يجدر بنا قبل التعرض للاتجاهات المختلفة بشأن التعريف بالحق في سرية المراسلات أن نعرض لفكرة السرية. ويراد بالسر من الناحية اللغوية، معنى الكتمان(1). أما من الناحية الاصطلاحية، فقد اختلف الفقه في تحديد المقصود به. فقد عرّفه الدكتور محمود نجيب حسني بأنه (واقعة ينحصر نطاق العلم بها في عدد محدود من الأشخاص إذا كانت ثمة مصلحة – يعترف بها القانون لشخص أو أكثر في أن يظل العلم بها محصوراً في ذلك النطاق)(2).ويذهب الدكتور رؤوف عبيد في تعريفه السر بأنه (النبأ الذي يهم صاحبه كتمانه)(3).كما تعرفه الدكتورة فوزية عبد الستار بالقول (أن الواقعة تعد سراً إذا كانت هناك مصلحة يعترف بها القانون في حصر العلم بها في شخص أو أشخاص محدودين)(4).

هذا وقد اجتهد الفقه في تعريف الحق في سرية المراسلات إذ عرفه البعض بأنه (عدم جواز كشف سرية المراسلات بين الأفراد لما في ذلك من اعتداء على حق ملكية ما تضمنته هذه المراسلات وتعطيل لممارسة هذا الحق وانتهاك لحرية الفكر، وأيضاً حظر الرقابة على المحادثات التلفونية والأشرطة السمعية ذات الاستعمال الشخصي إلا وفقاً لأحكام القانون)(5).وعرف البعض الآخر من الفقه الحق في سرية المراسلات بأنه (الإبقاء على سرية مراسلات الأشخاص البريدية والبرقية والاتصالات الهاتفية وعدم اطلاع أي جهة عليها إلا وفقاً للقانون )، إذ يرى أصحاب هذا الاتجاه أن التراسل والتخاطب مع الآخرين هو حرية وتعني إتاحة الفرصة لكل أنسأن أن يتراسل مع غيره عن طريق إرسال الرسائل والطرود البريدية في الجو وفي البحر وأن يتلقى الرسائل والطرود وأن يخاطب الآخرين عن طريق الهاتف مثلاً أو أية وسيلة أخرى يسمح بها القانون. وأن تعطيل هذه الحرية يؤدي إلى انتهاك حرية الإنسان في التراسل والتخاطب، وتنقلب هذه الحرية إلى حق عندما يبعث بالرسالة أو الطرد. فلا يجوز كشف سرية هذه المراسلات والاطلاع عليها، كما يصبح التخاطب مع الآخرين عن طريق الهاتف حقاً إذا مارس الإنسان الاتصال بغيره، فيمنع الاطلاع والتنصت على ذلك التخاطب إلا وفقاً للقانون(6).

وقد ضمنت بعض الدساتير العربية الحق في سرية المراسلات، حيث كفل الدستور العراقي لعام 1970م سرية المراسلات البريدية والبرقية والهاتفية ( المادة 23 ) .كما ضمن الدستور الأردني لعام 1952م ، الحق في سرية المراسلات البريدية والبرقية والمخاطبات الهاتفية ( المادة 18 ) وجاء الدستور المصري لسنة 1971م مؤكداً حرمة وسرية المراسلات البريدية والبرقية والمحادثات الهاتفية وغيرها من وسائل الاتصال ( للمادة 45/2 ) .وقد تصدى القضاء لتحديد مضمون الحق 8 يناير 1849 في سرية المراسلات، فقد ذهب القضاء الفرنسي(7).في حكم له بتاريخ بشأن الحق في سرية المراسلات إلى أن أصل هذا الحق يوجد في الطبيعة السرية للخطابات الخاصة، وهي الطبيعة التي استنتج منها المبررات الضرورية للسرية.

وقضت محكمة باريس بأن كاتب الخطابات السرية الخاصة يعبر فيها ويفضي بأسراره وآرائه التي تستدعي بطبيعتها السرية، وأضافت المحكمة أن إفضاء الكاتب في رسالته للغير يمكنه أن يشترط في هذه الرسالة الثقة التي يجب أن تظل في نطاق السرية، وأن هذا الشرط له صفة الاتفاق الضمني، وإذا أفشيت سرية الخطاب هذا الاتفاق، فإن معنى ذلك ليس فقط الإخلال بالتعهدات الطبيعية لهذا النوع من العلاقات. وكذلك ذكرت محكمة النقض الفرنسية بأن الخطابات الخاصة لا يجوز انتهاك سريتها بمعرفة الغير ضد رغبة المرسل إليهم هذه الخطابات، ولا يجوز تقديم خطابات خاصة محكمة بمعرفة الغير من دون موافقة الأشخاص الذين كتبوها أو الذين تلقوها(7). و مما يلاحظ على القضاء الفرنسي ومن خلال الأحكام السابقة أنه اشترط لمنع إذاعة المراسلات أن تكون ذات طبيعة سرية أو أن تكون سرية بحد ذاتها، ولم يستخلص القضاء الفرنسي قاعدة عامة تسمح بالتمييز بين كون المراسلة سرية أو غير سرية، فهي مسألة موضوعية متروك تقديرها للقضاء.

________________________

[1]- الشيخ عبد الله العلايلي، الصحاح في اللغة والعلوم، المجلد الأول، دار الحضارة العربية، الطبعة الأولى، 1974م، ص580.

2- د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، جرائم الاعتداء على الأشخاص، دار النهضة العربية، القاهرة، 1978م، ص725.

3- د. رؤوف عبيد، جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة السادسة، 1974م، ص291.

4- د. فوزية عبد الستار، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، دار النهضة العربية، القاهرة، 1988م، ص630.

5- د. ثروت بدوي، النظم السياسية، القاهرة، 1972م، ص386؛ أنظر د. محمد سليم غزوي، الوجيز في أثر الاتجاهات السياسية المعاصرة على حقوق الإنسان، مطبعة رفيدي، عمان، الطبعة الأولى، 1986م، 87؛-د. إسماعيل بدوي، دعائم الحكم في الشريعة الإسلامية والنظم الدستورية المعاصرة، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1994، ص93.

6- د. جابر إبراهيم الراوي، حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في القانون الدولي والشريعة الإسلامية، 1999م، ص175، 194.

7- د. مبدر لويس ، أثر التطور التكنولوجي على الحريات العامة ، مرجع سابق ، 252 ، 253 .

8- د. مبدر الويس، المرجع السابق، الصفحة السبقة.

المؤلف : محمد قاسم الناصر
الكتاب أو المصدر : الحق في سرية المرسلات في بعض النظم الدستورية

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .