أثر البراءة في ” سرية التحقيق الابتدائي “

المؤلف : رائد احمد محمد
الكتاب أو المصدر : البراءة في القانون الجنائي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

يعني مبدأ سرية التحقيق الابتدائي إن جمهور الناس لا يصرح لهم بالدخول في المكان الذي يجري التحقيق فيه، ولا تعرض محاضر التحقيق لاطلاع الناس، ولا يجوز للصحف وغيرها من وسائل الإعلام إذاعتها، إلا أن سرية التحقيق الابتدائي ليست مبدأ مطلقاًُ، وإنما هي نسبية، فالأصل انه لا سرية إزاء أطراف الدعوى ووكلائهم، ولكن إزالة السرية بالنسبة للأطراف ليست بدورها قاعدة عامة، فثمة قيود واستثناءات ترد عليها(1).

إذ منذ نشأت مرحلة التحقيق الابتدائي في ظل نظام التحري والتنقيب، وهي تتسم بطابع السرية، فهي من حيث المبدأ لا تتيح للخصوم ولا للجمهور فرصة حضور الإجراءات، غير أن حق المتهم في محاكمة قانونية وفقاً لقرينة افتراض براءته، حتى تثبت إدانته – وفي إطار مبدأ الشرعية الإجرائية – يقتضي ضمان حق المتهم في الدفاع عن طريق أحاطته علماً بكل جوانب الدعوى، مما يستلزم مباشرة إجراءات التحقيق في حضوره، حتى يكون على بينة مما يدور حوله، كما لا يسمح بجمع أدلة الاتهام في الظلام من وراء ظهره، حتى يستطيع تقديم دفاعه المناسب في الوقت المناسب(2).

وبناء على ما تقدم فإن ضرورة حماية المتهم وحقوقه التي يتمتع بها أثناء التحقيق وفقاً لقرينة البراءة، والتي تفرض بدورها أهمية تطبيق السرية في التحقيق الابتدائي، تبدو واضحة جلية، لاسيما إذا تناولنا تلك النتيجة من خلال النقاط التالية:-

أولا / تؤدي سرية التحقيق الابتدائي إلى حماية اعتبار وسمعة المتهم، حيث تترك علانية التحقيق انطباعاً سيئاً لدى الناس، من الصعب أن يمحى حتى ولو قررت سلطة التحقيق بعد ذلك برفض الشكوى. لا فإذا كانت العلانية في مباشرة الإجراء، هي من الضمانات التي تكفل حيدة مباشرة الإجراء وتطبيقه السليم للقانون، وتضفي في الوقت ذاته الاطمئنان في نفوس المخاطبين بأحكام القانون وترضي شعورهم بالعدالة، فان هذه العلانية في مجال التحقيق الابتدائي وان حققت هذه المنافع إلا انه قد تنتج أضرار تفوق منافعها، أبرزها ما يتعلق بشخص المتهم، وما يلقاه من تشهير على حين قد ينتهي التحقيق بإظهار عدم صحة التهمة المنسوبة إليه(3). لذلك واستناداً إلى افتراض براءة المتهم، يجب أن تحاط إجراءات التحقيق مع المتهم بشيء من السرية حفاظاً على سمعته واعتباره(4).

ثانيا / تساهم السرية في مرحلة التحقيق الابتدائي في صيانة استقلال المحقق وحياده من التأثير المفسد لوسائل الإعلام، التي قد تتخذ اتجاهاً متحيزاً ضد المتهم أو لمصلحته. كما قد يترتب على معرفة سير التحقيق، التأثير على الشهود أو طمس بعض معالم الجريمة(5).

ثالثا / إن إجراءات هذا التحقيق تستهدف التنقيب عن أدلة قد يحاول المجرم الحقيقي – إن لم يكن هو المتهم – أو غيره ممن قد يكون له مصلحة في ذلك، إخفاءها أو تشويهها، ولذلك كان التحقيق مقتضياً خطة بارعة وتدبيراً محكماً لالتقاط هذه الأدلة واستظهارها وتجميعها، فيتعين أن يجري ذلك في سرية، تفادياً لمحاولات الإفساد أو التشويه(6).

رابعا / سرية التحقيق المقصودة في هذا الصدد والتي تتفق مع أعمال قرينة البراءة، هي سرية التحقيق بالنسبة للجمهور، بينما هي علنية بالنسبة للخصوم ووكلائهم، وفي ذلك تحقيقاً للتوازن المطلوب بين مصلحة المتهم في الحرية ومصلحة الدولة في جمع الأدلة لإقرار حقها في العقاب، إذ انه في إزالة السرية إزاء أطراف الدعوى، توفير الضمانات لكل منهم، بتمكينه من رقابة الإجراءات والاطمئنان على سلامتها، وإثارة أسباب بطلانها في الوقت الملائم، كما تمكن كل خصم من العلم بالأدلة التي تقدم ضده، فيتاح له إبداء رأيه فيها ودحضه، مما يساهم في حسن سير التحقيق وسرعة كشف الحقيقة(7).

فضلاً عن ذلك فإن إجراءات التحقيق التي تتم في علانية تكون في وجدان الإنسان، أقرب إلى الحقيقة مما يجري في السر والخفاء، والمتهم له حساسية مرهفة تدخل إلى قلبه الشك في كل ما يجري بعيداً عن نظرة وفي غيبته، مهما طابقت الحقيقة والواقع. ومجرد تمكين المتهم من حضور التحقيق ومعرفة ما يتم من إجراءاته يحدوه إلى الثقة في سلامتها، ويبعث في نفسه الطمأنينة التي تعد من أهم ضمانات الدفاع التي يجب توفيرها للمتهم(8).

موقف التشريع العراقي من ” سرية التحقيق الابتدائي “
نصت المادة (57/ أ ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية على انه ( للمتهم وللمشتكي وللمدعي بالحق المدني وللمسؤول مدنياً عن فعل المتهم ووكلائهم أن يحضروا إجراءات التحقيق). نستنتج من هذا النص إن المشرع العراقي، قد اخذ بمبدأ حضور المتهم إجراءات التحقيق واقتصر السرية على الجمهور، وهو ما يعرف بالسرية النسبية، وهي القاعدة العامة لدى التشريع العراقي ومعظم التشريعات العربية، والاستثناء هو جعل التحقيق الابتدائي سرياً بصورة مطلقة(9).

هذا الاستثناء قد يعود في معظمه إما إلى حالة الضرورة أو إلى حالة الاستعجال، حيث تكون الحالة الأولى عندما يترتب على اشتراط حضور المتهم إجراءات التحقيق، الإضرار بسيره أو تعطيل مجراه، كأن يكون مركز المتهم أو شخصيته لهما تأثير على من يتناولهم التحقيق، ويتوافر الاستعجال حين يخشى على الأدلة من الضياع إذا ما انتظر المحقق حضور المتهم، كما لو كان الشاهد الذي يريد المحقق سؤاله مشرفاً على الموت أو على وشك السفر إلى الخارج(10).ويبدو إن المشرع العراقي قد اخذ بحالة الضرورة دون حالة الاستعجال، حيث نصت المادة (57) على انه “للقاضي أو المحقق أن يمنع أياً منهم من الحضور، إذا اقتضى الأمر ذلك، لأسباب يدونها في المحضر على أن يبيح لهم الإطلاع على التحقيق بمجرد زوال هذه الضرورة”.

ولقد رأى البعض في صدد تفسيره للقانون الكويتي إن الاستعجال مما تشمله الضرورة، ومن ثم فلا لزوم لذكره استقلالاًَ(11). في حين أن هناك فارقاً جوهرياً بين الضرورة والاستعجال، فعندما تتحقق حالة الضرورة يمتنع حضور الخصوم الذين قامت بشأنهم، وتتقرر السرية بقرار صريح من المحقق، بينما في “الاستعجال” فإن التحقيق لا تتقرر سريته حقيقة بالنسبة للخصوم، فللخصم حق الحضور إذا ما سمحت له ظروفه بذلك، وبمعنى أوضح فإن قيام السرية في هذه الحالة يتوقف في الواقع على ظروف الخصم لا على إرادة المحقق(12).

ومع ذلك فقد ذهب الفقه إلى أن هناك من الإجراءات، ما لا يمكن أن تثور بصدده حالة الضرورة، ويتعين إجراؤها دائماً في حضور المتهم والخصوم عموماً، نظراً لأن مصلحة التحقيق ذاتها تتطلب إجراءها في حضورهم وليس في غيبتهم، وقصد بذلك إجراءات التفتيش، استناداً إلى أن التفتيش إجراء يستحيل إعادته من قبل المحكمة وان الدليل المستفاد منه يتحقق في اللحظة التي بوشر فيها الإجراء(13).

ولاشك لدينا إن تغييب المتهم عن حضور إجراءات التحقيق أمر يتنافى مع قرينة براءة المتهم، وما تفرضها من وجوب معاملته على هذا الأساس، ومن ثم حضور جميع إجراءات التحقيق الابتدائي، يعد حقاً صريحاً من حقوق المتهم، لذلك لا يجوز حرمانه منها إلا في أضيق الحدود ووفقاً لحالة الضرورة فقط، على أن تبين الأسباب التي بنيت عليها تلك الحالة، وهو ما أوجبه القانون العراقي، وقد أحسن في ذلك(14).إلا إن الحفاظ على سرية التحقيق، لا يتعلق بعدم جواز حضور الجمهور إجراءات التحقيق الابتدائي فحسب، وإنما يتعلق أيضا بكتمان أسرار التحقيق لمن اطلع عليه أو علم به بحكم وظيفته أو مهنته. وهو ما يفرض التزاماً على كل من باشر التحقيق أو اتصل به أو علم به بحكم وظيفته أو مهنته، بالمحافظة على سرية التحقيق، وعدم إفشائها أو نشرها بإحدى طرق العلانية، أي الالتزام بعدم تسرب أيُ من معلومات التحقيق إلى الجمهور(15).

بناء على ذلك، والتزاما بحق المتهم في الاحتفاظ بقرينة براءته من جهة، وتحفظاً على أدلة التحقيق من جهة أخرى، اعتبر القانون العراقي أي خرق لسرية التحقيق جريمة معاقب عليها(16). حيث شمل هذا الالتزام كل شخص وصل إليه سر من أسرار التحقيق بحكم وظيفته ( كالقاضي والمحقق وأعضاء الادعاء العام وكتاب قلم المحكمة ) أو بحكم مهنته ( كالخبير والطبيب والمحامي)، كذلك يسري هذا الالتزام على الشهود وكل من له علاقة بالقضية الذين تم تحذيرهم من سلطة التحقيق بوجوب المحافظة على سرية المعلومات(17).

ننتهي مما سبق في شأن اثر البراءة في المبادئ الأولية للتحقيق الابتدائي، انه لا يمكن الاستناد إلى إجراءات عادلة في ظل التحقيق الجنائي، دون العمل بالمبادئ الأولية لها متمثلة بحياد التحقيق وفصله عن سلطة الاتهام، بما لا يسمح بوجود تحقيق منحاز يقف موقف الخصومة من المتهم، ويضمن عدم المساس به إلا بالقدر اللازم الذي يفرضه التحقيق، ومتمثلة أيضا – أي مبادئ التحقيق الأولية – بسرية التحقيق بالنسبة للجمهور دون الخصوم، مما يؤدي إلى حماية سمعة واعتبار المتهم بل وحمايته شخصياً، وان ذلك كله من مفترضات تطبيق قرينة البراءة ونتائجها في حق المتهم في مرحلة التحقيق الابتدائي.
__________________
1- محمود نجيب حسني، ” شرح قانون الإجراءات الجنائية”، المرجع السابق، ص631.
2- انظر في هذا المعنى/
سامي حسني الحسيني، “ضمانات الدفاع”، مجلة الحقوق والشريعة، جامعة الكويت، س2، ع1 1978، ص22.
3- انظر في ذلك: عبدالوهاب حومد، “الوسيط في الإجراءات الجزائية الكويتية”، دار القبس، الكويت، 1974، ص236.
– مأمون سلامة، “الإجراءات الجنائية في التشريع المصري”، ج1، المرجع السابق، ص579.
4- سعد حماد القبائلي، المرجع السابق، ص167.
5- محمد زكي ابو عامر، “الإجراءات الجنائية”، المرجع السابق، ص663.
6- محمود نجيب حسني، المرجع السابق، ص631.
7- انظر في هذا المعنى:
– محمود محمود مصطفى، “شرح قانون الإجراءات الجنائي”، المرجع السابق، ص265.
– سعيد حسب الله عبدالله، “شرح قانون أصول المحاكمات الجزائية”، المرجع السابق، ص170.
8- حسن صادق المرصفاوي، “أصول الإجراءات الجنائية”، المرجع السابق، ص413.
– عمر السعيد رمضان، “أصول المحاكمات الجزائية في التشريع اللبناني”، الدار المصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 1971، ص305.
9- انظر نص م (77) من قانون الإجراءات الجنائية المصري.
والمادة (64/1) من قانون أصول المحاكمات الجزائية الاردني.
10- انظر في ذلك: سامي الحسيني، “ضمانات الدفاع”، المرجع السابق، ص222.
وقد نص على تلك الحالتين المشرع المصري في م(77) الفقرة الأولى والثانية.
وقد أضاف المشرع الاردني حالة ثالثة في نص م (64/1) توجب بها غيبة الخصوم، بقولها ( للمشتكي عليه والمسؤول بالحال والمدعي الشخصي… الحق في حضور جميع أعمال التحقيق، عدا سماع الشهود).
11- عبدالوهاب حومد، المرجع السابق، ص237.
12- سامي الحسيني، المرجع السابق، ص223.
13- مأمون سلامة، “الإجراءات الجنائية في التشريع المصري”، ج1، المرجع السابق، ص585.
– فوزية عبدالستار، “شرح قانون الإجراءات الجنائية”، دار النهضة العربية، القاهرة، 1986، ص326.
14- ان تسبيب قرار السرية، لاشك انه يقف حائلاً امام من يحاول حرف التحقيق عن جادة الصواب. انظر المادة (57/أ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي.
15- انظر في هذا المعنى:
– مأمون سلامة، “الإجراءات الجنائية في التشريع المصري”، ج1، المرجع السابق، ص587.
16- حيث نصت المادة (236/1) من قانون العقوبات العراقي على انه ( يعاقب بالحبس مدة لاتزيد على سنتين وبغرامة لا تزيد على مائتي دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين من نشر بإحدى طرق العلانية: اخباراً بشأن محاكمة قرر القانون سريتها أو منعت المحكمة نشرها، أو تحقيقاً قائماً في جناية أو جنحة أو وثيقة من وثائق هذا التحقيق، إذا كانت سلطة التحقيق قد حظرت اذاعة شيء عنه.
كما عاقبت المادة (437) عقوبات عراقي، بذات العقوبة السابقة، كل من علم بحكم وظيفته أو مهنته أو صناعته أو فنه أو طبيعة عمله بسر فافشاه في غير الأحوال المصرح بها قانوناً.
17- سعيد حسب الله، ” شرح قانون أصول المحاكمات الجزائية”، المرجع السابق، ص174.