التأصيل الفقهي للطعن التمييزي :

لقد وفق المشرع الإجرائي بين مصلحتين متعارضتين عن طريق نظام الطعن التمييزي ،الأولى هي مصلحة الخصوم التي تقضي بوجوب إعادة النظر في الحكم القضائي لتصحيح أخطائه الموضوعية أو الإجرائية والتي تنتج عن سوء فهم ،وتقدير ،وتكييف من القاضي لنصوص القانون (1). والثانية تمثل المصلحة العامة التي تحتم وجوب وضع حد للنزاع القضائي ،وإزالة التعارض بين الأحكام القضائية في القضية الواحدة (2). أو في القضايا المتشابهة(3). حتى تستقر الحقوق ،والمعاملات ،والأوضاع القانونية (4). لذا فقد أوجد المشرع وبمباركة الفقه هذا الطريق الخاص جداً ،وذلك بعد أن ذهب جانب كبير من الفقه الإجرائي(5). إلى تقرير عدم إمكانية رفع دعوى لأبطال الأحكام القضائية التي لا يجوز الرجوع عنها أو تعديلها أو إلغائها إلا وفق الطرق القانونية المعتبرة (6). إضافة لما تحققه فائدة وجود هيئة قضائية متخصصة تراقب صحة تطبيق القانون من قبل السلطة القضائية وتحافظ على وحدة تفسيره وإعماله (7)، وما يحقق ذلك من فائدة أخرى هي توفير الآمان القانوني لأطراف النزاع (8). واستقرار الرأي في فهم أحكام القانون وحسن تطبيقه ونقض الأحكام المخالفة له احتراما لمبدأ الشرعية (9). لذا فنحن نعتقد أن نظام الطعن التمييزي يفترض فيه أن يضمن مطابقة الأحكام القضائية؛ للقواعد القانونية روحا ونصا والتي تمثل الإرادة التشريعية ،فهو في نظرنا مظهر من مظاهر الدولة القانونية الحديثة والتي تضمن وتؤكد حق الدفاع الجدلي(10). ويذهب البعض الآخر(11). إلى اعتبار أن الطعن التمييزي اثر من آثار الحكم القضائي، ونخالف ذلك لان الطعن التمييزي سابق في الوجود المادي للحكم القضائي ،فهو من صور من حق اللجوء إلى القضاء(12). ويقتصر اثر الحكم فيه على وضع أحد الخصوم في مركز المحكوم عليه ،هذا المركز في حقيقته هو الذي سينعكس تلقائيا وبإرادة صاحبه إلى مركز الطاعن ليمارس بدوره الحقوق التي وفرها له القانون فيه بعد أن يقوم بالواجبات والأعباء المترتبة عليه؛ ومن هنا نعتقد أن الحكم القضائي هو المفترض الضروري والسابق لممارسة المحكوم عليه نظام الطعن التمييزي0

_________________________

– Ghiovenda (giuseppe):principii di diritto prosecute civile 3a ed.napoli 1923 p.897. calamendrei (piero):La cassazione civile ،milano 1920،v.2.p.120.n.79

مشار إليه في فتحي والي-الوسيط في قانون القضاء المدني –جامعة القاهرة –من منشورات دار النهضة العربية-مصر-1987–ص 659 بند 346،وانظر كذلك ضياء شيت خطاب –الوجيز في المرافعات المدنية والتجارية –مطبعة العاني بغداد-1973-ص 351،محمد احمد عابدين -طرق الطعن في الأحكام المدنية والجنائية مصر دار المطبوعات الجامعية -القاهرة 1984 -ص5 ،نبيل اسما عيل عمر –أصول المرافعات المدنية والتجارية –منشاة المعارف بالإسكندرية–1986ص 1127بند 995،حسن الفاكهاني وعبد المنعم حسني-المرجع السابق -ص أ، صلاح الدين الناهي -الوجيز في مبادئ التنظيم القضائي في المملكة الأردنية الهاشمية ط1 دار المهد للتوزيع والنشر -عمان -الأردن 1983ص 143 ،احمد أبو ألوفا -المرافعات المدنية والتجارية-ط2-منشاة المعارف بالإسكندرية –بلا سنة طبع-ص 694 ،إبراهيم الشرفي-الوجيز في شرح المرافعات المدنية والتجارية اليمني –منشورات الدار الجامعية –صنعاء-1997-ص245 0

2- المادة 203/3 م .م.ع “للخصوم أن يطعنوا تمييزاً000 3- إذا صدر حكم يناقض حكما سابقا 000” والمادة 249م.م.مصري التي تنص على “للخصوم أن يطعنواامام محكمة النقض في أي حكم انتهائي –اياً كانت المحكمة التي اصدرته- فصل في نزاع خلافاً لحكم أخر سبق أن صدر بين الخصوم أنفسهم وحاز قوة الأمر المقضي “

3- انظر شبيب لازم المالكي في حوار منشور في مجلة الداخلية والمجتمع-العدد الأول-السنة الأولى نيسان 1995-ص15

4-انظر في استقرار الحقوق والمعاملات جاسم خربيط- حجية الأحكام والقرارات الجزائية -رسالة ماجستير مقدمة إلى جامعة بغداد عام 1999-ص 65ومابعدها 0

5 -انظر ضياء شيت خطاب -المرجع نفسه -ص 287 بند 322،وهو اتجاه القضاء المصري انظر نقض مدني 21/4/1981في الطعن 727 مجموعة أحكام النقض المصرية لسنة 45 قضائية ،13/أبريل /1977الطعن رقم 16لسنة 44ق0 وانظر في الفقه من يفرق بين الأحكام الباطلة التي لا يجوز رفع دعوى بأبطالها والأحكام المعدومة التي يجوز فيها ذلك ،احمد أبو ألوفا-المرجع السابق-ص 659، فتحي والي –المرجع نفسه-ص 659بند 347 وص 662 0وهو اتجاه القضاء العراقي في التفرقة بين الأحكام المعدومة والأحكام الباطلة ،انظر القرار رقم 120/م1/84-85بتاريخ 29/12/1984غير منشور 0

6- المادة 160/3م0م0ع “الحكم الذي يصدر من المحكمة يبقى مرعياً ومعتبراً مالم يبطل او يعدل من قبل المحكمة نفسها او يفسخ او ينقض من محكمة اعلى منها وفق الطرق القانونية “0

7 -انظر احمد جلال الدين هلالي-قضاء النقض في المواد المدنية والتجارية -مصر -دار الجامعة -القاهرة 1977ص 11.أمينة النمر -قوانين المرافعات -الكتاب الأول -القاهرة -مؤسسة الثقافة الجامعية -1982-ص 117بند52.نبيل إسماعيل عمر- النظرية-المرجع السابق-ص12،حامد ومحمد حامد-المرجع السابق-ص100 0وانظر المادة 12من قانون التنظيم القضائي العراقي رقم 160لسنة 1979.وما نص عليه قانون إصلاح النظام القانوني رقم 30لسنة1977 في منح محكمة التميز حق إصدار منشورات قضائية ملزمة للمحاكم كافة تتضمن تفسير ما غمض من نصوص القانون0

8-انظر عبد الرسول الجصاني -المنطق القضائي -بغداد -الشركة العراقية للطباعة -1989-ص 87.صالح محسوب -السوابق القضائية ودورها في الإستقرار القضائي -بغداد-منشورات العدالة -2002ص 55.

9- انظر نظرية الرقابة على الشرعية من أحد أعمال القضاء في

Gulliein:L،acte Jurictionnei et poutoritede la Chose Jugee1931. نقلا عن إبراهيم نجيب سعد-القانون القضائي الخاص -ج1-منشاة المعارف بالإسكندرية –1977-ص72،وانظر في تحليل تلك النظرية وجدي راغب -النظرية العامة للعمل القضائي -القاهرة-1974ص46.

0 -انظر طه أبو الخير -حرية الدفاع -مصر منشاة المعارف بالإسكندرية-1971ص 9.وجدي راغب -دراسات في مركز الخصم أمام القضاء المدني- بحث منشور في مجلة العلوم القانونية والاقتصادية -كلية الحقوق -جامعة عين شمس -مصر -لسنة18عام 1976-ص 18.

1- Cornu-j-foyer-procedureCivil،thewis،1948p.384-388 vincent(j)procdure civil،Dalloz،16edpairs،1937،

مشار إليهم في وجدي راغب فهمي-المرجع السابق-ص 88،إبراهيم نجيب سعد -المرجع نفسه-ج 2-ص 312بند403،أحمد أبو ألوفا-نظرية الأحكام ط3-منشاة- المعارف 1977-ص786بند433،احمد مسلم –أصول المرافعات-مصر-1968-ص 686بند630 0

2-انظر في حق اللجوء إلى القضاء موسوعة حقوق الإنسان –تقديم جمال العطيفي -أعداد محمد وفيق أبو اتله-المجلد الأول-تصدرها الجمعية المصرية للقانون والاقتصاد والسياسة -القاهرة 1970 –ص12 0

التأصيل التاريخي للطعن التمييزي :

قامت حركة التقنيين في الإمبراطورية العثمانية ،التي كان العراق جزءاً مهما وأساسياً منها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، حيث بدأ سلاطين آل عثمان يقتبسون القوانين الغربية وخصوصا الفرنسية منها ويدمجونها ضمن ما كان يطبق في بلادهم من قوانين (1). وعلى اثر ذلك صدر أول قانون للتجارة البرية في عام 1266هـ والذي وضع على أثره قانون أصول المرافعات التجارية؛ وذلك في عام 1278هـ ؛ورغم أن الأخير قانون فرنسي الأصل تضمن أنواع الطعون المختلفة، إلا أنه لم يحتوي في أحكامه على نظام الطعن التمييزي ؛ إلى عام 1296ه حيث صدر قانون أصول المرافعات المدنية والتجارية العثماني ؛والذي تضمن في الباب السابع منه على ذلك النظام0 وعلى أثره صدر أول قانون لتشكيلات المحاكم النظامية في العراق وذلك في 19 جمادى الأخر عام 1296 هـ حيث نص على تشكيل محكمة التمييز والتي ينظر فيها الطعن في الحكم تمييزا (2). ولا يختلف نظام الطعن هذا عن مثيله الفرنسي في بادي الأمر ؛إلا انه ما لبث أن تطورَ وعلى مراحلَ متعددة متأثراً بالظروف الاجتماعية والسياسية التي مر بها العراق إلى ما هو عليه في الوقت الحاضر0وفي العام 1300 هـ تم تعميم هذا النظام ليشمل إمكانية فرض الرقابة القضائية (التمييز) على الأحكام الشرعية لدى مجلس الفتوى والدقيقات الشرعية ،وذلك بموجب الإرادة السنية الصادرة آنذاك (3). إلا أن من الملاحظ هنا أن مجلة الأحكام العدلية – والتي كانت تمثل القانون المدني آنذاك – كانت قد تضمنت المواد 1838 ، 1839 في الكتاب الرابع(القضاء) ما يماثل أحكام الاستئناف والتمييز مع بعض الاختلاط الواضح في مفاهيم كلٍ منها ويعود ذلك حسب ما نعتقد إلى أن هذين النظامين(الاستئناف والتمييز ) كانا حديثي العهد وفي بداية الأخذ بهما 0 أما بخصوص اصل ومولد نظام الطعن التمييزي فان الإجماع الفقهي (4). يذهب إلى القول بان هذا النظام ولد في فرنسا ، وعلى مرحلتين أساسيتين الأولى عندما كان نظاما سياسياً يمارسه الملك بنفسه كأحد أنظمة الحكم يسمى نظام التشكي من الإحكام وذلك ليقيم العدل على ارض مملكته ومن خلال مجلسه الخاص0 إذا حاول الفقه القديم أن يوجد مبرراً يوجب تدخل الملك في النظام القضائي القائم آنذاك لحل ما كان يعترض طريق ذلك النظام من صعوبات وإشكاليات، فقد كان تعدد البرلمانات واختلاف أحكامها، وتنازع الاختصاص فيما بينها مبررا كافيا تقوم على أساسه نظرية إعادة العدالة والتي يتلخص مضمونها في أن الملك وان انصرف عن تولي القضاء بنفسه إلا انه استبقى ما يبيح له التدخل في أعمال القضاة عن طريق توقيعات يصدرها في الشكاوى والمظالم التي ترفع إليه(5). والملاحظ هنا أن نشأة نظام الطعن كانت أساساً كرخصة منحها الملك لمواطنيه في أن يتجهوا إليه ليحل مشاكلهم القانونية والقضائية على حد سواء0 أما عن المرحلة الثانية والتي تأثرت بوضوح بالمبادئ والأفكار التي يحملها رجال الثورة الفرنسية وما كان مترسبا في أذهانهم من تحيز القضاة وانحرافهم وتحت ضغط أيجاد هيئة متخصصة تراقب تطبيق القانون من دون المساس بمبدأ الفصل بين السلطات (6). فقد ابقوا على هذا النظام تابعاً للسلطة التشريعية غريباً عن السلطة القضائية مهمته مراقبة القضاة في تطبيقهم للقانون(7). وقد تم إبدال اسمه فيما بعد إلى مجلس التميز وذلك في عام 1791م ومن ثم صدور قانون أصول المحاكمات المدنية الفرنسي عام 1806 م مبقياً على مجلسِ التميز كأحد الأنظمة القضائية المتخصصة ومن ثم إبدال اسمه عام 1904 م إلى محكمة التميز court de causation 0 أما في مصر فان الإجماع الفقهي المصري (8). منعقدٌ إلى أن نظام النقض لم يظهر هناك إلا في عام 1931م حيث أنشئت محكمة النقض والإبرام في مدينة القاهرة ،ويذهب البعض(9). إلى القول بان هذا النظام عرف في مصر منذ عام 1790 م كأحد الأنظمة التي نقلها نابليون إلى مصر في ظل الغزو الفرنسي لها؛ ولكن بصورة بدائية ،إذ لا يعني عدم وجود محكمة مختصة لممارسة حق الطعن أمامها انعدام هذا الحق ،بل وتأكد وجوده في عام 1842م بإنشاء مجلس الجمعية الحقانية كأحد التغيرات القضائية التي أراد بها محمد علي باشا إن يمز بها النظام القضائي المصري عن النظام القضائي للدولة العثمانية كأحد مظاهر انفصاله عنها0 وإذا كان نظام الطعن التمييزي يتضمن في ماهيته حقين حق الطعن للمحكوم عليه، وحق فرض الرقابة القضائية على عمل القضاة في المحاكم ، فان هذا الأخير لم يظهر إلى الوجود في قوانين أنظمة المحاكم العراقية التي توالت في الصدور منذ عام 1917 م ولغاية عام 1945م 0حيث صدر في هذا العام قانون تشكيل المحاكم المدنية العراقي رقم 3لسنة 1945م الذي نص فيه والأول مرة ،على أن تكون محكمة التمييز هي المرجع الأعلى للمحاكم المدنية وتنعقد في العاصمة 000 الخ (10).

والملاحظ على هذه القوانين أنها حددت من سلطة ولاية محكمة التمييز على المحاكم المدنية من دون الإشارة لبقية أنواع المحاكم والهيئات التي كانت محكمة التمييز تمارس الولاية الفعلية عليه إلى أن صدر قانون التنظيم القضائي رقم 160 لسنة 1979 الذي إطلاق وأكد على حق الرقابة القضائية وبشكل مرن يتعامل لاحقا مع ما ظهر لاحقا من أنظمة قضائية أخرى موازية(11). آما في فرنسا فان النزاع على رئاسة السلطة القضائية بين محكمة التمييز ومحكمة الاستئناف انتهى عام 1906م بفوز الأولى وتربعها على عرش السلطة القضائية وتأكد ذلك بصدور قانون 1908م وفيه باب كامل خاص بهذا النظام (12). أما في مصر فلم يمر نظام الطعن بالنقض بمثل تلك الحالة إذ أن مرسوم إنشاء محكمة النقض رقم 68 لسنة1931م أمر بعلوية محكمة الطعن واستقلاليتها عن النظام القضائي ذي الدرجتين 0ولكي نعطي الموضوع حقه لابد لنا من أن نتجول في الأنظمة القانونية والقضائية المتوفرة ومن أهمها بالطبع النظام القضائي الإسلامي ومن بعده النظام الانكلوسكسوني 0 ابتداءً يجب أن نميز بين ولاية الحسبة ونظام الطعن التمييزي(13). إذ تستند ولاية الحسبة على مبدأ إقامة المعروف والنهي عن المنكر ،والتي تقابل اليوم ما تقوم به الدوائر الإدارية المتمثلة بالسلطة البلدية في إماطة الأذى عن الطريق وتنظيم السير فيه ،وما تقوم به دوائر الرقابة الصحية في مراقبة بائعي المواد الغذائية، وما يقوم به الجهاز المركزي للسيطرة النوعية في مراقبة المصانع والمعامل والموازين والمواد المصنعة وما تقوم به الشرطة 000الخ0وان نميز أيضاً بين ولاية المظالم ونظام الطعن التمييزي، إذ يعد البعض(14). ولاية المظالم نوعاً من أنواع القضاء العالي ،له سلطة أوسع من سلطة القضاء العادي ،ويقوم بأعمال محكمة التمييز في الوقت الحاضر إذ لم يكن أطول منها باعاً واشد نفوذاً 0والحقيقة أن ولاية المظالم تشبه اليوم ما يقوم به محكمة القضاء الإداري أو ما يسمى في فرنسا بمجلس الدولة ؛فالغرض الرئيس من إنشائه هو إنصاف من يتظلم من أعمال الولاة، أو عمال الخليفة أو جباة الأموال ،أو كتاب الدواوين ،وهي جهات إدارية يكون الطعن بقراراتها لدى محكمة القضاء الإداري عن طريق دعوى يرفعها من يتظلم من أعمال تلك الجهات ،وأول من جلس للمظالم هو النبي محمد(ص) وان نميز أيضاً بين منصب قاضي القضاة (15). وبين نظام الطعن التمييزي ،إذ يقول البعض(16). أن قاضي القضاة كان له النظر في أقضيه القضاة ومراجعة أحكامهم ونقضها0 والحقيقة نقول أن منصب قاضي القضاة يقابل منصب وزير العدل أو مجلس العدل، إذ انه منصب إداري يشرف على المسائل الإدارية في تعيين القضاة وعزلهم ومحاسبتهم ؛لا نقض أحكامهم أو تقبل الطعن فيها 0 وأما بخصوص معرفة النظام القضائي الإسلامي بنظام الطعن التمييزي ؛ فيظهر أن هناك رأيان في هذا الموضوع :- الأول يقول أن النظام القضائي الإسلامي قد عرف نظام الطعن التمييزي ،ويستشهد بنصوص من القران الكريم والسنة النبوية المطهرة وبعض الوقائع التي ورثناها عن السلف الصالح والتي لاقت إجماع الأمة (17). أما عن الرأي الثاني فانه يقول أن النظام القضائي الإسلامي لم يعرف نظام الطعون، وان أحكام القاضي لا تقبل الطعن أمام محكمة أعلى منها (18). ونؤيد بدورنا هذا الرأي ،ونستند إلى الحقيقة التاريخية التي تقول أن التنظيم القضائي الإسلامي لم يتجاوز مرحلة محكمة القاضي المنفرد ومحكمة الدرجة الواحدة، بل يمكن أن نرى مقاومة الفقهاء المسلمين لأنظمة الطعن ،وإصرارهم على المحافظة على نظام القاضي الفرد ،وعلى الدرجة الواحدة للقضاء فيما ذهب إليه الفقه الإسلامي من آراء (19). دون أن يعني ذلك عدم إمكانية مراجعة الأحكام المخالفة للنصوص الثابتة على سبيل اليقين أو الأحكام الفاسدة لمخالفتها قواعد يقينية آمرة لا مجال فيها للاجتهاد، ويتم ذلك لدى أي قاضي أخر بنفس الدرجة 0 فقد أخذت الشريعة الإسلامية بنظر الاعتبار أن القضاة بشر يتعرضون للخطأ والزلل والنسيان، فقد جاء في الحديث الشريف ما نصه “أن كل بني أدم خَطاء وخِيرُ الخطأين هم التوابون ” صدق رسول الله (ص)0وعلى ذلك فقد أقرت الشريعة الغراء مبدأ مراجعة الأحكام القضائية وفحصها والتمييز بينها لإقرار الصائب منها ،ونقض ما يستوجب منها نقضه 0ونستند في ذلك على ما جاء في القران الكريم “فأن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول”(20). فإذا صدر حكمٌ مخالف لحكم الله ورسوله ،يجب نقضه والرجوع عنه إلى حكمهما وإزالة ما يترتب على تلك المخالفة من أثار(21). وفيما يتعلق ببلاد العائلة الانكلوسكسونية وعلى الرغم من أن نظاما محاكمة منصة الملك أو الملكة ،ونظام محاكم العدالة يشابهان نظام الطعن التمييزي في بداية مولده كأحد أنظمة الحكم التي يمارسها الملك إلا انهما يختلفان عنه كثيراً ،وسواءً من حيث غاية عملهما التي كانت في بادي الأمر نوعاً من التظلمات التي ترفع إلى الملك باعتباره ينبوع العدالة ،ومن ثم تحولت إلى أنظمةً قضائية لاحقا؛ في حين أن نظام الطعن التمييزي كان يتم بصيغة طلب قضائي الهدف منه إيجاد حلاً لبعض الإشكاليات القضائية التي كانت تظهر مثل تنازع الاختصاص بين البرلمانات، ومن حيث الأحكام(الأوامر) التي يصدرانها، وكيفت معالجتهما للنزاع المعروض عليهما ، ومن حيث طبيعة العمل إذ تقوم محاكم منصة الملك بالفصل بالأمور التي تتعلق بالنزاع بين الملك وبين رعيته ومن ثم توسعت لاحقاً لتشمل اختصاصات أخرى ،أما محاكم العدالة فتختص بالنزاعات التي يصعب إثباتها والسير فيها أمام المحاكم الملكية ،ومن هنا فهي محاكم من الدرجة الأولى، ومن حيث الآثار التي تتولد عن تلك المعالجة 0 أما فيما يتعلق بمجلس اللوردات فانه عبارة عن محكمة استئناف عليا ،وسواءٌ من حيث عمله واختصاصه في النظر في الطعون التي تسمح محاكم الاستئناف للمتخاصمين رفعها إليه عندما تنعدم السابقة القضائية المشابهة للقضية المطعون في حكمها ؛أو التي يرى المجلس ضرورة رؤيتها وذلك عند مخالفة الحكم المطعون فيه لسابقة قضائية ،أو عند العدول عن سابقة أصبحت لا تتلاءم مع الواقع الجديد(22).

______________________________

-انظر داود سمرة – شرح قانون أصول المحاكمات الحقوقية –ط3 – مطبعة العاني –بلا سنة طبع ص 667، عبد الجليل برتو –شرح قانون أصول المرافعات المدنية والتجارية –الشركة الإسلامية للطباعة-العراق –1957 – ص 4 ، ضياء شيت خطاب –نظرة عامة في قانون المرافعات الجديد –مقالة منشورة في مجلة القانون المقارن العراقية –العدد 3 لسنة 4 عام 1970 ص 9، فارس الخوري-أصول المحاكمات الحقوقية–ط2– الدار العربية للنشر والتوزيع–عمان 1987 ص26، عبد الرزاق عبد الوهاب- تصدي محكمة التمييز للفصل في موضوع الدعوى– مقالة منشورة في مجلة القضاء العراقية العدد 2 لعام 1975 لسنة3ص63، عدنان القوتلي – الوجيز في الحقوق المدنية –دمشق –1950 ص 239 ،صلاح الدين الناهي – الوجيز في المرافعات –العراق الشركة الأهلية للطباعة والنشر-العراق –1962-ص36 0

2- فريد فتيان –القضاء المدني العراقي –مجموعة قرارات مدنية لمحكمة تمييز العراق-منذ عام 1920 لغاية 1949 – بلا سنة طبع –ص 197 –290 0

3 – انظر علي حيدر –درر الحكام شرح مجلة الأحكام –-الكتاب الرابع – بيروت-بلا سنة طبع ص 629 – 636،منير القاضي –شرح مجلة الأحكام العدلية –مطبعة العاني -العراق –1947-ص 200، سعدون القشطيني – شرح أحكام قانون المرافعات العراقي –ج1-ط2-مطبعة المعارف –بغداد- 1976- ص32 ،وانظر كذلك المادة 1381 من القانون المدني العراقي الحالي0

4-انظر اسمان –تاريخ القانون الفرنسي ط 1925 ص 421 نقلا عن عبد الرزاق عبد الوهاب – الطعن في الأحكام المدنية بالتمييز-ط1-دار الحكمة للطباعة والنشر –بغداد –1991- ص 20 ،حامد فهمي ومحمد حامد-النقض في المواد المدنية والتجارية –مصر –1937-ص 18، نبيل إسماعيل عمر –النظرية العامة للنقض في المواد المدنية والتجارية –منشاة المعارف بالإسكندرية-1980-ص 17، وانظر ما كان يطبق في فرنسا من قواعد قانونية . ميشيل فيلية – القانون الروماني – ترجمة هاشم الحافظ –دار الحرية للطباعة- بغداد 1974 –ص 4 0

5 -انظر في ذلك دلاجراسي –وظيفة محكمة النقض في القانون المقارن –ص53مشار إليه في عبد الوهاب عبد الرزاق –المرجع السابق-ص20 0

6 -انظر في هذا المبدأ شارل لويس مونتسكيو 1698 –1755 روح الشرائح ج 1- ترجمة عادل زعيتر . القاهرة –دار المعارف – 1953 – ص 15 0

7 -انظر س. ج هامسون . دراسة مقارنة لقواعد المرافعات المدنية في إنكلترا في فرنسا ترجمة اكرم الوتري – مقالة منشورة في مجلة القضاء العراقية -العدد -2- السنة 26 لعام 1971 – ص 113 0 كلاسون وتيسية وموريل -شرح المرافعات -ط- 3 ج 1 ص 40 -51 مشار إليهم في عبد الرزاق عبد الوهاب – المرجع نفسه – ص 24 0

8 -انظر رمزي سيف -الوجيز في شرح قانون المرافعات المدنية والتجارية –القاهرة –1957ـص 651 هامش (1) ،نبيل إسماعيل – المرجع السابق ـص 28،محمد وعبد الوهاب العشماوي ـقواعد المرافعات ـج 1ـقواعد المرافعات في التشريع المصري والمقارن –القاهرة -1957-ص111،حسن الفكهاني وعبد المنعم حسني- الموسوعة الذهبية -الإصدار المدني -ج8-الدار العربية للموسوعات -القاهرة 1982-ص 90 0

9-انظر شفيق غربال -الجنرال يعقوب والفارس لإسكارس ـمشروع الاستقلال مصر ـالقاهرة ـ1932 ص7،شفيق شحاته -تاريخ حركت التجديد في النظم القانونية في مصر منذ محمد علي -مطبعة دار أحياء الكتاب العربية -مصر-1961 ص44 ،عزيز خانكي -التشريع والقضاء قبل إنشاء المحاكم الأهلية ـمطبعة الجمالية-ج1 ـ القاهرة -1933 م ـص 72 ،عمر ممدوح -أصول تاريخ القانون ـمطبعة الكتاب العربي ـالقاهرةـ1963 ـص 50 0

10-انظر صلاح الدين الناهي -المرجع السابق -ص 38 0

11- فمثلاً للأمور الإدارية في بلاد العائلة الرومانية الجرمانية قضاءٌ مستقل ، تتولاه محاكم إدارية تخضع أحكامها لرقابة محكمة عليا تسمى مجلس الدولة كما في فرنسا وألمانيا والنمسا وبلجيكا وإيطاليا والسويد واليونان ومصر وسوريا ولبنان ،وفي دول أخرى تخضع المحاكم الإدارية لرقابة محكمة التمييز وتختص أحد دوائرها بهذه الرقابة كسويسرا وأسبانيا وكوبا ،آما في العراق فتختص الهيئة العامة في مجلس شورى الدولة بالنظر في الطعون المقدمة في الأحكام التي يصدرها المجلس0وذلك وفق قانون مجلس شورى الدولة ذي الرقم 65لسنة1979 0

2 -انظر فارس الخوري – أصول المحاكمات الحقوقية – المرجع السابق- ص 25 وانظر في التنظيم القضائي لمحكمة التمييز في الوقت الحالي ؛عادل يونس- النظام القضائي في فرنسا- مقالة منشورة في مجلة القضاء المصرية التي تصدر عن نقابة المحامين المصريين – القاهرة العدد الأول سنة 1968 ص 26 ،وانظر الإصلاحات التي مرت بها محكمة التمييز الفرنسية – فنسان – المرافعات المدنية (مختصر واللوز) ط 17سنة1974- ص 161 مشار إليه في عبد الوهاب عبد الرزاق – المرجع السابق – ص 35 .

3 -انظر في الحسبة وأساسها وطبيعتها –عبد المنعم الشرقاوي –نظرية المصلحة في الدعوى –ط1-مكتبة عبد الله وهبه – القاهرة –1947ص276بند354 0

4 -انظر هاشم جميل عبد الله –مبدأ تمييز الأحكام القضائية –بحث منشور في مجلة كلية الأمام الأعظم –العام1978-ص493

5 – لزيادة والتوسع في فكرة قاضي القضاة –انظر وكيع بن محمد بن خلف بن حيان –أخبار القضاة–ج1-ط1-مطبعة الاستقامة بالقاهرة –1974-ص125،حسن إبراهيم حسن-تاريخ الإسلام –ج2-ط1- نشر مكتبة النهضة المصرية –القاهرة-1967-ص292 0

6 -انظر محمد سلام مدكور- المدخل للفقه الإسلامي –ط1-مطبعة النهضة المصرية –القاهرة –بلا سنة طبع–ص369 0

7 -هاشم جميل عبد الله –المرجع نفسه –ص500-506 0

8- صلاح الدين الناهي –حقوق الإنسان والضمانات القضائية –بحث منشور في مجلة الحقوق الكويتية–العدد3 السنة1983-135 0

9 -انظر تلك الآراء في ابن فرحون برهان الدين اليعمري المالكي –تبصرة الحكام في أصول الاقضية ومناهج الحكام –ج1-مطبعة البابي الحلبي –مصر –1303-ص62″فصل في جمع الفقهاء للنظر في حكم القاضي “0

20 -انظر الآية 59 من سورة النساء

2-انظر أبي الحسن الماوردي – أدب القاضي –ج1-مطبعة الإرشاد –بغداد –1971 ص687 0

22-انظر مجيد العنبكي –النظام القضائي الإنكليزي –مطبعة العدالة –بغداد -العراق-1990-ص69 0

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .