الخلفية التاريخية لتلطيف القواعد القانونية

المحامية / منال داود العكيدي
كانت القسوة والشدة والدموية هي السمة السائدة في القوانين القديمة فقد كانت مخالفتها توجب عقوبات قاسية لاسيما مع الاجانب فهي لاتعترف بالحماية القانونية الا للافراد الذين تخاطبهم اما الغريب فنفسه وماله وعرضه مباح فلم يكن الاعتداء على الغير او الاستيلاء على ماله الا مسلكا شريفا ومبعثا للفخار وحتى القوانين التي تطبق داخل الجماعة فعلاوة على قسوتها كانت حكرا على الكهنة والملوك ورجال الحكم يفسرونها بحسب اهوائهم وبحسب ما تمليه عليهم مصالحهم وكانت نصوصها سرا من الاسرار التي لايسمح للعامة الاطلاع عليها.

فكانت القوانين المطبقة في اليونان مثل قانون دراكون نحو عام 620 قبل الميلاد وكذلك القانون الروماني متمثلا بالالواح الاثني عشر في عام 450 قبل الميلاد عنوانا لتلك القسوة التي تبيح للدائن حق استرقاق مدينه لحين الوفاء بالدين او بيعه في الاسواق واستيفاء دينه من ثمنه او قتله ان لزم الامر وان كان للمدين عدة دائنين فمن حقهم بموجب تلك القوانين قتله واقتسام جسده اما العقوبات والتي كانت اغلبها هي اعدام المدان في الساحات العامة وعلى رؤوس الاشهاد فكانت من المشاهد الطبيعية التي الفها الناس بل انه من المقبول ان يتم التمثيل بجثة المعدوم اما النظام الاسري فكان يسوده السلطة الابوية المطلقة التي تبيح للاب فعل مايشاء بعائلته كبيعهم او قتلهم او اعارتهم ويشمل ذلك الزوجة والاطفال ايضا.

اما وسائل اثبات الحق في تلك الازمان الغابرة لاسيما في القوانين الجرمانية فكانت تتم عن طريق المبارزة وكان من ينتصر او يتمكن من قتل خصمه هو صاحب الحق من دون منازع ومن الطبيعي ان تلك المبارزة كانت في بادئ الامر تتم من دون شروط او ضوابط وكثيرا ما كانت تقود الى حروب ونزاعات عائلية وقبلية بين الاطراف المتبارزة وفي وقت لاحق اصبحت تتم تحت اشراف القاضي الذي يتولى النظر في الحق المتنازع عليه.

لقد كان لهذا الوضع الشاذ اثر عميق في دفع الفلاسفة والمفكرين والكتاب الى الثورة عليه عبر افكار قانونية جديدة هدفها تلطيف قسوة القواعد القانونية السائدة انذاك فتبلورت فكرة القانون الطبيعي وظهرت فكرة العدالة ونظرية المعايير القانونية فجاء الفلاسفة الاغريق بنظام عقلاني تحكمه قوانين هي من نتاج العقل والفكر الانساني وهي معيار صلاح او فساد اي فعل انساني متمثل بالقوانين الوضعية والاحكام القضائية، ويعتبر الفيلسوف سقراط اول من حاول البحث عن معيار ثابت يكون مقياسا لمدى صلاح تلك الافعال فحاول رد الاحكام الانسانية الى مبادئ عامة موضوعية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان يهتدي اليها العقل ويستمدها من الطبيعة.

ويرى سقراط (ان القوانين العادلة انما تصدر من العقل ومطابقة للطبيعة الحقة فكانت حقائق ثابتة مطلقة وهي صورة من قوانين غير مكتوبة نقشتها الاله على قلوب البشر ، طاعتها واجبة لانها رمز للعقل الذي ينبغي ان تكون له السيادة )، وبذلك فان فكرة القانون الطبيعي لدى سقراط تتجسد في مدى قدرة العقل البشري على التمعن في نظام الكون ومنطق الاشياء وطبيعة الروابط الاجتماعية ومن خلاصتها يتكون القانون الطبيعي وتصاغ على اساسه القواعد القانونية الوضعية والموضوعية التي يتساوى امامها الناس بغض النظر عن ظروفهم الخاصة وارائهم ومصالحهم الذاتية وتلك القواعد القانونية تكون مستمدة من الطبيعة التي هي ذاتها ستحصن القانون من القسوة والشدة والضيق والنقص والتفسير الهوائي للفرد او الحاكم .ويقع على القاضي واجب تفسير تلك القواعد في حال كونها غامضة او ناقصة بما تمليه عليه القاعدة الابدية التي تحكم الكون وتتماشى مع الطبيعة الانسانية الصافية.

ولكن هذه المثالية لم تمنع من تعرض فكرة القانون الطبيعي الى الهجوم عليها من قبل مناهضيها الذين نجحوا في اضعافها والتنكر لها من قبل اشد انصارها تحمسا لها ومن ابرز تلك الحجج انها تستند الى قاعدة مثالية مما يجعلها تحكم على قاعدة قانونية طبقا لمعيار غير قانوني وهو الضمير الانساني لقاضي الموضوع وهذا بطبيعة الحال سيؤدي الى التباين والاختلاف في الاحكام من قاض الى اخر .

لكن لم يدم الامر طويلا فسرعان ما قام الفقيه جيني ببعث الروح في نظرية القانون الطبيعي واصفا اياه (بانه القانون الذي لايموت).

وقد رافق ذلك مصدر اخر من مصادر تلطيف القاعدة القانونية المستلهمة من فكرة العدالة والتي تعود الى فلاسفة اليونان القدماء وابرزهم ارسطو الذي وضع اساسا للتميز بين مفهوم العدل الذي يرتبط بالقاعدة القانونية ومفهوم العدالة التي ترتبط بنظرية المعايير القانونية فعرف العدل على انه (يفيد معنى المساواة وهي مساواة مرتبطة بالدور الاجتماعي للقانون) وبموجب ذلك فان القاعدة القانونية تطبق بصورة متساوية على جميع الاشخاص الذين تخاطبهم وعلى جميع الحالات التي تحكمها والتي اطلق عليها الفقهاء تسمية العدل الشكلي الذي يحقق مساواة شكلية بين الافراد الذين سيكونون ضحايا ذلك العدل الشكلي .

اما فكرة العدالة فانها تتضمن معنى الانصاف فقد وجد ارسطو ان تطبيق القاعدة القانونية على ما سماه بالحالات المستعصية يؤدي الى نتائج ظالمة فتوصل الى وضع نظرية المعيار القانوني والذي اطلق عليه العدل الخاص او الانصاف او الملائمة او العدالة والتي تعني (ايجاد معاملة خاصة للحالات الفردية الخاصة للتخفيف من صرامة القاعدة القانونية) وهذه المعاملة الخاصة للافراد تؤدي الى ايجاد مجموعة من القواعد يطلق عليها قواعد العدالة مستمدة من المثل العليا وتوحي الى حلول منصفة ومساواة واقعية لانها تقوم على مراعاة ظروف الافراد وحاجاتهم وهذا يتيح للقاضي سلطة تقديرية واسعة عند تطبيق القاعدة القانونية بتفويض من المشرع الذي يقرر الاحالة الى اصل خارج عن نطاق القاعدة القانونية مثل معيار سلوك الرجل المعتاد او النظام العام والاداب العامة.
وبناء على هذه الافكار التي طرحها الفلاسفة بدأت تتبلور فكرة جديدة هي (فكرة الرحمة فوق القانون) التي رافقت تحول المجتمعات الى فكرة الاستقرار وانشاء التجمعات المدنية حيث بدا الافراد بالمطالبة بحقوقهم في الاطلاع على القوانين التي تحكمهم وعلى اثر ذلك وافق الكهنة على نشر قانون دراكون اليوناني فاكتشف الافراد مدى قسوته وغمطه لحقوق الضعفاء وبعد عشرين عاما نجحوا في استصدار قانون اخر هو اقل قسوة من سابقه وهو قانون صولون نحو عام 600 قبل الميلاد والذي كان من اهم ماجاء فيه هو (الاعتراف بحقوق الابناء وتحريم الربا الفاحش وتحريم التنفيذ على شخص المدين عند عدم الوفاء بالدين وذلك بمنع بيعه او قتله ، وكذلك تحريم قتل الابناء او بيعهم وقضى بتحرير الابن من السلطة الابوية ببلوغه سناً معينة والغى حصر الارث بالابن الاكبر).

وكان لهذا القانون اثر بالغ في تحرير القانون الروماني من معظم شكلياته فنقله من مرحلة الجمود والصرامة الى مرحلة اخرى تميزت بالمرونة والبساطة التي كانت فاتحة لقواعد واحكام قانونية جديدة عبر عنها شيشرون بقوله ( لم يكن منشأ الفيض الذي اقبل من بلاد اليونان الى مدينتنا مجراً صغيراً، بل منشؤه نهرا خضم من الثقافة والعلم والفلسفة) وكان لذلك الاثر الكبير ان تحل تلك القواعد محل قانون الالواح الاثني عشر الذي اتسم بالجمود في شكله والقسوة في احكامه عن طريق الاوامر البريتورية والحيلة القانونية والتي هي (افتراض القاضي لامر مخالف للواقع للتوصل الى تغيير احكام القانون من دون التعرض الى نصوصه) .

ومن صورها مايعرف بالدعوى البوليكانية التي هي افتراض انتقال ملكية المبيع بمجرد الشراء اذا تعرض المنقول الى السرقة او الاغتصاب خلال مدة سنة او خلال مدة سنتين في العقار فيفترض القاضي مرور هذه المدة وان الملكية انتقلت الى المشتري بمجرد قبض البائع الثمن منه.