تُلقي أهمية القصد الجنائي بظلالها وبصورة جلية علـى جميع أطراف العلاقة الجرمية من مجرم وجريمة ومسؤولية جنائية ناتجة عن تلك العلاقة، بل حتى على العقوبة المترتبة عن تلك المسـؤولية :

أولاً أهمية القصد الجنائي بالنسبة للمجرم :

يكشف القصد الجنائي عن نوازع الشر والعدوان والغدر عند صاحبه ويظهر روحه الإجرامية وإرادته الآثمة (1) ، وهو نقطة الارتكاز الحقيقية في دراسة نفسية المجرم ، وبحث جوانب الخير والشر فيه بمعايير شخصية غير متأثرة بجسامة المظهر المادي للفعل ، فالقتل بطبيعته فعل تشمئز منه النفوس، ويبدو لأول وهلة بأنه عمل إجرامي بحت وذلك إذا نظرنا إلى الجانب المادي وحده ، ولكن إذا كانت نفسية الفاعل والظروف اللصيقة بشخصه محل اعتبار ، فقد لا نرى في الفعل جرماً متعمداً كما لو كان هذا الشخص ضحية خطأ يمكن تفاديه، فينتفي العمد في هذه الحال، بينما يبقى ثمة مجال لمعاقبته طبقاً لصورة الخطأ غير العمدي (2). يتبين لـنـا من كـل ما تقدم أن القصد الجنائي يـمـثل حقلاً مهمـاً لدراسة نفسيـة الجاني وبـواعثه ، باعتباره مظهراً من مظاهر شخصيته وانعكاس نفسـي لـمدى خطورتـه الإجرامية تجاه المجتمع .

ثانياً أهمية القصد الجنائي بالنسبة للجريمة :

الجريمة ليست كياناً مادياً خالصاً ، وإنـما هي كيان نفسي أيضاً ، ويمثل القصد الجنائي الأصول النفسية لماديات الجريمة ومركز السيطرة عليها (3)، ونظراً لما للقصد الجنائي من أهمية فقد اعتمدته بعض التشريعات أساساً للتصنيف الثنائي للجرائم ، فصنفت الجرائم صنفين ، الجرائم العمدية وهي التي يشترط فيها القانون وجود القصد الجنائي ، والجرائم غير العمدية ، وهي التي يعاقب عليها لمجرد وجود خطأ غير عمدي (4). وإذا ما قارنا بين القصد الجنائي والخطأ غير العمدي، وجدنا الأول يفوق الثاني في الأهمية ، فالجرائم العمدية هي أصل التجريم لأنها تنطوي على معنى العدوان أو الاعتداء ، بينما الجرائم غير العمدية ليست إلا استثناء لأنها مجرد أفعال ضارة (5) ، لذلك كانت الجرائم العمدية أكثر عدداً ، فالاعتداء على الحق عمداً خطر على المجتمع في اغلب الحالات ، ولذلك يندر ألا يناله التجريم ، ولكن الاعتداء غير العمدي أقل خطورة، ولذلك لا يكون محلاً للتجريم إلا فـي حالات تتضح فيها خطورته علـى نحو خاص، وهذا هـو الأساس الذي يفسر تفوق الجرائم العمدية على غير العمدية في الكم (6). لـمـا كانت الجرائم العمدية هي الأصل في المجال الجنائي والجرائم غير العمدية هي الاستثناء، فأن الأصل لا يحتاج لتأكيد مـن جانب المشرع، لذلك أصبح مـعـلـوماً لـدى الفقه والقضاء أنه إذا ما أغفل المشرع بيان صورة الركن المعنوي فـي جريمة من الجرائم ، فأن ذلك يعني توافر صورة العمد فيها (7). وتكمن أهمية التمييز بين الجرائم العمدية وغير العمدية في ثلاث نواحي : (8)

الأولى : لكون القصد الجنائي من أركان الشروع والمساهمة الجنائية في الجريمة ، فأنه لا يمكن تصور الشروع والمساهمة إلا في الجرائم العمدية ، ولا يتصوران في غير العمدية .

والثانية : بحث الجرائم التي تقع بالترك أو الامتناع لا يكون إلا في الجرائم العمدية ، وذلك لتطلب القانـون وجود قصد جنائي فـي إحداث الجريمـة التـي تنشأ مباشرة عن هذا الامتناع (9)، أمــا .

الثالثة : إن جميع الجرائم غير العمدية أما جنح أو مخالفات ، أما الجنايات -كأصل عام- فجميعها عمدية ولا توجد جنايات غير عمدية (10) . يتبين لنا إن القصد الجنائي يثور بحثه في أغلب الجرائم وأشدها جسامة وهي الجرائم العمدية سواء أكانت تامة أم يعاقب فيها على مجرد الشروع ، ويبحث باعتباره ركناً أساسياً في جريمة القتل باعتبارها مجرمة في حالتي العمد والإهمال (11). قد تتعدد الجرائم التي تقع على شخص الإنسان ، حياته ، صحته ، وسلامة بدنه بحيث ينتج عن كل من هذه الجرائم الموت ، فيصعب في هذه الحالة تكييف الفعل المؤدي لهذه النتيجة إلا بعد التأكد من قصد الجاني وإرادته، فقصد الجاني هو الذي يبين لنا ما أراد (12) ، فهو قتل عمد إذا كان الفاعل قد ارتكب فعله قصداً، أي كان مريداً لوفاة المجني عليه، وهو قتل عمد مع سبق الإصرار إذا كان قصد الجاني قد أقترن بسبق الإصرار، وهو إعتداءٍ مفضٍ إلى الموت إذا لم يكن الجاني يقصد إنهاء الحياة وإنما قصد الإيذاء ، وهو قتل خطأ إذا أراد الجاني الفعل ولم يرد النتيجة ، حتى من الممكن القول أخيراً بأن الشخص الذي كان السبب في موت المجني عليه لم يرتكب أي خطأ ، كما لو لم يملك أهليـة الإدراك والإرادة ، فـلا يتوافر الركن المعنوي وتكون الواقعة مـن الناحية الجنائية قضاءً وقدراً (13). نخلص من كل ما تقدم بيانه إلى أهمية القصد الجنائي لتحديد طبيعة جريمة القتل ، فعلى الرغم من أن النتيجة وهي الوفاة واحدة في جميع الجرائم السابقة ، إلا أن الوصف القانوني لكل منها قد اختلف تبعاً لاختلاف القصد الجنائي فيها ، بحيث لا يمكن إعطاء أي منها الوصف القانوني الصحيح إلا بعد تعيين قصد الفاعل فيها .

ثالثاً أهمية القصد الجنائي في المسؤولية الجنائية :

لما كانت المسؤولية بمعناها القانوني هي التزام الشخص بالخضوع لتدبير قانوني يتخذ معه قهراً لقاء سلوك بدر منه ، فأنهـا بهذا المعنـى تتوافر فـي مجال القانون الجنائـي وذلك حينما يكون السلوك المتوجب لهـا جريمة ، ويكون التدبير الذي تتخذ منـه أدلتها فـي هذه الحالة هو الجزاء الجنائي (14). من المقرر أن الركن المعنوي هو أساس المسؤولية الجنائية في العصر الحديث ، ويعتبر القصد الجنائي أحد صوره ، بل أنه الصورة الغالبة والأهم لأنه إذا كانت الجريمة فـي أبسط صورها تنطوي عصيان لأوامر الشارع ونواهيه ، فأن هذا العصيان يبلغ أشده إن كان مقصوداً ممن أتاه (15) ، وتكون المسؤولية ( في جريمة القتل) عمدية إذا سيطرت الإرادة سيطرة تامة واتجهت إلى الفعل والنتيجة ، أما إذا سيطرت على السلوك دون النتيجة كانت المسؤولية غير عمدية على أساس الخطأ غير العمدي (16).

رابعاً أهمية القصد الجنائي في العقوبة :

يراعي الشارع عند تعيين العقوبات وتحديد مقدارها أن تتكفل تحقيق الأغراض المتوخاة من تطبيقها ، وأن تكون عادلة ترضي الشعور بالعدالة ، وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت متناسبة مع جسامة الجريمة ودرجة خطورة مرتكبها (17)، لذلك كان العقاب على الجرائم العمدية أشد منه جسامة في الجرائم غير العمدية ، لأن الشارع يهتم بمواجهة أولئك الذين اتجهت إرادتهم إلى مخالفة أحكامه أكثر مما يهتم بمواجهة أولئك الذين لم يريدوا مخالفته بل اعتقدوا أنهم يخضعون لأحكامه ولكن كان نصيبهم من الحذر والاحتياط دون ما ينبغي أن يكون (18) ، هذا المبدأ يحقق تماماً أغراض العقاب سواء كانت انتقامية أم ردعية أم إصلاحية، فمن لا تكون إرادته آثمة ووقعت الجريمة دون أن تتوفر علاقـة نفسيـة بين إرادته وبين ماديات الجريمة ، فـلا حاجة لعقابه (19)، وإنما يتدخل الشارع لعقابه استثناء فقط وفـي حالات خاصـة قدرها بالنص (20)، لذلك فالحكمـة من تقرير العقـاب علـى الجريمـة العمديـة هـي منع الإنسان من تعمد إيذاء غيره ، بينمـا وجـه المصلحة في العقاب على الخطأ غير العمدي هو رغبـة المشرع فـي حمل الأفراد على التذرع بالحيطة اللازمة في تصرفـاتهم وتدبر عواقبها المحتملة ، أي منع الإنسان من عدم الاكتراث بغيره(21)، فالقانون بتوقيعه العقاب على مرتكب الجريمة العمدية إنما يحمل متمرداً على أن يتأدب ، وبتوقيعه العقاب على مرتكب جريمة غير عمدية إنما يحمل غافلاً على أن يتنبه (22). من الجدير بالذكر أن الأهمية السابقة للقصد الجنائي مرتبطة بمسألة مهمة ألا وهي الفترة الواجب توافر القصد الجنائي خلالها أو ما تسمـى بالفترة القصدية …

________________________

1- د. ضياء الدين مهدي الصالحي، المرجع السابق ، ص22 .

2- د. عبد المهيمن بكر، القصد الجنائي في القانون المصري والمقارن، المرجع السابق، ص6 (3) د. ماهر عبد شويش ، الأحكام العامة ، المرجع السابق ، ص259 .

4- د. عبد الوهاب حومد ، الوسيط في شرح قانون الجزاء الكويتي ، المرجع السابق ، ص92 (5) د. علي راشد ، المرجع السابق ، ص215 / عبد الرحمن محمد الضحياني ، المرجع السابق ، ص106 .

6- د. محمود نجيب حسني ، النظرية العامة للقصد الجنائي ، المرجع السابق ، ص11 .

7- د. عبد المهيمن بكر، القصد الجنائي في القانون المصري والمقارن ، المرجع السابق، ص8/ د. عوض محمد ، قانون العقوبات-القسم العام ، المرجع السابق ، ص211 .

8- في تفصيلات ذلك أنظر : د. غالب الداودي ، شرح قانون العقوبات-القسم العام ، ط1، دار الطباعة الحديثة-البصرة ،1968، ص298 .

9- وفقاً للفقرة (أ) من المادة (34) ق.ع. ع

10- أنظر الاستثناء من هذا الأصل في المادة 25 مرور.

11- د. عبد المهيمن بكر، القصد الجنائي ، المرجع السابق ، ص8 .

12- د. عبد الستار الجميلي ، المرجع السابق ، ص117 .

13- د. حميد السعدي ، شرح قانون العقوبات الجديد ، الأحكام العامة ،المرجع السابق ، ص232 .

14- د. رمسيس بهنام ، الاتجاه الحديث في نظرية الفعل والفاعل والمسؤولية ، المرجع السابق ، ص74 .

15- د. حسنين إبراهيم صالح ، القصد الخاص ، المرجع السابق ، ص9و10

16- د. ماهر عبد شويش ، الأحكام العامة ، المرجع السابق ، ص299 .

17- د. فخري عبد الرزاق الحديثي، شرح قانون العقوبات-القسم العام ،المرجع السابق ، ص372 .

18- د. محمود نجيب حسني ، النظرية العامة للقصد الجنائي ، المرجع السابق ، ص10 .

19- د. سمير الجنزوري ، المرجع السابق ، ص421 .

20- د. عبد المهيمن بكر، القصد الجنائي في القانون المصري والمقارن ، المرجع السابق ، ص8 .

21-د. غالب الداودي ،المرجع السابق ، ص296 .

22- د. رمسيس بهنام ، الاتجاه الحديث في نظرية الفعل والفاعل والمسؤولية ، المرجع السابق ، ص74

المؤلف : غازي حنون خلف الدراجي
الكتاب أو المصدر : استظهار القصد الجنائي في جريمة القتل العمد

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .