التعريف بالقضاء الدستوري :

يحتمل اصطلاح القضاء الدستوري معنيين : أولهما – عضوي شكلي ، والآخر – موضوعي. فمن الناحية العضوية أو الشكلية : يقصد بالقضاء الدستوري المحكمة أو المحاكم التي خصها الدستور – داخل التنظيم القضائي في الدولة – من دون غيرها برقابة دستورية التشريع (قضاء دستوري متخصص) . ومن الناحية الموضوعية : يعني القضاء الدستوري الفصل في المسائل الدستورية ، وهي المسائل التي تثير فكرة تطابق التشريع مع الدستور ، وبهذا المعنى ينصرف الاصطلاح إلى القضاء في هذه المسائل سواء أصدر من محكمة دستورية متخصصة ام من محكمة اخرى من المحاكم العادية أو الإدارية أو غيرها ، وذلك طالما تعلق هذا القضاء بالفصل في مسألة دستورية (قضاء دستوري غير متخصص) (1). وبهذا فان المعنى الموضوعي لاصطلاح (القضاء الدستوري) أوسع نطاقا من معناه العضوي أو الشكلي ، إذ انه وفقاً لهذا المعنى الاخير فان القضاء الدستوري لا يوجد إلا مع وجود المحاكم الدستورية المتخصصة ، في حين أن القضاء الدستوري وفقاً للمعنى الموضوعي لا يرتبط في وجوده بمثل هذه المحاكم الدستورية ، إنما هو قائم مع الفصل القضائي في المسائل الدستورية ، بصرف النظر عن الجهة القضائية التي يصدر عنها هذا القضاء . أن رقابة القضاء الدستوري هي رقابة قانونية تقوم على أساس تدخل جهاز قضائي لإصدار حكم بمدى توافق أو عدم توافق تشريع ما مع أحكام الدستور . وبهذا المنطق فإن عملية الرقابة على الدستورية تدخل بصورة طبيعية في اختصاص القضاء ، فما وظيفة القاضي إلا تطبيق القوانين على ما يعرض امامه من منازعات ، وما الحكم في دستورية القانون من عدمه إلا منازعة يختص القضاء ببحثها وهو يفصل فيها وفقاً لمبدأ تدرج القواعد القانونية بمعنى انه إذا وجد أن النص التشريعي الذي يحتج به يتعارض مع قاعدة أعلى منه في الدستور ، فانه ملزم بانزال حكم الدستور واستبعاد تطبيق القاعدة المخالفة ، فهذا هو ما يمليه منطق العدالة والمشروعية (2). وتمتاز رقابة القضاء الدستوري بكل ما يمتاز به الجهاز القضائي من حياد وبعد عن التيارات السياسية وأهواء الاحزاب ، كما انها تمتاز بوجود قاض متخصص في تطبيق القوانين وله تكوينه القانوني السليم والعميق وهو أمر لازم لمباشرة هذه المهمة ، فالرقابة على دستورية التشريع مهمة ذات طابع فني متميز ينبغي أن يتوافر في من يتولاها معرفة ودراية بالدستور وهي أمور قانونية بحته (3). بالإضافة إلى ما يقدمه النظام القضائي من ضمانات للمتقاضين تتمثل بالإجراءات القضائية المتبعة مثل علانية الجلسات وحرية الدفاع وإلزام القاضي بتسبيب أحكامه بما يحمي المصالح المختلفة في النزاع المنظور ، فضلاً عما يؤكده مبدأ الفصل بين السلطات في شأن استقلال القضاء ، وحصانة القضاة ، وما هو مقرر لهم من ضمانات تبعد عنهم تدخل السلطات الاخرى ومحاولة تأثيرها على أحكامهم ، وعدم إلزامهم بقبول ما تصدره من قوانين وقرارات تخالف الدستور وتخرج على مقتضاه (4). فالدستور حين يحدد نطاق إختصاص السلطات العامة الحاكمة ، فإن على تلك السلطات الالتزام بهذه الحدود ، فإذا حدث وإن تجاوزت المؤسسة التشريعية حدودها فإن السلطة القضائية تعد قيداً دستورياً عليها يقف في وجهها . ويترتب على ذلك انه إذا ما أصدرت الهيئة التشريعية قانوناً متجاوزة به سلطتها او لا يسمح به الدستور فانه يعد قانوناً باطلاً ، وعلى القضاة المستقلين الذين كفل الدستور حيادهم ونزاهتهم أن يعلنوا هذا البطلان (5). وهذا البطلان يعد نتيجة حتمية لفكرة الدستور الجامد الذي لا يمكن تعديله بواسطة القوانين العادية . فالقوانين الصادرة عن السلطة التشريعية والتي تخالف قواعد الدستور الجامد تعد قوانين باطلة ، من دون حاجة إلى تقرير ذلك البطلان صراحة في صلب الدستور (6).

ثانياً : نشأة الرقابة القضائية وانتشارها في بعض الأنظمة الدستورية المعاصرة .

بدأت البذور الأولى لهذه الرقابة في محاكم بعض الولايات الأمريكية قبل نشأة الاتحاد الأمريكي – ” محكمة ولاية New Jersy سنة 1780 ، حيث قضت بعدم دستورية قانون صدر بتشكيل هيئة المحلفين من ستة أعضاء لمحاكمة جرائم معينة مخالفاً بذلك ما استقر عليه العرف الدستوري من تكوين هيئة المحلفين من إثني عشر عضواً ، ثم محكمة ولاية Rhode Island سنة 1786 ، حيث قضت بعدم دستورية قانون صدر بجعل النقود الورقية عملة إلزامية لمخالفته لدستور الولاية ، ثم محكمة ولاية North Carolina سنة 1787 ، حيث قضت بعدم دستورية قانون أعترف بملكية العقارات المشتراة من بين ما صودر من اموال خصوم الثورة “(7). إلا أن شعوب هذه الولايات وبرلماناتها لم تتقبل هذه الأحكام التي أصدرها قضاتها بعدم دستورية بعض قوانين هذه الولايات ، وحدثت بها ردود فعل عنيفة ضد هذه الأحكام . الأمر الذي نتج عنه خوف هذه المحاكم من خوض غمار التجربة مرة ثانية (8). إلا أن نشأة الدولة الاتحادية الأمريكية وقيامها على أساس اتحادي ، وما ترتب عليه من كتابة الدستور الاتحادي الجامد وتعلق شعب الاتحاد بالدستور ، كل ذلك قد ساعد المحكمة الاتحادية الأمريكية على إعادة المحاولة لاسيما وأن بعض نصوص الدستور الاتحادي توحي بحق القضاء في ممارسة الرقابة على دستورية القوانين . ومن ذلك نص الفقرة الثانية من المادة السادسة التي تقول ” إن هذا الدستور وقوانين الولايات المتحدة الصادرة وفقاً له . وكل المعاهدات المعقودة أو التي ستعقد في ظل سلطة الولايات المتحدة ، ستكون هي القانون الأساسي ، والقضاة في كل الولايات يتقيدون بذلك ، بصرف النظر عن أي حكم مخالف في دستور الولايات أو قوانينها ” . وكذلك نص الفقرة الثانية من المادة الثالثة الواردة في بيان الاختصاص القضائي التي تقول ” ان الوظيفة القضائية تمتد إلى كل القضايا المتعلقة بالقانون أو العدالة ، التي تثار في ظل هذا الدستور ” (9). وكان حكمها الصادر في قضية Marbory v. Madison الصادر عام 1803 بداية الطريق الذي استطاعت المحكمة الاتحادية العليا أن تحدد فيه أساس هذا الحق ومداه ، إذ أوضحت أن وظيفة القاضي هي تطبيق القانون وعند تعارض القوانين فإن وظيفة القاضي توجب عليه تحديد القانون واجب التطبيق بحيث إذا ما تعارض تطبيق القانون العادي مع نص دستوري تعين تغليب النص الدستوري ، والامتناع عن تطبيق القانون العادي لأن الدستور هو القانون الأساسي المنظم للسلطات الثلاث في الدولة مما يحتم على هذه السلطات التزام حدود اختصاصها حسبما رسمها الدستور الذي يعد تعبيراً عن إرادة الأمة صاحبة السيادة العليا ، والقاضي عندما يقوم بذلك لا يمارس أكثر من مهمته العادية في ترجيح القواعد القانونية الواجبة التطبيق ، لذلك فقد ذكرت المحكمة الاتحادية العليا في حكمها : أن القانون الصادر من البرلمان خلافا لأحكام الدستور يعد باطلا لا اثر له . وبالتالي يجب الامتناع عن تطبيقه (10). استمرت المحكمة الاتحادية العليا وسائر المحاكم الأمريكية تأكيد مبدأ الرقابة الدستورية وساعدها في ذلك تطور الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية تطوراً كبيراً منذ القرن التاسع عشر . واستطاعت المحكمة الاتحادية العليا من خلال التوسع في مفهوم الرقابة على الدستورية ، أن تؤدي دوراً أساسياً وخطيراً خلال مراحل التاريخ الأمريكي المختلفة ، وأن تسهم بقسط كبير في تكوين القيم السياسية والاقتصادية التي يقوم عليها المجتمع الأمريكي (11). وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعد أول دولة أخذت بفكرة الرقابة القضائية على دستورية القوانين ، فإن هذه الفكرة قد انتقلت بعد ذلك إلى كثير من الدول ، فأخذت بها محاكم بعض الدول على الرغم من عدم وجود نص يعطيها هذا الحق ، ومن ذلك محكمة النرويح العليا سنة 1890 ، ومحكمة كريستيانا العليا سنة 1893 ، ومحكمة اربوباج اليونانية سنة 1904 ، ومحكمة النقض الرومانية سنة 1912 ، كما نصت بعض الدول على هذه الرقابة صراحة في دساتيرها ، ومن ذلك الدستور السويسري الصادر في سنة 1874 ، ودستور النمسا الصادر في سنة 1920 ، ودستور رومانيا الصادر في سنة 1923 ، والقانون الأساسي العراقي الصادر في سنة 1925 ، ودستور جمهورية مصر العربية الصادر في سنة 1971 ، ودستور مملكة البحرين الصادر في سنة 2002 (12).

ثالثاً : مركزية الرقابة القضائية على دستورية القوانين ولا مركزيتها .

جرت الأنظمة الدستورية للدول التي تأخذ بالرقابة القضائية على دستورية القوانين على الأخذ بأحد النظامين :

1-نظام لا مركزية الرقابة القضائية .

في هذا النظام تستطيع أي محكمة في الجهاز القضائي للدولة أن تمارس الرقابة على دستورية القوانين مهما كانت درجتها في السلم القضائي ، وتستند الدساتير التي تنص على هذا النوع من الرقابة على أن الرقابة على الدستورية ما هي إلا جزء من الوظيفة الأصلية للسلطة القضائية ، والتي تتمثل في تطبيق حكم القانون الواجب ، عند تعارض القوانين ، بحيث إذا تعارض قانون عادي مع نص دستوري فتكون مهمة القاضي وواجبه الفصل في ذلك النزاع على ضوء القانون الأعلى وهو النص الدستوري (13). ومن أمثلة الدول التي تأخذ بهذا النوع من الرقابة على الدستورية ، الولايات المتحدة الأمريكية (14) ، إذ يمكن لأي محكمة مهما كانت درجتها ، ممارسة الرقابة على دستورية القوانين. وذلك على أساس التنظيم القضائي الأمريكي ، فالمحاكم الاتحادية تراقب دستورية القوانين الصادرة في الولايات وتراقب كذلك دستورية قوانين الكونكرس الاتحادي ، اما بالنسبة لمحاكم الولايات ، فانها تمارس الرقابة على دستورية القوانين التي تصدرها الهيئات التشريعية للولايات بالنسبة لدساتيرها المحلية دون القوانين التي تسنها الهيئة التشريعية الاتحادية . إلا أن تمكين جميع المحاكم من ممارسة الرقابة على دستورية القوانين ، لا يعني أن تكون تلك المحاكم – على اختلاف درجاتها – متمتعة بالحرية أو السلطة التقديرية المطلقة في نظر مدى دستورية العمل الخاضع للرقابة ، بل أن المرجع الأخير – رغم ذلك – يتركز في المحكمة الاتحادية العليا، إذ انها تتحمل عبء تحديد الاتجاهات الأساسية والقواعد المهمة التي تسير بقية المحاكم الأدنى درجة على هديها عند ممارستها للرقابة على دستورية القوانين ، وذلك بهدف منع التضارب بين تلك المحاكم المتعددة ، التي قد تتضارب الأحكام الصادرة عنها باختلاف وجهات نظر قضاتها وتقديرهم للدستورية أو عدمها ، الأمر الذي يؤدي إلى اضطراب النظم القانونية في الدولة وكذلك يخل باستقرار الأحكام القضائية .(15)

2- نظام مركزية الرقابة القضائية .

على خلاف الأسلوب اللامركزي في رقابة دستورية القوانين ، هناك أسلوب آخر يجعل الرقابة في يد محكمة واحدة محددة ، وذلك نظراً لأهمية الدور الذي يتولاه القضاء في رقابته لدستورية القوانين ، وهذه المحكمة قد تكون هي المحكمة العليا في النظام القضائي العادي ، كما هو الحال في سويسرا إذ نصت المادة (113/3) من الدستور السويسري الصادر في 29 مايو 1874 على أن ” تختص المحكمة الاتحادية وحدها بناء على طلب ذوي الشأن ببحث دستورية القوانين وتمتنع عن تطبيق المخالف منها للدستور الاتحادي ودساتير الولايات المختلفة وهي تباشر هذا الاختصاص إلى جانب اختصاصها القضائي المدني والجنائي ” .(16) وقد يعهد بمهمة الرقابة إلى محكمة دستورية متخصصة منشأة خصيصاً لهذه الغاية ، كما هو الحال في مصر في ظل دستور 1971 النافذ (م 174) ، وكما هو الحال في العراق في ظل القانون الأساسي العراقي لسنة 1925 (م 81) ، ودستور 1968 المؤقت (م 87)، وقانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لسنة 2004 (م44) ، ودستور جمهورية العراق لسنة 2005 النافذ حالياً (م 93) . ونحن نؤيد تفضيل بعض الكتاب لهذا النوع من الرقابة – مركزية الرقابة القضائية على دستورية القوانين – ، وذلك لما يتميز به هذا النظام ، إذ انه يتجنب ما يؤدي إليه النظام اللامركزي من إشاعة القلق وعدم الاستقرار في المعاملة القانونية ، إذ قد تقرر احدى الجهات القضائية عدم دستورية قانون معين ، بينما تقرر جهة قضائية اخرى دستورية ذات القانون . كما اننا نؤيد تفضيلهم في أن يعهد بالرقابة إلى محكمة دستورية متخصصة تنشأ لهذا الغرض ، لأن وضع المحكمة الدستورية خارج نطاق السلم القضائي من شأنه أن يقضي على كثير من المشاكل التي يثيرها تعرض السلطة القضائية العادية لأعمال السلطة التشريعية ، لا سيما في ظل الأنظمة التي تقوم على الفصل التام بين السلطات ، أو التي تجعل للسلطة التشريعية السيطرة على باقي السلطات في الدولة (17).

رابعاً : أساليب تحريك الرقابة القضائية على دستورية القوانين .

تختلف الدول في تحديد الأسلوب الذي يتم بواسطته تحريك الدعوى بعدم دستورية قانون معين امام الجهة القضائية المختصة . ويمكن التمييز في هذا الشأن بين أسلوبين من أساليب تحريك الرقابة القضائية : أسلوب الدفع الفرعي ، وأسلوب الدعوى الأصلية .

1.أسلوب الدفع الفرعي .

تتطلب بعض الدول رفع دعوى فحص الدستورية امام الهيئة القضائية المختصة عن طريق دفع فرعي . فهذه الطريقة لا تتضمن إقامة الدعوى على القانون المشكوك بدستوريته ، وانما يتضمن التخلص من تطبيقه على شخص معين في دعوى أقيمت امام محكمة اعتيادية (مدنية أو جزائية او ادارية) . فيدفع المدعى عليه بعدم دستورية القانون الذي تستند اليه طلبات المدعي والعكس صحيح ، ويكون عن طريق استناد المدعى عليه بعدم تنفيذ التزاماته مقابل قانون ما فيدفع المدعي بعدم دستورية ذلك القانون . فإذا ظهر للمحكمة من فحصها للقانون من أنه يتعارض مع أحكام الدستور أهملت حكمه وأمتنعت عن تطبيقه ، وفصلت في الدعوى تبعاً لذلك بما فيه صالح المتهم أو المدعى عليه (18). دون أن تصدر حكماً بإلغاء القانون المخالف للدستور في حالة ما إذا كان النظام الدستوري في الدولة يأخذ بمبدأ لا مركزية الرقابة (كما في الولايات المتحدة الأمريكية) ، وأوقفت الفصل في الدعوى لحين صدور حكم من المحكمة المختصة بشأن القانون المتنازع على دستوريته في حالة ما إذا كان نظام مركزية الرقابة هو المطبق (أخذ المشرع المصري بهذا الأسلوب بالنسبة للمحكمة الدستورية العليا التي أنشأها بالقانون رقم 48 لسنة 1979).(19)

2.أسلوب الدعوى الأصلية .

أن تحريك الرقابة القضائية على دستورية القوانين يتم في هذه الحالة عن طريق دعوى يقيمها الافراد أو بعض الهيئات في الدولة على القانون الذي يعتقد انه يناهض أو يخالف الدستور . فهناك ، اذاً ، دعوى لا تقام من فرد (أو هيئة) على فرد اخر وانما من قبل فرد (أو هيئة) على قانون معين بسبب مخالفته للدستور ، فالمدعي هو فرد (أو هيئة) والمدعى عليه ، ان صح التعبير ، هو القانون المشكوك في دستوريته (20). ويعد هذا الأسلوب ذا طابع هجومي في نطاق الرقابة على دستورية القوانين ، إذ يمكن لمن له مصلحة جدية مهاجمة القانون والطعن فيه بشكل مباشر امام محكمة محددة طالباً إصدار حكم بإبطاله(21). ويترتب على الحكم في النزاع المعروض بواسطة الدعوى الأصلية بعدم الدستورية في مواجهة قانون معين ، عندما يثبت للمحكمة المختصة عدم دستوريته ، أن تقضي بإلغائه ، ويكون للحكم حجية مطلقة وعامة ، وملزماً لجميع المحاكم والسلطات العامة . كما ان ذلك الحكم بالإلغاء يمنع إثارة المسألة الدستورية مرة أخرى في الموضوعات التي ينظمها القانون المطعون ضده (22). وان هذه الدعوى الأصلية المباشرة قد تقام امام محكمة اعتيادية ، وعادة ما تحتل هذه المحكمة أعلى درجة من درجات السلم القضائي في الدولة ، وقد تقام امام قضاء متخصص ، أي محكمة دستورية متخصصة في النظر في هذا النوع من الدعاوى (23). وهذان الأسلوبان من أساليب تحريك الرقابة القضائية (أسلوب الدفع الفرعي ، وأسلوب الدعوى الأصلية) ، وان كانا أكثر شيوعاً إلا انهما ليسا الأسلوبين الوحيدين . ففي الولايات المتحدة الأمريكية (مهد الرقابة القضائية بأسلوب الدفع الفرعي) توجد أساليب اخرى لتحريك الرقابة القضائية أهمها أسلوب أوامر المنع (الأمر القضائي) ، وأسلوب الأحكام التقريرية (الإعلان القضائي ) (24). وأوامر المنع كما يعرفها Mayers هي ” أوامر قضائية تتخذ صيغة النهي الصريح ، وتوجه إلى شخص ما لإنذاره بانه إذا استمر في نشاط خاطئ معين ، أو إذا باشر نشاطاً خاطئاً يوشك أن يقوم به ، فإنه فوق التزامه بالتعويض يتعرض للعقاب على أساس ارتكابه فعل إهانة القضاء ” (25). ومقتضى ذلك أن الفرد الذي يرى أنه قد يلحقه ضرر من قانون معين أن يلجأ إلى القضاء طالباً إصدار أمر قضائي بوقف تنفيذه لعدم دستوريته ، فإذا ثبت للمحكمة أن القانون غير دستوري أصدرت أمراً قضائياً إلى الموظف المختص بالتنفيذ بالامتناع عن تنفيذ هذا القانون . وعلى هذا الموظف ان يمتثل لأمر المحكمة والا عد مرتكباً لجريمة إهانة القضاء والتي تكون عقوبتها الحبس أو الغرامة (26). وعلى هذا فالأمر القضائي هو في حقيقته إجراء يسمح للفرد بان يهاجم القانون قبل تنفيذه تأسيساً على أنه غير دستوري . كما انه قد يبدو في صورة أخرى إيجابية قوامها أن المحكمة بناء على طلب شخص – إذا ما تأكدت من صحة ادعائه – تصدر أمراً إلى أحد موظفي السلطة التنفيذية بإنجاز عمل لصالح ذلك الشخص (رد رسم أو ضريبة محصلة بدون وجه حق إلى ممول بناء على قانون قضت المحكمة بعدم دستوريته ) (27). اما أسلوب الحكم التقريري (الإعلان القضائي) كأسلوب للرقابة القضائية ، فيفترض أن فرداً يلجأ إلى المحكمة طالباً إصدار حكم يقرر ما إذا كان قانون يراد تطبيقه عليه دستورياً ام غير دستوري ، عندئذ يتعين على الموظف المختص بالتنفيذ التريث إلى أن تصدر المحكمة حكمها ليحدد موقفه من هذا القانون ، اما أن يكمل التنفيذ إذا أقر القضاء بدستوريته أو يمتنع عن تنفيذه إذا قضت المحكمة بعدم دستوريته (28).

__________________

1-مقدمة إلى كلية الحقوق – جامعة عين شمس – ، 1988 ، ص ص 10-11 ، و د. عصمت عبد الله الشيخ ، مدى استقلال القضاء الدستوري في شأن الرقابة على دستورية التشريعات ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 2003 ، ص7

2- انظر د. جابر جاد نصار ، الاداء التشريعي لمجلس الشعب والرقابة على دستورية القوانين في مصر ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1999 ، ص 122

3- انظر د. عزيزة الشريف ، دراسة في الرقابة على دستورية التشريع ، مرجع سابق ، ص83

4- انظر د. طعيمة الجرف ، القضاء الدستوري ، ط1 ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1993 ، ص 100 ، و د. عبد العزيز محمد سالمان ، نظم الرقابة على دستورية القوانين ، سعد سمك ، القاهرة ، 2000 ، ص ص 58-59

5-Carr (Robert K.); The supreme Court and Judicial Review ، New York، 1942، P. 52.

6- انظر د. حميد الساعدي ، مبادئ القانون الدستوري وتطور النظام السياسي في العراق ، مرجع سابق ، ص 123

7-Dicey (A.V.); An Introduction to the Study of the Law of the constitution ، 10th . Ed. ، New York، 1968 ، P. 165 Ogg (F.) and Ray (O.); Introduction to American Government ، 10th . Ed. New York، 1951، P. 51

8- انظر د. فتحي عبد النبي الوحيدي ، ضمانات نفاذ القواعد الدستورية ، رسالة دكتوراه مقدمة إلى كلية الحقوق – جامعة القاهرة – ، 1982 ، ص ص 174 – 175

9- الدستور الأمريكي ، الموسوعة العربية للدساتير العالمية ، الصادرة عن مجلس الامة، القاهرة ، 1966 ، ص 680

10- انظر د. أحمد كمال ابو المجد ، الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية والاقليم المصري ، مرجع سابق ، ص 31 وما بعدها ، و د. حسن زكريا المحامي ، المحكمة العليا الامريكية – القسم الاول – ، مجلة ديوان التدوين القانوني ، العدد 1 ، السنة الخامسة ، حزيران 1966 ، ص ص 8-9

وانظر

Burdeau (G.); Traite de Science Politique ، T.4 ، Paris، 1969 ، P. 324;

Laferiere (J.) ; Manuel de Droit Constitutionnel ، Paris، 1947 ، P. 320 et. suiv.

11-انظر د. طعيمة الجرف ، القضاء الدستوري ، مرجع سابق ، ص 136

12- انظر د. رمزي الشاعر ، القضاء الدستوري في مملكة البحرين ، مطبعة أوال ، البحرين ، 2003 ، ص 110 ، ص ص 112 – 114 ، و د. محمد عبد العال السناري ، النظرية العامة للقانون الدستوري والنظم السياسية المعاصرة – دراسة مقارنة – ، مطبعة الاسراء ، القاهرة ، سنة النشر (بدون) ، ص ص 213 – 214

13- انظر د. محمد صلاح عبد البديع السيد ، قضاء الدستورية في مصر ، مرجع سابق ، ص 61

14- راجع في نظام لا مركزية الرقابة القضائية على دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية:

Cadart (J.);Institutions Politiques et Droit Constitutionnel، T. 1، 2eme Ed.،Paris، 1979، P.166 et.suiv.

Prelot (M.) ; Institutions Politiques et Droit constitutionnel، Precis Dalloz ، 1961 . P. 238 et. suiv.

15- انظر د. محمد فرج محمد الفقي ، الرقابة على دستورية القوانين في ليبيا (دراسة مقارنة) ، رسالة دكتوراه مقدمة إلى كلية الحقوق – جامعة عين شمس – ، 1998 ، ص 25

16- نقلا عن د. عزيزة الشريف ، دراسة في الرقابة على دستورية التشريع ، مرجع سابق ، ص106

17- انظر د. رمزي الشاعر ، القضاء الدستوري في مملكة البحرين ، مرجع سابق ، ص ص 125 – 126 ، و د. محمد فرج محمد الفقي ، الرقابة على دستورية القوانين في ليبيا ، مرجع سابق ، ص 26

18- انظر د. حسان محمد شفيق العاني ، الدستور ، مطبعة جامعة بغداد ، بغداد ، 1981 ، ص 122

19-انظر د. رمزي الشاعر ، القضاء الدستوري في مملكة البحرين ، مرجع سابق ، ص 135

20- انظر د. منذر الشاوي ، القانون الدستوري – نظرية الدستور – ، منشورات مركز البحوث القانونية ، بغداد ، 1981، ص 58

21- انظر

Laferriere (M.); Course de Droit Constitutionnel ، Paris، 1947 – 1948 ، P. 255

22- انظر د. عزيزة الشريف ، دراسة في الرقابة على دستورية التشريع ، مرجع سابق ، ص167

23- انظر د. احسان حميد المفرجي ، و د. كطران زغير نعمة ، و د. رعد ناجي الجدة ، النظرية العامة في القانون الدستوري والنظام الدستوري في العراق ، مرجع سابق ، ص 178

24- انظر د. منذر الشاوي ، معنى الرقابة على دستورية القوانين ، مجلة القضاء ، العدد الاول ، السنة الخامسة والعشرون ، كانون 2 – شباط – إذار 1970 ، ص 9 هامش (1)

25-Mayers ; The American Legal System ، New York ، 1955، P. 216

26- انظر بدوي إبراهيم حمودة ، دراسة مقارنة في رقابة دستورية القوانين ، مجلة العدالة الإماراتية ، العدد 16 ، أكتوبر 1977 ، ص 11 ، و د. عبد الحميد متولي ، و د. سعد عصفور ، و د. محسن خليل ، القانون الدستوري والنظم السياسية ، القسم الثاني ، منشأة المعارف ، الاسكندرية ، تاريخ النشر (بدون) ، ص 56

27- انظر Burdeau (G.); Traite de Science Politique ، Op. cit. ، P. 470 et. suiv.

28- انظر د. سعد عصفور ، القانون الدستوري ، القسم الاول – مقدمة القانون الدستوري – ، ط1 ، دار المعارف ، الإسكندرية ، 1954 ، ص 150

المؤلف : مها بهجت يونس الصالحي
الكتاب أو المصدر : الحكم بعدم دستورية نص تشريعي ودورة في تعزيز دولة القانون

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .