يهدف التفسير الى تحديد معنى النصوص الواردة في العقد وبيان مدلولها، من هنا فان تفسير العقد هو بيان حقيقة ما قصدته الارادة المشتركة للمتعاقدين لتحديد مضمون العقد وما يولده من التزامات(1). ولا تظهر الحاجة الى تفسير العقد اذا كانت عباراته واضحة في دلالتها مطابقة لما اتجهت اليه الارادة المشتركة للمتعاقدين، فحينئذٍ يكون العقد ملزماً لهما بما أفصحت عنه عباراته، لان المنطق يقضي بالأخذ بالمعنى الذي تعبر عنه عبارة العقد الواضحة بوصفه المعنى الذي اتجهت اليه الارادة المشتركة للمتعاقدين حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك، فاذا تبين للقاضي ان هذا المعنى غير متفق مع قصد المتعاقدين كان له الانحراف من المعنى الظاهر الى غيره(2). من هنا، فان التفسير تظهر اهميته اذا كانت عبارات العقد يشوبها الغموض مما يجعل معناها غير واضح، أو انها تحتمل اكثر من معنى، او ان عبارة العقد واضحة ولكن هناك ما يشير الى ان المقصود بها معنى اخر غير معناها الظاهر، فيعمد القاضي الى تفسير العقد لكي يتوصل الى ما قصده الطرفان، أي الكشف عن الارادة المشتركة للمتعاقدين التي تتحدد بها الالتزامات الناشئة من العقد(3).

والسؤال الذي يثار هنا، أين يجد القاضي النية المشتركة للمتعاقدين؟

يتجه الرأي الغالب في الفقه والقضاء الى ان النية المشتركة التي تكون محلاً للتفسير هي الارادة الظاهرة التي توافق عليها المتعاقدان ويتجسد مظهرها الخارجي في التعبير عن ارادتيهما، لان المفروض ان تكشف الارادة الظاهرة عن الارادة الباطنة، ما لم يقم الدليل على خلاف ذلك(4). وللكشف عن قصد المتعاقدين او التعرف على حقيقة المقصود من عبارات العقد يستعين القاضي بنوعين من الوسائل: أولهما الوسائل الداخلية وتكون بالرجوع الى عبارات العقد ذاته واستخدام مجموعة من القواعد الفقهية التي تساعد في استخلاص الارادة المشتركة للمتعاقدين من عبارات العقد(5). وثانيهما الوسائل الخارجية وتعني الاستعانة بعوامل خارجة عن العقد من مثل العرف أو طبيعة المعاملة للوصول إلى بيان ما ينتجه العقد من حقوق وما يولده من التزامات(6).

ويرى البعض من الفقه ان التفسير لا يقتصر على المعنى الضيق الذي يقتصر على تفسير عبارات العقد الغامضة، بل يتعداه الى معنى واسع يقوم على تنظيم المسائل الفرعية التي تركها المتعاقدان، ذلك ان ترك هذه المسائل دون تنظيم يعد نوعاً من الغموض الذي يحتاج الى تفسير بالبحث عما تهدف اليه ارادة المتعاقدين، لان أساس التفسير هو الوقوف على ما قصدته إرادة المتعاقدين ويستوي في ذلك ان تكون هذه الإرادة صريحة او ضمنية، فسواء فسر القاضي اللفظ الغامض أو أكمل نقصاً في العقد، فعمله هذا يعد تفسيراً للعقد(7). ولئن التقى اكمال العقد بتفسيره في أن كلاً منهما يرد على العقد الصحيح الذي استوفى اركانه وشروطه، وانهما من السلطات التي يتمتع بها القاضي والتي تكون وظيفتها تحديد مضمون العقد وبيان ما ينشأ عنه من التزامات. بيد اننا نعتقد انهما يختلفان في أمور جوهرية لعل من ابرزها ان التفسير تبرز أهميته اذا كانت عبارات العقد غامضة وتحتاج الى استجلاء معناها، اما الاكمال فيقوم به القاضي اذا كان مضمون العقد يشوبه النقص بان ترك المتعاقدان بعض المسائل دون تنظيم، أولم يشر العقد الى الالتزامات التي يتعذر على احدهما أو كلاهما تنفيذ التزامه بدونها(8). ، فتفسير العقد يفترض وجود تعبير غامض لا يفصح عما قصده المتعاقدان، لذا يشرع القاضي بالبحث عما اتجهت اليه الارادة المشتركة للمتعاقدين لاستجلاء المعنى الذي يرومان الوصول اليه ،اما اكمال العقد فيفترض وجود نقص في تنظيم العقد يعمل القاضي على تكملته بان يضيف الى النية المشتركة ما لم تتناوله-سهواً او عمداً- ولكنه يعد من مستلزماتها(9).

من هنا، فان الحل الذي يتوصل اليه القاضي من التفسير يكون كامناً في العقد نفسه، ولكن كان يكتنفه الغموض، ويتوصل القاضي للكشف عنه مستعيناً بقواعد التفسير، لذا فان الالتزام الذي يتقرر وجوده في العقد من طريق التفسير يمكن رده الى لفظ او جملة في العقد(10). اما اكمال العقد فانه لايقتصر على ما قصد اليه المتعاقدان، بل يجاوز ذلك الى ما يترتب على العقد من التزامات تفرضها طبيعته ولو لم يتفق عليها المتعاقدان صراحة او ضمناً، فاكمال العقد يعني اضافة التزامات لايمكن ردها الى نصوص العقد، بل تضاف استناداً الى عوامل خارجية عن العقد نفسه(11). فالقاضي حينما يكمل نطاق العقد لا يبحث فيما يريده المتعاقدان لو أنهم واجهوا المسالة المتروكة حتى ينشغل بالبحث عن ارادتهما المشتركة، وانما سيسد النقص في مضمون العقد اعتماداً على طبيعة الالتزام بحسب ما ترشد اليه موجهات موضوعية هي القانون والعرف والعدالة. واخيراً فان قيام القاضي باستكمال العقد يعد من المسائل القانونية التي يخضع فيها لرقابة محكمة التمييز، بينما سلطته في تفسير العقد تعد من مسائل الواقع التي لا رقابة لمحكمة التمييز عليها(12).

___________________

1- انظر: د. نبيل ابراهيم سعد، النظرية العامة للالتزام، ج1، مصادر الالتزام، دار الجامعة الجديدة – الاسكندرية، 2004، ص264.

2- انظر: د. مصطفى الجمال، النظرية العامة للالتزامات، الدار الجامعية –بيروت، 1987، ص210. وفي هذا المعنى جاء في المذكرة الايضاحية للقانون المدني المصري ما نصه: (( لا ريب ان ارادة المتعاقدين هي مرجع ما يرتب التعاقد من اثار. بيد ان هذه الارادة وهي ذاتية بطبيعتها، لا يمكن استخلاصها الا بوسيلة مادية او موضوعية، هي عبارة العقد ذاتها. فاذا كانت هذه العبارة واضحة لزم ان تعد تعبيراً صادقاً عن ارادة المتعاقدين المشتركة، وليس يجوز الانحراف عن هذا التعبير لاستقصاء ما اراده العاقدان حقيقة، من طريق التفسير او التأويل، تلك قاعدة يقتضي استقرار التعامل حرصاً بالغاً في مراعاتها )) مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني المصري، ج2، ص296.

3- انظر: د. عبد الحميد الشواربي، المشكلات العملية في تنفيذ العقد، دار المطبوعات الجامعية- الاسكندرية، 1988، ص59.

4- انظر: د. السنهوري، الوسيط ج1، ص822 ود. حسام الاهواني، مرجع سابق، ص198. وايمان طارق الشكري، سلطة القاضي في تفسير العقد، أطروحة دكتوراه قدمت الى كلية القانون بجامعة بغداد، 2002، ص37. وقضت محكمة التمييز بما نصه: (( الاصل في تفسير عبارات العقد أن يؤخذ بالمعنى الحقيقي ولا يجوز الانحراف عنه الى غيره من المعاني الا اذا تأيد من ظروف الدعوى ما يدل على ان المتعاقدين اساءا استعمال هذا التعبير وقصدا معنى اخر فيجب حينئذ البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين ))قرار رقم 1013/حقوقية/68 في 3/10/68، قضاء محكمة التمييز، مجلد5، مطبعة الحكومة _بغداد، 1971، ص249.

وقضت محكمة النقض المصرية بما نصه:((تفسير العقود والشروط للتعرف على مقصود المتعاقدين من سلطة محكمة الموضوع ولا رقابة لمحكمة النقض عليها متى كان تفسيرها مما تحتمله عباراتها ولا خروج فيه على المعنى الظاهر لها ولا تتقيد المحكمة بما تفيده عبارة معينة منها وانما بما تفيده في جملتها))طعن رقم 213لسنة39ق-لسة26/11/1974سنة25ص1291، موسوعة الفقه والقضاء للدول العربية، ج 249، ص779.

5- أنظر نصوص المواد من (155-162) من القانون المدني العراقي التي حددت مجموعة من القواعد الفقهية التي تساعد على تفسير عبارات العقد من مثل العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا الالفاظ والمباني وقاعدة الاصل في الكلام الحقيقية اما اذا تعذرت الحقيقية فيصار الى المجاز وغيرها من القواعد الاخرى.

6- انظر نص (م163-165) من القانون المدني العراقي.وجاء في المذكرة الايضاحية للقانون المدني المصري ما نصه:((واذا كانت عبارة العقد غير واضحة او مبهمة بحيث تحتمل في جزيئاتها او في جملتها اكثر من معنى تعين الالتجاء الى التفسير. والجوهري في هذا هو كشف الارادة المشتركة للعاقدين،لا الارادة الفردية لكل منهما. وهذه الارادة وان كانت ذاتية الا انه يجب استخلاصها دائماً بوسائل مادية فليس ينبغي الوقوف في هذا الشأن عند المعنى الحرفي للالفاظ، بل يجب ان يعتد بطبيعة التعامل، وبالغرض”الذي يظهر ان المتعاقدين قد قصداه”وبما يقتضي عرف التعامل من تبادل الثقة والشرف. ويراعى ان ذلك الغرض يتوخى في استخلاصه التزام الظاهر وفقاً لعبارة النص، كما ان هذا الشرف وتلك الثقة ينسبان الى العرف الجاري، وكل أولئك من قبيل الامارات المادية التي تقدر تقديراً موضوعياً)) مجموعة الاعمال التحضيرية للقانون المدني المصري، ج2، ص296-297.

7- أنظر:د.عبد الحكم فودة، تفسير العقد في القانون المدني المصري والمقارن، منشاة المعارف -الاسكندرية، 1985، ص14. ود.عبد الحميد الشواربي، مرجع سابق، ص62.

8- أنظر: د. عبد الفتاح حجازي، مرجع السابق، ص184.

9- انظر: د. السنهوري، الوسيط ج1، ص836 حاشية رقم 2. وجاء في المذكرة الإيضاحية للقانون المدني المصري ما نصه:(( والواقع ان التفرقة من هذا الوجه بين تحديد مضمون العقد وتفسيره وكيفية تنفيذه جد دقيقة. ذلك انه يبدأ بتحديد مضمون العقد وقد يستتبع ذلك استكمال ما لم يصرح به فيه. ثم يعرض امر تفسير هذا المضمون وهو يقتصر على شقه الثابت بالعبارة دون ما يستكمل منه من طريق الدلالة فاذا تم للمتعاقدين تحديد مضمون العقد وتفسيره عمدا الى تنفيذه وفقاً لما يفرضه حسن النية وما يقتضي العرف في شرف التعامل……واذا كان التفريق بين هذه المراحل الثلاث ميسوراً من الناحية المنطقية البحتة فمن البين انها تختلط في الواقع ببعضها، ويتجلى ذلك بوجه خاص فيما يتعلق بتحديد مضمون العقد وتفسيره)) مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني المصري، ج2، ص297.

10- انظر: د. احمد شرف الدين، نظرية الالتزام، ج1، مصادر الالتزام، دون مكان نشر، 2003، ص282. ود. حسام الاهواني، مرجع سابق، ص204.

11- انظر: د. جميل الشرقاوي، النظرية العامة للالتزام، الكتاب الاول – مصادر الالتزام، دار النهضة العربية – القاهرة، 1981، ص204. ود.اسماعيل غانم ، في النظرية العامة للالتزام، مصادر الالتزام، مكتبة عبد الله وهبة-مصر،1966،ص309.

12- ويلاحظ ان محكمة التمييز قد بسطت رقابتها بشكل واسع على عمل القاضي في تفسير العقد فنقضت كل حكم خالف فيه قاضي الموضوع ما وضعه المشرع من قواعد ملزمة في التفسير او خالف فيه اجراءات الخصومة والمرافعة او الاجراءات الشكلية او الموضوعية في الاثبات بما في ذلك عدم تقدير ادلة الدعوى تقديراً ينسجم مع المنطق السليم مستندة إلى نص المادة203 من قانون المرافعات المدنية التي عددت حالات الطعن بالتمييز وجاء في الفقرة الخامسة منها ما نصه:(( إذا وقع في الحكم خطأ جوهري. ويعتبر الخطأ جوهرياً اذا اخطأ الحكم في فهم الوقائع…………..)) وقد قضت محكمة التمييز في العراق في هذا المعنى بما نصه: (( ان من المسائل المقررة ان لمحكمة الموضوع السلطة التامة في تفسير العقود والشروط المختلف عليها بما تراه أوفى بمقصود المتعاقدين مستعينة في ذلك بظروف الدعوى وملابساتها شرط ان تبين في حكمها كيف افادت تلك الشروط المعنى الذي اقتنعت به ورجحت انه مقصود العاقدين بحيث يتضح من هذا البيان انها أخذت في تفسيرها باعتبارات معقولة يصح عقلاً استخلاص ما أستخلصته منها وما دامت عبارة العقد تحتمل المعنى الذي أخذت به )).

قرار رقم (317)/حقوقية/1965 في 24/6/1965، اشار اليه د. عبد الرزاق عبد الوهاب، رقابة محكمة التمييز على تفسير العقود، بحث منشور في مجلة العدالة، س2، ع2، 1976، ص356. وايمان طارق، مرجع سابق، ص157.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .