مفهوم مبدأ (قاضي الأصل هو قاضي الفرع) ومبرراته

المؤلف : اياد خلف محمد جويعد
الكتاب أو المصدر : المسائل العارضة في الدعوى الجزائية
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

البند الأول: مفهوم المبدأ (1):-
يقصد بمبدأ (قاضي الأصل هو قاضي الفرع) أن القاضي الجزائي الذي ينظر في الدعوى الجزائية يفصل أيضاً في كل دفع يثار أمامه، إذا كان الفصل فيه لازماً للفصل في الدعوى المقامة أمامه(2). وبمعنى آخر، إن القاضي المختص بالفصل في الجريمة مختص أيضاً بتقدير العناصر المكونة لها والفصل في المسائل التي ترفع إليه بشأنها ولو كان غير مختص بنظرها نوعياً أو مكانياً لو رفعت إليه بصفة أصلية(3). فطبقاً لهذا المبدأ يكون للقاضي الجزائي الفصل في جميع المسائل الأولية التي تطرح عليه وأن كانت لا تدخل أصلاً في اختصاصه، لأنها أما مسائل مدنية أو تجارية أو تتصل بالأحوال الشخصية، وتدخل في اختصاص القاضي المدني أو قاضي الأحوال الشخصية(4).

وبعبارة أخرى، إن هذا المبدأ يجعل من المحكمة الجزائية الناظرة في الدعوى الجزائية ذات اختصاص للفصل في جميع المسائل التي يتوقف عليها الفصل في الدعوى الجزائية المنظورة من قبلها(5). ذلك لأن القاضي الجزائي لا يمكن له أن يفصل في أمر التكييف القضائي للواقعة الجرمية، أي النظر في مطابقة الواقعة المقامة عنها الدعوى للنموذج القانوني للجريمة، دون أن يبت أولاً في المسألة العارضة التي قد أثارها أحد أطراف الدعوى الجزائية، ونظراً لهذه الصلة فأنه ينبغي أن يكون الاختصاص للقاضي الجزائي ليفصل في هذه المسائل، وإن كانت في حقيقتها تقابل مركزاً قانونياً مقرراً في قانون غير جزائي.

إن هذا المبدأ يعد استثناءً من القواعد العامة في توزيع الاختصاص، وإن في إعماله خروجاً على القاعدة العامة في الاختصاص(6). التي تقرر أنه إذا كانت المسألة العارضة تخرج عن اختصاص المحكمة المنظورة أمامها الدعوى الجزائية الأصلية، ورأت إن الفصل فيها يعد لازماً للفصل في هذه الدعوى، فعليها أن توقفها لحين البت في المسألة الأولية من المحكمة المختصة بها(7).

وبهذا فإن المبدأ يعمل على تغيير جهة الاختصاص، إذ تمنح المحكمة الجزائية الناظرة في الدعوى حق الفصل في أمور هي حسب القواعد العامة في الاختصاص تكون من اختصاص غيرها من المحاكم، كالمحاكم المدنية أو محاكم الأحوال الشخصية أو سواها(8). غير أن هنالك رأياً منفرد يذهب إلى أن في إتباع هذا المبدأ لا يعد خروجاً على قواعد الاختصاص الأصلية بما يحتمل معه الإخلال بموازين العدالة، نظرا لأن القاضي الجزائي هو ذاته قاضي مدني أو تجاري أو قاضي الأحوال الشخصية في أغلب النظم القضائية (9).

ويبدو أن الرأي الأول هو الراجح، إذ أنه لا يمكن التسليم بالرأي الأخير، ذلك لأن هذا المبدأ سيؤول إلى خرق قواعد توزيع الاختصاص بين القضاء الجزائي والقضاء المدني، من خلال ما يمنحه من صلاحية الفصل في مسائل تخرج – بحسب الأصل- عن اختصاصه(10).

البند الثاني :- مبررات المبدأ:
بما أن مبدأ (قاضي الأصل هو قاضي الفرع) يؤدي إلى خرق قواعد توزيع الاختصاص التي تستقر في كل تنظيم قضائي، ولكن لهذا الخروج مبرراته.

1.إن المسائل التي ينظرها القاضي الجزائي طبقاً لهذا المبدأ هي في غالبيتها مسائل مدنية، والقاضي الجزائي بدوره صالح لأن يكون قاضياً مدنياً(11). فغالبية النظم القضائية، ومنها النظام القضائي العراقي، تأخذ بنظام وحدة القضاء (12). ومن ثم فأن هذه الوحدة تؤدي بالنتيجة إلى أن يكون من سلطة القاضي الجزائي الفصل في كافة ما يعرض عليه من مسائل أثناء نظر الدعوى الجزائية، أيا كانت طبيعة هذه المسائل ما دام الفصل فيها ضرورياً لإثبات الحقيقة وإصدار حكم عادل مطابق للواقع في الدعوى الجزائية الأصلية (13).

.ولهذا فلا يوجد قضاة متخصصون لكل من القضاءين، فقد يكون القاضي المدني هو نفسه القاضي الجزائي(14). وقد يكون الأخير، عند نظره المسائل المدنية العارضة، هو نفسه الذي ينظرها إذا طلب منه وقف السير في الدعوى الجزائية لحين الفصل في هذه المسائل(15). ومن ثم لا يكون هنالك مبرر لمثل هذا الوقف، يضاف إلى ذلك إن هذا القاضي نفسه له سلطة الفصل في الدعوى المدنية التابعة للدعوى الجزائية، وهي – بحسب الأصل- ليست من اختصاصه.

2.إن النظر في هذه المسائل تتخذ في الدعوى الجزائية صورة البحث في توافر أحد أركان الجريمة. ولا شك أن القاضي الجزائي هو صاحب الاختصاص في التحري عن مدى توافر أركان الجريمة(16). فبالأخذ بنظام مبدأ (قاضي الأصل هو قاضي الفرع) يؤدي إلى تمكين المحكمة الجزائية من الفصل في عناصر الدعوى ودفوعها منعاً لعرقلة سيرها(17).

لأن هذه المسائل في أصلها تتعلق بتوافر بعض أركان الجريمة(18) . فالقاضي الجزائي لن يتسنَ له إجادة الفصل في الدعوى الجزائية ما لم يكن هو نفسه مخولاً أمر تقدير جميع عناصر الحكم وجميع العناصر المتعارضة والوجهات المختلفة التي تعرض خلال النظر في الدعوى الجزائية(19).

3.إن اختصاص القاضي الجزائي بالفصل في المسائل الأولية ما هو إلا استجابة للضرورات التي تقتضيها سرعة الفصل في القضايا وعدم التوقف عن حسم الدعوى، كلما أبدى المتهم دفعاً من الدفوع التي يعود الاختصاص فيها إلى المحاكم المدنية أو محاكم الأحوال الشخصية(20). الأمر الذي يؤدي إلى تعثر القضايا وتعذر الفصل فيها إلا بمضي مدة طويلة من الزمن مما يعرقل سير العدالة الجزائية وجعل أمر البت في القضايا مرهوناً بإرادة الخصوم(21).

4.إن في إحالة هذه المسائل الأولية إلى الجهات المختصة بها يؤدي إلى تلكؤ وتعثر في سير الدعوى الجزائية الأصلية وبالتالي تتعدد مسارات الخصوم إلى قضايا موزعة بين جهات قضائية مختلفة، تنتظر كل منها الأخرى للفصل في المسائل المتروكة لها، وبذلك تنقطع أوصال القضية ويطول أمد الخصومة مما يتلكأ معه حسم الدعوى (22).

لذلك فمن منطق العدالة أن ترفد المحكمة بقدرة الحسم والفصل في وجود الجريمة من خلال منحها سلطة تحديد جميع أركانها وعناصرها والفصل في الدفوع التي تثار بشأنها والتي قد تعدلها أو تلغيها، وهذه هي العلة التي من ورائها تقرر مبدأ اختصاص القاضي الجزائي بالفصل في المسائل الأولية وتجدر الإشارة إلى أن هناك رأياً يذهب إلى أنه ليس صحيحاً القول بأن الحكمة من هذا المبدأ هو السرعة في إصدار الحكم في الدعوى الجزائية دون انتظار لصدور حكم في المسألة من المحكمة المختصة بها بحسب الأصل.

ويستند في ذلك بالقول إن الأخذ بهذا التبرير يجعله في نفس الوقت ينسجم مع ما يقال به من تمتع الحكم المدني النهائي بالحجية أمام المحكمة الجزائية في المسألة الأولية ولو كان صحيحاً، لتعين القول بوجوب أن تلتزم المحكمة الجزائية بالحكم النهائي الذي صدر بالفعل من المحكمة المدنية في شأن المسألة الأولية التي يتوقف عليها الفصل في الدعوى الجزائية، إذ أن ما يبرر الأخذ بهذا المبدأ هو ما يتمتع به القانون الجزائي من ذاتية عن باقي فروع القانون. وهي الذاتية التي اقتضت عدم تمتع الحكم المدني الصادر في المسألة الأولية بأي حجية أمام المحكمة الجزائية ولو صار نهائياً(23).

_____________________________
[1]- لقد ذهب جانب من الفقه إلى تسمية هذا المبدأ بـ( مبدأ قاضي الدعوى هو قاضي الدفع) ينظر
د. أحمد فتحي سرور- أصول قانون الإجراءات الجنائية- المرجع السابق – ص 188، د. عبد الحكم فودة – المرجع السابق- ص 712. ويطلق عليه آخرون بـ ( مبدأ قاضي الأصل هو قاضي الفرع) ينظر د. محمود محمود مصطفى- المرجع السابق- ص 364، د. حسن صادق المرصفاوي- المرجع السابق- ص 623 ، د. آمال عبد الرحيم عثمان – المرجع السابق- ص220.واضح إن التسمية الأخيرة هي الأرجح ذلك، لأن المسألة الأولية قد لاتكون بالضرورة محل دفع أمام القاضي الجزائي، بحيث يسلم المتهم بوجودها ويبيني دفاعه على أوجه أخرى، وهنا يكيف القاضي المركز القانوني المقابل للمسألة الأولية العارضة كما يكيف بقية عناصر الجريمة .
2-د. حسن جوخدار – المرجع السابق – ص257، د. عاطف النقيب- المرجع السابق- ص314، د. جلال ثروت- نظم الإجراءات الجنائية- المرجع السابق- ص341.
3- رينية غارو –موجز في أصول المحاكمات الجزائية – الجزء الثاني- ترجمة المحامي فائز الخوري- المطابع المدنية- دمشق- 1346هـ –1928م- ص 161،جندي عبد الملك- المرجع السابق- ص 345.

4- ياسين غانم- المرجع السابق-ص 231.
5- د. ممدوح خليل البحر- المرجع السابق- ص160.
6- د. جودة حسين جهاد- الوجيز في شرح قانون الإجراءات الجزائية لدولة الإمارات العربية- الجزء الثاني- الطبعة الأولى- دار الكتب الوطنية- أبو ظبي- 1415هـ – 1994م- ص 258 ، ينظر كذلك د. فوزية عبد الستار- المرجع السابق- ص 447.
7- كامل مصطفى- المرجع السابق- ص 235.
8- د. محمد الفاضل- المرجع السابق- ص 525.
9- G. Stefani et G. levasseur- Droit penal General et Procedure Penale – Tome.II- Dalloz- 1980- N382.
0[1]- د. سعيد حسب الله عبد الله –شرح قانون أصول المحاكمات الجزائية- دار الحكمة للطباعة والنشر- الموصل-1990-ص276.
1[1]- د. حسن صادق المرصفاوي- المرجع السابق- ص624، د. محمود نجيب حسني- المرجع السابق- ص292.
2[1]- الأستاذ عبد الأمير العكيلي- أصول الإجراءات الجنائية في قانون أصول المحاكمات الجزائية – الجزء الثاني- الطبعة الأولى- مطبعة المعارف- بغداد- 1973- ص4.
3[1]- د. آمال عبد الرحيم عثمان- المرجع السابق- ص 220.
4[1]- يأخذ النظام القضائي الإيطالي بخلاف ما عليه في فرنسا وإنكلترا وأمريكا بنظام تخصص القضاء، وذلك استجابة لاتجاه المدرسة الإيطالية الوضعية والتي أوجبت عدم جواز النظر في القضايا الجزائية إلا من متخصص فيها له الإلمام الكافي بعلم النفس الجزائي والقضائي والطب ألعدلي والتحقيق الجزائي العلمي والعملي وعلم الإجرام إضافة إلى تعمقه الواسع في القانون الجزائي بكل فروعه. ينظر: عبد الأمير العكيلي- المرجع السابق- ص 4.
-15 G.stefani et G.levasseur. op- cit.N384
6[1]- رينيه غارو- المرجع السابق- ص 161.
7[1]- فاروق الكيلاني- المرجع السابق- ص548.
8[1]- د. فوزية عبد الستار- المرجع السابق- ص 447.
-19 G.stefani et G.levasseur- op-cit. N384
20- سعدي بسيسو- المرجع السابق- ص 332
[1]2- د. حسن جوخدار- المرجع السابق- ص 257
22- خليل جريح- محاضرات في نظرية الدعوى- الطبعة الثانية- مؤسسة نوفل- بيروت -1980- ص 377
23- كامل مصطفى- المرجع السابق- ص 236- هامش 49.