بقلم ذ عمر بحبو
باحث في قانون الأعمال بكلية الحقوق بتطوان

تعد محاضر الشرطة القضائية من بين أهم وسائل الإثبات في المادة الجنائية لما تحتويه من اعترافات ومعاينات ووقائع وشهادات وتصريحات من شأنها أن تكشف للقاضي الجنائي اللبس عن القضية المعروضة عليه لتكوين قناعته الشخصية بناء على السلطة التقديرية التي يتمتع بها لإصدار الأحكام المناسبة إما بالبراءة أو الإدانة.

وتظهر أهميته – المحضر – أكثر في كونه يشكل نقطة الإنطلاق وبداية سلسلة من الإجراءات المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية وباقي القوانين الإجرائية في سبيل تطبيق الجزاء الجنائي.

لكن رغم الأهمية البارزة التي يحظى بها محضر الضابطة القضائية إلا أنه لم يتم تعريفه من قبل المشرع المغربي في إطار قانون المسطرة الجنائية الملغى1 حيث تضاربت آراء الفقه والقضاء لوضع تعريف دقيق له2.

وفي تعريف لبعض الفقه لمحضر الضابطة القضائية أنه ذلك الصك الكتابي الذي ينظمه الموظف المختص لإثبات شكوى أو إشكالية أدليت إليه، أو إنتهت إليه بمشاهدته المباشرة بالنسبة للجريمة التي وقعت3. وعرفه جانب أخر من الفقه بأنه ورقة رسمية لا يمكن الطعن فيها إلا بحسب ما يقرره القانون، ينجز من قبل موظف مختص هو ضابط أو عون الشرطة، يضمنه ما عاينه من وقائع (أي الجريمة موضوع البحث وأطرافها والأدلة التي تم التوصل إليها) محترما في ذلك مجموعة من الشكليات4.

وقد تدخل المشرع المغربي بموجب قانون المسطرة الجنائية الحالي متفاديا النقص الذي إعترى القانون الملغى، حيث عرف المحضر في الفقرة الأولى من المادة 24 على أنه “المحضر في مفهوم المادة السابقة هو الوثيقة التي يحررها ضابط الشرطة القضائية أثناء ممارسة مهامه ويضمنها ما عاينه أو ماتلقاه من تصريحات أو ماقام به من عمليات ترجع لإختصاصه”. وبهذا يكون المشرع قد فصل في الخلاف الذي كان مثارا بين الفقه حول وضع تعريف محدد لمحضر الضابطة القضائية.

ومن خلال هذه التعريفات يظهر مدى حجم الأهمية التي يكتسيها المحضر المنجز وفق الشكليات المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية والذي إحترم فيه مبدأ المشروعية والفورية في الإنجاز، إذ بناءا عليه يُكَوّن القاضي الزجري صورة واضحة للنازلة وبالتبع يؤسس حكمه أو قراره، إلا انه رغم كل ذلك فمحاضر الضابطة القضائية لا تخلو من إشكاليات تثار بشأنها كلما لم تحترم مجموعة من الشكليات الشيء الذي يجني على القضاة عدة صعوبات في إطار تكييف مضمون هذه المحاضر مع الأحداث الحقيقية للقضية.

وتتجلى أهمية هذه الدراسة في معرفة مآل المحضر الذي تتخلف فيه شكلية التوقيع من الجانبين المحرر والمصرح5 هل يؤول إلى إعتباره باطلا أم صحيحا من حيث الشكل رغم النقص الذي شابه، وكذلك ستمكننا هذه الدراسة من الكشف عن توجه القضاء والفقه المغربي بخصوص إشكالية تخلف التوقيع وهل يلزم قاضي الموضوع بحرفية النص أم يعمل سلطته التقديرية متخطيا المحضر المنجز حتى وإن كان صحيحا أو الأخذ به وإن كانت لم تحترم فيه الشكلية المطلوبة.

وتبقى الإشكالية المركزية في هذا المضمار هي ما مصير محضر الضابطة القضائية الذي لم يوقع عليه المصرح هل يبقى صحيحا من الناحية الشكلية بحيث يمكن للقاضي الركون إليه والثقة في مضمونه أم القول بضرورة التوقيع وأنه بتخلفه يبطل المحضر؟

للإجابة على الإشكالية المطروحة إرتأينا معالجة الموضوع وفق التصميم الآتي بيانه:

الفقرة الأولى : موقف قانون المسطرة الجنائية من تخلف التوقيع على المحضر
الفقرة الثانية : موقف الفقه والقضاء من تخلف التوقيع على المحضر

الفقرة الأولى : موقف قانون المسطرة الجنائية من تخلف التوقيع على المحضر
نظم المشرع المغربي عمل الشرطة القضائية بموجب المواد من 16 إلى 35 من القانون رقم 22.01 بمثابة المسطرة الجنائية إلى جانب نصوص متفرقة في نفس القانون ليكون بذلك سد الفراغ التشريعي الذي كان يعاب على النص الملغى الذي لم يؤطر عمل الضابطة القضائية بالمغرب بسياج تشريعي.

وقد ألزم القانون على ضباط وأعوان الشرطة القضائية من أجل التثبت من وقوع الجرائم وجمع الأدلة6 تحرير محاضر تحترم فيها الشكليات المنصوص عليها في المادة 24 من قبيل ساعة وتاريخ ومكان إنجازه وصفة محرره وتوقيعه إلخ…إلا أن المشرع المغربي ومراعاة منه لمركز المصرح أتاح لهذا الأخير إمكانية رفض التوقيع وإعتبره صحيحا كلما بدا له أن ما هو مدون في المحضر لا يساير الواقع وإنما يدخل في باب تلقيف التهم والتدليس على القضاء (أولا) وكذلك تثار مسألة إمكانية الدفع بعدم توقيع المحضر من طرف المصرح والأثر المترتب عن هذا الدفع الشكلي (ثانيا).

أولا: بقاء المحضر صحيحا رغم عدم توقيع المصرح
ألزم المشرع المغربي بموجب المادة 24 من ق.م.ج على وجوب تضمين المحضر توقيع محرره و المصرح وإذا رفض هذا الأخير التوقيع أو الإبصام أو لم يستطع التوقيع أشار المحرر إلى ذلك في المحضر مع ذكر أسباب عدم التوقيع، وقد نصت المادة 289 من نفس القانون عن جزاء عدم إحترام شكليات المحضر بما فيها التوقيع إذ إعتبرت أن محاضر وتقارير ضباط وأعوان الشرطة القضائية لا يعتد بها إلا إذا كانت صحيحة في الشكل.

كما نضيف في هذا السياق أن المادة 751 رتبت على كل إجراء يأمر به قانون المسطرة الجنائية ولم ينجز على الوجه القانوني الصحيح كأنه لم ينجز قط الشيء الذي يفهم منه بطلان هذه المحاضر مع المعلومات المدونة فيها والتي تحتوي في الغالب إعترافات بإتيان الفعل الجرمي وشهادات تكون حاسمة لمعرفة مسار وقوع الجريمة.

وبعد قراءة متأنية في هذه المواد وغيرها نسجل بعض الملاحظات على النحو الآتي:
الملاحظة الأولى: نشير في هذا الصدد كون الصيغة التي جاءت بها هذه النصوص تشير إلى إجبارية التوقيع على المحضر من قبل محرره وإلى خلاف ذلك بالنسبة للمصرح، والذي يفيد عدم الإجبارية أنه عند تعذر التوقيع أو الإبصام أو رفض ذلك يشار إليه في المحضر، في حين أن اللفظ الذي استعمله المشرع بخصوص توقيع ضابط أو عون الشرطة القضائية يفيد الوجوب الشيء الذي يجعل الإغفال عن التوقيع يرتب بعض الجزاءات التي سنثيرها في الملاحظات الآتية.

الملاحظة الثانية: بالرجوع إلى مقتضيات المادة 24 من ق.م.ج نجدها تنص على إجراء تضمين المحضر ببعض البيانات الشكلية ومنها إسم المحرر وصفته وتاريخ وساعة ومكان ويوم إنجازه وتوقيع المحرر، وإذا إعتبرنا التوقيع على المحضر من قبيل تلك البيانات الشكلية فإنه سيخضع لأحكام المادة 289 من قانون المسطرة الجنائية التي تقضي بعدم الإعتداد بمحاضر الضابطة القضائية التي تكون غير صحيحة من حيث الشكل.

وبناءا على ذلك فإن عدم الإعتداد بهذه المحاضر يؤدي إلى تجريده من صبغته الرسمية وجعله وثيقة عادية خارج إطار وسائل الإثبات الجنائية، وهذا طرح غير صائب لكون المحضر يتضمن وقائع مهمة وإعترافات وأسماء وصفات المشتبه فيهم إذ بمجرد إغفال المحرر التوقيع فإن المحضر يكون غير صحيح، وهذا بالطبع فيه إهدار للحقوق وتستر على المجرمين وضرب للعدالة الشيء الذي تمخض عنه ممارسة عملية تتجلى في إستدعاء محرر المحضر بطلب من النيابة العامة أو بشكل تلقائي من المحكمة لإستفساره حول ما إذا كان مضمون المحضر يعود إليه أم لا، فإن صرح بكون المضمون من صنيعه إكتسب المحضر صبغته الرسمية.

الملاحظة الثالثة: يلاحظ أن المشرع في ق.م.ج أشار إلى آثار المحضر غير الموقع وهو عدم الإعتداد به خلاف باقي النصوص الخاصة كمدونة الجمارك وظهير زجر الغش في البضائع، وبالتبعية قد يفتح المجال للتساؤل حول مآل هذه المحاضر وفي مدى إكتسابها للحجة الثبوتية أمام القضاء.

تأسيسا على الإشكال السابق يمكن الخلوص إلى أنه لما كان قانون المسطرة الجنائية هو النص الإجرائي العام وبإعتبار ضباط الدرك الملكي يحملون صفة ضابط الشرطة القضائية بصريح المادة 29 من نفس القانون فإن يمكن إسقاط مقتضيات المادة 289 على المحاضر التي ينجزنها وبالتالي ترتيب نفس الجزاء7.

الملاحظة الرابعة: أن القراءة الحرفية لنص للمادة 289من ق.م.ج يفهم منها أن المحضر الذي لا يأخذ كوسيلة للإثبات هو الذي لا تكون بياناته صحيحة كمخالفة الإسم المدون في الوثيقة أو تضمين تاريخ مخالف للتاريخ الحقيقي إلخ…

إلا أن القراءة المتأنية والجيدة تجرننا للمثول أمام فرضيتين :
الفرضية الأولى: أنا المحاضر والتقارير الصحيحة من حيث الشكل هي التي تحمل كل البيانات الموضوعية والشكلية .

الفرضية الثانية: أن المحاضر والتقارير الصحيحة من حيث الشكل تقتضي عدم إغفال أي شكلية بما فيها توقيع المحرر.

من خلال هذه الملاحظات نستنتج أن المشرع لم يرتب على تخلف توقيع المصرح بطلان المحضر بل هو جزاء التوقيع المقابل – أي للمحرر – وهكذا فكلما إمتنع المصرح عن التوقيع أو الإبصام فإن المحضر يبقى صحيحا وينتج كافة آثاره القانونية.

ثانيا: مآل الدفع بعدم توقيع المحضر من طرف المصرح
يقصد بالدفوع الشكلية أو المسطرية جميع الدفوع المتعلقة بخرق إجراء من الإجراءات الشكلية سواء في البحث أو التحقيق أو المحاكمة وتجد هذه الدفوع أساسها القانون ضمن مقتضيات المادتين 323 و324 من ق.م.ج إلى جانب بعض المواد المتفرقة.

وفي هذا الإطار نص المشرع في المادة 751 من ق.م.ج على أنه ” كل إجراء يأمر به هذا القانون ولم يثبت إنجازه على الوجه القانوني يعد كأنه لم ينجز، وذلك مع مراعاة مقتضيات الفقرة الثالثة من المادة 442 المتعلقة بجلسات غرفة الجنايات”.

وبناءا على هذه المادة فالمحضر الذي تنقصه بعض شروط صحته يترتب عنه عدم إنتاج هذا الإجراء لآثاره نظرا لكون ضباط الشرطة القضائية لم يتقيدوا بالإجرءات كما هي منصوص عليها قانونا8.

ويعد الدفع بعدم توقيع المصرح على المحضر من بين أهم الدفوعات التي يتمسك بموجبها ببطلان محاضر الشرطة القضائية، وهنا يطرح التساؤل التالي هل يعد المحضر صحيحا ولو لم يحمل توقيع المصرح متهما كان أو مشتبها فيه؟.

في هذا الصدد نجد المجلس الأعلى – محكمة النقض حاليا – ذهب في أحد قراراته إلى أن ” عدم إمضاء المشتبه فيه على محضر إستجوابه لا يعتبر من الشروط الشكلية التي تؤثر على قانونية المحضر وعلى قوته الإثباتية”9، ونفس هذا الحكم يسري على محاضر وتقارير موظفي المياه والغابات حيث لا تقف صحتها على توقيع المخالف، إلا أن القانون المتعلق بالجمارك وفي المادة 243 منه ينص على بطلان المحضر الذي لم يوقع عليه المخالف.

وقد أتاح المشرع المغربي بموجب المادة 24 من ق.م.ج لمحرر محضر الشرطة القضائية الإشارة إلى رفض أو عدم إستطاعة التوقيع أو الإبصام حسب الأحول لكن مع ذكر سبب ذلك، فمن هنا يتجلى أن الدفع بعدم التوقيع على المحضر من جانب المصرح لا يرتب بطلان المحضر على إعتبار أن الغاية من التوقيع ليست هي إضفاء القوة الثبوتية له وإنما تيقن المصرح أن ما هو مضمن في المحضر يوافق أفعاله وأقواله وشهاداته أما عند إمتناعه عن ذلك فإن الأمر لا يخلوا من فرضية تضخيم الظروف المحيطة بالجريمة وتلقيف تهم مخالفة للواقع، الأمر الذي جعل المجلس الأعلى يؤسس لهذه القاعدة في أحد قراراته “إذا تضمن محضر الشرطة إعتراف المتهم فإن لقضاة الموضوع سلطة كاملة ليقدروا قيمة ذلك الإعتراف حسب الظروف التي أحاطت به”10.

وتبعا لذلك فالقضاء المغربي لا يأخذ بالمفهوم المطلق لتوقيع المصرح وإنما بالمفهوم الضيق الذي يتيح للقاضي تقدير ذلك التوقيع والبحث ما إذا كانت هناك شبهة أو شك تحيط بالمحضر إذ الدفع بعدم التوقيع يرتبط بطبيعة التوقيع والظروف المحيطة به.

الفقرة الثانية: موقف القضاء والفقه من تخلف التوقيع على المحضر
تحظى محاضر الشرطة القضائية بأهمية بالغة وقصوى في الساحة القضائية الشيء الذي دفع بمعظم التشريعات بتنظيمها والإشارة إلى ما يجب أن تتضمنه من شكليات وبيانات كتوقيع محرر المحضر وتوقيع الشخص الذي إستمع إليه أو تم ضبطه وكل ذلك مع ترتيب جزاء البطلان عند تخلف أحد تلك الشكليات.

وقد حدد المشرع المغربي جزاء المحضر المنجز دون توقيع المصرح هو بطلانه بموجب المادة 751 من قانون المسطرة الجنائية وعدم إعتباره صحيحا من زاوية تخلف توقيع المحرر وفق أحكام المادة 289 من نفس القانون، هذا بالنسبة لموقف القانون المغربي لكن ماذا عن القضاء وما هو الإتجاه الذي سلكه عند الوقوف على محضر منجز بدون توقيع المصرح (أولا) وما موقف الفقه القانوني في هذا الشأن (ثانيا).

أولا: إجماع القضاء على صحة المحضر المنجز دون توقيع المصرح
ينص الفصل 1-110 من دستور 2011 على أن قضاة الأحكام لا يلزمون إلا بالتطبيق العادل للقانون، ومن هنا يظهر أن القاضي يلزم بتطبيق القاعدة القانونية على النحو الذي يحقق الغاية المتوخاة من ذلكم التشريع فإن كان بإسناد الملكية إلى مستحقها أسندها الحكم له وإن كان بإيقاع العقوبة على المخالف للنص الجنائي أوقعه عليه وقس ما قيل على ما لم يقل.

وإنسياقا مع التوجهات الجديدة لحقوق الإنسان والإتفاقيات الدولية والتي وقع عليها المغرب، ومسايرة للتوجهات السامية لصاحب الجلالة وما ذهب إليه المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان فإن القضاء المغربي قد رفض أكثر من مرة بالدفوعات الشكلية المثارة والمتعلقة بتوقيع المتهم11 وإن كان اتجاه قضائي آخر يأخذ بهذه الدفوع ويعتبر توقيع المتهم أو الظنين من الشكليات الضرورية لقيام المحضر صحيحا.

في هذا المضمار قضت محكمة الإستئناف بالرباط12 ببراءة المتهم من مجموعة من المخالفات التي لها علاقة بقانون السير والتي كان قد توبع على أساسها، مرتكزة على عدم توقيع المخالف على المحضر الذي أنجزه القائد، وهو نفس المنحى الذي سلكته كل من محكمة الإستئناف ببني ملال والمحكمة الإبتدائية بوزان.

كما ذهب المجلس الأعلى – سابقا محكمة النقض حاليا – إلى أن عدم توقيع إمضاء المشتبه فيه على محضر البحث التمهيدي لا يؤثر على القوة الثبوتية التي يحوزها، وبمفهوم المخالفة صحة المحضر ولو لم يتضمن توقيع المتهم أو بصمته13، وهذا الاتجاه نراه في مصف الصواب لكونه لم يأخذ بالمفهوم المطلق لتوقيع المتهم بل سلم بالمفهوم الضيق والذي يقضي بأن التوقيع يجب ألا يقاس بباقي البيانات الجوهرية للمحضر من قبيل ساعة وتاريخ إنجازه وتصريحات الأطراف وما تمت معاينته من وقائع وحالات تلبس إلخ… والتي بتخلفها إلا وترتب على ذلك بطلان المحضر اللهم إذا إقتنع القاضي ببعض مضمونه وبدا له موافقا للواقع فإنه قد يأخذ به لكون هذا الأخير يحكم وفق إقتناعه الصميم.

وفي قرار أخر صادر عنه ذهب المجلس الأعلى على أنه ” إن المحضر المستوفي لما يشترطه القانون يقوم حجة لا يمكن دحضها إلا بقيام الدليل القاطع على مخالفتها للواقع بواسطة حجة تماثلها في صورة الإثبات ، كشهادة الشهود إستمع إليهم بعد أدائهم اليمين القانونية، وكالإدلاء بمحاضر أخرى أو تقارير الخبراء، أو ما أشبه ذلك من المستندات الموثوق بصحتها قانوناـ وعليه فإن مجرد الإدعاءات العادية من كل برهان، لا يسوغ بحال أن تعتبر حجة مضادة.

ولا تعتبر توقيعات المتهمين ضرورة لصحة المحضر…)14.
ويلاحظ على هذا القرار إستثنائه توقيع المتهمين من دائرة الشكليات الضرورية لمحضر الشرطة القضائية وإعتبر ما دونه من بيانات تكسبه حجة إثباتية أمام القضاء الجنائي إن قامت هي الأخرى صحيحة، وأن ما يتمخض عنه دحض المحضر ليس عدم التوقيع أو الإبصام وإنما ما يقابلها من حجج ودلائل كمحضر الإستماع إلى المشتكى به أو محضر الإنتقال إلى عين المكان، وهنا يقوم دور القاضي الجنائي بالترجيح بين الوثائق بناءا على سلطته التقديرية ثم الركون للحجة التي ثبت عنده إحتوائها للدليل القاطع المقنع.

وعلى هذا المستوى اتجه المجلس الأعلى في أحد قراراته الصادر بتاريخ 12 يوليوز 1973 أن “عدم إمضاء المشبوه فيه على محضر استجوابه لا يعتبر من الشروط الشكلية التي تؤثر على قانونية المحضر وعلى قوته الثبوتية” وبالتالي لم يرتب البطلان كجزاء على تخلف هذه الشكلية رغم أهميتها في نسبة فحوى المحضر للمشتبه فيه15.

تأسيسا على ما سبق يتجلى لنا موقف القضاء الرافض للقول ببطلان المحضر الذي ينقصه توقيع أو إبصام المصرح لأنه إذا خلصنا إلى البطلان فسيطلق سراح المتهم الذي يثبت أن له صلة بالجريمة لا لشيء إلا لعدم إحترام ضباط وأعوان الشرطة القضائية لشكليات المحضر كما هي منصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية.

ثانيا: تأييد الفقه لموقف القضاء في صحة المحضر المنجز دون توقيع المصرح
إن محاضر الضابطة القضائية تعد نقطة البداية في سبيل إيقاع الجزاء الجنائي، بإعتباره وثيقة يحررها ضابط الشرطة القضائية بمناسبة قيامه بعمله من أجل الثتبت من وقوع الجريمة وإيقاف الشخص المشتبه فيه وجمع الأدلة والتي من خلالها إما سيقتنع القاضي به أو يغض الطرف عنه16أو يركن لبعض أو كل مضمونه17.

في هذا السياق نجد بعض الفقه المغربي من ميز بين توقيع المشتبه فيه وتوقيع محرر المحضر كالأستاذ الإدريسي العلمي المشيشي، فبالنسبة للحالة الأول يوضح أن الغاية من توقيع المشتبه فيه أو المتهم ليست هي إضفاء الصبغة الرسمية حتى يقوم المحضر وسيلة إثبات أما القضاء، وإنما الغاية من ذلك كون ما جاء في المحضر من مخالفات وأفعال يكون موافقا للواقع ودلالة على إتيان المتهم تلكم المخالفات والجرائم المنسوبة إليه.
أما بالنسبة للحالة الثانية فإن إمضاء ضابط الشرطة القضائية أو العون المكلف بذلك بعد التثبت من وقوع الجريمة يكسب المحضر صبغته الرسمية لأن قيمة أي محضر لا تثبت إلا بتوقيع الشخص الذي يصدره.

والملاحظ على هذا الإستنتاج أن الأستاذ العلمي المشيشي ذهب مع رغبة المشرع وحرفية نص المادة 23 و 24 من ق.م.ج، حيث يستشف وبمفهوم المخالفة لهاتين المادتين أن المشرع حتى وإن لم ينص فعلا على ضرورة توقيع المحرر للمحضر، إلا أن بعض الإجراءات التي يقوم بها تجره إلى التوقيع مثلا حينما يشير الضابط لصفته في المحضر فهنا لا جرم أنه سيضع توقيعه إلى جانب صفته، وكذلك مصادقته على التشطيبات والإحالات فهي في كل الأحوال تأخذ شكل توقيع المحرر.

كما ذهب جانب اخر من الفقه كالحسن البوعيسى18 الذي إعتبر امتناع المشتبه فيه عن التوقيع إنما يكون نتيجة وجود تصريحات إضافية لم يفضي بها إذ من العدل اعتبار التصريح غير الموقع عليه كأن لم يصدر عن الشخص المشتبه فيه19، وهو نفس المسار الذي سلكه المجلس الأعلى – سابقا – محكمة النقض – حاليا – حين إعتبر أن عدم إمضاء المشتبه فيه على محضر البحث التمهيدي لا يؤثر على القوة الإثباتية التي يحوزها20.

ومن وجهة نظرنا نرى أن المتهم أو المشتبه فيه لا يرفض التوقيع كلما كان مضمون المحضر مطابق لما تلاه عليه المحرر اللهم إذا ظهر له أن ما هو مدون مخالف للواقع كتضمين الإعتراف بالجريمة المنتزع بالإكراه والتهديد، وخيرا فعل المشرع المغربي حينما نص على إمكانية المحرر الإشارة إلى واقعة رفض التوقيع أو الإبصام على اعتبار هذا الرفض في الغالب ما يؤسس تبعا لتلقيف تهم غير واقعة أو إقحام بعض التصرفات التي تشكل ظرف تشديد في نظر القانون.

خاتمة
إن عمل الضابطة القضائية رهين بإحترام مجموعة من الضوابط التشريعية التي يصبو من خلالها المشرع المغربي تحقيق العدل والأمن القانوني في المجال الجنائي، ولأن موضوع حساس كالجريمة يسوقنا أمام عقوبات سالبة للحرية وغرامات مالية وتدابير وقائية فإن ق.م.ج إعترف للقاضي الزجري بسلطة تقديرية واسعة مع مكنة الحكم وفق إقتناعه الصميم دون التقيد بمضامين محاضر الشرطة القضائية وإن كانت تشكل حجر الزاوية في فك دهاليز الفعل الجرمي.

والقضاء المغربي تفعيلا منه لهذه الفلسفة القانونية لم يقبل في أكثر من مناسبة بالدفع ببطلان المحضر الذي ينقصه توقيع المتهم مبررا أن إلتزام هذا الاخير بالتوقيع من عدمه لا يؤدي إلى بطلان المحضر بل هو قرينة على تفاعله مع محتوى هذه الوثيقة لا غير.

لائحة المراجع المعتمدة
ü بديعة الداودي، القوة الثبوتية لمحاضر الشرطة القضائية، رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون الخاص، كلية الحقوق مراكش، 2009-2010.
ü محمد صالح السرغيني، قضاء النيابة العامة، منشورات جمعية تنمية البحوث والدراسات القضائية، الرباط، 1991.

ü حسن هوداية، محاضر الضابطة القضائية، مكتبة السلام، الرباط، الطبعة الأولى 2000.

ü حامد شريف، نظرية الدفوع أمام القضاء الجنائي، دار المطبوعات الجنائية، الإسكندرية، الطبعة الثانية، 1996.
ü ميلود غلاب ومحمد الشتوي، الدفوع الشكلية والمسائل الأولية أمام القضاء الجنائي، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 1998.

لائحة الهوامش

[1] – باستثناء قانون الدرك الملكي الذي كان يعرف المحضر في الفصل 70 منه بكونه (المحضر هو الوثيقة التي يضمن فيها جنود الدرك ما عاينوه من مخالفات، أو ما قاموا بها من عمليات، أو تلقوه من معلومات).
2 – بديعة الداودي، القوة الثبوتية لمحاضر الشرطة القضائية، رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون الخاص، كلية الحقوق مراكش، 2009-2010، ص 3.
3 – محمد صالح السرغيني، قضاء النيابة العامة، منشورات جمعية تنمية البحوث والدراسات القضائية، الرباط، 1991، ص 64.
4 – حسن هوداية، محاضر الضابطة القضائية، مكتبة السلام، الرباط، الطبعة الأولى 2000، ص 11.
5 – يدخل في لفظ المصرح المتهم والمشتبه فيه والشهود وكل من يدلي بتصريحاته أمام ضابط أو عون الشرطة القضائية أثناء قيام هؤلاء بمهامهم.
6 – تنص المادة 18 من قانون المسطرة الجنائية على أنه ” يعهد إلى الشرطة القضائية تبعا للبيانات المقررة في هذا القسم بالتثبت من وقوع الجرائم وجمع الأدلة والبحث عن مرتكبيها”.
7- كل ذلك من أجل توحيد الأحكام القانونية المؤطرة لمحاضر الضابطة القضائية.
8- حامد شريف، نظرية الدفوع أمام القضاء الجنائي، دار المطبوعات الجنائية، الإسكندرية، الطبعة الثانية، 1996، ص261.
9 – قرار عدد 1042 بتاريخ 12 يولوز 1973ـ أشارت إليه بديعة الداودي، مرجع سابق، ص 108.
10- قرار منشور بمجلة القضاء والقانون أشارت إليه بديعة الداودي، مرجع سابق، ص 58.
11 – اعتمد هذا الاتجاه القضائي أن توقيع المتهم من عدمه لا يؤثر على صحة المحضر وبالتبع لا يؤدي إلى بطلان المحضر ، وأن ما نصت عليه المادة 289 من قانون المسطرة الجنائية يتعلق بكل البيانات الشكلية دون توقيع المتهم على إعتبار أن رفض التوقيع أو إستطاعة ذلك يشار إليه في المحضر.
12 – ذكره الأستاذ محمد البوعيسى في مرجعه عمل الضابطة القضائية بالمغرب.
13 – الغرفة الجنحية بالمجلس الأعلى قرار عدد 306 بتاريخ 5 فبراير 1962 ، غير منشور.
14 – قرار عدد 306 بتاريخ 5 فبراير 1962 أشار إليه الحسن هوداية ، مرجع سابق ، ص 65.
15 – ميلود غلاب ومحمد الشتوي، الدفوع الشكلية والمسائل الأولية أمام القضاء الجنائي، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 1998.
16 – وإن كان في الغالب ما تعتمد عليه المحكمة بشكل كبير.
17- تنص المادة 286 من ق.م.ج على أن “…ويحكم القاضي حسب إقتناعه الصميم…”.
18 – الحسن البوعيسى ، مرجع سابق، ص 111.
19 – هو ذات توجه المجلس الأعلى في القرار عدد 306 بتاريخ 5 فبراير 1962
20 – قرار عدد 306 بتاريخ 5 فبراير 1962، أشار إليه الحسن هوداية في مؤلفه.