لعل في وجود نص تشريعي يكشف فيه عن طبيعة القاعدة القانونية من حيث كونها امرة اومكملة او مفسرة على ضوء صلة تلك القاعدة بالنظام العام، مايحفف حدة الخلاف الفقهي، الا انه لا يقطعه بالرغم من القاعدة الفقهية القائلة (( لا اجتهاد في مورد النص )) وهذا ما حدث بصدد موضوع بحثنا ،اذ لم يسلم الامر وحصل خلاف فقهي حول مدى صحة اتفاقات الاثبات بالرغم من وجود نص قانوني صريح وواضح يجيز فيه للافراد الاتيان باحكام مخالفة للحكم الوارد في النص الذي يحدد نطاق الاستعانة بالشهادة في اثبات التصرفات القانونية ، كما فعل المشرع العراقي حينما نص في صلب المادة (77/1) اثبات القاضية بعدم جواز الاستعانة بشهادة الشهود في اثبات تصرف قانوني تتجاوز قيمته مبلغ خمسة الالاف دينار(1). شانه في ذلك شأن المشرع المصري(2)والاردني (3)،اذ انصب الاجتهاد الفقهي بعد وجود النص على تفسيره ، واختلف الى ثلاثة اراء وهي على التفصيل التالي :-

المقصد الاول :الرأي الاول: صحة الاتفاق المعدل للاثبات بحسب وقت ابرامه

ركن اصحاب هذا الرأي الى الوقت الذي تم فيه الاتفاق من حيث وقوعه قبل نشوء النزاع او بعده ، للقول بصحة الاتفاق المعدل لقواعد الاثبات الموضوعية ،اذ يعد هذا الاتفاق لاغياً ولا قيمة له قانوناً ، ان تم قبل النزاع ، لان فيه نوعا” من المضاربة وان كلا” من الطرفين يقبل هذا الاتفاق في وقت يجهل عما سيكون عليه الحال وقت النزاع ، وان هذا يمس النظام العام ولايمكن ان يجيزه القانون ، اما اتفاقات الاثبات المعدة بوقت لاحق على نشوب النزاع ، فأنها صحيحة ومعتبرة من قبل القضاء ، لانه في هذه الحالة يكون الامر متعلقاً بالمصلحة الشخصية للمدعى عليه ،حينئذ يكون في وقت يسمح له بتقدير الوضع(4).

ويستند اصحاب الراي المتقدم لاثبات صحة قولهم الى ان العبارة الواردة في صلب المادة القانونية المعنية بتحديد نطاق الاستعانة بالشهادة (( ما لم يوجد اتفاق او قانون ينص على خلاف ذلك ))(5) ، لم يقصد بها الاتفاق السابق الذي يعقد وقت ابرام التصرف ،لانه فرض نادر الوقوع وان المشرع يعتمد في احكامه على الغالب الشائع لا على النادر،مما يعني انصراف قصد المشرع حين وضع النص،الى الاتفاق اللاحق على ابرام التصرف(6). ومع ذلك نجد ان الرأي فيه الكثير من المجافاة للواقع العملي والنص القانوني في آن معاً ، لان من شانه تصنيف اتفاقات الاثبات الى صحيحة واخرى غير صحيحة ،ولا وجود لهذا التصنيف في القانون،اذ جاء النص عاماً مطلقاً ، والمطلق يجري على اطلاقه ما لم يرد نص يقيده هذا من جهة ، ومن جهة أخرى نجده قد جعل مسألة تعلق القاعدة القانونية بالنظام العام مرهونة بالوقت الذي تمت بها مخالفة احكامه من خلال اتفاق الاطراف ، بينما ان المفروض والمنطق يحتمان تحديد صلة القاعدة القانونية بالنظام العام استنادا الى معيار موضوعي يركن فيه الى مضمون القاعدة وما يمكن ان تثيره من محاذير ذات صلة بعناصر النظام العام ، ومن جهة ثالثة يفيد هذا الرأي بثبوت الحق في الاثبات بالدليل الكتابي بعد نشوء النزاع وبهذا يجوز النزول عنه ، اما قبل ذلك فلا يجوز لان التنازل عن الحق لايجوز الا بعد ثبوته . وهذا ايضاً فيه مخالفة صريحة لواقع القاعدة التي توجب الدليل الكتابي ، اذ من الصحيح ان الاستعانة بالنص يظهر وقت النزاع ،وان للاخير اثرا” كاشفا” للحق لا مثبت له ، واخيرا لايتصور وجود اتفاق بين خصوم ، وان حصل تنازل من احد الخصوم عن القاعدة التي توجب الدليل الكتابي فأنه لايتخذ شكل اتفاق لارادتي الخصوم بل دفع لم يتمسك به الخصم لاي سبب .

المقصد الثاني :- ( الرأي الثاني ) صحة الاتفاق المعدل للاثبات بحسب صلة القاعدة القانونية بسلطة القاضي او تعلقها بالضمانات الاساسية لحق الدفاع

نتيجة لما اعترى الرأي الاول من قصور، ظهر من يميز بين قواعد الاثبات الموضوعية من حيث صلتها بالنظام العام استناداً الى الغاية التي تحققها اي قاعدة من تلك القواعد ، فأن كانت تمس سلطة القاضي في الاثبات او تتعلق بالضمانات الاساسية لحق الدفاع كما هو حال قاعدة المجابهة بالادلة ، او كانت تتضمن قيوداً قانونية على حرية الاثبات فأنها تعد من النظام العام ، لان هذه القيود يمليها اتقاء تحكم القاضي وضمان حسن سير العدالة واستقرار المعاملات ، لذلك لاتصح الاتفاقات المعدلة بِشأنها ، و ما عكس ذلك لاتعد متعلقة بالنظام العام ، كما هو الشأن في القواعد التي تحدد عبء الاثبات وتلك التي تجيز الاثبات بشهادة الشهود اذا كانت قيمة التصرف لاتزيد على (5000) خمسة الاف دينار ، مما يعني جواز الاتفاق على مخالفة احكامها كما لا يكون للمحكمة ان تقضي بها من تلقاء نفسها ، ولايجوز التمسك بها لاول مرة امام محكمة النقض(7). ومفاد هذا الرأي انه لايجوز الاتفاق على اطلاق حرية اثبات ما كان يجب اثباته بالكتابة لتعارضها مع المبادئ والاعتبارات التي أدت الى فرض هذه القيود ، وان كان يجوز النزول عن الدفع المستمد من القاعدة بعد نشوئه. ويظهر جليا مدى تعارض الراي السابق مع النص القانوني الذي يفيد اجازة الاتفاق على مخالفة ما جاء به من وجوب الاثبات بالدليل الكتابي متى تجاوزت قيمة التصرف مبلغا” معينا” اجازة صريحة ومباشرة . وعلى اثر ذلك ظهر الرأي الثالث.

المقصد الثالث :- صحة الاتفاق المعدل للاثبات

وهو السائد لدى غالبية الفقهاء(8) في – مصر والعراق – الذي يميل الى فك وثاق قواعد الاثبات الموضوعية من النظام العام وربطها بمصالح الافراد ومن ثم اجازة الاتفاق على مخالفتها نتيجة لوضوح نص المواد المعنية بذلك(9) اذ تجيز صراحة الاتفاق على مخالفة القاعدة التي توجب الدليل الكتابي لاثبات التصرفات القانونية ، ويرون في قواعد الاثبات من الصلة بالحق ما يجعل من الجائز التنازل عنها او التعديل فيها ، فإذا كان للفرد التنازل عن حقه او التعديل فيه ، فمن باب اولى ان يكون له ذات السلطة فيما يتعلق بأداة اثباته وان ما يتعلق بالنظام العام من قواعد الاثبات فهي تلك التي تتسم بصيغة اجرائية وتدخل في صميم النظام القضائي (10).

وجاء موقف القضاء المصري(11). والعراقي(12) مؤيداً للرأي الثالث في ان قواعد الاثبات الموضوعية ليست من النظام العام ومن ثم يجوز الاتفاق صراحة او ضمناً على مخالفتها كما يجوز لصاحب الحق في التمسك بها ان يتنازل عنها . ونتفق مع الرأي المتقدم لقوة ما ساقه من حجج من جهة ، وصحة مايؤدي اليه من نتائج قانونية من حيث كونها تضفي الصحة على الاتفاقات المعدلة للاثبات سواء بالاكتفاء بالشهادة فيما كان يجب اثباته كتابة ، او الاستعانة بالمحررات الالكترونية بدلاً من الورقية واعطائها قيمة المحرر او الاعتراف بالقيمة القانونية للتوقيع الالكتروني الذي قد يتكون من مجرد الضغط على مفاتيح معينة على الحاسب الالكتروني ، مما يعد حسما لكل ما يثار من خلاف فقهي حول مدى صحة هذه الاتفاقات . لكن ثمة تساؤلات تطرح نفسها حينذاك تدور حول الاتفاق الذي لايكتفي فيه طرفاه باضفاء القوة الثبوتية للمحرر الالكتروني لاثبات تصرف قانوني تجاوزت قيمته النصاب التشريعي المحدد سلفاً ، بل ويحدد مرتبة لقوته الثبوتية كأن تكون مساوية للمحرر العادي ! فهل من شأن هذه الاتفاقات سلب ما للقاضي من سلطة في تقدير ووزن البينة ؟ او يقتصر الاتفاق على توفير قبول قانوني للمحرر الالكتروني ملزم للقاضي والخصوم على حد سواء من ناحية التوصيف الكتابي للمحرر الالكتروني وغير ملزم للقاضي من ناحية تقدير حجيته القانونية ؟

_____________

[1] – قضت الفقرة الثانية من المادة (77) بـأنه (( اذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته على خمسة الاف دينار او كان غير محدد القيمة ، فلا يجوز اثبات هذا التصرف او انقضائه بالشهادة ما لم يوجد اتفاق او قانون ينص على خلاف ذلك )).

2- يراجع نص المادة (60 ) من قانون الاثبات المصري

3- يراجع نص الفقرة ( 1/أ) من المادة (28) من قانون البينات الاردني .

4- د. عايض راشد المري- مصدر سابق-ص172

5 يراجع نصوص المواد ( 77 ) اثبات عراقي، والمادة (60 ) اثبات مصري والمادة (28) بينات اردني .

6 – د. سليمان مرقس : اصول الاثبات واجراءاته في المواد المدنية – الجزء الاول – القاهرة – 1981 ص242ومابعدها

7 – د. اصول الاثبات في المواد المدنية والتجارية – الدار الجامعية – بيروت – 1985 ص43ومابعدها ، د. عايض راشد المري : مدى حجية الوسائل التكنلوجية الحديثة في اثبات العقود التجارية – رسالة دكتوراة – جامعة القاهرة – بدون سنة – ص173.

8 – العلامة احمد السنهوري : الوسيط في شرح القانون المدني – الجزء الثاني – الاثبات / اثار الالتزام –ص368 ومابعدها ، د. عبد المنعم فرج الصدة : الاثبات في المواد المدنية – الطبعة الثانية – شركة ومطبعة مصطفى الحلبي واولاده – القاهرة – 1989 -ص18ومابعدها ، توفيق حسن فرج : الاثبات في المواد المدنية – الطبعة الثانية – شركة ومطبعة مصطفى الحلبي واولاده – 1954-ص44ومابعدها .

9- يراجع نص المادة (77) اثبات عراقي والمادة (60) اثبات مصري والمادة (28) بينات اردني .

10- عايض راشد المري -مصدر سابق-ص175، توفيق حسن فرج وعصام حسن فرج : قواعد الاثبات في المواد المدنية والقانونية – منشورات الحلبي الحقوقية – لبنان – 2003 – ص71.

11- اذ اجيز الاتفاق على مخالفة القواعد المتعلقة بطرق الاثبات سواء تم مقدماً كما يمكن الاستدلال عليه اثناء سير الدعوى وتطبيقاً لهذا قضت محكمة النقض المصرية بأن الدفع بعدم جواز الاثبات بالبينة هو من الدفوع التي يجب ابداؤها قبل التكلم في موضوع الدعوى ، فعدم تمسك الخصم به قبل سماع شهادة الشهود يفيد النزول عنه فلا تجوز اثارته لاول مرة امام محكمة النقض .أي ان القضاء المصري لم يأخذ بالاتفاق الصريح على استبعاد تطبيق نص المادة(60) التي تتعلق بالاثبات بالشهادة حيث تجب الكتابة ، فحسب بل واعتد ايضاً بسكوت الخصم عن التمسك بالقاعدة التي توجب الاثبات بالكتابة وفي هذا دلالة مباشرة وصريحة على عدم تعلق قواعد الاثبات الموضوعية بالنظام العام . وقد ابانت محكمة النقض المصرية موقفها هذا في اكثر من حكم لها . نقض في 26/11/1953 /مجموعة احكام النقض في 25 سنة /س87 تحت((اثبات )) قاعدة 437.نقض 15/11/1962مجموعة المكتب الفني/س13-العدد الثالث/1031.

نقض 19/12/1979 /مجموعة المكتب الفني/س0/العدد الثالث/ص324.

12 – وقضت محمكة التمييز العراق في قرار لها ( 672 / ص / 964 بتاريخ 5/ 3 / 1964 على ان سماع البينة الشخصية وعدم سماعها ليس من النظام العام اذ يجوز الاتفاق على ما يخالف ذلك . القرار منشور في مجلة قضاء محكمة تمييز العراق- المجلد الثاني- مطبعة الادارة المحلية- بغداد- 1968- ص 76

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .