يمر العقد قبل انعقاده بمرحلة اولية تسمى (المرحلة السابقة على التعاقد) او (الفترة قبل العقدية) يكون العقد خلالها في طور التكوين، وتبدأ هذه المرحلة عادة في اللحظة التي يعلن فيها احد الطرفين عن رغبته في التعاقد مع الطرف الاخر، وبعد مفاوضات حول شروط العقد وتفاصيله يُصدر الايجاب ثم يلقى هذا الايجاب قبولاً وفي اللحظة التي يقترن فيها الايجاب بالقبول تنتهي المرحلة السابقة على التعاقد لتبدأ مرحلة جديدة في حياة العقد ، وهي مرحلة ابرامه. الا ان بعض العقود لا تمر بهذه المرحلة وهي عقود الاذعان، كون هذه العقود غير قابلة للتفاوض فهي لا تمر بالمرحلة السابقة على التعاقد وانما تمر بمرحلة واحدة، وهي مرحلة ابرام العقد فقط(1). وبناءً على ذلك قسمت العقود الى عقود حرة، وعقود اذعان واصبحت من التقسيمات الفقهية الهامة، اذ ان الاتساع في دائرة عقود الاذعان يقابله انكماش مستمر في نطاق هذه المرحلة التي تسبق ابرام العقد(2).فالعقد الحر او كما يسمى كذلك بالعقد التفاوضي او عقد المساومة، هو العقد الذي يتم بعد مفاوضات حرة بين طرفيه تستند الى مساواة قانونية وفعلية بينهما، بحيث يتمتع كل منهما بحرية مناقشة شروط العقد وتحديد مضمونه، دون ان يفرض أي منهما ارادته على الاخر في هذا الشأن. فهذا العقد يعتبر اذن وليد المفاوضات المعبرة عن الارادة المشتركة للمتعاقدين، طالما ان الاطراف في هذا العقد يعقدون مفاوضات تسفر عن صياغة مشتركة لمضمونه ومحتواه(3). ويشكل هذا العقد بالمعنى السابق تجسيداً لمبدأ سلطان الارادة وحرية التعاقد، اذ يتحقق فيه الدور الجوهري للارادة، باعتبارها اساس العقد، ومن أكمل صوره لذا فان هذا العقد يمثل الصورة التقليدية المعتادة للعقود بوجه عام. ولا يؤثر في اعتبار العقد حراً ان تتقيد حرية طرفيه في المرحلة السابقة على التعاقد خاصة في المرحلة الاولى منها وهي مرحلة المفاوضات، باحترام العناصر المختلفة بجوهر العقد وطبيعته. فاذا كانت طبيعة المبيع مثلاً تقتضي ان يلتزم كل بائع بتسليم المبيع، وان يلتزم كل مشتري بدفع الثمن غير ان التسليم يمكن ان يكون مؤجلاً او مجزأ او يتم في اماكن مختلفة، والثمن يمكن الوفاء به دفعة واحدة او بالتقسيط بفوائد او بدون فوائد.

مع ذلك فالحرية التي تسود هذه المرحلة التي تسبق ابرام العقد في هذه العقود ليست مطلقة وانما تتقيد حرية الاطراف باحترام القواعد القانونية الامرة واعتبارات النظام العام الاقتصادي(4). اما اذا انفرد احد طرفي العقد بتحديد شروطه وصياغة مضمونه وقبله الطرف الاخر مضطراً دون مناقشة ومفاوضة ودون المرور بالمرحلة السابقة على التعاقد بكل ما فيها من مناقشات حول تفصيلات العقد ومضمونه بل يقتصر قبوله على مجرد التسليم بشروط مقررة لا مناقشة فيها، فهذا هو عقد الاذعان. وغني عن البيان ان هذا العقد يمثل الصورة المقابلة لعقد المساومة(5). فالاخير يتم عن رضا واختيار كاملين في مرحلة تسبق ابرامه، تتم فيها مناقشات ومفاوضات بين طرفيه، فيأتي معبراً عن ارادتهما المشتركة، لا الارادة الفردية لاحدهما. اما في عقود الاذعان اذ يستقل احد الطرفين باعداد مشروع للعقد يتضمن سلفاً ايجاباً عاماً مجرداً بشروط محددة حاسمة، لا تقبل المناقشة او التعديل، فلا يملك الطرف الاخر سوى ان يقبل التعاقد بهذه الشروط او يرفضه برمته، فان قبوله للعقد عندئذ وان كان موجداً غير انه اقرب الى الرضوخ والاذعان الى المشيئة الحقة والرضا الخالص، فهو قبول اضطراري مفروض عليه تبعاً لتعلق العقد بسلعة او خدمة ضرورية له تكون عادة محل احتكار. اذن فهو اقرب الى معنى التسليم منه الى معنى المشيئة، فاما ان يسلم المتعاقد بهذه الشروط كما هي دون تعديل او يدع التعاقد(6). ولهذه الخاصية انكر بعض الفقهاء على هذه العقود صفتها التعاقدية لان ارادة المذعن فيها لا تصدر عن طواعية واختيار بل عن اكراه. وقد رد على هذا الانكار بان العقود ولا تلزم لصحتها المساواة الاقتصادية بين العاقدين، وانما يكتفي فيها بتحقيق المساواة القانونية بينهما وهي موجودة فعلاً، كما انه لا اكراه فيها بالمعنى القانوني الا اذا قبل هذا الشخص التعاقد اضطراراً في بعض الظروف ، اضطراراً ينطوي على الاكراه، وهو ما لايقول به احد(7). اما خلوها من مرحلة تسبق التعاقد ، أي مرورها بمرحلة الابرام دون المرور بالمرحلة السابقة على التعاقد، فليس ذلك وقفاً عليها فالبيوع المسعرة مشركة معها في هذا المعنى، اذ ان العاقدين لا يمران بمرحلة تسبق التعاقد، أي لا يتفاوضان ولا يتناقشان عادة في شروطها. لهذا لم يجار فقهاء القانون المدني نزعة الجاحدين لصيغها التعاقدية، بيد ان هذا كله لا يمنع من غلبة الطابع الخاص عليها والذي يميزها عن غيرها، فمما لاشك فيه ان الطرف الضعيف يستلم مثلاً الشروط المملاة من الطرف القوي، ليس فقط لان هذه الشروط توضع سلفاً ولا تقبل بحثاً او مناقشة وليس المتعاقد الضعيف مضطر دائماً، بحكم حاجته، الى قبول هذه الشروط مهما انطوت عليه من اجحاف به اذا اراد ان يتعاقد وهو لا اختيار له في ذلك على الاعم، بل لانها تمثل في عقد ذي نظام مقرر يستقل الطرف القوي في ظل مناخ احتكاري في الهيمنة على الاحتياجات الاساسية للافراد، بوضع شروطه لانه يتمتع بسلطان اقتصادي بسبب الاحتكار الفعلي او القانوني الذي يملكه بالنسبة الى سلعة او خدمة ضرورية يتولى تقديمها للجمهور، كتوزيع التيار الكهربائي، ومياه الشرب وتقديم خدمتي النقل والتأمين، والتي برزت في مطلع هذا القرن نتيجة اوضاع اقتصادية افرزتها الثورة الصناعية، الامر الذي تطلب ابرام اكبر عدد من العقود، في اقل وقت، وبأقل جهد، والذي لا يبقى لهؤلاء الافراد الا قبول التعاقد جملة او رفضه كلياً(8).

غير ان المعيار الاقتصادي لا يكفي بذاته لتمييز عقود الاذعان، فالتفاوت الاقتصادي الناشئ عن ضغط الحاجة الملحة هو امر قائم في كل زمان ومكان، وملاحظته لن تكشف في النهاية الا عن فارق مافي الدرجة. لذا يرى بعض الفقه الفرنسي ان العبرة في هذا الصدد ليست بالعنصر الاقتصادي متمثلاً في تفوق النفوذ الاقتصادي الذي يتمتع به الموجب، بل ينبغي النظر بالاحرى الى الحقيقة القانونية المتمثلة في قبول احد الطرفين جميع شروط العقد المطروح عليه من الطرف الاخر، دون ان تتاح امامه فرصة حقيقية للمرور بالمرحلة السابقة على التعاقد بكل ما تتضمنه من مناقشات ومفاوضات لعناصر العقد، بحيث ينحصر الخيار المتروك له في قبول او رفض عقد ليس لارادته شأن في تحديد مضمونه(9). وبوجه عام يميل معظم الفقه سواء في مصر او فرنسا او العراق الى تمييز عقود الاذعان من خلال النظر الى الاعتبار بين القانوني والاقتصادي معاً، والاعتداد بهما في آن واحد، ومؤدى الاعتبار القانوني ان تمام العقد اذعاناً يستلزم ان ينفرد احد طرفيه أي الموجب بوضع العقد وتحديد شروطه بصورة نهائية قاطعة، أي على نحو لا تقبل المناقشة فيه من الطرف الاخر(10). ويشترط في هذا الايجاب ان يكون مفصلاً من جهة أي مشتملاً على سائر شروط العقد الجوهرية والثانوية، بحيث لا يتطلب لتمامه سوى قبول من الطرف الاخر يكون بمثابة تسليم واذعان لما صدر من الموجب. ومن جهة اخرى، ينبغي ان يكون هذا الايجاب دائماً أي ان يصدر لمدة غير محدودة.

كما يلزم ان يتصف هذا الايجاب بالعمومية والتجريد، بان يتضمن شروطاً عامة موحدة بالنسبة للجميع يتوجه بها الموجب الى عامة الجمهور او الى طائفة منهم ، لا الى شخص او اشخاص معينين بالذات، بحيث يتم العقد مع أي شخص يقبل التعاقد بهذه الشروط دون نقاش، وهو ما يعبر عنه الفقه الفرنسي بان يكون العقد نمطياً او نموذجيا(11).وفضلاً عما تقدم، فان الاعتداد بالعنصر الاقتصادي يستلزم، تفاوتاً اقتصادياً شديداً بين طرفي العقد على نحو تنعدم معه المساواة القانونية او الفعلية بين مركزيهما، وهذا يقتضي ان يتمتع احدهما، وهو الموجب بنفوذ اقتصادي هائل في مواجهة الطرف الاخر، بحيث تثبت له الغلبة والتفوق من هذه الزاوية، ومن ثم يأتي قبول العقد اذعاناً. والفقه مستقر على قياس درجة النفوذ الاقتصادي للموجب في مواجهة الطرف الاخر باللجوء الى معيار اقتصادي كذلك يتمثل في فكرة الاحتكار، بحيث يلزم ان يكون الموجب محتكراً للسلعة او الخدمة محل العقد احتكاراً قانونياً او فعلياً او قيام منافسة محدودة النطاق بشأنها. والاحتكار القانوني مصدره نصوص القانون، كعقد التزام المرافق العامة، ومن امثلته، النقل بالسكك الحديد، وتوريد المياه والغاز والكهرباء. اما الاحتكار الفعلي فينشأ من تكتل لمنتجين لسعلة او خدمة لتوحيد شروط التعاقد مع عملائهم، ومن امثلته التأمين بشتى انواعه والنقل البحري وبيع السيارات الجديدة. فضلاً على ما تقدم، يشترط لاعتبار العقد من عقود الاذعان ان يكون متعلقاً “بسلع او مرافق تعتبر من الضروريات الاولى بالنسبة للمستهلكين او المنتفعين”(12). وبصدد تحديد المقصود بهذا النوع من السلع، قضت محكمة النقض المصرية بأن “السلع الضرورية هي التي لاغنى للناس عنها او التي لا تستقيم مصالحهم بدونها، بحيث يكونون في وضع يضطرهم الى التعاقد بشأنها، ولا يمكنهم رفض الشروط التي يضعها الموجب ولو كانت جائرة وشديدة(13). وعلى العكس من ذلك يتجه الفقه الفرنسي الحديث، يؤيده القضاء الى توسيع دائرة عقود الاذعان بهدف اتاحة حماية اوفر لجمهور المستهلكين حيث تظهر فكرة الاذعان واضحة في العلاقة بين المنتج والمستهلك.

وقد بلغ هذا الاتجاه حداً جعل الفقه يقيم رابطة وثيقة بين عقود الاذعان من جهة، وعقود الاستهلاك من جهة اخرى سواء تعلقت الاخيرة بسلع ضرورية ام لا، بل وفي احوال لا يتوافر فيها شرط الاحتكار(14). والتفرقة بين عقود المساومة وعقود الاذعان، على الوجه المتقدم، تكتسب اهمية قانونية بالغة من جهتين: فمن جهة اذا كانت القاعدة ان “العقد شريعة المتعاقد” فلا يجوز نقضه ولا تعديله الا باتفاق الطرفين…”. فان هذه القاعدة تنطبق حيثما يتعلق الامر بأحد العقود الحرة او عقود المساومة ، اما اذا تم بطريق الاذعان، وكان قد تضمن شروطاً تعسفية، جاز للقاضي ان يعدل هذه الشروط او ان يعفى الطرف المذعن منها، وذلك وفقاً لما تقضي به العدالة(15). وعله هذا الاستثناء ان انفراد الموجب، في عقود الاذعان بوضع العقد وتحديد شروطه دون مرور الطرفين بالمرحلة السابقة على التعاقد، والتي تحقق التوازن بين مصالح الطرفين، عن طريق مناقشة شروط العقد بكل تفاصيلها الجزئية، الامر الذي يؤدي الى تعديل هذه الشروط او استبعاد بعضها او اضافة شروط اخرى، الامر الذي يؤدي الى فرض شروط تعسفية في الغالب من قبل الموجب، وكذلك تحفظات جائرة للحد من التزاماته الخاصة وزيادة التزامات الطرف المذعن، دون مقابل. ثم يأتي هذا القبول الاخير مشوباً بضغط اقتصادي تفرضه حاجة المتعاقد الى السلطة او الخدمة التي يوفرها العقد ولعل ذلك هو السبب الرئيس الذي منح القانون للقاضي الحق في تعديل الشروط التعسفية التي يتضمنها عقد الاذعان. الا انه ومع هذا التدخل في تعديل الشروط التعسفية الا ان ذلك لا يعني ان هذه العقود تمر بالمرحلة السابقة على التعاقد، لان هذا التدخل بعيد جداً عن المراحل المكونة للمرحلة السابقة على التعاقد فهي لا تتضمن الا اكراه او ضغط ولكن ليس المقصود بالاكراه هنا هو الاكراه المعروف كعيب من عيوب الارادة بل هو اكراه متصل بعوامل اقتصادية اكثر منه اتصالاً بعوامل نفسية (16). والان بعد ان عرفنا ان هناك عقود لا تمر بالمرحلة السابقة على التعاقد وانما تمر بمرحلة ابرام العقد مباشرة بقي ان نعرف ان هناك ثمة فوارق بين المرحلتين: حيث ان المرحلة السابقة على التعاقد تسبق دائماً مرحلة ابرام العقد اذ انها مرحلة تمهد لابرام العقد، اذ يتم فيها التفاوض والتناقش حول شروطه. اما في مرحلة ابرام العقد فلا تتم فيها مثل هذه المناقشات او المفاوضات اذ ان الطرفين بوصولهم الى هذه المرحلة يكونون قد استنفذوا جميع مالديهم من مناقشات ومفاوضات تخص العقد. اما من حيث الترتيب الزمني فان الفترة قبل العقدية تأتي دائماً في المقدمة، ثم تليها بعد ذلك مرحلة ابرام العقد ووجه ذلك ان العقد المراد ابرامه يحتاج احياناً الى المرور بالمرحلة السابقة على التعاقد، أي عقد ما يكون بحاجة الى مناقشة شروطه والتفاوض بخصوصها بين الاطراف التي تروم التعاقد وهذا ما يحدث عادة في العقود التي لا تكون شروطها محددة من قبل، او في العقود الكبيرة والمهمة، وكذلك العقود التي يشوبها بعض الغموض والتعقيد، اذ لا يستطيع الطرفان ابرام مثل هذه العقود من اول وهلة، وانما يتعين عليهما البدء بمرحلة تمهد له وتجعله في عداد التحضير والترتيب، وذلك لمناقشة شروطه وتحديدها تحديداً نافياً للجهالة، فضلاً عن دراسة جوانبه الفنية والاقتصادية والقانونية، فاذا ما توصلا الى اتفاق على جميع شروط العقد الجوهرية، عندئذ فقط يستطيعان البدء في مرحلة ابرام العقد، فيقومان بافراغ الاتفاق عليه في المرحلة السابقة على التعاقد في وثيقة نهائية مكتوبة ويوقعان عليها بعد اقران القبول بالايجاب، وهذه هي مرحلة ابرام العقد(17).

ومن جهة ثانية، فان ارادة الطرفين تكون غير باتة وغير نهائية في المرحلة السابقة على التعاقد وخصوصاً في المرحلة الاولى منها وهي مرحلة المفاوضات ففي هذه المرحلة يكون كل طرف من اطراف هذه المرحلة متردداً وغير مستقر على قرار نهائي بخصوص العقد، فلا يعرف يقيناً ما اذا كان سيتعاقد ام لا، لان الصورة لاتزال غير واضحة امامه، اذ لايعرف ماذا سيأخذ وماذا سيعطي، أي لا يعرف حقوقه ولا التزاماته التي سيسفر عنها العقد، فلا تتجه ارادته الى التقيد بالعقد نهائياً الا بعد ان يتم الاتفاق على كافة الشروط الجوهرية في العقد على الاقل. حيث ان المرحلة السابقة على التعاقد تتضمن عروضاً وعروضاً مضادة واقتراحات غير ملزمة فلا يترتب عليها بالذات أي اثر قانوني ولا يتقيد بها أي طرف وانما يحق لاي منهما ان يغير فيه او يضيف اليه او يعدل عنه كليه ويتقدم بعرض جديد وكل ذلك يحتاج الى وقت قد يطول الى ان تتحدد ارادته وتصبح ارادة عازمة ونهائية على ابرام العقد او عدم ابرامه(18).

وفي المقابل فان ارادة الطرفين في مرحلة ابرام العقد تكون عازمة وباتة على التعاقد اذ تتجه اراء الطرفين الى ابرام العقد نهائياً ، دون ادنى تردد حيث يتم اقتران قبول احدهما بالايجاب الصادر من الاخر دون قيد او شرط فينعقد العقد ويتقيد به الطرفان نهائياً(19). ومن جهة هامة فان المرحلة السابقة على التعاقد، تستغرق وقتاً طويلاً في بعض الاحيان قد يتجاوز مداه الشهور والسنين، وعلة ذلك ان المرحلة السابقة على التعاقد، تحتاج الى دراسات ومناقشات متأنية، ومفاوضات مستفيضة، وهي امور تستغرق وقتاً طويلاً حتى تؤتى ثمارها(20). بل يحتاج الامر ان تكون مرحلة المفاوضات جماعية، تجري على المستوى القومي، او على مستوى القطاع المهني، او على مستوى المشروع الواحد، لضمان الحصول على افضل امتيازات وشروط في العقد المراد ابرامه. على العكس من ذلك فان مرحلة ابرام العقد تكون عادة مرحلة واحدة وتكون قصيرة للغاية، فقد لا تستغرق من الوقت سوى لحظات معدودة، ذلك لان عملية ابرام العقد تكون في الغالب، عملية فورية، لانه تم الاتفاق في المرحلة السابقة على ابرامه، على كافة التفصيلات الجزئية للعقد، وعادة مايتم اقتران القبول بالايجاب فور صدوره او بعد صدوره بوقت قصير(21).

________________

1- د. جميل الشرقاوي، النظرية العامة للالتزام، الكتاب الاول، مصادر الالتزام، القاهرة، دار النهضة العربية، 1995، ص65-67؛ د. عبد الناصر توفيق العطار، نظرية الالتزام في الشريعة الاسلامية والتشريعات العربية، الكتاب الاول ، في مصادر الالتزام (العقود والعهود)، اسيوط، 1990، ص117.

2- واقامة العقود عند البعض من هذه الزاوية يشمل نوعاً ثالثاً من العقود يضم ما يسمى بالعقد المفروض او الجبري وهي تسمية يشير بها الفقه الى الاحوال التي يجبر فيها الشخص، بمقتضى القانون على التعاقد دون ان يعتد برفضها، او على التعاقد مع شخص معين او على الاستمرار في علاقة عقدية ما. ينظر في هذا الخصوص: د.جلال علي العدوى، الاجبار القانوني على المعارضة،، ص16.

3- د. محمد لبيب شنب،دروس في نظرية الالتزام،مصادر الالتزام،القاهرة، دار النهضة العربية، 1977،ص48؛ د.عبد الناصر توفيق العطار، مصدر سابق، ص117؛ د. .حسام كامل الاهوائي، النظرية العامة للالتزام، الجزء الاول، مصادر الالتزام، الطبعة الثانية، القاهرة، 1952ص30.

4- على انه مما يخفف من هذا التقييد ان غالبية القواعد المنظمة للعقود تعتبر مكملة او مفسرة الامر الذي
يدع مجالاً فسيحاً للاطراف التي تروم التعاقد في المرحلة السابقة عليه من التفاوض بشكل حر ومرن خلالها. ينظر: د.محمد حسين عبد العال، مصدر سابق، ص15؛ د. جاك غستان، نظرية الالتزامات ، ص497 ومابعدها.

5- ويرجع الفضل في هذه التسمية الى العالم الجليل الدكتور عبد الرزاق احمد السنهوري والتي ذاع استخدامها في الفقه المصري والعربي بوجه عام وهذه التسمية يقابلها في الفرنسية اصطلاح (Contraldadheesion) ومعناه عقد الانضمام وشاع استعماله في الفقه الفرنسي في هذا الصدد وهو اصطلاح ابتكره الفقيه سالي (Saleilles) الذي يعد اول من اثار انتباه الفقه الى هذه الطائفة من العقود في مؤلفه:

-De la dectaration de Volonte، contribution aleude lacte Jari Junidique dans le code civil alleman، pariesl 901، p.229.

ينظر: د. عبد الرزاق احمد السنهوري، مصادر الالتزام، الوسيط، الجزء الاول، ص229؛ د. عبد الفتاح عبد الباقي، موسوعة القانون المدني المصري، نظرية العقد والارادة المنفردة، القاهرة، 1984، ص204.

6- د. محمود جمال الدين زكي، الوجيز في النظرية العامة للالتزامات في القانون المدني المصري، الطبعة الثالثة، القاهرة، بلا اسم مطبعة، 1978، ص89؛ د.عبد المنعم فرج الصدة، مصادر الالتزام، مصدر سابق، ص109-110؛ د.عبد الفتاح عبد الباقي، مصدر سابق، ص204؛ د.عبد الرزاق احمد السنهوري، الوسيط، الجزء الاول، مصدر سابق، ص29.

7- ينظر: د.فتحي عبد الرحيم عبد الله، العناصر المكونة للعقد كمصدر للالتزام في القانونيين المصري والانكليزي المقارن، القاهرة، بدون اسم مطبعة، 1979، فقرة 47؛ د.محمد لبيب شنب، مصدر سابق، فقرة 505.

8- ينظر: د.عبد المنعم فرج الصدة، عقود الاذعان في القانون المصري، رسالة للدكتوراه، القاهرة، 1946، ص26.

9- د.محمود سعد الدين الشريف، شرح القانون المدني العراقي، نظرية الالتزام، الجزء الاول، في مصادر الالتزام، بغداد، مطبعة العاني، 1955، ص118.

10- د. محمد حسين عبد العال، التنظيم الاتفاقي للمفاوضات العقدية، القاهرة، دار النهضة العربية، 1998، ، ص22؛ د.حسام كامل الاهوائي، مصادر الالتزام، مصدر سابق، ص78؛ د.جميل الشرقاوي، مصادر الالتزام، ص66؛ د.نزيه محمد الصادق المهدي، مصادر الالتزام، الجزء الاول، القاهرة، بلا اسم مطبعة، 1988، ص73؛ د.عبد المجيد الحكيم، مصدر سابق، ص154 ومابعدها.

11- وتعرف هذه العقود النمطية او النموذجية بانها صيغ مكتوبة تحتوي على القواعد والشروط العامة التي تحدد اثار التعامل واحكامه بشكل عام، أي تبين ما يترتب عليه من حقوق والتزامات لاطرافه. ينظر: د.ابراهيم الدسوقي ابو الليل، نظرية الالتزام، الجزء الاول، المصادر الارادية للالتزام، العقد والارادة المنفردة (التصرف القانوني)، مطبوعات جامعة الكويت، مؤسسة دار الكتب، 1995، ص130.

ومن هنا اتجه رأي الى تسميتها بالصيغة النموذجية وليس بالعقد النموذجي لعدم احتوائه على تبادل ارادات بين طرفيه فالعقد النموذجي هو مجرد صيغة بسيطة توضع لكي تكون نموذجاً لعقود تبرم في المستقبل، مما يوحي بالشك في وصفها بانها عقد. ينظر: د.محسن شفيق، اتفاقية الامم المتحدة بشأن البيع الدولي للبضائع ، القاهرة، دار النهضة العربية، 1988، ص58.

ولا يجوز لمن قدم الايجاب المتضمن شروطاً عامة ان يرفض التعاقد مع من تقدم لاسباب غير مشروعة، وعلى الرغم من عدم ظهور نص صريح بذلك، الا انه تكفي القواعد العامة للاخذ بهذا الحكم خصوصاً وان نظرية التعسف في استعمال الحق قد ظفرت بتنظيم تشريعي، ففي مجال العمل لا يجوز لرب العمل ان يرفض توظيف شخص لديه بسبب دينه، او انتمائه، او لغته، او عقديته، او جنسه، او اهله، والا عد ذلك تميزاً غير مشروع وكذا الحال بالنسبة للطبيب او المحامي الذي تنعدم حريته في علاج المريض او الدفاع عن شخص انتدبته المحكمة للدفاع عنه في حالة الطوارئ. ينظر : د.عبد المنعم فرج الصدة، مصادر الالتزام، مصدر سابق، ص119؛ د.عبد الفتاح عبد الباقي، مصدر سابق، ص209؛ د.احمد عبد الرحمن الملحم، الاحتكار والافعال الاحتكارية، دراسة تحليلية، مطبوعات جامعة الكويت، 1997، ص93.

12- ينظر: عبد المجيد الحكيم، الوسيط في نظرية العقد مع المقارنة والموازنة بين نظريات الفقه الغربي وما يقابلها في الفقه الاسلامي والقانون المدني العراقي، الجزء الاول، في مصادر العقد (اركان العقد)، بغداد، شركة الطبع والنشر الاهلي، 1967،؛ د.حمدي عبد الرحمن، الوسيط في النظرية العامة للالتزامات، الكتاب الاول، المصادر الارادية للالتزام، العقد والارادة المنفردة، الطبعة الاولى، القاهرة، دار النهضة العربية، 1999، ص126.

13- مجموعة احكام النقض في 12/3/1974، السنة 25، القاعدة 80، ص292، وقد خلص الحكم الى ان معنى السلع المعتبرة من الضروريات الاولية، لا يتحقق بالنسبة للسيارة، رغم انفراد الموجب
بانتاجها والاتجار فيها” وهو اتجاه صادف ترحيباً لدى بعض الفقه استناداً الى ان السيارة لاتعتبر من ضروريات الحياة. ينظر:د.عبد الفتاح عبد الباقي، مصدر سابق، ص207و 208.

وقد قضت محكمة الاستئناف العليا في الكويت بعدم تكيف العقد بين شركة الهواتف المتنقلة وبين احد المشتركين في خدمة الهاتف الناقل بانه من قبل عقود الاذعان، لانه ليس من الضروريات التي لاغنى للناس عنها. ينظر: د.احمد عبد الرحمن الملحم، مصدر سابق، ص93.

14- د. نزيه محمد الصادق المهدي، الالتزام قبل التعاقدي بالادلاء بالبيانات المتعلقة بالعقد وتطبيقاته على بعض انواع العقود (دراسة فقهية قضائية مقارنة)، القاهرة، دار النهضة العربية، 1982ص69-70؛ د.حسام كامل الاهوائي، النظرية العامة للالتزام ، الجزء الاول، مصادر الالتزام، الطبعة الثانية، القاهرة، بلا اسم مطبعة، 1952، ص79.

ولذلك شرعت تفنينات لغرض حماية المستهلك حيث خففت في بعض الاحيان من مضمون الالتزام بالاعلام بشأن العقود التي يكون عليها توريد اموال استهلاكية عادية، وشددت في احيان اخرى على مضمون هذا الالتزام وهي حالات السعي من اجل التعاقد من خلال التلفزيون، والوسائل المشابهة له. ووفرت حماية اكثر واكثر بان اعطت له مهلة للتفكير (المستهلك) في امر الصفقة مدتها سبعة ايام من تاريخ تلقى الطلب او التعهد بالشراء يكون من حقه فيها، بعد دراسة البيانات المتعلقة بالعقد والتفكير في جدوى التعاقد بالنسبة له، ان يعدل عنه دون ابداء أي اسباب. ينظر في تفاصيل ذلك:د.مصطفى ابو مندور موسى، مصدر سابق، ص294؛ د.محمد حسن قاسم، التعاقد عن بعد، مقال منشور في مجلة الحقوق للبحوث القانونية والاقتصادية، مجلة فصلية تصدرها كلية الحقوق، جامعة الاسكندرية، دار الجامعة الجديدة، 2001، ص55؛ د.مصطفى الجمال ، السعي الى التعاقد في القانون المقارن، بيروت، منشورات الحلبي الحقوقية، 2001، ص222 ومابعدها؛ د.احمد محمد رفاعي، الحماية المدنية للمستهلك ازاء المضمون العقدي، القاهرة، دار النهضة العربية، 1994، ص1.؛ د.احمد شوقي محمد عبد الرحمن، قواعد تفسير العقد الكاشفة عن النية المشركة للمتعاقدين ومدى تأثير قواعد الاثبات عليها، بدون مكان طبع، بدون اسم مطبعة، 1977، ص31.

15- ينظر:د.عبد المجيد الحكيم والاستاذ عبد الباقي البكري والاستاذ محمد طه البشير،الوجيز في نظرية الالتزام في القانون المدني العراقي،الجزء الاول في مصادر الالتزام،بغداد،بلا اسم مطبعة،1980، ص45.

16- د.محمد لبيب شنب، مصدر سابق، ص25؛ د.عبد الفتاح عبد الباقي، مصدر سابق، ص213؛ د.محمد حسين عبد العال، مصدر سابق، ص28؛ د. جميل الشرقاوي، مصادر الالتزام، مصدر سابق، ص405-406؛ د.عبد المجيد الحكيم، مصدر سابق، ص158؛ د.سعيد عبد السلام، سلطة محكمة النقض في الرقابة على تفسير عقود الاذعان، القاهرة، الولاء للطبع والتوزيع، 1998، ص92.

– وقد اتاح المشرع في القانون المدني العراقي حماية واضحة للمذعن في المادة (167) منه اذ جرى نصها بما يلي”1. القبول في عقود الاذعان ينحصر في مجرد التسليم بمشروع عقد ذي نظام مقرر يضعه الموجب ولا يقبل فيه مناقشته. 2.اذا تم العقد بطريق الاذعان وكان قد تضمن شروطاً تعسفية جاز للمحكمة ان تعدل هذه الشروط او تقضي للطرف المذعن منها وذلك وفقاً لما تقضي به العدالة ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك.

وقد تضمنت تشريعات الدول العربية نصوصاً مشابهة لنص المادة (167) من القانون المدني العراقي فمثلاً يقابلها المادة 151/ 1 من القانون المدني المصري، والمادة 80 مدني كويتي و101 مدني سوري و12 مدني جزائري. كما ان القضاء يتجه الى تفسير عقد الاذعان ولا يتقيد بحرفيته اعمالاً لمبدأ حسن النية في مجال التفسير واستناداً الى النصوص التشريعية التي لايجوز تفسير العبارات الغامضة في عقود الاذعان بالشكل الذي يضر مصلحة الطرف المذعن وهذا ما جاءت به الفقرة (3) من نص المادة 167 مدني عراقي والتي نصت على انه “3. لا يجوز ان يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الاذعان ضاراً بمصلحة الطرف المذعن ولو كان دائناً”.

17- ينظر: رجب كريم عبد اللاة، التفاوض على العقد، دراسة مقارنة، اطروحة دكتوراه مقدمة الى كلية القانون-جامعة القاهرة، 2000، ص74.

18- هاني صلاح سرى الدين، المفاوضات في العقود التجارية الدولية، دراسة مقارنة في القانونين المصري والانكليزي، الطبعة الاولى، القاهرة، دار النهضة العربية، 1998، ص11؛ عبد المعطي الخيال، النظرية العامة للالتزام، اعداد الدكتور محمود عبد المعطي الخيال، بلا اسم مطبعة، 1993ص122.

19- د. احمد عبد الكريم سلامة، النظام القانوني لمفاوضات العقود الدولية، مقال منشور في مجلة الافراد والقانون التي تصدرها اكاديمية شرطة دبي، السنة الحادية عشر، العدد الاول، 2003، ، ص29.

20- وان الدخول في المرحلة السابقة على التعاقد رغم احتياجها الى وقت طويل، الا ان لذلك اسبابه الاقتصادية والنفسية والاجتماعية، كما وان له اسباب قانونية، فالاسباب الاقتصادية يسوّغها عظم قيمة العملة او العقد محل التعاقد، اما الاسباب النفسية والاجتماعية تتتعلق بظروف كل مجتمع على حدة فمن المجتمعات ما الف على المرور بهذه المرحلة ثم ابرام العقد مثل بلدان الشرق الاوسط ومنها ماهي نادرة الحصول في مجتمعه مثل فرنسا الحديثة اما الاسباب القانونية فانها ترجع الى صعوبة وتعقد العقود واتباع اسلوب التعاقد عن بعد. ينظر: د. صلاح الدين الناهي، مصادر الالتزام، الجزء الاول، بغداد، مطبعة الاعظمية، 1949، ص58؛ د.محمد حسام لطفي، عقود خدمات المعلومات ، مصدر سابق، ص17؛ د.حسام كامل الاهوائي، اثبات عقود التجارة الالكترونية ، ص2.

21- ينظر د.محمد عبد الله نصار، المفاوضة الجماعية ودور منظمة العمل العربية، بحث صادر من منظمة العمل العربية، 1996، ص32 ومابعدها؛ د.احمد حسن البرعي، الوسيط في القانون الاجتماعي، الجزء الاول، القاهرة، بلا اسم مطبعة، 1998، ص167؛ د. .محمد نصر الدين منصور، المفاوضات الجماعية، بحث منشور في كتاب بعنوان النظام القانوني للعاملين في مصر، مركز البحوث والدراسات القانونية والتدريب المهني القانوني، كلية الحقوق، جامعة القاهرة، 1993.، ص991؛ د. المسؤولية المدنية في مرحلة التفاوض، دراسة في القانونين المصري والفرنسي، القاهرة، النسر الذهبي للطباعة، 1995، ص3.

– خصوصاً عند التعاقد بين حاضرين، أي في نفس المجلس، حيث يكون اقتران القبول بمجرد صدور الايجاب وحتى عند التعاقد بين غائبين، فان هذه المرحلة لا تكون طويلة نسبياً. ينظر: د.عبد المجيد الحكيم والاستاذ محمد طه البشير، مصدر سابق، ص47.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .