الخيارات القانونية أمام المقاول الوطني لمواجهة الأزمة المالية
يعيش العالم بأسره هذه الأيام أزمة اقتصادية أنتجت هبوطاً متواصلاً في النمو العام للأنشطة الاقتصادية الرئيسة، وما يتفرع عنها من نشاطات أخرى؛ مثل الأيدي العاملة، وحركة الأسواق، ومعدل الدخل، والأسعار، وغير ذلك.. حيث أثرت هذه الأزمة تأثيراً كبيراً وفاعلاً على معظم الاقتصادات العالمية؛ في الدول الكبرى، وأدت إلى أعراض مرضية اقتصادية شديدة التأثير؛ مثل نزول أسعار البترول العالمي، وهبوط أسعار الذهب، وتدني أسعار المواد الخام اللازمة للصناعة، واضطرابات خطيرة في أسواق المال؛ بين انخفاض كبير في بعض الدول، وارتفاع في دول أخرى.

وفي الاقتصاد المحلي للمملكة، فإنه فضلاً عن تأثره بحالة الركود العالمي، فإنه وبلا شك سيتأثر بالظروف العصيبة التي تشهدها المنطقة، والتي تعتبر المملكة طرفاً أساسياً فيها، بما يتناسب مع أهميتها وثقلها العالمي والإقليمي، ومقدار العبء المترتب على القرارات السياسية والعسكرية التي اضطرت لاتخاذها دفاعاً عن أمنها واستقرارها ومصالحها العليا.

وفي سبيل حماية الدين والوطن وإنسان الوطن يهون كل شيء ويرخص كل ثمن.

ولم يعد خافياً مدى التأثير الواضح الذي بدت آثاره على شركات المقاولات المرتبطة بعقود مع الدولة، أياً كان نوع هذه العقود، وما تواجهه من ضغوط مالية بسبب تعثر وتأخر صرف مستخلصاتها، التي تعتبر هي الشريان الذي يمدها بالحياة ويجعلها قادرة على الاستمرار والعمل والوفاء بالتزاماتها.

ومتى ما تعثرت تلك الشركات عن الوفاء بالتزاماتها المتنوعة، فإن أثر ذلك سيمتد بلا شك إلى المتعاملين معها، وتتسع دائرة هذا التأثر والتأثير باعتبارها منظومة اقتصادية مترابطة.

في ظل هذه الظروف وبحكم اطلاعي على جزء من الإشكالات التي يواجهها المقاول الوطني حالياً، والتي أخذت صوراً ومظاهر عديدة، يصبح من المهم طرح بعض الرؤى والمقترحات القانونية التي أعتقد أنها قد تسهم في التخفيف من عبء هذه الأزمة -في حال كُتب لهذه المقترحات التنفيذ- وأرجو أن أوفق في ذلك.

ويمكن تلخيص أفكار هذه المقترحات في التالي:

أولاً: بعكس ما يعتقد البعض من كلفة أتعاب المحامين بات من الضروري في هذه المرحلة الاهتمام أكثر من أي وقت مضى باتقان وجودة صياغة العقود، وضبط وتوثيق الالتزامات، والحصول على الاستشارة الشرعية والقانونية الصائبة، لمواجهة أو القيام بأي أعمال أو اتخاذ قرارات استثمارية في هذه المرحلة، لأن ذلك يعتبر إجراءً وقائياً ضرورياً تعتبر كلفة إهماله أكبر بكثير من كلفة الالتزام به.

ثانياً: في ظل تباطؤ الكثير من الجهات الحكومية عن الوفاء بالتزاماتها تجاه المقاولين، يجب أن يعاد النظر في الضغط على المقاول بوسائل الضغط المالية كغرامات التأخير أو أي أنواع من الغرامات والرسوم والضرائب التي تفرضها عليه الجهة المتعاقد معها أو جهات حكومية أخرى وتفهم ظروف هؤلاء المقاولين قبل مباشرة إجراءات الرقابة والضغط عليهم لإلزامهم بالوفاء بالتزاماتهم كاملة، حتى لا يميل ميزان العدل، فيُطالب بكل واجباته، بينما لا يعطى كل حقوقه.

ثالثاً: يأتي دور أساسي وضروري وهام على عاتق الجهات القضائية المختلفة سيما القضاء الإداري المختص بنظر دعاوى العقود الإدارية، أو القضاء التجاري المختص بدعاوى المقاولات التي تنشأ بين المقاول الرئيسي ومقاول الباطن المتعلقة بمشاريع حكومية.

فالمقاول في مطالبته بحقوقه تجاه الجهة الحكومية يواجه الكثير من الصعوبات في الإثبات، وفي بطء الفصل في الدعوى -خاصة عندما يُبتلى بمعضلة تدافع الاختصاص التي قد يمر بها أكثر من سنة حتى يُفصل فيها- وفي تلكؤ بعض الجهات الحكومية وعدم تعاونها مع القضاء ومساهمتها -المؤسفة- في تعطيل سير الدعوى؛ بينما في الجانب الآخر يقع المقاول تحت ضغط مطالبات قضائية أخرى ضده من مقاولي الباطن، أو من عمالته -لدى اللجان العمالية- أو من الدائنين المختلفين، وهو في حال لا يحسد عليها، لا يمكنه الوفاء بما لهم عليه، وقد يجد -وبكل أسف- أن الدعاوى المقامة ضده تم إنجازها من القضاء أسرع من الدعاوى المقامة منه على الجهات الحكومية، فيقع في مصيبة التعثر والإعسار والإفلاس.

بل لا تقف مصيبته عند هذا الحد؛ إنما تتواصل ليجد أن الأحكام القضائية التي صدرت له على الجهات الحكومية، معطلة لم تنفذ ولا يوجد أي جهة مختصة لتنفيذها، بينما الأحكام التي صدرت عليه يتصدى لها قضاء التنفيذ بكل قوة وحزم ودون إمهال، فتوقف حساباته، وخدماته، ويمنع من التصرف والسفر، بل وقد يزج به في السجن.

إنها معضلة واقعية مؤلمة، أخشى أن تنتهي إلى انهيار عدد كبير من الصروح الاقتصادية الوطنية التي تعتبر مكوناً أساسياً لاقتصاد الوطن. ويجب إعادة النظر في وضع حلول ومعالجات شاملة لكل جوانب هذه المعضلة.

رابعاً: فيما يخص دعاوى العقود الإدارية، فإن من الضروري إعادة النظر في إمكانية التخفيف عن المقاول الوطني، والعمل على حمايته من الانهيار والإفلاس، بتفعيل وسيلتين قانونيتين فاعلتين، إلا أنهما معطلتان حالياً وغير مستفاد منهما. وهاتان الوسيلتان هما:

الوسيلة الأولى: تفعيل نظرية الظروف الطارئة التي تعني في القضاء الإداري: “أنه إذا طرأت عند التنفيذ ظروف لم تكن في حسبان المتعاقدين وقت التعاقد وكان من شأنها أن تؤثر على حقوق الطرفين وواجباتهما بحيث يختل توازنهما في العقد اختلالاً خطيراً، تجعل التنفيذ مرهقاً لدرجة لم يكن يتوقعها بحال من الأحوال، فإنه يكون من الظلم احترام العقد في مثل هذه الظروف ومن العدل العمل على مساعدة المدين وإنقاذه من الخراب” وإعمالاً لهذه النظرية المعروفة يمكن الحكم بتعويض المقاول بما يخفف كثيراً من الخسارة التي لحقت به بسبب هذه الظروف.

الوسيلة الثانية: ما كان مستقراً في أحكام ديوان المظالم في السابق من الحكم بتعويض المقاول عن التأخير في صرف المستخلصات وذلك بطريق ما يسمى ب “التعويض الجزافي” الذي يعني تعويضه بنسبة محددة من إجمالي قيمة العقد، حتى ولو لم يتمكن من إثبات مقدار الخسارة التي لحقته، وذلك على اعتبار شرعي صحيح بأن الخطأ هنا ثابت وهو تأخير صرف المستخلصات، والضرر أيضاً ثابت، لأن من الطبيعي والغالب على الظن لحوق الضرر بالمقاول بسبب التأخير الطويل لصرف المستخلصات، إلا أن الجزء الذي تخلف هنا هو قدرته على الإثبات الدقيق لمقدار الضرر الذي لحقه، وهذا في السابق كان لا يحول دون الحكم بتعويضه، إلى أن طرأ اجتهاد جديد صار يقضي برفض التعويض، باعتبار ذلك من قبيل الربا، لأنه صار تعويضاً عن مجرد التأخير، وهذا -بلا شك- تعليل غير صحيح ولا واقعي، وأصبح من الضروري -سيما في هذه الظروف- أن يستشعر القضاء الإداري دوره الشرعي والوطني في مدّ بساط العدالة لحماية مكون أساسي من مكونات اقتصاد الوطن من الانهيار، من خلال عدة معالجات هذا من أبرزها.

خامساً: أعتقد أن من الضروري في هذه المرحلة الهامة والحاسمة، أن يكون هناك تواصل ولقاءات تجمع بين أصحاب الفضيلة قضاة محاكم الاستئناف الإداري والتجاري، وبين المقاولين الوطنيين، تحت مظلة الغرف التجارية أو غيرها، ليسمع القضاة من المقاولين بعض معاناتهم، وشرحاً لواقع الظروف التي يمرون بها، وأبرز الإشكالات التي تواجههم في أروقة القضاء، لأن القواعد الشرعية تنص على أن “الحكم على الشيء فرع عن تصوره” وأن “العادة محكّمة” وأن “المعروف عرفاً كالمشروط عقداً” وبالتواصل المباشر بين رجال القضاء والمقاولين أجزم أنه ستنجلي لأصحاب الفضيلة الكثير من الحقائق والمعلومات الضرورية التي لا غنى لهم عن معرفتها وفهمها حتى تكون أحكامهم أكثر إنصافاً وأقرب للعدالة.

سادساً: كما من الضروري أيضاً أن يتولى ديوان المظالم من داخله عقد لقاءات بين أصحاب الفضيلة قضاة الدوائر الإدارية، ولقاءات أخرى بين قضاة الدوائر التجارية، في فروع محاكم الديوان المختلفة في المملكة، ليتدارسوا بينهم هذه القضايا، ويبحثون سبل معالجتها، ويحاولون وضع تصورات مشتركة تشتمل على حلول ووسائل لإعانة المقاولين الوطنيين -بالحق ووفق مقتضى قواعد العدل والنظام- على مواجهة هذه الأزمة. والعمل على معالجة أي إشكالات تؤدي لتأخير البت في هذه القضايا، سواءً في جوانب الاختصاص أو الجوانب الموضوعية. ولعل معالي رئيس ديوان المظالم يبادر باستشعار أهمية هذه القضية الوطنية الكبرى، ويوجه بتحقيق هذا المقترح.

وختاماً أسأل الله أن يحفظ لنا وطننا، دينه، وأمنه، واستقراره ورخاءه.

والحمد لله أولاً وآخراً.

الكاتب:
د. محمد بن سعود الجذلاني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت