إشكالات انتقال القضاء التجاري
في الفترة القصيرة الماضية وقعت وزارة العدل وديوان المظالم مذكرة الاتفاق على سلخ الدوائر الجزائية والدوائر التجارية التابعة لديوان المظالم إلى القضاء العام، إنفاذا لنظام القضاء الجديد.

وبالفعل باشرت الدوائر الجزائية أعمالها قبل أيام في مقراتها الجديدة التابعة لوزارة العدل، وبقيت الدوائر التجارية التي يتوقع مباشرتها لأعمالها في مطلع العام الهجري الجديد – بإذن الله – حسبما تم إعلانه.

وفيما يتعلق بالقضاء الجزائي فهو ليس غريبا عن القضاء العام الذي ظلت محاكمه المستعجلة – قديما – والجزائية – حديثا – تتولى الفصل في الكثير من الاختصاصات القضائية الجنائية والجزائية، ولا يغير من الأمر كثيرا انتقال نوع من أنواع القضاء الجزائي المتخصص إلى المحضن العام للقضاء الجزائي وهو المحاكم الجزائية في وزارة العدل.

أما عن القضاء التجاري فإن هناك الكثير من التساؤلات والإشكالات التي يتوقع حدوثها عند انتقاله، ومن الضروري العناية ببحثها والتحضير لها وترتيب كيفية التعامل معها مبكرا، وذلك في سبيل وضع الحلول قبل وقوع الإشكالات لا بعدها. ومن واقع خبرتي السابقة في القضاء التجاري، والخبرة الحالية في الترافع أمامه محاميا، سأحاول عرض أبرز هذه الإشكالات للتنبيه عليها، فمن أهمها:

أولا: من المعلوم أن الدوائر التجارية التي تعمل حاليا تحت مظلة ديوان المظالم، ما زالت تسير على نفس النظام القديم فيما يتعلق بدرجات التقاضي التي هي درجتان فقط (قضاء ابتدائي)، و(قضاء تدقيق) الذي يسمى بالاستئناف وهو لا يزاول عمل الاستئناف فعلا، إنما مجرد اسم. وكل ما تضمنه نظام المرافعات الجديد من تصدي محاكم الاستئناف للنظر الموضوعي في الدعاوى من أول مرة ترفع لها، ليس مطبقا حاليا.

كما تسير هذه الدوائر على النظام القديم في تحديد اختصاصاتها، ولم يبدأ العمل بالاختصاصات الجديدة الواردة في نظام المرافعات الجديد (المادة 35) والتي في حال بدأ العمل بها ستتضاعف أعداد الدعاوى المنظورة أمام القضاء التجاري أضعافا كثيرة عن الأعداد القائمة حاليا.

والسؤال الذي يجب طرحه بصراحة ودقة هو:

في حال انتقلت الدوائر التجارية إلى مظلة وزارة العدل؛ هل ستبقى الحال على ما هي عليه فيما يخص (درجات التقاضي واستمرار عدم تفعيل قضاء الاستئناف) وفي (اختصاصات القضاء التجاري)، أم أنه بمجرد تفعيل هذا الانتقال سيبدأ العمل بنصوص نظام المرافعات الجديد فيما يخص (قضاء الاستئناف) و(اختصاصات القضاء التجاري)، أم هناك احتمال ثالث وهو: أن يبدأ العمل بأحد هذين الجانبين وتأجيل الجانب الآخر؟

فمثلا يبدأ العمل في جانب اختصاصات القضاء التجاري بالنظام الجديد، ويؤجل العمل بقضاء الاستئناف إلى وقت لاحق.

إن المطلع على أحوال وواقع القضاء التجاري الحالي في ديوان المظالم يجد أن الدوائر التجارية بدرجتيها (الابتدائية والاستئناف) غارقة في آلاف القضايا، ويواجه القضاة معاناة في إنجازها، ومواعيد الجلسات تصل إلى ثلاثة أشهر بين الجلسة والتي تليها، وتبقى القضية في محكمة الاستئناف مدة طويلة قبل إنجازها مع أن عمل الاستئناف الحقيقي لم يبدأ بعد، وما زال يعمل بنظام التدقيق دون التصدي لعقد جلسات نظر الدعوى (إلا في بعض الأحوال القليلة)؛ فكيف ستكون الحال عندما يفتح الباب على مصراعيه، وتغرق المحاكم التجارية في نظر كم لا حد له من الدعاوى حسب اختصاصات القضاء التجاري الجديد؟!

ثم كيف ستكون الحال عند إلزام محاكم الاستئناف التجارية بتفعيل النظام الجديد والتصدي لعقد جلسات للدعاوى من أول مرة؟!.

إن العدد الحالي لقضاة القضاء التجاري في ديوان المظالم، وحتى مع إضافة ضعف هذا العدد إليهم من قضاة وزارة العدل، لا يمكن أن يقوى على مواجهة سيل الأعباء والمهام المهولة القادمة. وفي حال حصل الاستعجال في ذلك فما من شك أن مواعيد الجلسات قد تصل إلى موعد واحد كل سنة! وما سيتم إنجازه من قضايا سيكون على حساب جودة الأحكام والتأني في دراسة القضايا وما تتطلبه من حد أدنى للوقت اللازم لاستيعابها وحسن القضاء فيها.

ثانيا: في الوقت الذي يتردد كثيرا أهمية القضاء التجاري في جذب أو طرد الاستثمار الأجنبي الذي يعتبر من أبرز أولويات الرؤية السعودية المعلن عنها، والمفترض تطبيقها خلال مدة قصيرة، ينبغي طرح سؤال مهم وضروري وهو:

ما هي أهم الجوانب التي يحرص المستثمر الأجنبي أو حتى الوطني على توافرها في القضاء التجاري؟

إن من الخطأ أن ننظر إلى مسألة وقت إنجاز القضايا باعتبارها هي العنصر الوحيد من عناصر تقييم جودة ونجاح القضاء التجاري التي تهم المستثمرين؛ إنما هناك عنصرٌ آخر يكاد يكون أهم من عنصر الوقت – مع أهمية الوقت – ألا وهو مضمون الأحكام القضائية، وقدرة المستثمر على دراسة خياراته، واتخاذ قراراته الاستثمارية بناء على ما يتوقعه من المبادئ والقواعد القضائية المستقرة التي قد يلجأ إليها في حال النزاع.

أما حين يكون المستثمر لا يستطيع – حتى من خلال مستشاره القانوني أو المحامي – معرفة أو التكهن بنتائج الأحكام القضائية، في ظل عدم وجود أي استقرار في الاجتهادات القضائية، وعدم وجود تقنين للأحكام الشرعية، وأن لكل قاض ولكل محكمة اجتهادها، فإن هذه تعتبر وصمة عيب ونقص كبير لا يمكن أن يجرؤ المستثمر على المخاطرة في سوق لا يتصف قضاؤها باستقرار الاجتهادات والأحكام.

وفي ظل ما نشره ديوان المظالم من عدد لا بأس به من أحكام القضاء التجاري، يأتي التساؤل هنا حول مدى مرجعية هذه الأحكام في المحاكم التجارية التي ستبدأ تحت مظلة وزارة العدل؟ وهل اتخذت وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء ما يكفي من التدابير لتحقيق هذه الغاية الضرورية؟ أم أنها متروكة للصدف والظروف؟

هذا جزء من الإشكالات والتساؤلات المرتبطة بانسلاخ القضاء التجاري من ديوان المظالم إلى وزارة العدل، كلي أمل أن تجد من القائمين على القضاء ما تستحقه من عناية وأهمية، سيما لارتباطها الأكيد والأساسي بالحلم السعودي المتمثل في الرؤية المعلن عنها مؤخرا.

والحمد لله أولا وآخرا.

الكاتب:
د. محمد بن سعود الجذلاني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت