيث أكد الدستور الحالي في المادة 14 على أن ” الدولة تقوم على مبادئ التنظيم الديمقراطي والعدالة الاجتماعية” متفاديا بذلك التنصيص على حق كل فرد جزائري في حياة لائقة وفي توزيع عادل للدخل القومي كما فعلت الدساتير الأولى ذات النزعة الاشتراكية.

أما الدستور الموريتاني الحالي فاكتفى بالتلميح لهذا الحق في ديباجته، ونص في المادة 1 أن ” موريتانيا جمهورية إسلامية ديمقراطية واجتماعية”، ونص في المادتين 95 و 96 على إنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي لإبداء الرأي في كل مسألة ذات طابع اقتصادي واجتماعي تهم الدولة.

3ـ الحق في الرعاية الصحية.

أقر العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حق كل إنسان في التمتع بأحسن مستوى من الصحة البدنية والفعلية[[92]]url:#_ftn92 .
إن التعريف الدستوري للحق في الدول المغاربية تباينت من دستور لأخر ومن نظام لأخر. فإذا كانت الدساتير المغربية السابقة سكتت تماما عن الإشارة في الحق في الصحة، فالدستور الحالي تدارك هذا الأمر فنص صراحة على الحق في الرعاية الاجتماعية حيث ينص الفصل 31 على” عمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية لتيسير استفادة المواطنين من الحق في العلاج والعناية الصحية، الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، الاستفادة من التربية البدنية والفنية”.
وعلى خلاف المغرب تم تأكيد الحق في الرعاية الصحية في الجزائر منذ دستور 1976 بصيغة قوية حيث اعتبرت المادة 67 أن ” حق الرعاية الصحية مضمون عن طريق توفير خدمات صحية عامة ومجانية وبتوسيع مجال الطب الوقائي، والتحسن الدائم لظروف العيش والعمل، وكذلك عن طريق ترقية التربية البدنية والرياضة ووسائل الترفيه”. وتواتر التنصيص على هذا الحق في الدساتير اللاحقة، غير أن الصياغة تغيرت وأصبحت أقل قوة وحدة من السابق، حيث تنص المادة 54 من الدستور الحالي ( المادة 51 من دستور 89) على أن ” الرعاية الصحية حق للمواطنين، تتكفل الدولة بالوقاية من الأمراض الوبائية والمعدية ومكافحتها”.
بينما جاءت جميع الدساتير الموريتانية خالية من الإشارة إلى هذا الحق.

ثالثا: الحقوق والحريات الثقافية.

تتمثل الحقوق والحريات الثقافية حسب الأدوات الدولية لحقوق الإنسان في: الحق في التعليم، حق المشاركة في الحياة الثقافية بمختلف أشكالها، الحق في التواصل بجميع أشكاله. وهي حقوق لا تتداخل فيما بينها فحسب، ولكنها تتشابك بكيفية متزامنة مع الحريات اللصيقة بها، كما تستلزم ممارستها الفعلية إشباع الحاجات الاقتصادية والاجتماعية، والتمتع بمستوى معيشي ملائم[[93]]url:#_ftn93 .
احتلت هذه الحقوق مكانة مركزية في البرامج التي بلورتها الحركات الوطنية المغاربية، بل شكلت أحد المحاور التي تعبأت حولها شعوب هذه البلدان بعد نيل الاستقلال[[94]]url:#_ftn94 . غير أن تكريسها في الدساتير المغاربية تأرجحت، من الناحية الشكلية، بين الاقتضاب والتفصيل.

1ـ الحق في التعليم والتربية.

يقصد به تعليم العلوم المختلفة وما يتفرع عن ذلك من نشر العلم. ويحتل هذا الحق مكانة مركزية بين مجمل الحقوق الثقافية، بحكم أن المشاركة في الحياة الثقافية والتواصل الثقافي يفترضان توافر الأفراد على مستوى معين من المعرفة.وقد ورد هذا الحق في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[95]]url:#_ftn95 ، وألح عليه العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية[[96]]url:#_ftn96 .

تباينت الدساتير المغاربية في التكريس الدستوري لهذا الحق، فجاء بصيغة مقتضبة جدا في الدساتير المغربية ، وبصيغة أكثر دقة وتفصيلا في الدساتير الجزائرية ، بينما جاءت الدساتير الموريتانية خالية من الإشارة إلى حق التعليم.

أشارت الدساتير المغربية السابقة إلى هذا الحق باقتضاب جديد، فنصت في الفصل 13 على أن ” التربية و الشغل حق للمواطنين على السواء”. وفي الدستور الحالي تم التأكيد على هذا الحق، وجاء بصياغة جديدة عرفت نوعا من التوسع في هذا الميدان، حيث تم الإشارة إلى مختلف المبادئ المتعلقة بهذا الجانب: المجانية، الإجبارية، المساواة. فنص في الفصل 31 على أن ” تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة، ومن التكوين المهني، والاستفادة من التربية البدنية والفنية”. ويضيف في الفصل 32 أن ” التعليم الأساسي حق للطفل وواجب على الأسرة والدولة”.
أما المشرع الدستوري الجزائري فقد تحدث عن هذا الحق بدقة منذ الدستور الأول فنص في المادة 18 على ” إجبارية التعليم وجعل الثقافة في متناول الجميع دون تمييز”. وجاء دستور 1976 وأثرى هذا الحق، فنص في المادة 66 على ” إجبارية ومجانية التعليم ودور الدولة في ضمان هذا الحق”. وجاء الدستور الحالي وأكد هذه المبادئ ونص في المادة 53 على أن ” الحق في التعليم مضمون، التعليم مجاني حسب الشروط التي يحددها القانون، التعليم الأساسي إجباري، تنظم الدولة المنظومة التعليمية، تسهر الدولة على التساوي في الالتحاق بالتعليم والتكوين المهني”.
وعلى النقيض من هذا أغفلت الدساتير الموريتانية الإشارة إلى حق التعليم وهي ثغرة يجب تداركها في القريب العاجل.

2ـ حق المشاركة في الحياة الثقافية.

يستلزم المفهوم الواسع لهذا الحق المكرس في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[97]]url:#_ftn97 ، وفي العهد الدولي المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية[[98]]url:#_ftn98 ، اتخاذ الدول للتدابير اللازمة التي تتطلبها صيانة العلم والثقافة وإنماؤها، والعمل على جعل الأفراد المنتمين للأقليات يتمكنون من التمتع بثقافتهم الخاصة واستعمال لغتهم بالاشتراك مع الآخرين وتوفير الوسائل المادية لتحقيق ذلك.
تباينت الدساتير المغاربية فيما بينها فيما يخص التنصيص صراحة على حق المشاركة في الحياة الثقافية ، فنص الدستور المغربي الجديد في الفصل 25 على “ضمان حرية الإبداع والنشر”. ونص في الفصل 26 على أن ” تدعم السلطات العمومية تنمية الإبداع الثقافي”. ونص في الفصل 33 بأن ” على السلطات العمومية اتخاذ التدابير لتيسير ولوج الشباب للثقافة والعلم”.
ونصت الجزائر منذ دستورها الأول على “ضمان حرية الابتكار الفكري والفني والعلمي للمواطن”، وهي نفس الصياغة التي احتفظ بها الدستور الحالي في المادة 38 ، وأضاف في المادة 8 ” يختار الشعب لنفسه مؤسسات غايتها المحافظة على الهوية والوحدة الوطنية ودعمها الإزدهار الاجتماعي والثقافي للأمة”. ونص في المادة 31 بأن ” المؤسسات تستهدف ضمان مساواة كل المواطنين والمواطنات في الحقوق والواجبات بإزالة العقبات التي تعوق تفتح شخصية الإنسان، وتحول دون مشاركة الجميع الفعلية في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية”.
بينما اكتفى الدستور الموريتاني الحالي بالتنصيص في المادة 10 على ” ضمان الدولة حرية الإبداع الفكري والفني والعلمي”.

3ـ حق التواصل الثقافي.

يستلزم المفهوم الواسع لهذا الحق العمل على جعل الأشخاص المنتمين للأقليات يتمكنون من التمتع بثقافتهم الخاصة واستعمال لغتهم بالاشتراك مع الآخرين وتوفير الوسائل لتحقيق ذلك، وهذا ما جاء في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة 27[[99]]url:#_ftn99 .
جعلت الدساتير المغاربية الحق في التواصل يكتسي مدلولا مختزلا وبعدا أحاديا، حيث أجمعت على جعل التعريب حقا ومطلبا حضاريا متأكدا[[100]]url:#_ftn100 . غير أن ذلك لا ينفي التفتح على جميع روافد الثقافة الوطنية، بل على اللغات والثقافات الأجنبية، وهذا ما تداركه المشرع الدستوري أخيرا، حيث أن الدساتير الأخيرة تعكس واقع التعدد اللغوي الذي تشهده هذه الأقطار.

إذا كانت الدساتير المغربية السابقة لم تعكس واقع التعدد اللغوي والثقافي الذي يعيشه المغرب، ونصت في تصديرها بأن المملكة المغربية دولة إسلامية لغتها الرسمية هي العربية، مما يجعل الشخصية الوطنية تبدو كنسق مغلق[[101]]url:#_ftn101 . فالدستور الحالي تدارك هذا الأمر، وتم تكريس ثوابت الهوية المغربية الغنية بتعدد روافدها وانفتاحها، فنص في ديباجته على أن ” المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة، متشبثة بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار من أجل التفاهم المتبادل بين مختلف الحضارات الإسلامية جمعاء، وأنها أمة موحدة قائمة على تنوع مقومات هويتها الوطنية وانصهار كل مكوناتها وروافدها، العربية، الإسلامية، الأمازيغية، الصحراوية الحسانية، الإفريقية، الأندلسية، العبرية والمتوسطية”.

كما أن هذا الدستور يقوم على تعاقد لغوي قائم على التعددية والانفتاح، حيث عمل على تكريس الطابع الرسمي للغة العربية وتفعيل الأمازيغية ضمن مسار متدرج ، وتكريس سياسة لغوية وثقافة فاعلة ومنسجمة تروم حماية اللغات الوطنية والرسمية والنهوض بها، وتشجيع تعلم اللغات الأجنبية من أجل الانفتاح والاندماج. ينص الفصل 5 على مايلي” تظل اللغة العربية اللغة الرسمية للدولة، وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها وتنمية استعمالها، تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء، يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية…، تعمل الدولة على صيانة الحسانية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية المغربية الموحدة،…، وعلى حماية اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة في المغرب، وتسهر على انسجام السياسة اللغوية والثقافية الوطنية، وعلى تعلم وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم،باعتبارها وسائل للتواصل والانخراط والتفاعل مع مجتمع المعرفة، والانفتاح على مختلف الثقافات وعلى حضارة العصر”. ونص هذا الفصل على إحداث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية يهتم بوجه الخصوص على حماية وتنمية اللغتين العربية و الأمازيغية، ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية. وعلاوة على هذا نص في الفصل 31 على “استفادة المواطنين من الحق في التنشئة على التشبث بالهوية المغربية والثوابت الوطنية الراسخة”.

وفي الجزائر إذا كانت الدساتير السابقة تجاهلت الحق في التواصل الثقافي بين أعضاء المجموعة الوطنية، ولم تقر بتعدد الروافد اللغوية والثقافية للجمهورية الجزائرية، وذلك بجعل الإسلام واللغة العربية والتراث التاريخي والدفاع عن الإختيار الاشتراكي أهم مكوناتها التي ينبغي تعزيزها لمواجهة مخاطر الاستيلاب ورفضها للعلمانية وللفلسفة الإلحادية التي بدأت تزحف على العالم بعد الحرب العالمية الثانية[[102]]url:#_ftn102 . فإن الأمر لم يتغير مع دستور 1996 الذي نص في المادة 3 على أن ” اللغة العربية هي اللغة الوطنية الرسمية”. وفي المادة 8 على أن ” يختار الشعب لنفسه مؤسسات غايتها المحافظة على الهوية والوحدة الوطنية”.

غير أن المراجعة الدستورية لسنة 2002 تداركت الأمر وعملت على تعزيز حق التواصل الثقافي وذلك بإضافة المادة 3 مكرر والتي تنص أن ” تمازيغت هي كذلك لغة وطنية، تعمل الدولة لترقيتها وتطويرها بكل تنوعاته اللسانية المستعملة عبر التراب الوطني” بذلك تم الإعتراف بصفة رسمية بأحد المكونات والعناصر المكونة للشخصية الجزائرية وهي الثقافة الأمازيغية.
أما موريتانيا فقد حاولت معالجة مسألة التعدد اللغوي منذ البداية فجاء في المادة 3 من دستور 1961 بأن ” اللغة العربية هي اللغة الوطنية، واللغتان الرسميتان هما اللغة العربية واللغة الفرنسية”، غير أن هذه المحاولة ليست إلا ترقيعا فقط لكون اللغة الفرنسية ليست هي اللغة الأصلية للزنوج الموريتانيين. وبصدور الدستور الحالي تعزز حق التواصل الثقافي، حيث أقر تعدد روافد الثقافة الموريتانية وتأكيده على ذاتية وإقليمية اللغة العربية فنص في المادة 6 بأن ” اللغات الوطنية هي العربية والبولارية والسونتكية والولفية، اللغة الرسمية هي العربية”.

رابعا: الحقوق التضامنية.

يطلق عليها بالجيل الثالث لحقوق الإنسان، وهي ليست إلا نتاجا لشروط التحول الحضاري والفكري المرافق له. وسميت هذه الحقوق بحقوق التضامن كنعت للتطور الاقتصادي والعلمي والسياسي الذي شهده العالم في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وما استلزمه أمر ذلك التطور من تضامن بين مكونات النظام الدولي، إما لتحقيق غايات محددة كالتنمية، أو درء لمخاطر مهددة للجميع كالحفاظ على البيئة والحفاظ على السلام، أو الاستفادة المشتركة من نتائج التطور العلمي والتكنولوجي…الخ[[103]]url:#_ftn103 .
وتشمل هذه الحقوق حق التنمية، الحق في بيئة صحية ونظيفة، الحق في السلام العادل، التراث المشترك للإنسانية جمعاء. وهي حقوق لم تظهر مرة واحدة، بل ظهرت بشكل منفصل بعضها عن البعض، ولكل منها أسباب ظهوره.
من الناحية القانونية انطلقت حقوق هذا الجيل من الإعلانات الدولية الصادرة عقب مؤتمرات دولية، لتستقر كمبادئ قانونية في صلب اتفاقيات دولية وكجزء من القانون الدولي لحقوق الإنسان،ثم بدأت تشق طريقها إلى القوانين الداخلية العادية لتستقر فيما بعد في نصوص دساتير بعض الدول.
وفي هذا الإطار الذي أسمى يعرف بحقوق التضامن والتدعيم واكراهات تشابك العلاقات الدولية انفرد الدستور المغربي الجديد 2011 عن الدساتير المغاربية الأخرى بالإشارة إلى بعض مقتضيات الجيل الثالث من حقوق الإنسان، إلى جانب استحضار الحقوق التقليدية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ونص على الحق في التنمية والعيش في بيئة سليمة.

1ـ الحق في التنمية .

الحق في التنمية بجميع مستوياتها، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية،[[104]]url:#_ftn104 من حقوق الإنسان التي لاقت اهتماما منذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة سنة 1945، والتي تؤكد أن الاستقلال الحقيقي هو استقلال الدولة من التبعية الاقتصادية وإقرار حقها في السيادة على الموارد الطبيعية[[105]]url:#_ftn105.
وتعود الإرهاصات الأولى لهذا الحق إلى مؤتمر باندونغ لحركة عدم الانحياز سنة 1955. وفي سنة 1977 دعت لجنة حقوق الإنسان للأمم المتحدة إلى تبنيه كحق، وفي سنة 1979 تم إقراره من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة كحق من حقوق الإنسان، وبتاريخ 4 دجنبر 1986 صدر إعلان عن الجمعية المتحدة تشدد على الحق في التنمية كحق للإنسان الفرد وللشعوب على السواء[[106]]url:#_ftn106 .
وفيما يخص الأنظمة المغاربية انفرد الدستور المغربي الجديد بتكريس هذا الحق ضمن مقتضياته، ونص في الفصل 31 على أن ” تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في التنمية المستدامة.

2ـ الحق في البيئة السليمة.

يعتبر الحق في بيئة صحية ونظيفة ومصونة من التدمير حق فردي وجماعي، نشأ كرد فعل على المخاطر، النفايات السامة والإشعاعات النووية…الخ، التي تهدد الإنسان والتي فجرها التقدم العلمي في ظل نظام دولي شامل متسم بعصر الذرة وتعدد الأقطاب[[107]]url:#_ftn107.
ظهر هذا الحق نتيجة الاهتمام الدولي بالبيئة وبالقضايا والمشاكل المتمخضة عنها، وظهور هيئات جندت نشاطها لمحاربة التلوث، وقد ظهر لأول مرة على المستوى الدولي في إعلان ستوكهولم حول البيئة الإنسانية سنة 1972 تضمن حق الإنسان في بيئة سليمة ومسؤولية الدولة والإنسان معا على حماية البيئة لصالح الأجيال القادمة[[108]]url:#_ftn108 . ومن بعده إعلان ريو دي جانيرو عن البيئة والتنمية سنة 1992، المسمى بمؤتمر الأمم المتحدة الخاص بالبيئة والتنمية، الذي تضمن حماية البيئة البحرية والبرية والجوية من التلوث، والحفاظ على البيئة الطبيعية بعناصرها المتوازنة والحق في التمتع بالثروات الموجودة في أعماق البحار والحق في بيئة صحية متوازنة[[109]]url:#_ftn109 .

انفرد الدستور المغربي الجديد عن نظرائه المغاربيين بالتنصيص على حق العيش في بيئة سليمة فنص بصريح العبارة في الفصل 31 على أن ” تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، في الحق في الحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة”. ولهذا الغرض نص في الفصل 152 على إحداث المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي كهيئة استشارية في جميع القضايا التي لها طابع بيئي.

إن التنصيص على مختلف هذه الحقوق التي كرستها مختلف الأدوات الدولية لحقوق الإنسان في الدساتير المغاربية، مهنا كانت أميته ومهما بلغ مستوى التعبير عنها، فإنه لا يمكن حمايتها من دون وجود ضمانات فعالة تؤكد احترامها وتحول دون انحراف السلطة بها.
إن الإقرار بحقوق الإنسان وحرياته شيء، وتوفير الحماية لممارسة هذه الحقوق شيء أخر. فالنصوص قد تجد مجالا للتطبيق أو أن هناك من يحول دون ممارسة الأفراد لحقوقهم وحرياتهم، لهذا يستوجب توفير آلية لحماية هذه الحقوق. فما هو مضمون هذه الضمانات والآليات؟ وما مدى حضورها في الدساتير المغاربية؟.

الفرع الثاني: الضمانات الأساسية للحقوق والحريات.

لقد حظيت حقوق الإنسان وحرياته برعاية الوثائق الدستورية والتشريعات الوضعية في الأنظمة السياسية المعاصرة، باعتبار الإنسان هو الغاية والهدف لأي نظام يتمحور حول قاعدة القانون، بالتالي وضعت الضمانات الأساسية التي تكفل للفرد ممارسة هذه الحقوق.فالتنصيص على الحقوق والحريات في صلب الدساتير، مهما كانت أهميته، يكون بدون جدوى إذا لم تصحبه ضمانات تكفل ممارسة هذه الحقوق وتطبقها على أرض الواقع.

والحديث عن الضمانات لا ينطوي بحال على أي تشكيك في حسن نوايا السلطات العليا أو في قدرة الحاكمين على استجلاء الصالح المشترك، بل إن الحديث عن الضمانات يهدف إلى إيضاح دورها كعون للحكام لتحقيق الصالح العام[[110]]url:#_ftn110 .

عملت الأدوات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وحرياته على إبراز الوسائل الناجعة داخليا، لإمكانية تجسيد عملي للمبادئ الآمرة التي أعلنتها، والحقوق التي كرستها وجعلها بمنأى عن أي انتهاك أو تعسف ضدها. وتتمثل أولى هذه الضمانات في وجود دستور للدولة وما يرد فيه من نصوص لحماية حريات الأفراد وحقوقهم وعدم المساس بها، بما يؤدي إلى إهدارها أو وضع قيود تحد من ممارستها[[111]]url:#_ftn111 .
وقد حرصت مختلف دول العالم على ذكر أهم الضمانات التي تكفل حقوق الإنسان وممارسة و الحريات الفردية والجماعية في صلب دساتيرها، وأحالت بخصوص تلك الضمانات إلى القانون بجعلها بمنأى عن أي انتهاك أو تعسف ضدها. ويميز الباحثون في هذا الصدد بين نوعين من الضمانات: ضمانات قانونية ودستورية(الفقرة الأولى) و أخرى سياسية ( الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: الضمانات القانونية والدستورية للحقوق والحريات العامة.

إن الضمانات القانونية والدستورية لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية من الحقائق القانونية المسلم بها في كل نظام قانوني، ويحظى باهتمام دولي وإقليمي ومحلي، ومعترف بها في النظم القانونية الوطنية. فبدون وجود هذه الضمانات تبقى النصوص قواعد قانونية معرضة لتعسف السلطة وإساءة استعمالها[[112]]url:#_ftn112 .
ولعل أهم الضمانات الدستورية العامة التي تكفل حقوق الإنسان وحرياته ،مبدأ المساواة، مبدأ المشروعية أو سيادة القانون، مبدأ الفصل بين السلطات، مبدأ استقلالية السلطة القضائية ومبدأ الرقابة على دستورية القوانين[[113]]url:#_ftn113 . والمتمعن في الدساتير المغاربية يجد أنها نظمت هذه المبادئ إما بشكل مباشر والتنصيص عليها بصريح العبارة، أو بشكل غير مباشر والتنصيص عليها ضمنيا أو تلميحا.

أولاـ مبدأ المساواة القانونية.

مبدأ وحق لا غنى عنه لحماية الفرد ووقايته من القمع، وكان من المبادئ الأساسية التي جاءت في التصريح الفرنسي سنة 1789، وتم تكريسه كحق في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[114]]url:#_ftn114 ، وتم التأكيد عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[[115]]url:#_ftn115 .
يعتبر مبدأ المساواة حجر الزاوية في الحريات العامة وأساسها التي لا قيام لها بدونه، وهذا ما يفسر حرص واضعي الدساتير الحديثة على تضمين هذا الحق، والنص على ضمانه بين جميع المواطنين دون تمييز، بسبب الجنس ، أو الأصل، أو اللون، أو الدين أو المذهب السياسي [[116]]url:#_ftn116 .
نصت جميع الدساتير المغاربية على هذا المبدأ بصيغة صريحة ، سواء في ديباجتها أو في صلبها. ويندرج ضمن هذا المبدأ مصادر عدة، سواء تلك التي تشير إليها المواد المتعلقة بضمان مساواة كل المواطنين والمواطنان في الحقوق، والمساواة أمام القانون. أو التذكير بالمساواة في تقليد الوظائف العامة في الدولة، أو المساواة في التعليم وأمام العدالة، المساواة في الواجبات وأمام التكاليف العامة والتكاليف الضريبية، المساواة في الدفاع عن الوطن.

1ـ المساواة أمام القانون.

يعتبر هذا المبدأ ضمانة دستورية أساسية لاحترام حقوق الإنسان، وبه يعتبر جميع الناس متساوين أمام القانون مهما اختلفت ديانتهم أو صفاتهم أو لغاتهم أو صفاتهم أو وظائفهم أو أوضاعهم الاجتماعية ، ودون النظر للعرق أو اللون أو الجنس أو غير ذلك، ودون معاملة تفضيلية بين الأطراف في علاقة قانونية معينة. وقد ورد هذا المبدأ في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[117]]url:#_ftn117 ، وتم التأكيد عليه في العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية[[118]]url:#_ftn118 . والمقصود بهذا المبدأ ليس المساواة الفعلية في ظروف الحياة المادية، بل المقصود به أن ينال الجميع حماية القانون على قدم المساواة بدون تمييز في المعاملة أو في التطبيق[[119]]url:#_ftn119 .
أجمعت الدساتير المغاربية التنصيص على مبدأ المساواة أمام القانون بصيغة صريحة ، فنصت جميع الدساتير المغربية السابقة على أن ” جميع المغاربة سواء أمام القانون”. وقد تعزز هذا المبدأ في الدستور الجديد 2011 بتغيير مدلول هذا النص وإضافة عبارات جديدة حيث ينص الفصل 6 بأن ” القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة. والجميع ، أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالإمتثال له”.

وفي الجزائر ورد هذا المبدأ في جميع دساتيرها، ونص الدستور الحالي في المادة 29 بأن ” كل المواطنين سواسية أمام القانون، ولا يمكن أن يتذرع بأي تمييز يعود سببه إلى المولد أو العرق، أو الجنس أو أي ظرف أخر شخصي أو اجتماعي”.

وعلى هذا النهج سار الدستور الموريتاني لسنة 1991 ونص في المادة 1 على أن ” تضمن الجمهورية لكافة المواطنين المساواة أمام القانون دون تمييز في الأصل أو العرق أو الجنس أو المكانة الاجتماعية”.

2ـ مبدأ المساواة في ممارسة الحقوق.

يقر هذا المبدأ مختلف حقوق المواطنين والمواطنات في ممارسة الحقوق المدنية والسياسية طبقا للشروط التي يحددها القانون. ورد هذا المبدأ في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[[120]]url:#_ftn120 . و قد أعلنت مختلف الدساتير العالمية مبدأ المساواة في الحقوق لجميع المواطنين دون تفرقة، وعلى هذا الأساس سارت مختلف الدساتير المغاربية.

نصت جميع الدساتير المغربية السابقة في الفصل 8 على أن ” الرجل والمرأة متساويان في التمتع بالحقوق السياسية”. ونصت في الفصل 13 بأن ” التربية والشغل حق للمواطنين على السواء”. وفي ضل الدستور الجديد تم تعزيز هذا المبدأ ، حيث جاء بإضافة جديدة لتعزيز المساواة بين الرجل والمرأة تجسيدا لمبدأ المساواة الايجابية، تتمثل في إقرار مبدأ المناصفة ودسترتها، مما يشكل نوعا من التدعيم والاستجابة لمطالب هيئة الإنصاف والمصالحة ونص في الفصل 19 ” يتمتع الرجل والمرأة على قدم المساواة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية الواردة في في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وفي الاتفاقيات والمواثيق الدولية كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها، وتسعى الدولة إلى تحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء، وتحدث لهذه الغاية هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز”. كما نص في الفصل 30 على أن ” لكل مواطن ومواطنة الحق في التصويت وفي الترشيح للانتخابات، والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية، وينص القانون على مقتضيات من شأنها تشجيع تكافؤ الفرص بين النساء والرجال في ولوج الوظائف الانتخابية”. ونص في الفصل 31 بأن “تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات على قدم المساواة من الحق في العلاج والعناية والصحة، الحماية الاجتماعية، التغطية الاجتماعية، تعليم عصري، السكن اللائق، الشغل، بيئة سليمة، التنمية المستدامة”.

و الجزائر نصت في مختلف دساتيرها على هذا المبدأ، وقد ورد في دستور 1963 بصيغة شمولية في المادة 12 التي أكدت على المساواة في الحقوق. وعبر دستور 1976 عن هذا المبدأ في المادة 39 التي تنص على ضمان الحريات الأساسية وحقوق الإنسان والمواطن. وفي المادة 42 التي تؤكد على ضمان المساواة في الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمرأة الجزائرية. وأكد دستور 1989 على هذا المبدأ من خلال التنصيص على مبدأ المساواة في المادة 28، ومن خلال التنصيص في المادة 29 على جعل الحريات والحقوق تراثا مشتركا بين جميع الجزائريين والجزائريات، وهي إشارة إلى المرأة[[121]]url:#_ftn121 . ومن خلال التنصيص في المادة 30 على “كفالة المساواة لكل المواطنين وذلك بإزالة العقبات التي تحد في الواقع المساواة بين المواطنين وتعوق ازدهار الإنسان وتحول دون المشاركة الفعلية لكل المواطنين في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية”.

أما الدستور الجزائري الحالي فقد أكد على هذا المبدأ في المادة 31 بنصها ” تستهدف المؤسسات ضمان مساواة كل المواطنين والمواطنات في الحقوق والواجبات بإزالة العقبات التي تفتح شخصية الإنسان، وتحول دون مشاركة الجميع الفعلية في الحياة السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية”. وفي المادة 32 التي تنص بأن ” الحريات الأساسية وحقوق الإنسان تكون تراثا مشتركا بين جميع الجزائريين والجزائريات”. كما تنص المادة 53 على المساواة في الالتحاق بالتعليم والتكوين المهني.
ومع التعديل الدستوري لعام 2008 تعزز هذا المبدأ بتوسيع مجال الحقوق السياسية للمرأة، حيث تم إضافة مادة جديدة تخص المشاركة السياسية للمرأة، وهي المادة 31 مكرر والتي تنص ” تعمل الدولة على ترقية الحقوق السياسية للمرأة بتوسع حظوظ تمثيلها في المجالس المنتخبة”.
والدستور الموريتاني الحالي فقد أورد هذا المبدأ من خلال تنصيصه في المادة 10 ” تضمن الدولة لكافة المواطنين الحريات العمومية والفردية”.

3ـ المساواة في تقلد الوظائف العامة.

أي تكافؤ الفرص في شغل الوظائف العامة في الدولة. أي أن المواطنين متساوين في الحصول على الفرص وفقا لأحكام القانون، وأن ينالها من هو أهل لها وفق معيار القانون وحده دون أن تشوب الإختيار اعتبارات أخرى غير قانونية. وقد ورد هذا المبدأ في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[122]]url:#_ftn122 ، وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[[123]]url:#_ftn123 .

أكدت مختلف الدساتير المغاربية الحق لجميع المواطنين في تولي الوظائف العامة دون تمييز من حيث المولد أو العرق أو الجنس أو الرأي أو ظرف شخصي أو اجتماعي، ودون أية شروط أخرى غير تلك التي يحددها القانون. فنصت جميع الدساتير المغربية السابقة في الفصل 12 على أنه “يمكن لجميع المواطنين أن يتقلدوا الوظائف والمناصب العمومية وهم سواء فيما يرجع للشروط المطلوبة لنيلها”. الأمر الذي أكده الدستور الجديد في الفصل 31 والذي جاء بصياغة جديدة ” تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات على قدم المساواة من الحق في الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل، ولوج الوظائف العمومية حسب الاستحقاق”.

ونصت مختلف الدساتير الجزائرية على حق كل شخص في ولوج وظائف الدولة دون تمييز، وعرف هذا المبدأ تطورا كبيرا في الدستور الحالي مقارنة مع سابقيه[[124]]url:#_ftn124 ، حيث تم التنصيص صراحة على هذا المبدأ في المادة 51 والتي جاء فيها ” يتساوى جميع المواطنين في تقلد المهام والوظائف في الدولة دون أية شروط أخرى غير الشروط التي يحددها القانون”.
وعلى هذا النهج سار الدستور الموريتاني الحالي وأكد على هذا المبدأ بتنصيصه في المادة 12 ” يحق لكافة المواطنين تقلد المهام والوظائف العمومية دون شروط أخرى سوى تلك التي يحددها القانون”.

4ـ مبدأ المساواة أمام العدالة.

يعتبر هذا المبدأ من أهم نتائج المساواة أمام القانون، ويقصد به كفالة الدولة لكل فرد حق التقاضي للمطالبة بحقوقه والدفاع عنها. ويقتضي مضمون المساواة أمام القضاء أن يتقاضى الجميع أمام المحكمة الواحدة، بحيث لا يختلف باختلاف الأشخاص أو الطبقات الاجتماعية، وكذلك يجب أن يكون القانون المطبق واحدا وأن تكون إجراءات التقاضي موحدة، وأن توقع ذات العقوبة المقررة لنفس الجرائم على أشخاص مرتكبيها. كما يقتضي أيضا أن يكون اللجوء إلى القضاء مجانيا لكي تتحقق المساواة أمامه[[125]]url:#_ftn125 .

ورد هذا المبدأ في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[126]]url:#_ftn126 ، وتم التأكيد عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[[127]]url:#_ftn127 . وعملت مختلف الدساتير المغاربية على كفالة الدولة لهذا الحق، وأكدت على مبدأ المساواة أمام القضاء إما بصيغة صريحة أو ضمنية.

أشارت جميع الدساتير المغربية السابقة إلى هذا المبدأ بصيغة ضمنية عند تنصيصها في الفصل 5 على مبدأ المساواة أمام القانون، وهي بالطبع تضم جملة ما تضم المساواة أمام القضاء. لكن بصدور الدستور الجديد تعزز هذا المبدأ وتم الإشارة إليه صراحة، وذلك بتخصيص عنوان يهم حقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة في الباب السابع المتعلق بالسلطة القضائية. ونص في الفصل 118 على أن ” حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه وعن مصالحه التي يحميها القانون”. ونص في الفصل 121 ” يكون التقاضي مجانيا في الحالات المنصوص عليها قانونا لمن لا يتوفر على موارد كافية للتقاضي”، ويضيف الفصل 126 أن ” الأحكام الصادرة عن القضاء بصفة نهائية ملزمة للجميع”.

وفي الجزائر إذا كان دستور 1976 قد نص صراحة على هذا المبدأ حيث جاء في المادة 165 أن ” الكل سواسية أمام القضاء، وهو في متناول الجميع، وتصدر أحكام القضاء وفقا للقانون وسعيا إلى تحقيق العدل والقسط”. إلا أن هذا التأكيد الصريح تراجع مع دستور 1989، حيث اكتفى بالتنصيص على المساواة القانونية فقط. وفي ظل الدستور الحالي تعزز المبدأ وتم التنصيص عليه بصراحة، حيث تنص المادة 140 على أن ” أساس القضاء مبادئ الشرعية والمساواة، الكل سواسية أمام القضاء وهو في متناول الجميع ويجسده احترام القانون”. وتضيف المادة 139 أن ” السلطة القضائية تحمي المجتمع والحريات وتضمن للجميع ولكل واحد المحافظة على حقوقهم الأساسية”.

أما الدستور الموريتاني الحالي فقد اكتفى بالإشارة ضمنا إلى هذا المبدأ عند حديثه في الديباجة عن المساواة، وعند تنصيصه على مبدأ المساواة أمام القانون.
وإلى جانب هذا نصت مختلف الدساتير الحديثة على مبدأ المساواة في الشق المتعلق بالواجبات، فمقابل المساواة في الحقوق العامة حرصت مختلف الدساتير على إقرار المساواة في نطاق التكاليف والأعباء العامة، لأنه بدون المساواة في الواجبات تحول المساواة في الحقوق إلى مساواة نظرية فقط. وعلى هذا النهج سارت الدساتير المغاربية ونصت على مبدأ المساواة في الواجبات تجاه الدولة وتجاه الجماعة. وهكذا أجمعت التنصيص على المساواة أمام التكاليف العامة[[128]]url:#_ftn128 ، وعلى المساواة في الدفاع وحماية الوطن[[129]]url:#_ftn129 .وانفرد الدستورين الجزائري والموريتاني بالتنصيص على مبدأ المساواة أمام التكاليف والأعباء الضريبية [[130]]url:#_ftn130 .

ثانياـ مبدأ خضوع الدولة للقانون.

يعتبر مبدأ سيادة القانون أو مبدأ المشروعية أو الشرعية ، أو مبدأ الدولة القانونية، على اختلاف التسميات لدى الفقهاء، أساس العدالة وقمة الضمانات الأساسية لاحترام حقوق الإنسان والحريات العامة من تعسف السلطة، ويعد من أسس قيام النظام الديمقراطي واحترامه بشكل فعلي يؤدي إلى قيام دولة القانون.
ويقصد به خضوع المواطنين والدولة بكافة سلطاتها ومؤسساتها وإدارتها وموظفيها كافة من جميع المراتب للقانون المطبق في البلاد، دون أن يكون هناك امتياز لأي أحد واستثناء من تطبيق حكم القانون عليه. أي أن تتوافق كل التصرفات التي تصدر من سلطات الدولة، سواء كانت تشريعية أو تنفيذية أو قضائية، مع أحكام القانون. وبصفة عامة يعني أن القانون هو الحاكم الأعلى للجميع سواء للأفراد في علاقتهم بالسلطة أو بالنسبة للأفراد فيما بينهم.
ورد هذا المبدأ في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[[131]]url:#_ftn131 ، وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[[132]]url:#_ftn132 . ونصت مختلف الدساتير الحديثة على هذا المبدأ، بل وتتفاخر الدول المتحضرة، لاسيما الديمقراطية منها، بتبنيها لهذا المبدأ. والدساتير المغاربية وإن كانت لم تنص على هذا المبدأ بصريح العبارة فإنها تضمنت ما يفيد أخذها به.

تحدثت الدساتير المغربية السابقة عن سيادة القانون عند تنصيصها في الفصل 4 على أن ” القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة، ويجب على الجميع الامتثال له”. و نص الدستور الجديد في الفصل 6 أن ” القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة والجميع، أشخاصا ذاتيين أو اعتبارين، بما فيهم السلطات العمومية متساوون أمامه وملزمون بالامتثال له، وليس للقانون أثر رجعي”.

وأشارت الدساتير الجزائرية إلى هذا المبدأ بصيغة أقل حمولة من نظيراتها المغربية، ونص الدستور الحالي في المادة 60 على أن ” يجب على كل شخص أن يحترم الدستور وقوانين الجمهورية”. ونص الدستور الموريتاني في المادة 4 على أن ” القانون هو التعبير الأعلى عن إرادة الشعب ويجب أن يخضع له الجميع”.

ثالثاـ مبدأ الفصل بين السلط.

يعتبر ضمانة قانونية أساسية يسهم في خضوع الدولة للقانون ويشكل ضمانة هامة وفعالة لحماية الحقوق والحريات الأساسية، حيث يمنع طغيان سلطة على صلاحيات سلطة أخرى. ويترتب عنه قيام الدولة القانونية بتخصيص جهة مستقلة لكل سلطة مما يضمن حسن سير مصالح الدولة وحماية الحقوق والحريات ومنع التعسف والتجاوز في السلطة.

يعد هذا المبدأ من نتائج الثورة الفرنسية، ظهر كرد فعل للسلطات المطلقة التي كانوا يتمتعون بها الملوك، ويعتبر من المبادئ الأساسية التي قامت عليها النظم الديمقراطية الليبرالية. وقد حققت هذه النظرية نجاحا كبيرا في عالم السياسة والدستور إلى درجة أنها تبوأت منزلة المبدأ المقدس في نهاية القرن 18، فقد أثبتت التجارب التاريخية لممارسة الحكم أنه كلما تجمعت السلطة في يد واحدة إلا وتعسفت في استعمالها، مما يؤدي إلى انتهاك الحقوق وتقييد الحريات، بل إلى إلغائها، حتى ولو كانت هذه السلطة منتخبة من قبل الشعب. بذلك كان لا بد من التفكير في وسيلة تبعد هذه الممارسة، واقتدى مونتسكيو إلى تنظيم السلطات في الدولة بحيث أن تكون على أساس السلطة توقف السلطة[[133]]url:#_ftn133 . أي عدم جمع السلطات وعدم تركيزها في يد هيئة واحدة بحيث تسند لكل سلطة اختصاص محدد، فتختص السلطة التشريعية بإصدار القوانين المختلفة، والسلطة التنفيذية بتنفيذ هذه القوانين والسلطة القضائية بتطبيق القوانين على ما يعرض عليها من منازعات.

والمقصود بفصل السلط ليس هو استقلال كل هيئة عن الأخرى تمام الاستقلال، بل المقصود عدم تركيز وظائف الدولة وتجميعها في يد هيئة واحدة، بل توزيعها على هيئات منفصلة ومتساوية مع وجود تعاون كل هيئة مع أخرى. بمعنى أخر يجب أن يكون هذا الفصل فصلا مرنا، فصل مع التعاون الدائم وليس فصلا جامدا وصلبا، نظرا لأهمية التعاون وضرورة التكامل، الذي فرضته الممارسة والواقع العملي، بين هذه السلطات من أجل دعم الدولة[[134]]url:#_ftn134 .

كرست مختلف الدساتير العالمية مبدأ الفصل بين السلط، و على هذا النهج سارت الأنظمة المغاربية، وأوردت في دساتيرها هذا المبدأ إما صراحة أو ضمنا، وتضمنت هذا المبدأ من الناحية النظرية على النحو الذي نجده في الدستور الفرنسي لسنة 1958، حيث نجد أن هذه الدساتير تتشابه كثيرا في التنظيمات الخاصة لكل سلطة حتى لا تكاد تختلف إلا في بعض التسميات والعبارات، فجميعها خصصت لكل سلطة باب مستقل، وجعلت التشريع في مجال الحقوق والحريات من اختصاص الشعب مباشرة وعن طريق ممثليه في البرلمان.[[135]]url:#_ftn135

ففي المغرب إذا كانت الدساتير السابقة لم تنص صراحة على مبدأ الفصل بين السلط، إلا أنه من خلال الطريقة التي اعتمدتها لتنظيم السلطات يتبين أن المشرع المغربي أخذ بهذا المبدأ حيث خصص لكل سلطة باب مستقل، فخصص للملكية الباب الثاني، وللبرلمان الباب الثالث، وللحكومة الباب الرابع ولعلاقات السلط بعضها ببعض الباب الخامس وللقضاء الباب السابع. وجعلت التشريع في مجال الحقوق والحريات من اختصاص الشعب (الفصلين 45 و 46)، ونصت في الفصل 60 على أن تعمل الحكومة على تنفيذ القوانين. و نصت في الفصل 80 على أن القضاء مستقل عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.

وبصدور الدستور الجديد تعزز هذا المبدأ حيث تم التنصيص صراحة على الفصل بين السلط في إطار نظام ملكية دستورية ، إذ ينص الفصل 1 على أن ” نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية ديمقراطية برلمانية واجتماعية، يقوم النظام الدستوري للملكة على أساس فصل السلط وتوازنها وتعاونها”. كما عمل الفصل 71 على توسيع مجال القانون ولا سيما فيما يتعلق بالضمانات في مجال الحقوق والحريات. ونصت الفصول 103 و104 و105 على توازن مرن للسلطات.

وفي الجزائر إذا كانت الدساتير ذات التوجه الاشتراكي قد رفضت مبدأ الفصل بين السلط وكرست هيمنة الحزب الوحيد ووحدة السلطة، فالدساتير ذات التوجه الليبرالي لم تنص صراحة على هذا المبدأ، بل يستفاد من خلال تنظيم مختلف السلطات التي نصت عليها. فالدستور الحالي خص الفصل الأول من الباب الثاني المتعلق بتنظيم السلطات للسلطة التنفيذية والفصل الثاني للسلطة التشريعية والفصل الثالث للسلطة القضائية. ونص في المادة 98 بأن للبرلمان السيادة في إعداد القانون والتصويت عليه، وفي المادة 59 على أن البرلمان يراقب الحكومة، وجعل التشريع في مجال الحقوق والحريات من اختصاص البرلمان بمقتضى المادة 122.

وعلى هذا النهج سار الدستور الموريتاني فخص الباب الثاني للسلطة التنفيذية والباب الثالث للسلطة التشريعية والباب الرابع للسلطة القضائية والباب الخامس للعلاقة بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. وبموجب المادتين 56 و 57 جعل إقرار القانون من اختصاص البرلمان ولا سيما نظام الحريات العمومية وحماية الحريات الفردية. ومنح له حق مراقبة أعمال الحكومة، ومقابل هذا يمكن للحكومة المشاركة في التشريع بموجب المادتين 59 و 61 وحق حل الجمعية الوطنية بموجب المادة 31.

رابعاـ مبدأ استقلال القضاء.

يعد هذا المبدأ أم الضمانات القانونية للحقوق والحريات. ويعني تحرر السلطة القضائية من أي تدخل من جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية، وعدم خضوع القضاة لغير القانون.
تعتبر السلطة القضائية أبرز السلطات الثلاث في الدولة وأكثرها تأثيرا على المواطن، فهي تلعب دورا كبيرا في حماية حقوقه وحرياته من خلال تطبيق التشريعات وتوفير محاكمات عادلة. علاوة على دورها في الرقابة على السلطتين التنفيذية والتشريعية، استنادا إلى مبدأ سيادة القانون، فالقاضي يعد حامي الحقوق والحريات بامتياز. وللقيام بهذه المهمة يتطلب استقلالية السلطة القضائية، وهو ما اتجه إليه المؤسس الدستوري في الأنظمة الديمقراطية بإقرار مبدأ استقلال القضاء. و مدى هذا الاستقلال رهين بطبيعة العلاقات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، فإذا اختلت العلاقة لصالح السلطة التنفيذية انعكس ذلك سلبا على السلطة القضائية وفقدت استقلالها فتضيع حقوق المواطنين.

ولضمان الحقوق والحريات في الدولة الديمقراطية يجب أن ينص دستورها على السلطة القضائية وعلى استقلاليتها، فالارتقاء بالقضاء إلى درجة السلطة وإقرار مبدأ الاستقلالية له أنجع الضمانات لممارسة الحريات. وتتخذ على مستويات مختلفة: على مستوى التدابير، وعلى مستوى الإجراءات. وتتخذ مظاهر مختلفة: الاستقلال الوظيفي الذي يجعل الوظيفة القضائية لا تخضع إلا للقانون. والاستقلال العضوي الذي يجعل من القضاء جهازا يسير شؤونه دون تدخل السلطات الأخرى. والاستقلال الذاتي الذي يجعل من القاضي شخصا متجردا عن المصالح والأهواء الخاصة التي تفقده حياده[[136]]url:#_ftn136 .

وفي الدساتير المغاربية تجسدت هذه المظاهر وهذه المستويات بكيفية متفاوتة، فالدساتير المغربية السابقة اتسمت بالإسهام والتركيز على الاستقلال العضوي للقضاء، فلم تكتف بالإعلان أن القضاء مستقل عن السلطة التشريعية والتنفيذية، بل اعتبرت أن تعيين القضاة يتم بظهير شريف باقتراح من المجلس الأعلى، ولا يعزل قضاة الأحكام ولا ينقلون إلا بقانون، ويسهر المجلس الأعلى للقضاء على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة.

وفي ظل الدستور الجديد تعزز هذا المبدأ، حيث تم الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة إداريا وماليا وجعلها في خدمة حماية الحقوق والحرص على احترام القوانين، ونص في الفصل 107على أن ” السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية”. وفي الفصل 116 على أن ” يتوفر المجلس الأعلى للسلطة القضائية على الاستقلال الإداري والمالي”.

وعمل على دسترة ضمانات أساسية لاستقلالية القضاء حيث ينص الفصل 57 على أن “تعيين القضاة يكون من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية بعد موافقة الملك”. وينص الفصل 108 ” لا يعزل قضاة الأحكام ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون”. وينص الفصل 109 ” يمنع كل تدخل غير مشروع في عمل القضاة الذين يجب أن لا يخضعوا إلى أية أوامر وتعليمات، ولا يخضع لأي ضغط ويعاقب القانون كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة. وينص الفصل 110 ” لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون”.

كما أن هذا الدستور عمل على استبدال المجلس الأعلى للقضاء بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي يرأسه الملك ويتولى على الخصوص السهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة ولاسيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم. ويضع المجلس تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة، ويصدر التوصيات بشأنها، ويصدر أراء مفصلة حول كل مسألة تتعلق بالعدالة مع مراعاة مبدأ فصل السلط ( الفصل 113). كما عمل أيضا على التوسيع في تشكيلة هذا المجلس حيث أصبحت تشكيلته حسب الفصل 115 منفتحة على شخصيات من خارج العالم القضائي مشهود لها بالدفاع عن استقلال القضاء والنزاهة والكفاءة، وعلى مجموعة من الهيئات المستقلة منها المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومؤسسة الوسيط، وعمل على تغيير الرئاسة المنتدبة للمجلس وتوليها من قبل الرئيس الأول لمحكمة النقض عوض وزير العدل. وأكثر من هذا نص على استقلال القاضي نفسه.

وفي الجزائر إذا كانت الدساتير الأولى لم تؤكد على استقلالية السلطة القضائية، حيث جعلت القضاء مجرد وظيفة تحت إشراف السلطة الثورية دفاعا عن مبادئ الثورة الاشتراكية والقاضي موظف يحقق المصالح العليا للدولة، فإن المؤسس الدستوري الجزائري تدارك هذا الأمر وعمل على إقرار مبدأ استقلالية القضاء منذ دستور 1989 حيث جاء دستور 1989 و التعديل الذي عرفه سنة 1996 بمقتضيات مختلفة جوهريا عن الدساتير السابقة ذات الصبغة الاشتراكية، وأكدت على المظاهر المختلفة لاستقلال القضاء[[137]]url:#_ftn137 .

وفي هذا المجال نصت المادة 138 من دستور 1996 على أن ” السلطة القضائية مستقلة وتمارس في إطار القانون”. وأناط لها صراحة مهمة حماية المجتمع والحريات وضمان المحافظة على حقوق الأفراد الأساسية( المادة 139).

وبالإضافة إلى هذا نص على مبدأ المساواة أمام القضاء ونص في المادة 140 أن ” أساس القضاء مبادئ الشرعية والمساواة، الكل سواسية أمام القضاء وهو في متناول الجميع ويجسده احترام القانون”. كما أقر استقلالية القاضي في أداء عمله القضائي مع تمتعه بحماية كفيلة لضمان استقلاله حيث نصت المادة 147 بأنه ” لا يخضع القاضي إلا للقانون” . ونصت على حمايته من أشكال الضغوط والتدخلات والمناورات التي قد تضر بأداء مهمته أو تمس نزاهة حكمه.
ويعتبر المجلس الأعلى للقضاء أهم ضمان للاستقلالية القضاء في الجزائر لكونه الهيئة الوحيدة التي أناط لها الدستور ( المادة 149) مهمة مساءلة القاضي عن كيفية قيامه بمهمته حسب الأشكال المنصوص عليها في القانون. هذه السلطة التي أقرها الدستور للمجلس أضفت قوة إضافية على سلطة القضاء واستقلالية القاضي وتضمن تكفل أكبر بالحريات[[138]]url:#_ftn138 . علاوة عن هذا تنص المادة 155مايلي ” يقرر المجلس الأعلى للقضاء طبقا للشروط التي يحددها القانون، تعيين القضاة، ونقلهم وسير سلمهم الوظيفي، ويسهر على احترام أحكام القانون الأساسي للقضاء وعلى رقابة انضباط القضاة تحت رئاسة الرئيس الأول للمحكمة العليا”. وقد تعزز هذا المبدأ في ظل هذا الدستور باختيار نظام ازدواجية القضاء المنصوص عليه في المادة 152 والذي سيساهم في حماية الحريات بصفة أدق وأنجع.

وعلى عكس هذا نجد أن الدساتير الموريتانية قد نصت على الإستقلال العضوي للقضاء بكيفية تشكك في قابلية تحقيق ذلك. فالدستور الحالي ينص من جهة في المادة 47 على أن ” السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية”، ومن جهة ثانية تنص المادة 50 على أن ” رئيس الجمهورية هو الضامن لاستقلال القضاء ويساعده في ذلك المجلس الأعلى للقضاء”.

و إلى جانب هذا نص الدستور على الاستقلال الوظيفي في المادة 90 والتي تنص ” لا يخضع القاضي إلا للقانون وهو محمي في إطار مهمته من أشكال الضغط التي تمس نزاهة حكمه”.

خامساـ مبدأ الرقابة على دستورية القوانين.

لضمان حماية حقوق الإنسان في الدول الديمقراطية يجب أن ينص دستورها على وجود هيئة دستورية عليا تحظى بالضمانات الكافية والحصانة والاستقلال والنزاهة لتمتنع عن تطبيق أو إلغاء أي قانون أو تشريع يتعارض مع نصوص الدستور.
تعد الرقابة على دستورية القوانين وسيلة من الوسائل الأخرى لدعم الشرعية في الدولة ، وتعبر عن قيام دولة الحق والقانون، بدونها يغدو الدستور دون معنى ويتحول إلى قيمة رمزية، وذلك لدورها الأساسي لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم من السلطة الحاكمة. فعن طريق هذه الرقابة يستطيع القضاء فرض احترام حقوق الإنسان على السلطة التشريعية وإحباط أي محاولة للنيل منها.

يقصد بمبدأ الرقابة على دستورية القوانين تلك العملية التي تروم التأكد من مدى مطابقة القوانين، بكل أنواعها، لروح الدستور ومنطوق أحكامه[[139]]url:#_ftn139 . أي التأكد من أن الأعمال والقوانين الصادرة عن الحكام مطابقة للدستور، فهي تستهدف التأكد من مطابقة القوانين العادية لمقتضيات نصوص الدستور، فإن هي صدرت غير مطابقة لأحكام الدستور اعتبرت غير شرعية وتم إبطالها[[140]]url:#_ftn140 .

تنهض ضرورة إقرار مبد الرقابة على فكرة منطقية مؤداها أن كل قاعدة سفلى تخضع إلى ما يعلوها من قواعد أخرى لأن هنالك تدرجا بين السلط يؤول إلى تدرج بين القواعد[[141]]url:#_ftn141 . فقاعدة المراقبة تجد مبررها المنطقي في التراتبية المفترضة في النظام القانوني، فتفوق الدستور وسموه هو الذي يستتبع مراقبة دستورية القوانين، والذي ينطلق من مبدأي الدستور المكتوب الصلب والمشروعية[[142]]url:#_ftn142 .

ولاحترام هذا السمو نصت مختلف الدساتير العالمية على إنشاء آلية خاصة لمراقبة احترام الدستور، وقد أفرزت تجارب الدول العديد من أساليب هذه الرقابة، فهناك من الدول من أوكلت مهمة الرقابة لأجهزة سياسية، في حين أناطت دول أخرى هذه المهمة للقضاء[[143]]url:#_ftn143.

وبالنسبة للأنظمة المغاربية محل الدراسة فقد تأثرت بالنظام الفرنسي الذي يعد في صدارة الأنظمة التي أصلت مبدأ الرقابة السياسية بواسطة المجالس الدستورية، وأخذت بهذا النوع من الرقابة وأنشأت مجالس دستورية أناطت بها مهام ممارسة الرقابة على دستورية القوانين وفق شروط وإجراءات محددة[[144]]url:#_ftn144 .

عهدت الرقابة على دستورية القوانين في ظل الدساتير المغربية الأولى (62-70-72) إلى جهاز سياسي قضائي تشخصه الغرفة الدستورية بالمجلس الأعلى، وعلى إثر المراجعة الدستورية لسنة 1992 تم استبدال تجربة الغرفة الدستورية بتجربة جيدة تقوم على أساس وجود جهاز ذي طابع سياسي غير تابع لأي جهاز قضائي وهو المجلس الدستوري. وفي ظل دستور 1996 تم الاحتفاظ بنفس الآلية وعهد بالرقابة الدستورية إلى المجلس الدستوري، و جاء بمقتضيات جديدة ومهمة فيما يخص تشكيلته والصلاحيات التي كلف بها بهدف تحقيق توازن أحسن لسير المؤسسات[[145]]url:#_ftn145 .

أما في ظل الدستور الحالي فقد تم استبدال المجلس الدستوري بالمحكمة الدستورية والتي تتألف من 12 عضوا لفترة تسع سنوات ، 6 يعينهم الملك بما في ذلك الرئيس من بينهم عضو يقترحه الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى، 3أعضاء ينتخبهم مجلس النواب، 3 أعضاء ينتخبهم مجلس المستشارين(الفصل 129). ويتم اختيار أعضائها استنادا للفصل 130 من الدستور من بين الشخصيات المتوفرة على تكوين عال في مجال القانون وعلى كفاءة قضائية أو فقهية أو إدارية، والمشهود لهم بالتجرد والنزاهة.

وبموجب الفصل 132 تسهر على احترام سمو الدستور،علاوة على الإختصاصات الأخرى المسندة إليها بفصول الدستور وبأحكام القوانين التنظيمية ، بحيث تبث في صحة انتخاب أعضاء البرلمان وعمليات الاستفتاء،وتبث بصفة إلزامية في صحة ومطابقة القوانين التنظيمية، قبل إصدار الأمر بتنفيذها، والأنظمة الداخلية للبرلمان للدستور قبل الشروع في تطبيقها. كما تبث بصفة اختيارية في مطابقة القوانين والاتفاقيات الدولية المحالة عليها، قبل إصدار الأمر بتنفيذها أو قبل المصادقة عليها، للدستور. وتبث في الطعون المتعلقة بانتخاب أعضاء البرلمان.

كما تختص أيضا حسب منطوق الفصل 133 بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون أثير أثناء النظر في قضية، وذلك إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون الذي سيطبق في النزاع يمس بالحقوق وبالحريات التي يضمنها الدستور. وينص الفصل 134 أنه” لا يمكن إصدار الأمر بتنفيذ مقتضى تم التصريح بعدم دستوريته على أساس الفصل 132 من هذا الدستور، ولا تطبيقه، وينسخ كل مقتضى تم التصريح بعدم دستوريته على أساس الفصل 133 من الدستور، لا تقبل قرارات المحكمة الدستورية أي طريق من طرق الطعن، وتلزم كل السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية والقضائية”.

وفي الجزائر إذا كانت الدساتير الأولى لم تتضمن أي إشارة إلى الرقابة الدستورية، فإن دستور 1989 نص صراحة في المادة 153 على إحداث مجلس دستوري يقوم بفحص دستورية القوانين. وفي ظل الدستور الحالي تم الاحتفاظ بنفس الآلية، وجاء بتعديلات مهمة تضمنت التوسيع في تشكيلة المجلس وفي جهة الإخطار وكذا في الصلاحيات التي كلف بها لتحقيق توازن أحسن لسير المؤسسات، نتيجة الأخذ بنظام الثنائية المجلسية ونظام الازدواج القضائي وإنشاء مجلس الدولة كمؤسسة قضائية إدارية، علاوة على الأخذ بمفهوم القوانين العضوية. بحيث تنص المادة 163 على أن ” يؤسس مجلس دستوري يكلف بالسهر على احترام الدستور، كما يسهر على صحة عمليات الاستفتاء وانتخاب رئيس الجمهورية والانتخابات التشريعية ويعلن نتائج هذه العمليات”.

ويتكون المجلس، حسب المادة 164، من 9 أعضاء مدة ولايتهم ست سنوات، 3 أعضاء من بينهم رئيس المجلس يعينهم رئيس الجمهورية، وعضوين ينتخبهما المجلس الشعبي الوطني، وعضوين ينتخبهما مجلس الأمة، وعضو واحد ينتخبه مجلس الدولة. وبمقتضى 165 يفصل المجلس الدستوري بالإضافة إلى الاختصاصات التي خولتها إياه صراحة أحكام أخرى في الدستور، في دستورية المعاهدات والقوانين والتنظيمات، إما برأي قبل أن تصبح واجهة التنفيذ، أو يقرر في الحالة العكسية. ويبدي المجلس رأيه وجوبا في دستورية القوانين العضوية بعد أن يصادق عليها البرلمان، كما يفصل المجلس في مطابقة النظام الداخلي لكل من غرفتي البرلمان للدستور.
وبموجب المادة 168 إذا ارتأى المجلس الدستوري عدم دستورية معاهدة أو إتفاق أو إتفاقية فلا يتم التصديق عليها. وإذا ارتأى أن نصا تشريعيا أو تنظيميا غير دستوري يفقد هذا النص أثره ابتداء من يوم قرار المجلس ( المادة 169).

وعلى نهج نظرائه المغاربيين أخذ الدستور الموريتاني الحالي بمبدأ الرقابة على دستورية القوانين عن طريق المجلس الدستوري والذي يتكون حسب المادة 81 منه، من 6 أعضاء فترة انتدابهم 9 سنوات يعين رئيس الجمهورية 3 أعضاء من بينهم رئيس المجلس، ويعين رئيس الجمعية الوطنية عضوين، ويعين رئيس مجلس الشيوخ عضو واحد.

ويسهر المجلس على صحة انتخابات رئيس الجمهورية، وينظر في الدعاوى ويعلق نتائج الاقتراع (المادة 83). ويبث في حالة نزاع متعلق بصحة انتخاب النواب والشيوخ ( المادة 84). ويسهر على صحة عمليات الاستفتاء ويعلن نتائجها ( المادة 85). ويبث وجوبا في دستورية القوانين النظامية، قبل إصدارها، والنظم الداخلية للغرفتين البرلمانيتين، قبل تنفيذها، وبصفة اختيارية في مدى تطابق أي قانون قبل إصداره مع الدستور ( المادة86). ولا يصدر أو ينفذ أي حكم أقر المجلس الدستوري عدم دستوريته، وتتمتع قرارات المجلس بسلطة الشيء المقضي به، ولا يقبل الطعن في قرارات المجلس وهي ملزمة للسلطات العمومية وجميع السلطات الإدارية والقضائية ( المادة 87).

الفقرة الثانية: الضمانات السياسية.

من أهم الضمانات السياسية لحماية الحقوق والحريات العامة احترام الرأي العام وحرية التعبير والصحافة وتشكيل الأحزاب السياسية. وبما أننا تطرقنا ‘إلى حرية التعبير والصحافة في الشطر الأول من هذا البحث فسنقتصر الحديث عن ضمانة التعددية السياسية وضمانة الرأي العام.

أولاـ التعددية السياسية والحزبية.

يرى العديد من المهتمين والدارسين للأنظمة السياسية في الديمقراطيات الغربية أن التعددية السياسية تعد ضمانة فعالة تحول دون انحراف السلطة عن أغراضها الدستورية. فوجود الأحزاب السياسية وتمثيلها في البرلمان يجعل سياسة الحكومة تخضع للمراقبة من طرف ممثلي الأمة، سواء بواسطة الآليات التي يمنحها الدستور لأعضاء البرلمان( الأسئلة، الاستجواب، لجان التحقيق، سحب الثقة، ملتمس الرقابة…الخ)،أو عن طريق عمل الصحافة والرأي العام[[146]]url:#_ftn146 .
تندرج التعددية الحزبية التي تجد مجالها في النظام القانوني في إطار التعددية السياسية، والتي تعني تعايش ثقافات سياسية مختلفة ومقبولة في مجتمع ما، والتي تفرض تعايش الهويات والقوميات والثقافات، تجسدها الديمقراطية المتبلورة للمشاركة والمعبرة عن المواطنة الحقة والتي مجالها هو المجتمع والتيارات السياسية المتصارعة وأساسها هو الواقع[[147]]url:#_ftn147.

تعد الأحزاب السياسية من أبرز المؤسسات والتنظيمات السياسية، وهي أدوات الصراع السياسي وأهم عناصر المشاركة السياسية، لدرجة يمكن القول أن الدولة أصبحت دولة الأحزاب السياسية، وأصبحت الديمقراطية والأحزاب أمران متلازمان لا يفترقان، فلا ديمقراطية بدون أحزاب سياسية ولا أحزاب سياسية بدون ديمقراطية[[148]]url:#_ftn148 .

تشدد جل الدساتير العالمية المعاصرة على أهمية التعددية ودور الأحزاب في تنظيم المواطنين وتأطيرهم وتمثيلهم بهدف الوصول إلى السلطة. والدساتير المغاربية الحالية لم تشذ عن هذه القاعدة وتضمنت التنصيص على حرية تكوين الأحزاب السياسية. بيد أنه إذا كانت العلاقة بين الظاهرة الحزبية وصيرورة بناء الديمقراطية واضحة في التاريخ السياسي الغربي الحديث، فإن محددات مغايرة لعبت أدوار رئيسية في ميلاد الأحزاب السياسية وتطورها في أنساق حضارية مختلفة كما هو الحال في الأقطار العربية[[149]]url:#_ftn149 . ففي الدول المغاربية لم تتحكم في بروز الظاهرة الحزبية الاعتبارات نفسها التي كانت في أصل ميلاد الأحزاب في أوربا، بل استمدت مشروعية وجودها من طبيعة المرحلة التي شكلت منطلق ميلاده، حيث مثل النضال من أجل التحرر واسترداد السيادة الوطنية أساس تكوينها.

تعد الظاهرة الحزبية من بين المؤسسات والتنظيمات الغربية التي حملها الأوربيون معهم إلى المغرب، فالحزب كمؤسسة عصرية لم تظهر على غرار المؤسسات العصرية إلا في عهد الحماية، حيث عرف المغرب التعددية مباشرة بعد الحماية وخاصة منذ إنشاء كتلة العمل الوطني عام 1934.

ومباشرة بعد استقلاله سنة 1956 وشروعه في بناء الدولة الوطنية سيعيد تأسيس التعددية الحزبية، فخلافا للعديد من الدول التي تحولت حركاتها التحررية إلى أحزاب وحيدة حاكمة، استبعد المغرب نظام الحزب الوحيد وقنن التعددية منذ الدستور الأول سنة 1962، وذلك تمشيا مع معطيات البنية السوسيوسياسية للبلاد[[150]]url:#_ftn150 ، ونص في الفصل 3 ” إن الأحزاب السياسية تساهم في تنظيم المواطنين وتمثيلهم، نظام الحزب الوحيد ممنوع بالمغرب”. ليتواتر التأكيد على هذا النص في كل الدساتير اللاحقة.

والدستور الحالي أكد على التعددية الحزبية وعلى حظر نظام الحزب الوحيد، وأناط بهذه الأحزاب مهمة تأطير المواطنين وتكوينهم السياسي، حيث ينص الفصل 3 على ما يلي” تعمل الأحزاب السياسية على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية وفي نطاق المؤسسات الدستورية. تؤسس الأحزاب وتمارس أنشطتها بحرية، في نطاق احترام الدستور والقانون. نظام الحزب الوحيد نظام غير مشروع”.

وقد ظهرت منذ اعتماد دستور 1962 إلى الآن عدة أحزاب سياسية تأسست وتشتغل في إطار الشرعية ونذكر على سبيل المثال: حزب الاستقلال، حزب الاتحاد الاشتراكي للقواة الشعبية، حزب التقدم والاشتراكية، حزب الحركة الشعبية، حزب الأصالة والمعاصرة، حزب العهد الديمقراطي، حزب الاتحاد الدستوري، حزب التجمع الوطني للأحرار، حزب العدالة والتنمية…الخ.
وعلى عكس النموذج المغربي الذي اختار التعددية منذ البداية نجد أن الدول المغاربية الأخرى تبنت خيار نظام الحزب الوحيد أو المهيمن ،وإلى اختيار قادة هذه الدول للتنمية والاستقرار على حساب التعددية الحزبية. لكن مع نهاية الثمانينات وبداية التسعينات عرفت هذه الدول مجموعة من الإصلاحات السياسية والدستورية سعت من خلالها إلى عصرنة وتحديث أنظمتها بتبني نظام التعددية الحزبية سمح بتأسيس العديد من الأحزاب.

ففي الجزائر شكل نظام الحزب الواحد بالنسبة للسلطة الجزائرية خيارا استراتيجيا منذ استقلالها ، حيث قررت الدساتير والمواثيق الجزائرية اعتماد نظام الحزب الواحد والمتجسد في حزب جبهة التحرير الوطني، غير أن هذا النظام أدى إلى أزمة سياسية نتجت عن جمود مؤسسات النظام أدى إلى نمو حركات الرفض السياسي والاجتماعي مع أواخر الثمانينات[[151]]url:#_ftn151 . ففي سنة 1988 شهدت الجزائر انتفاضة شعبية شكلت منعطفا هاما في مسار النظام السياسي الجزائري حيث قام الرئيس الشادلي بن جديد باتخاذ مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية توجت بإقرار دستور 1989 الذي عمل على فصل الدولة عن الحزب السياسي والترخيص لتأسيس الجمعيات ذات الطابع السياسي، لتنخرط الجزائر في التعددية وعرفت العديد من الأحزاب منها من كانت موجودة وخرجت من السرية إلى العلنية وأخرى جديدة أنشئت لأجل المشاركة في المسلسل الديمقراطي[[152]]url:#_ftn152 .

وفي ظل الدستور الحالي تم التأكيد على حق إنشاء الأحزاب السياسية حيث تنص المادة 42 على أن ” حق إنشاء الأحزاب السياسية معترف به ومضمون”. لتنخرط الجزائر في ميدان التعددية الحزبية وعرفت العديد من الأحزاب نذكر منها: جبهة التحرير الوطني، الحركة من أجل الديمقراطية، جبهة القوى الاشتراكية، حزب التقدم الاشتراكي، الجبهة الإسلامية للإنقاذ، الرابطة الاشتراكية…الخ.

ويعد النظام الموريتاني حديث العهد بالتعددية الحزبية، سواء على مستوى التقنين أو الممارسة. فإذا كان دستور 1961 قد تم التنصيص على حرية إنشاء الأحزاب في المادة 9، وإذا كانت الحياة السياسية الموريتانية قد عرفت نوعا من التعددية السياسية التي أدت إلى ظهور أحزاب سياسية مارست نشاطها بكل حرية في فترة ما قبل الاستقلال، غير أن النظام الحاكم سرعان ما اتجه نحو إقرار نظام الحزب الواحد على إثر التعديل الدستوري سنة 1965 والذي جعل حزب الشعب الموريتاني هو الحزب الوحيد في الدولة والمسيطر على الساحة السياسية[[153]]url:#_ftn153 .

وفي سنة 1978 وعلى إثر الانقلاب العسكري الذي أطاح بنظام ولد دادة ألغي العمل بأحكام دستور 1961 وتم حل حزب الشعب الموريتاني، ودخلت البلاد في حكم استثنائي عن طريق لجان عسكرية، وبقي الأمر كما هو إلى غاية سنة 1991 وهي الفترة التي عرفت فيها موريتانيا تبني تجربة ديمقراطية جديدة أعادت الحكم للمدنيين توجت بإقرار دستور 1991 الذي أخذ بمبدأ التعددية الحزبية[[154]]url:#_ftn154 . ونص بصريح العبارة على حرية تأسيس الأحزاب السياسية في المادة 11 التي تنص ” تساهم الأحزاب و التجمعات السياسية في تكوين الإرادة السياسية والتعبير عنها، تتكون الأحزاب والتجمعات السياسية وتمارس نشاطها بحرية شرط احترام المبادئ الديمقراطية”. لتعرف الساحة الموريتانية تأسيس عدة أحزاب نذكر على سبيل المثال: الحزب الجمهوري الديمقراطي، الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم، الاتحاد من أجل التنمية والديمقراطية، الحزب الموريتاني للدفاع عن البيئة، التجمع الوطني من أجل الوحدة والعدالة، حزب اتحاد القوى الديمقراطية…الخ.

ثانياـ الضمانات الشعبية / الرأي العام.

تعتبر الرقابة الشعبية من الضمانات الأساسية للحقوق والحريات في النظم السياسية المعاصرة، فهي بمثابة ضغوط سياسية لها دورها ووزنها في حماية حقوق الإنسان، حيث تعمل هذه الضمانة كرقيب للسلطة، سواء كانت تشريعية أو تنفيذية أو قضائية. ويعد الرأي العام من أقوى الوسائل التي تكفل لنظام الحكم توازنه واعتداله، فكلما كان الرأي العام ضاغط وقوي في دولة ما يعرف حقوقه وحرياته ويؤمن بأهميتها، كلما حرصت السلطات العامة في تلك الدول على التزام تطبيق أحكام الدستور الذي يضمن هذه الحقوق، بالتالي تزداد فعالية هذه الرقابة[[155]]url:#_ftn155 .

الرأي العام في الأصل مصطلح غربي تم استخدامه من قبل الأنظمة السياسية الغربية الديمقراطية، وقد تعددت التعاريف وتنوعت لدى الباحثين والدارسين لظاهرة الرأي العام. فيعرفه جيمس برايس بقوله” الرأي العام هو اصطلاح يستخدم للتعبير عن مجموع الآراء التي يدين بها الناس إزاء المسائل التي تؤثر في مصالحهم العامة والخاصة. وعند الأستاذ إسماعيل علي مسعد الرأي العام هو حصيلة أفكار ومعتقدات ومواقف الأفراد والجماعات إزاء شأن من شؤون النسق الاجتماعي كأفراد أو منظمات ونظم والتي يمكن أ يؤثر في تشكيلها من خلال عمليات الاتصال التي قد تؤثر سلبيا أو كليا في مجريات أمور الجماعة الإنسانية على النطاق المحلي أو الدولي[[156]]url:#_ftn156 . وبصفة عامة الرأي العام مجموعة من الآراء ووجهات نظر تحملها جماعة من الناس حول مسائل أو مواقف أو مشاكل تؤثر على مصالحهم العامة أو الخاصة.

لا شك أن للرأي العام أهمية كبيرة في الوقت الحاضر، وخاصة مع تنوع وسائل الإعلام والاتصال وتقدمها. فقد أصبح الرأي العام يلعب دورا أساسيا في تشكيل الأفكار والاتجاهات السياسية، وفي تحديد طبيعة النظام في الدولة. كما أصبح مرشدا للحكومات للوقوف على رغبات الجماهير قبل سن القوانين واتخاذ القرارات المصيرية.

ولكي يكون هذا الرأي العام فعالا ومؤثرا لا بد من وجود وسائل مهمة في صناعته وتفعيله، ومن أهمها: الإعلام، الصحافة، الأحزاب والمجتمع المدني. فللإعلام بمختلف وسائله: المرئية، السمعية، المطبوعة، الالكترونية..، دورا هاما في التوعية بقضايا حقوق الإنسان. وذلك في إطار مهماته الأساسية في عكس مواقف الرأي العام من القضايا المختلفة، وأيضا في تكوين وصناعة الرأي العام من ناحية أخرى. بل إن دور الإعلام يتجاوز التوعية إلى الدفاع والحماية عن الحقوق والحريات وتعزيزها من خلال فضح الانتهاكات، والتحريض على المطالبة بالحقوق وإشاعة احترامها والتنبيه إلى عدم التعسف في استعمالها. فقد منحت لوسائل الإعلام وظيفة مهمة كحارس أو حامي لمراقبة نشاطات سلطات الدول والمنظمات والجماعات والأفراد من خلال إعطاءها صوت لمن لا صوت لهم، وضمان عدم تمكن الأغلبية الحاكمة من الدوس على حقوق الأقلية، إلى جانب اضطلاعها بأدوار كشف عمليات الفساد وسلط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان.

وتعتبر الصحافة وسيلة هامة من وسائل الإعلام، وتقوم بدور بارز وفعال في تكوين الرأي العام وفي التعبير عنه وتوجيهه. فتأثير الصحافة كبير في حماية الحقوق والحريات الأساسية من خلال ممارسة دورها الرقابي على تصرفات الحاكمين ضمن الإصطلاح الشائع عنها السلطة الرابعة، من خلال ما تنشره من مقالات وأخبار ومعلومات إلى كافة الشعب. ومن خلال الدور الهام الذي تلعبه في نشر الوعي بين الجماهير بحقوقها وتحفيزها إلى الدفاع عن هذه الحقوق، وخاصة أمام التطور الحديث في صناعة الصحافة والذي يساهم في انتشارها على نطاق واسع، مما يجعل تأثيرها أعم في تكوين الرأي العام والتأثير فيه.
ونظرا لأهمية الصحافة ولدورها الفعال في حماية الحقوق والحريات نصت المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على “حق كل شخص التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتكوينها ونقلها إلى الآخرين بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود”. وهو ما أكد عليه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة 19.

أوردت مختلف الدساتير المغاربية حرية الصحافة والإعلام ضمن التنصيص عن حرية الرأي. فنصت الدساتير المغربية السابقة في الفصل 9 على حرية الرأي وحرية التعبير بجميع أشكاله. وقد تم تعزيز هذه الضمانة في دستور 2011 والذي عمل على دسترة حرية الرأي والتعبير بجميع أشكالها، وحرية الإبداع والنشر (الفصل 25). ونص أيضا على حرية الصحافة بصريح العبارة وأقر عدم إخضاعها لأي شكل من الرقابة القبلية، وهو توجه جوهري ديمقراطي تتخد الدول المتقدمة من مؤشره معيارا تقيس به مدى نجاح سياستها العامة في أوساط مواطنيها[[157]]url:#_ftn157 .

كما عمل على إقرار الحق للجميع في التعبير ونشر الأخبار والأفكار والآراء بكل حرية. ونص على تنظيم قطاع الصحافة بكيفية مستقلة وعلى أسس ديمقراطية. وأوكل للقانون تحديد قواعد تنظيم وسائل الإعلام ومراقبتها، حيث ينص الفصل 28 على ما يلي ” حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية. للجميع الحق في التعبير، ونشر الأخبار والأفكار والآراء، بكل حرية، ومن غير قيد، عدا ما ينص عليه القانون صراحة. تشجع السلطات العمومية على تنظيم قطاع الصحافة، بكيفية مستقلة، وعلى أسس ديمقراطية، وعلى وضع القواعد القانونية والأخلاقية المتعلقة به. يحدد القانون قواعد تنظيم وسائل الإعلام العمومية ومراقبتها، ويضمن الاستفادة من هذه الوسائل، مع احترام التعددية اللغوية والثقافية والسياسية للمجتمع المغربي”.
كما عمل هذا الدستور على دسترة الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري وأوكل إليها السهر على احترام التعبير التعددي لتيارات الرأي والفكر والحق في المعلومة في الميدان السمعي البصري في إطار احترام القيم الحضارية الأساسية وقوانين المملكة( الفصل 165).

وفي الجزائر تعتبر حرية الصحافة صورة من صور حرية الرأي، وهي من الحريات العامة التي يقوم عليها النظام الجزائري والتي تحتل مكانة مهمة في نص مختلف الدساتير الجزائرية، وجاءت في مواد مختلفة، سواء تلك المتعلقة بشأن حرية الرأي أو حرية الإبداع الثقافية والفنية والعلمية وحق التأليف، أو من خلال التنصيص على حرية التعبير، أو من خلال التنصيص على حرية الإعلام ووسائل الإعلام الأخرى كما فعل دستور 1976.

غير أن كل هذه الحريات في ظل الدساتير الأولى ذات الصبغة الاشتراكية كانت تندرج ضمن إطار محدد لوحدة الحزب ولدوره القيادي والتوجيهي للحياة العامة وتحت هيمنة النظام، ولم تتحرر هذه الحريات من هيمنة توجيهات الحزب الوحيد إلا بعد صدور دستور 1989 [[158]]url:#_ftn158 .

وفي ظل الدستور الحالي تم التأكيد على هذه الحريات من خلال التنصيص في المادة 29 على ضمانتها وعلى نبذ أي تمييز بين المواطنين يعود سببه إلى الرأي. ومن خلال التنصيص في المادة 36 على ” حرمة حرية المعتقد وحرمة حرية الرأي”. ومن خلال التنصيص في المادة 38 على “ضمان حرية الابتكار الفكري والفني والعلمي، وحقوق المؤلف بدل حق التأليف، وحضر أي حجز لأي مطبوع أو تسجيل أو أية وسيلة أخرى دون وسائل التبليغ والإعلام إلا بمقتضى أمر قضائي.”

وبالنسبة للدساتير الموريتانية فلم تنص على حرية الصحافة بصريح العبارة بل جاءت في المادة 10 ضمن حرية الرأي والتفكير والتعبير، وحرية الإبداع الفكري والفني والعلمي التي تضمنها الدولة لكافة المواطنين ولا تقيد إلا بالقانون.

خلاصة.

من خلال ما أوردناه على طول امتداد صفحات هذا البحث يظهر أن قضية حقوق الإنسان من القضايا الجوهرية التي ارتكزت جل قواعد المنظومة الدستورية المغاربية منذ الاستقلال، وتكفلت هذه المنظومة بتأكيد أسس وضمانات عملية لحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية من أجل ترسيخ دولة القانون. فمعظم الحقوق المتعارف عليها في العهود والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان مكفولة بمقتضيات الدساتير المغاربية، وإن كان ذلك بصورة متفاوتة، ومختلف الضمانات الأساسية المكفولة بمقتضى هذه المواثيق أوردتها هذه الدساتير.

لكن مع الأسف الشديد ما نراه في أوطاننا هو العكس فرغم إضفاء جل الدول المغاربية صفة الديمقراطية على نظمها السياسية وادعائها إلى قيمها، لا زالت جلها أحادية قمعية على صعيد الممارسة، تمتلك دساتير عصرية دون احترام ضمان شرعيتها، تأخذ بآليات الانتخابات دون توفر شروط نزاهتها، تدعوا إلى استقلالية القضاء دون مراعاة حرمة ممارسته.

فرغم أهمية مضمون هذه الحقوق والحريات والضمانات إلا أنه في الواقع العملي لا صلة لها بالتطبيق وتبقى غامضة ومجرد شعارات وتمنيات لم تدخل حيز الواقع، وشتان بين النص القانوني والعمل به. فمازالت تحدث انتهاكات خطيرة للحقوق والحريات الفردية والجماعية، عدم احترام القانون، الرقابة على الصحافة، الاعتداء على استقلال القضاء، تفشي البطالة وعدم وجود فرص عمل مناسبة للعيش الكريم…الخ. فمن الحقائق الواضحة أن الصيغ الدستورية الحالية حتى وإن تضمنت النص على احترام هذه الحقوق والحريات إلا أنها ما تزال عاجزة عن مواجهة مشكلة الانتهاكات للحقوق والحريات، وبلوغ الحل المناسب والأنسب حيث جعلت هذه الحقوق والحريات أمر داخلي خاضع لهيمنة كل دولة. وبصفة عامة يمكن القول أن الوثيقة الدستورية المغاربية وثيقة متطورة لكن الممارسة رديئة.

إن أي دستور مهما بلغ من الكمال فإنه ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة لقيام مؤسسات ديمقراطية، فالعبرة ليست بوجود الدستور والمؤسسات وإنما باحترام هذا الدستور وهذه المؤسسات وممارسة ايجابية وفعالة. فالرهان الحقيقي اليوم هو تفعيل المقتضيات الدستورية وخاصة المقتضيات الحقوقية المتضمنة في الوثيقة الدستورية وتحويلها إلى إجراءات وتدابير ملموسة تتيح للمواطن تلمس أثارها في مختلف نواحي الحياة اليومية وفي دواليب المؤسسات والإدارات المختلفة. وهذا الرهان يتطلب انخراطا واسعا من لدن مختلف الفاعلين ومن مختلف مكونات الدولة. فنحن في حاجة لتحقيق نهضة شاملة قاطرتها الديمقراطية ومبادئ الحكم الرشيد الذي يلعب فيه الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والقطاع الخاص دورا أساسيا بجانب الدولة.