بحث ودراسة قانونية في مدخل إلى الفكر السياسي الغربي

الجزء الأول
إعداد وتأليف
الدكتور صلاح علي نيّوف

كلية القانون و العلوم السياسية
مدخل إلى الفكر السياسي الغربي
الجزء الأول

الموضوع الصفحة

مدخل………………………………………. ……………………………………… 11
الفصل الأول
الفكر السياسي القديم

الفكر السياسي القديم…………………………………….. ……………………… 14
أولا ـ هيرودوت……………………………. …………………………………… 15
ثانيا ـ أفلاطون ………………………………………….. ……………………… 15
أ ـ “الجمهورية” : المدينة الكاملة المؤسسة على العدالة…………………….. 16
ب ـ ما هو “السياسيّ” عند أفلاطون ؟…………………………………………. 18
1ـ الملك الراعي…………………………………….. ……………………………. 18
2ـ الملك “النسّاج”………………………………….. …………………………….. 18
3ـ الملك يحترم “مقياس العدالة”…………………………………… ……………. 19
ج ـ الأشكال المختلفة للحكومات…………………………………… ……………. 20
1ـ التيموكراثية……………………………….. ………………………………….. 20
2ـ الأوليغارشية……………………………….. …………………………………. 20
3ـ الديمقراطية………………………………… …………………………………. 21
4ـ الطغيان……………………………………. …………………………………. 21
د ـ لماذا حكومة للفلاسفة عند أفلاطون ؟………………………………………. 22

ثالثا ـ أرسطو……………………………………… ……………………………. 23
أ ـ التحليل الأرسطي أو “الأرسطوطاليسي”…………………………….. …… 23
1ـ تحليل الحقيقية هو أساسي……………………………………… ……………. 23
2 ـ مفهوم عضوي ” عضواني” organiciste……………………………….. 24
ب ـ الأشكال المختلفة للحكومة عند أرسطو…………………………………… 24
1 ـ نطاق التحليل……………………………………. ………………………….. 24
2 ـ المدينة……………………………………. …………………………,……… 24
3 ـ طبيعة السلطة…………………………………….. ………………………… 25
4 ـ المواطن……………………………………. ……………………………….. 26
ت ـ التصنيف الشكلي للدساتير…………………………………… ……………. 26
1 ـ ما هو الدستور؟…………………………………… ………………………… 26
2 ـ معايير تصنيف الدساتير…………………………………… ……………….. 27
3 ـ التصنيف الأرسطي المقترح……………………………………. ………….. 27
ج ـ التصنيف الواقعي للدساتير والأشكال المختلفة للديمقراطية………………. 28
ح ـ الشكل الأفضل للحكومة……………………………………. ………………. 29
1ـ تبني خطوة علمية……………………………………… …………………….. 29
2ـ معيار المنفعة العامة…………………………………….. …………………… 29
3 ـ سيادة القانون……………………………………. …………………………… 29
4ـ حكومة الطبقة المتوسطة…………………………………… ………………… 29
خ ـ أهمية عمل أرسطو……………………………………… ………………….. 30

الفصل الثاني
الفكر السياسي المسيحي
بين السياسة و الفضيلة
1ـ المسيحية وعلم السياسة ………………………………………….. ………… 32
2ـ بين الله والقيصر……………………………………. ………………………… 37
3 ـ الطبيعة و الإنسان……………………………………. ……………………… 41
4ـ القوانين بين السماء والأرض…………………………………….. …………. 45
5 ـ بين مملكتين……………………………………. …………………………….. 50
أ ـ النظام السياسي و النظام الروحي يجب ألا نخلط بينهما و ألا نفصلهما…..,…. 50
ب ـ السياسة هي ” فن نبيل”……………………………………… ………………51
ت ـ السياسة لديها حدودها لكن التاريخ مفتوح للفضيلة والعفو………………….. 53
6ـ تحرير الإرادة……………………………………. ………………………….. 54

الفصل الثالث
صعود الاستبدادية (الحكم المطلق) داخل الدولةـ الأمة لعصر النهضة.
أولا ـ الأصول القديمة و الوسطى لمفهوم “السلطة المطلقة” الاستبدادية……… 59
1ـ السلطة المطلقة في القانون الإمبراطوري الروماني……………………………. 59
2ـ الإرادة البابوية الكاملة……………………………………. …………………….. 59
3ـ تطبيق البابوية على السلطة الزمنية……………………………………. ………. 60
ثانيا ـ نشؤ الدول ـ الأمم……………………………………… ……………………. 60
1ـ تحالف السلطات المركزية مع القوى الاجتماعية والاقتصادية الجديدة………… 60
2ـ اختلاف الحالات في الدول الأوربية. ………………………………………….. 60

أ ـ ميكيافلي…………………………………… …………………………………… 62
ـ حياته ………………………………………….. ………………………………… 63
ـ أعماله…………………………………….. ……………………………………… 63
منهج ميكيافلي ………………………………………….. ……………………….. 63
1ـ الواقعية. ………………………………………….. …………………………… 63
2 ـ الطبيعة الإنسانية وفق ميكيافلي. ………………………………………….. …. 63
3 ـ الميكيافلية Machiavélisme………………………………. ……………… 64
4 ـ السياسة الداخلية. ………………………………………….. …………………. 65
5 ـ ميكيافلي بين الملكية والجمهورية ؟…………………………………………. …65
6 ـ ميكيافلي و القومية. ………………………………………….. ……………….. 66

ب ـ مارتن لوثر ” دولة وطنية من غير نفوذ كهنوتي”…………………………. 67

1ـ حياة وأعمال مارتن لوثر. ………………………………………….. …………. 67
2ـ الأفكار السياسية عند مارتن لوثر. ………………………………………….. … 67
ت ـ جان بودان (1529ـ 1596) ، منظر للدولة ذات السيادة…………………… 69
ـ حياته……………………………………… ………………………………………. 69
ـ أعماله…………………………………….. ……………………………………… 69
1 ـ الدولة السيادية. ………………………………………….. ……………………. 70
2 ـ استقلالية الدولة ـ الأمة بالنسبة للقوى الخارجية. …………………………….. 71
3ـ سيادة مطلقة ولكن ليست غير محدودة. ……………………………………….. 71
4 ـ النظام الأفضل: الملكية أو “الملكية الشرعية”………………………………… 73

توماس هوبز………………………………………. ………………………………. 74
حياته……………………………………… ………………………………………… 74
أعماله…………………………………….. ………………………………………… 74
1ـ حالة الطبيعة عند هوبز………………………………………. …………………. 75
2 ـ حالة الطبيعة هل هي حقيقة موجودة ؟…………………………………………. 76
3 ـ لا يوجد عدالة في حالة الطبيعة. ………………………………………….. …… 76
4 ـ مشكلة التعاقدات. ………………………………………….. …………………… 76
5ـ العقد الاجتماعي عند هوبز. ………………………………………….. ………… 77
6 ـ ” الليفياثان” Léviathan. ………………………………………….. ………… 78

خاتمة……………………………………… ………………………………………….7 9
حول الحكم المطلق أو الاستبدادي.
الفصل الرابع
التقليد الديمقراطي و الليبرالي

مدخل
1-براديغمات متعددة للنظام الاجتماعي . …………………………………….83

أ ـ مفهوم البراديغم ” Paradigme “……………………………………… …. 83
ب ـ ” البراديغمات ” الثلاث للفكر السياسي والاجتماعي الحديث …………… 83
ت ـ النظام المقدس. ………………………………………….. ……………….. 83
ث ـ الأنظمة ” الوسطى ” ما بين الطبيعي والمصطنع. ……………………… 84

2- السؤالان الأساسيان للنظرية السياسية وفق ” لورد أكتون “………….. 85

3ـ القرن السادس عشر:” المدرسة الفلسفية الثانية”،” الملكية” و الدستورية الكالفينية calviniste.
أولا ـ مثابرة التقاليد القروسطية. ………………………………………….. ………. 88
1 ـ التفسيرات القروسطية غير الاستبدادية للقوانين الرومانية والكنسية………… 88
أ ـ ” بارتول” Bartole و الحكم أو السيادة الشعبية………………………………… 88
ب ـ ” غيرسون” Gerson والتصالحية. ………………………………………….. . 89
2ـ إعادة التأكيد على الأفكار التصالحية. ………………………………………….. . 89

ثانيا ـ في أصل المذاهب الليبرالية: ………………………………………….. …….. 90
المدرسة الفلسفية الثانية، و مدرسة ” سلامونك” Salamanque…………….. 90
1ـ الكتّاب. ………………………………………….. ……………………………….. 90
أ ـ ” فيتوريا” Vitoria. ………………………………………….. ………………… 90
ب ـ ” دو سوتو” De Soto. ( 1449ـ 1560). ………………………………….. 91
ت ـ ” بيلارمين” Bellarmin. ………………………………………….. ………… 91
ث ـ “ماريانا” Mariana. ………………………………………….. ……………… 91
ج ـ “مولينا” Molina. ………………………………………….. ………………….. 92
ح ـ ” سواريز” Suarez. ………………………………………….. ……………….. 92
2 ـ مراجع المدرسة : ” التومائية” Thomisme المُجدَّدة………………………. 92
أ ـ الخصوم المستهدفون. ………………………………………….. ……………….. 92
ب ـ القواعد الفلسفية و اللاهوتية لإجابات “المدرسة”……………………………. 93

3 ـ الأطروحات السياسية. ………………………………………….. ………………. 94
أ ـ قانون الهنود. ………………………………………….. ………………………….. 94
ب ـ حالة الطبيعة،و تأسيس المجتمعات السياسية “بالتوافق”………………………… 95
ت ـ أسباب الخروج من حالة الطبيعة. ………………………………………….. …… 95
ث ـ شرعية الحالة الجديدة،”العقد الاجتماعي”…………………………………. ……. 95
4 ـ الأطروحات الاقتصادية. ………………………………………….. ……………… 96
ثالثا ـ في أصول المذاهب الديمقراطية. ………………………………………….. ….. 96
أ ـ راديكالية “اللوثرية” و “الكالفينية”، في إنكلترا واسكتلندا…………………….. 96
1ـ الدلائل التي استندت على القانون الخاص……………………………………… ….. 97
2ـ نظرية “الهيئات القضائية الدنيا”……………………………………. ……………… 97
3 ـ نظرية “الحاكم الإسبرطي”………………………………….. ……………………. 97
4ـ نظرية “المتعاهد”…………………………………. ……………………………….. 97

ب ـ “الهوغونية” الفرنسية. ………………………………………….. ……………… 98
1 ـ خصوصية السياق الفرنسي. ………………………………………….. …………….98
2ـ مؤلفات البروتستانتية “الهوغونية” الفرنسية…………………………………… …… 98

رابعا ـ الفكر السياسي للثورة الإنكليزية الأولى…………………………………….. …. 99
أ ـ النطاق التاريخي للثورة الإنكليزية الأولى وإعادة بناء البروتستانتية……………… 99
1ـ المتزمتون الصارمون Puritains. ………………………………………….. …….. 100
2ـ البرلمان. ………………………………………….. …………………………………. 100
3ـ تصاعد الصراع بين الملك،البرلمان والمتزمتين مع حكم “جاك الأول” و”شارل الأول”.. 100

ب ـ الثورة. ………………………………………….. ……………………………………….. 101
ت ـ القانون غير المكتوب Common law و “الدستور الإنكليزي القديم”……………… 102
1ـ النورمانديون و الساكسون. ………………………………………….. ……………………. 102
2ـ Edward Coke. ………………………………………….. …………………………….. 103
3ـ النتائج السياسية لمذهب “الدستور القديم”……………………………………. ……………. 104
ث ـ المستقلون و دعاة المساواة السياسية Levellers………………………………….. .. 104
1ـ أصول النقاشات حول التسامح. ………………………………………….. ……………….. 104
2ـ المشاركة الإنكليزية. ………………………………………….. ………………………….. 105
ج ـ الأفكار الدستورية عند Levellers. ………………………………………….. ………. 106
1ـ سلطة الدولة تقوم بالتوافق أو التعاقد. ………………………………………….. …………. 106
2ـ الاقتراع الوطني. ………………………………………….. …………………………….. 106
3ـ فكر الدستور المكتوب. ………………………………………….. ………………………… 106

ح ـ الجمهوريون. ………………………………………….. ………………………………… 107
1ـ المواضيع المشتركة. ………………………………………….. ………………………….. 107
2ـ الجمهوريون الإنكليز بعد عام 1660. ………………………………………….. ……….. 107

خامسا ـ جون لوك و الثورة الإنكليزية الثانية.
1 ـ مذهب الحرية في ظل القانون، “سيادة القانون”.
مدخل: السياق التاريخي. ………………………………………….. ……………………….. 110
جون لوك
حياة و أعمال……………………………………… …………………………………………. 111
أ ـ جون لوك و نظرية سيادة القانون. ………………………………………….. …………. 111
1ـ الحالة الطبيعية…………………………………… ……………………………………… 111
ـ الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة السياسية. ………………………………………….. 112
ـ الاجتماع السياسي و حماية الملكية. ………………………………………….. …………… 113
ـ حدود السيادة. ………………………………………….. ………………………………….. 114
ـ شروط قيام و تجديد العقد الاجتماعي. ………………………………………….. ………… 115
ـ مذهب الحرية برعاية القانون أو ” دور القانون”…………………………………… ……. 115
2 ـ جوهر الحرية. ………………………………………….. ……………………………… 116
3ـ جوهر القانون. ………………………………………….. ……………………………… 116
4 ـ العلاقة بين القانون والحرية. ………………………………………….. ……………… 116
ـ صفات القانون. ………………………………………….. ……………………………….. 116
2ـ تقليد النظام العفوي “الطبيعي” في إنكلترا القرن الثامن عشر……………………….. 118
( Mandeville, Hume, Smith, Ferguson, Burke ).

أ ـ Mandeville. ………………………………………….. ……………………………… 118
ب ـ David Hume . ………………………………………….. …………………………. 119
ت ـ Ferguson. ………………………………………….. ……………………………….. 122
ث ـ Adam Smith. ………………………………………….. ………………………….. 123
ج ـ Edmund Burke. ………………………………………….. ……………………….. 125
الفصل الرابع
ديمقراطيون وليبراليون في إنكلترا القرن التاسع عشر.

أولا ـ ديمقراطيون وليبراليون في إنكلترا القرن التاسع عشر……………………………. 128
1 ـ السياق التاريخي. ………………………………………….. …………………………… 128
أ ـ Bentham و الراديكاليون الفلسفيون. ………………………………………….. …….. 128
ب ـ الاقتصاديون. ………………………………………….. ……………………………… 129
ت ـ John Stuart Mill. ………………………………………….. ……………………. 131
ث ـ Herbert Spencer. ………………………………………….. ……………………. 132

ثانيا ـ التقليد الليبرالي و الديمقراطي في القرن العشرين………………………………… 134
1ـ التعددية و النظام. ………………………………………….. …………………………… 134
2 ـ دولة القانون و التعددية. ………………………………………….. ………………….. 135
أ ـ Karl Popper. ………………………………………….. …………………………… 135
ب ـ Michaël Polanyi. ………………………………………….. …………………… 136
ت ـ نظرية ” جون راولز” في العدالة. ………………………………………….. ………. 138
1ـ ما هي أهداف نظرية للعدالة ؟…………………………………………. ………….. 143
2ـ نقد النفعية. ………………………………………….. ……………………………… 144
3ـ فكرة العقد الاجتماعي عن جون راولز……………………………………… ……… 145
4ـ الخيارات الكبرى للعدالة……………………………………. ………………………. 145
5ـ المساواة الديمقراطية………………………………… ……………………………… 149
6ـ مؤسسات “دولة العناية أو الفاضلة”…………………………………… ………….. 150

الفصل الخامس
نموذج من تحليل التوتاليتارية “الشمولية”

ـ “آنا أروندت”……………………………………. …………………………………. 153
1ـ الشمولية كظاهرة جماهيرية. ………………………………………….. …………. 154
2ـ تدمير “الجماهير”. ………………………………………….. ……………………. 154
3ـ اللامبالاة. ………………………………………….. ……………………………… 155

ـ الأحزاب الشمولية. ………………………………………….. …………………….. 156
1ـ هذيان الإيديولوجيا. ………………………………………….. …………………… 156
2ـ بنية هذه الجماعات أو الطوائف الشمولية…………………………………… ……. 157

ـ السلطة الشمولية. ………………………………………….. ………………………. 158
1ـ ذوبان الدولة في الحزب. ………………………………………….. ……………… 158
2ـ مفهوم ” العدو الموضوعي”………………………………….. …………………… 158
3ـ البوليس. ………………………………………….. ……………………………….. 158
4ـ المعسكرات. ………………………………………….. …………………………… 158
مصادر باللغة الفرنسية والإنكليزية………………………………… ………………… 159

مدخل

أن نتحدث عن “تاريخ الفكر السياسي” أو عن ” الفكر السياسي الغربي”، فهذا يشكل جزءا هاما من ميدان علم السياسة، أيضا الفكر السياسي يشكل تخصصا أو حقلا علميا جوهريا في الدراسات الإنسانية والاجتماعية. من هنا نجد أن معاهد العلوم السياسية تدرس هذه المادة لأنها تساهم بقوة بالانفتاح،بالثقافة، ثم تضع أو تبني علاقة بين علوم (القانون،العلوم السياسية،العلوم الاقتصادية ،التاريخ،الفلسفة،علم الاجتماع) و المقاربات الأخرى لعلوم الإنسان في المجتمع، ومع المجتمع نفسه. “فالفكر السياسي” من دون أدنى شك، هو واحد من التخصصات “المفتاح” لتجربة أو اختبار الثقافة العامة، حيث أصبح من طقوس وشعائر امتحانات القبول في معاهد العلوم السياسية وخاصة في الدول التي تولي العلوم السياسية أهمية كبرى.

إن دراسة الفكر السياسي يمكن أن تسير وفق طريقتين،حيث كل طريقة لها مميزاتها ولها أيضا عقباتها. واحدة من الطريقتين ترتكز على تحقيق أو إتمام جمع الأفكار الكبرى و الأساسية لكل تيار أيديولوجي كبير. ومن صعوبات أو عقبات هذه الطريقة أمام القارئ أو الباحث الذي لا يمتلك منذ البداية الوسائل المطلوبة: أنها تتطلب إجراء مقارنات أو مراجع ربما لا يمكن الحصول عليها أو هي غير موجودة. أما الطريقة الثانية يمكن أن تقدم قراءة لكل واحد من الأعمال السياسية الكبرى. ولكن الخطر،في هذه الحالة،يأتي من إهمال السياق “contexte” التاريخي و الفكري الذي تم فيه إنجاز هذا أو ذاك العمل السياسي،والمعرفة وحدها هنا تسمح بوضع الأفكار ضمن رؤية واضحة. فالديمقراطية”مثلا” وفق أفلاطون ليس لها معنى إلا إذا وضعناها ضمن سياق الزمن التي وجدت فيه.أيضا نضيف خطرا آخرا، وهو عدم نقل إلا رؤية جزئية لكل مفكر.

وبما أنه لا يوجد إلا طرقا قليلة غير الطرق المذكورة، فإننا بالضرورة سنستخدمها في هذا الكتاب.فعلى المستوى التاريخي، يسعى الكتاب لتقديم المفكرين الذين طبعوا عصرهم بأفكار أو نظريات سياسية معينة وشاركوا بشكل كبير في التفكير السياسي السائد في زمنهم. أما بالنسبة للأفكار السياسية “الحديثة”، فسيحاول الكتاب التعرف عليها من خلال التيارات الإيديولوجية الكبرى.
نشير هنا إلى أن كتابا واحدا يريد دراسة الفكر السياسي الغربي لن يستطيع الادعاء بالقدرة على دراسة كل عمل سياسي لوحده وضمن فترته الزمنية التي ظهر فيها أو حتى دراسة الفكر السياسي في جميع البلدان الغربية. مع ذلك، يطمح الكتاب إلى تقديم عمل متماسك ومختصر للفكر السياسي الغربي، مؤكدا على دراسة الفكر السياسي المعاصر و الحديث من غير الإغراق كثيرا في الأفكار القديمة، وذلك نظرا للأهمية الكبيرة التي نراها في الفكر السياسي الغربي الحديث.

إذا بين طموح تقديم عمل متماسك و صعوبة الاختصار، سنلجأ إلى دراسة أهم الكتاب والمفكرين مع تحليل،قدر الإمكان، لنظرياتهم ومذاهبهم السياسية، كما أن الكتاب سيجهد في الحصول على نصوص”فكرية سياسية” أصلية تعبر عن السياق التاريخي و الفكري الذي ظهرت فيه.
كلمة لا بد من قولها هنا حول الفكر السياسي الغربي. حيث تاريخ هذا الفكر اتصف في القرون الأخيرة بظاهرة منحته نوعا من الوحدة: إنها الحداثة، ومن خلالها حقق الفكر السياسي انعتاقه بشكل تدريجي ثم بشكل واسع خاصة بعد تقديم تفسيرات وشروحات جديدة تعلق بالإنسان الذي استطاع أن يبعد الدين أو يبتعد عنه ويحول الفلسفة إلى أداة لتطوير خطاب شامل حول غايات الإنسانية النهائية، وقد رأينا هذه على سبيل المثال مع ميكيافلي في كتاباته عن “المدينة الدنيوية”.

أما السياسة أصبحت واعتبارا من القرن السادس عشر و السابع عشر تلك الكلمة أو اللحظة المليئة بالآمال في تغيير الدين بواسطة إيديولوجيات سياسية، وهذا الشكل التاريخي للفكر السياسي بدأ يحصل تدريجيا على معظم العقول مع نهاية القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين بسبب قدوم عصر الديمقراطية. بشكل محدد أكثر، في آخر قرنين انتشرت خطابات وحققت انتصارات كبيرة وتمحورت حول تيارين كبيرين: تيار الليبراليات الذي أتى بشكل سريع مصطحبا الاشتراكيات والقوميات في عملية من المنافسة والصراع للسيطرة على القلوب والعقول. والكتاب بين أيدين سيحاول الدخول في منطق هذه التغيرات و التحولات في تاريخ الفكر السياسي وهي عمليا تشير إلى استمرارية فكرية للجانب الآخر من التغييرات التاريخية. أما التراجع الحالي للإيديولوجيات السياسية فهو لم يستطع إغلاق ظاهرة الحداثة و التي تبحث عن ميادين ميثولوجية أخرى مع النظريات العلمية الجديدة. ويبقى القول بأنه على الفكر السياسي أن يجد طرقا أخرى أقل مواجهة وأكثر تواضعا، وقريبة من الحقائق العلمية الحديثة التي تشكل معطيات وقواعد علمية للتفكير الفلسفي العميق.
الفصل الأول
الفكر السياسي القديم
الفصل الأول
الفكر السياسي القديم

في البداية نستطيع القول أن العرض المختصر للفكر السياسي اليوناني و الروماني حتى بداية العصر المسيحي لا يشكل إلا فائدة نظرية/فكرية خالصة، فالمشكلات السياسية ستغطي بعد ذلك طبيعة جديدة بسبب انتشارها في فضاء جغرافي أوسع على مستوى العالم. علما أننا لا يمكن أن ننسى بأن الآمال الرومانية في الهيمنة على العالم الذي كان موجودا آنذاك ووجود سياسة يمكن أن نصفها “بالإمبريالية” تجعلنا نجري دراسات عليها أكثر معاصرة. بالمقابل، ما هي النقاط المشتركة التي يمكن إيجادها من الرؤية الأولى بين الإشكالية السياسية في “المدينة” أو المدن اليونانية،والتي كانت مسكونة ببعض الآلاف من السكان،مشغولة بالانقسامات بين الفقراء والأغنياء،و العالم الحالي ؟ وخاصة أن” أسئلتنا لا تختلف كليا عن أسئلتهم” [1] .

استبعاد ” الميتافيزيقا” نعتقد أنه أمر غير صحيح، وفي نفس الوقت التفكير حول محتوى مفهوم العدالة مازال باقيا. أيضا أي تفكير حول “الحكومة الأفضل” ربما يظهر في عصرنا أنه من الأخطاء التاريخية و أنه من غير موضوع أو أهمية بسبب الاعتراف،ومن غير اعتراض من أحد، بسيادة الشعب كأساس للسلطة الشرعية. مع ذلك،هذه التقاطعات بين الفكر السياسي القديم و الحديث يمكن أن نتفهمها بشكل أوضح إذا بدأنا دراستنا مع “هيرودوت” ،أفلاطون وسقراط، ولكن أيضا دراسة المفكرين في روما الجمهورية،هذه الدراسة ربما تؤدي إلى قناعات مختلفة على العكس من استمرارية الكثير من أنمط التفكير السياسي.

أولا ـ هيرودوت
أقدم حوار مكرس لمسألة “الحكومة الأفضل” نجده في الكتاب الثالث من ” بحث أو تحقيق هيرودوت (485 ـ 425 قبل الميلاد). وهو عبارة عن تقديم لثلاثة متآمرين على الملك المغتصب “غوتاما” أمام سبعة حكماء. الثلاثة متهمون بقتل الملك من خلال مؤامرة أحدثت نقاشا حول شكل الحكومة المستقبلي. يؤرخ هيرودوت للقصة بعد سبعين عاما من حصولها. تحدث المتآمر الأول “أوتانيس” ،وهو يرفض الملكية ويقف إلى جانب نظام شعبي،عن الفساد الذي يحدثه هذا النظام وعن أن الملوك لا يعرفون شيئا عن أمثالهم من الفقراء لأن لديهم كل شيء. ومن وجهة نظره،النظام الشعبي يتجنب الإسراف والقمع ويكرس المساواة، وأيضا هناك رقابة على القضاة. أما المتآمر الثاني “ميغابيس” في بداية حديثة دافع عن موقفه صديقه “أوتانيس” وعدائه للملكية، لكنه رفض الديمقراطية ” لأنه لا يوجد أغبى منها ولا يوجد وقاحة أكثر من مدينة متعددة”، ثم اقترح حلا بالأوليغارشية “حكومة القلة”. أما الثالث”داريوس” فكان مختلفا. فمن بين الحكومات الملكية،الأوليغارشية و الديمقراطية رأى أن الملكية وحدها هي التي تبقى بشكل مستمر بخلاف الحكومتين الباقيتين، حيث أنهما تقومان على الفساد. في النهاية، “أوتانيس” سيرفض المشاركة في أية منافسة أو صراع على السلطة حيث يفضل ألا يخضع لأحد. أما داريوس ابن “هيستاسب” Hystaspe، وبفضل حصانه وسائسه سيصبح ملكا على الفرس كما كتب هيرودوت.

ثانيا ـ أفلاطون
ولد في أثينا (426 ـ427) قبل الميلاد.ينتسب بالولادة إلى عائلة ملكية في Crodos.أما أهم أعماله فهي:نظرية المعرفة”، “نظرية الطبيعة”،” الأخلاق”،” السياسة”،”التأملات حول الدين والفن”.منذ شبابه أعلن أفلاطون رغبته بالتوجه للشؤون العامة. وقد شكل أخذ السلطة من قبل “الثلاثين” بعد وقت قصير من غزو أثينا من قبل ” ليساندر” في عام 403 قبل الميلاد أرضا خصبة لتفتح و تحقيق هذا الطموح، حيث نستطيع ومن بين الأسياد الجدد في السلطة أن نعد عضوين من عائلته :” كريتياس” و “شارميد”. بعد سقوط سلطة “الثلاثين” الدكتاتورية شعر أفلاطون من جديد أنه منجذب نحو الحياة العامة ولكن بحيوية أقل. هذه اللامبالاة أو الفتور يمكن فهمه من خلال أن وبعد أربع سنوات من قيام النظام الديمقراطي الذي حكم على سقراط بالموت في تلك المحاكمة الشهيرة.
حدد أفلاطون موت سقراط بمعنيين” : سقراط انحنى أمام القرار الذي أدانه بالموت، لقد رفض الهرب عندما جاءته الفرصة وذلك بسبب طاعته وواجب احترامه لقوانين المدينة. من هنا إنه يظهر للجميع أن الفيلسوف هو مواطن صالح بامتياز، وأن وفاءه تجاه المدينة يصل إلى حد التضحية بحياته مقابل قرار ظالم. ولكن من خلال موقفه إنه يقول شيئا آخرا: ” إنه يجسد عظمة الحياة الفلسفية، إنه يشهد بالرقي و السمو الأخلاقي”. إن عظمة الموت عند سقراط أعطت للإنسان هيبته التي بقيت واستمرت عبر العصور. لقد علمنا سقراط أن السياسة فن مُضاء بالفلسفة، منظم و مرتب باتجاه غايات و نهايات عقلية أو أخلاقية، يقاد بواسطة فضيلة التعقل و الحكمة. و يعلمنا أيضا أن الخير في السياسة يعتمد أولا على ناس خيّّرين و أنه لا يوجد أي نظام يمكن أن يسمح بتجاوز الفضيلة بالنسبة للقائمين عليه”. [2]

رأى أفلاطون أن هذه الحدث غير مشجع و أنه من غير الممكن إيجاد صديق أو أحد يمكن الارتباط به من أجل الحكم، لذلك فضل الانسحاب من ممارسة السياسة حتى يكرس وقته لاختبار الوسائل التي يمكن من خلالها الوصل في يوم ما إلى حياة أفضل. وكتب أفلاطون قائلا:” في النهاية،وفيما يتعلق بموضوع جميع الدول التي وجدت و عرفتها حتى اللحظة،أقول أن جميعها ومن غير استثناء لديها أنظمة سيئة، لأن كل شيء يتعلق بالقوانين يسير فيها وكأنه مصاب بالعضال”.

لكن التجارب السياسية السيئة لأفلاطون لا تنتهي هنا،لقد ذهب إلى صقلية،يحزوه الأمل بلعب دور المستشار السياسي عند “دونيس” Denys.ووفق أفلاطون الذي يخالف آراء المؤرخين، أدب و أخلاق طاغية “سيراكوز” Syracuse ومعه حاشيته لم تتلاءم نهائيا مع الوجود الفلسفي، وفهم بسرعة أن محاولاته لإصلاح الدولة أنها أصيبت بالفشل. إذا الحاكم “دونيس” لم يكن معجبا بالفلسفة وانتهى إلى إبعاد أفلاطون. هذه التجربة قادته لوضع أفكاره في نظرية أكثر مما قادته لوضعها في التنفيذ، وهذا عمليا أصل و مصدر كتاب “الجمهورية” الذي يعرض فيه نظامه للمدينة الكاملة.

ـ “الجمهورية” : المدينة الكاملة المؤسسة على العدالة.
كتاب الجمهورية يفتتح حول حوار،سيصل إلى مأزق، وفيه سقراط و “ثراثيماك” Thrasymaque يتواجهان حول مفهوم العدالة. وبسبب الفشل أو الوصول إلى مأزق،سقراط يقترح تغيير الطريق أو المنهج، بمعنى عدم البحث على مستوى الفرد بل على مستوى المدينة، وهذه المدينة من المفترض أن تعيد إنتاج وتوزيع العدالة الفردية على أكبر درجة أو مقياس ممكن. هذه الخطوة تعود لمصادرة هوية العدالة داخل الفرد وأيضا داخل المدينة.

اختبار تكوين المدينة قدم لأفلاطون الحلقة الأولى في منطقه.وهي الاستحالة التي بداخلها البشر يوجدون مكتفين ببعضهم وهذا ما يعطي ولادة للمدينة. استعداد وكفاءة كل واحد فيها مختلف عن الآخر،فالمنطق هنا يتكون من الاعتراف :” بأن تنفيذ المهام المختلفة يتطلب الناس المختلفين”. أما الحاجات يجب أن تكون محدودة وفق الأشياء الجوهرية، وتطور المدينة الناتج عن هذا التنظيم للمهام و الحاجات يؤدي لظهور مهنة جديدة هي الجيش، وهو ضروري لحماية المدينة من الفقراء الطامعين من مدن أخرى. وبسبب عدم كفاءة الجميع وقدرتهم على ممارسة جميع المهن، فإن هذا يفرض إعطاء مهمة الدفاع لأكثر الناس قدرة على الحرب. ونفس المبدأ يجب أن يوجه المشاركة في المسؤوليات السياسية. كذلك تطور المدينة يحدث تقسيما ثلاثيا لأعضائها: “طبقة” من الحراس تمتلك العلم المتعلق بالحكومات،”طبقة” من المحاربين لا تفتقد الشجاعة، وأخيرا “طبقة” من المنتجين،المزارعين و المهنيين. وهذه الأخيرة لا تحتاج إلى كفاءات متميزة أو خاصة. بعد تنظيم المدينة بهذه الطريقة فإنها ستتوافق مع ” الحكمة”، لأنه على رأسها يتواجد هؤلاء الذين ندعوهم من الآن فصاعدا” بالتقنيين” المتخصصين بالسلطة.

العدالة في المدينة تظهر كنتيجة لهذا التخصص الموزع على ثلاث طبقات. اختفاء إحداها أو الاختلاط فيما بينها يؤدي للخلل في التوازن أو التراتب. هذه التراتبية للطبقات والتي ترتكز عليها المدينة، يقارنها أفلاطون بأنواع المعادن الأقل و الأكثر قيمة: الذهب ( الحراس الفلاسفة و المتخصصون بالسياسة)،الفضة (المحاربين وهي مساعدة للأولى) والحديد (المزارعين والمهنيين). ضمن هذا الوضع في المدينة، العدالة ستتواجد دائما وفق جانبين : الأول،وهو أن الفرد كعضو في المدينة سيتصرف ضمن معنى العدالة وسيكون دليلا على الفضيلة المرتبطة أساسا بطبيعته.الثاني،من الناحية الفردية، كل واحد، وحتى يكون عادلا، عليه السلوك محافظا على ثلاث مهارات أو كفاءات للروح التي يمتلكها (العقل،الشجاعة،الرغبة). فالمواطن يعيش وفق الفضيلة الخاصة “بالطبقة” التي يتبع لها،والفرد يسعى و يجهد لتناغم هذه المهارات المتعلقة بروحه.

ـ ما هو “السياسيّ” عند أفلاطون ؟
إذا كان أفلاطون قد عرّف”السياسيّ” (أي ما يتعلق بالقضايا العامة) في العديد من الأعمال، إلا أنه في عمله “السياسيّ” يكرس كل انتباهه لأنه هذا الموضوع من أهم مواضيع الحوار أو النقاش عند أفلاطون.هناك العديد من التحليلات تشير إلى أن تعريف “السياسيّ” عند أفلاطون كان حجة مستخدمة من قبله من أجل تطبيق منهج الجدل وإظهار قدرات تلاميذه. في الواقع هذا التفسير ليس مقنعا لأنه يمكن أن يستخدم لعدة حوارات في داخلها الموضع الخاضع للنقاش هو مدروس وفق قواعد وطريقة جدلية.”السياسيّ” عند أفلاطون مقسم إلى ثلاثة أجزاء : تعريف الملك “كراعٍ” ونقد هذا التفسير،نموذج الفن الملكي أو السياسي،ثم تعريف “السياسيّ”.

1ـ الملك الراعي.
من أجل تعريف السياسيّ، لا بد من معرفة الإنسان السياسي أو الملكي. ومن خلال تطبيق المنهج الجدلي، أفلاطون ينطلق من فكرة أن الملك هو تقني ويحدد تقنيته أو علمه من خلال منطق أو برهان يستند على سلسلة من التفرعات أو الانقسامات: العلم الملكي ليس عمليا بل نظريا،ليس نقدا بل تعليمات،إنه يقود وفق سلطته الخاصة وليس بسلطة مستعارة ،هو من يكون فاعلا وليس منفعلا والذي لا يعيش وحيدا بل في جماعة. ” الملك ليس فقط راعيا، لأنه يختلف عن ذاك الذي يقود قطيعا من الحيوانات، وليس أيضا راعيا على الطريقة الدينية “قسا”، لأنه لا يمكن أن يخلط في مهامه مع الآلهة التي تقود الإنسان،وأخيرا، بل إنه “راعي إنساني”، ولكن لا بد أيضا من التفريق هنا في الطريقة التي تستخدم فيها هذه الرعاية أو العناية،بمعنى هل هي مفروضة أم مقبولة من جانبه و بمشيئته، فعندما تمارس هذه العناية بالقوة فإنها تتحول إلى طغيان، وعندما تكون مقبولة من المدينة فإنها تسمى سياسة”. [3]

2ـ الملك “النسّاج”.
يأخذ أفلاطون تحليله من صورة النسّاج أو الحائك. وهنا لا بد، ونحن نطبق المنهج الجدلي، من فصل الأشياء المجزأة حتى لا نحتفظ منها إلا بما هو دقيق ويسمح بتقدم البرهان والمنطق. أفلاطون برغبة كبيرة يميز ويفرق بين جميع العناصر و الأدوات التي تتدخل في عملية النسج و يصل إلى نتيجة بأن فن النسج هو على صورة فن السياسة. ورجل السياسة يشبه النسّاج، عليه قص الخراف،تنظيف الصوف،حلجه،صنع الخيوط، ثم إنشاء النسيج، وعند رجل السياسة إنشاء النسيج الاجتماعي.

3ـ الملك يحترم “مقياس العدالة”.
مشكلة “السياسيّ” تقود عند أفلاطون إلى تعريف “الزعيم” أو القائد.فقد كان من السهل عند أفلاطون إبعاد ومن “السياسيّ” كل الذين يمارسون مهاما متدنية، مثل الإنتاج،الرهبان،الموسيقيين و الممثلين. بالمقابل،كان من المتعب لديه تمييز الإنسان السياسي أو الملكي عن السياسيين العاديين. وحتى وصل إلى هذا الشيء،أفلاطون اعتمد تحليل مختلف التكوينات السياسية. ( نعود إليها في مراحل متقدمة). وفي كتابه “السياسيّ” أفلاطون يصر على أهمية احترام “مقياس العدالة”، هذا المقياس لا يمكن معرفته إلا من قبل المشرعين الكبار.

وفي كتابه “القوانين”، يرى أفلاطون أن هذا “المقياس” يجب أن يكون متاحا للجميع ومن خلال كل واحد يستطيع الحصول على المساواة في العدالة، وهذا يساعده في الهروب من نزوات الطغاة، أو يحصل على “المميزات” الأرستقراطية، وهنا نصل إلى نقطة في غاية الأهمية للفلسفة الأفلاطونية، حيث المساواة ليس مرادفا للهوية بل هي نسبية. وفيما يتعلق بالعدالة السياسية، “المقياس” يتحدث عن “ضمان،وبين ناس غير متساوين، مساواة معرّفة من خلال طبيعة كل فرد”. وفي الحقيقة هذا يقود أفلاطون وفي الجزء الأخير من كتابه “السياسيّ” إلى معارضة المساواة بالقوة التي تفرض عن طريق القوانين، ويتحدث عن المساواة المرنة والأكثر عدالة والتي يضمنها ملك يعرف أن يتبنى حلا وفق الحالة لكل شخص أو فرد، ولكن أفلاطون يعترف أن هذا الشيء لا يمكن أن يكون محققا إلا بشكل استثنائي وأن تطبيق القانون يحدث شرا أقل من عدم تطبيقه.
إذا وكما يظهر فإن تحقيق أو البحث عن المساواة هو الموضوع الأساسي “للسياسيّ”. ويمكن إكماله عن طريق “مقياس العدالة” و الذي يستطيع أن يفرض اعتدالا و توازنا. ضمن هذه النظرة وصرة النسّج عند أفلاطون تأخذ معناها الكامل: فمن أجل نسج مدينة،النسّاج الملك عليه مرة رفض العناصر الملوثة،ثم شبك الخيوط مرة بشكل مسالم ومرة بشكل محارب. التعليم أولا ومن ثم التزويج، إنها العوامل الكبرى لهذه الفرضية. ” ليس فقط في المدينة، بل في داخل قوادها أو قائدها يجب أن يتحقق هذا التحالف أو الحبك بين الاعتدال و الطاقة”.[4]

ـ الأشكال المختلفة للحكومات.
قدم أفلاطون تحليلا لمختلف الحكومات القائمة والتي كانت من قبله خاصة تلك التي عرفها من خلال تجربته الشخصية، من خلال الترجمة أو المعطيات التاريخية، وأخيرا من خلال فلسفته وتفكيره. وصف مختلف هذه الحكومات مبينا مميزاتها وعيوبها، وأخذ بالحسبان الفكرة الهامة التي ذكرها في كتابه، وهي أن تنظيما جيدا للمدينة يجعل الناس أكثر سهولة و جودة من الناس الذين يعيشون في مدينة تحكمها حكومة سيئة، وأنه لا يوجد حكومة جيدة مع الناس الذين لا يتمتعون بالفضيلة. يقسم أفلاطون الحكومات إلى أربعة أشكال رئيسة :التيموكراثية،الأوليغارشية،الديمقراطية والطاغية.

1ـ التيموكراثية.
يتصف هذا النوع من الحكومات بما يسمى “مفهوم الشرف”. فالدولة التيموكراثية تعرّف من قبل أفلاطون من خلال التحليلين التاليين: الزعماء أو القواد يستفيدون أو يحصلون على تقدير كبير من قبل الجسم الاجتماعي، أما المجتمع هو مقسوم إلى طبقات مغلقة كل منها متخصصة في ممارسة خاصة للوظيفة التي أسندت إليها. [5] هذه الطبقات هي : المحاربون،الكهنة،المنتجون والتي تمارس باحترام مهمات القيادة و حماية المجموعة. النظام التيموكراثي الذي تحدث عنه أفلاطون وجد بشكل فعلي في عملية تنظيم السلطة في اسبرطة والتي أعجب بها كثيرا. وقد اعتبر أفلاطون هذا الشكل من الحكومات بأنه جيد بسبب ارتكازه على مبادئ يعتبرها عادلة وتحترم تخصص كل مجموعة في ممارسة وظيفة محددة.

2ـ الأوليغارشية.
وهي شكل من الحكومات مؤسس على التعداد، حيث الأغنياء يقودون و الفقراء ليس لديهم حصة في السلطة. [6] ووفق تعريف أفلاطون فإن المعيار المحدد لهذه الحكومة هو الغنى،ضمن هذا المعنى الحكم يمارس من قبل الأشخاص الأكثر غنى و الذين سيحكمون بشكل طبيعي من أجل استخدام السلطة لزيادة غناهم بشكل أكبر. الغنى هنا يعتبر الفضيلة الاجتماعية الأساسية وهي تدخل في تناقض مع القيم الأخرى ولاسيما الفضيلة.
ومن المنطق أن نختم الحديث عن الأوليغارشية بالقول أنها لا تستطيع أن تكون نظاما أو شكلا جيدا للحكم كما رآها أفلاطون لأن الفضيلة و الممارسة الفاضلة للوظائف الموزعة هي المعيار للحكومة العادلة وهذا لا يمكن أن يتصالح مع منطق الغنى. إذا الأوليغارشية هي معتبرة من قبل أفلاطون بأنها شكل سيء للحكومة لأنها تهدد بإنهاء وحدة المجتمع وبإمكانية الحفاظ عليها. وهنا في الواقع نرى تعبيرا في غاية الأهمية عند أفلاطون وهو أساسي في فلسفته السياسية أي عندما يقول “بأن وحدة المجتمع هي الهدف الأساسي الذي يجب أن يتابع عندما نؤسس حكومة و أن القدرة على الحفاظ عليها هي معيار هام لقيمة الحكم،وكل شيء يساهم في تقسيم المجتمع هو شر، وكل شيء يساند وحدته هو خير”.

3ـ الديمقراطية.
في فكر أفلاطون الديمقراطية لها معنى مختلفا عن المعنى الذي نعطيه لها اليوم. الديمقراطية هي حكومة الفقراء ضد الأغنياء أي هي حكومة العدد الأكبر لأن الغالبية في المجتمع هم من الفقراء. ومع الديمقراطية نكون بعيدين جدا عن حكومة تهدف إلى الحرية وتحقيق المساواة الممكنة بعكس تعريف الديمقراطية اليوم. ونأخذ هنا نصا من كتابه “الجمهورية” يتحدث فيه عن الديمقراطية:” الديمقراطية تقام عندما الفقراء المنتصرون على أعدائهم يسحقون هؤلاء والآخرين ويتقاسمون من جهة أخرى مع من تبقى، الحكومة و التشريع أو القضاء”. و الديمقراطية وفق أفلاطون هي نظام مدان لعدة أسباب: أولا، الديمقراطية هي شكل سيء للحكومة حيث أنها لا تحترم التخصص الضروري لمختلف الفئات الاجتماعية في ممارستها لوظائفها المحددة. وثانيا، الديمقراطية تشكل أو تؤدي لاستمرار الصراع بين الأغنياء والفقراء،وهذا أيضا كما في النظام الأوليغارشي يهدد وحدة المجتمع. ثالثا وأخيرا،أفلاطون يدين الديمقراطية لأنها بالضرورة النظام الذي يعطي مميزات لعديمي الكفاءة والمؤهلات.

هذا النقد للديمقراطية يظهر غريبا بالنسبة لنا ولمن يحمل في ذاكرته صورة جميلة عن أثينا، أم الديمقراطية، والتي أثنى عليها كتاب عاشوا في ذاك العصر ويعيشون اليوم.أثينا كانت بحق مغامرة الديمقراطية، عاشتها عشرات السنين وحققت بفضلها أشياء كثيرة.

4ـ الطغيان.
إنها الحكومة التي يديرها شخص واحد لا يخضع ولا يحترم القانون. هذا النظام مدان بشكل كبير من قبل أفلاطون. وأكبر أخطاء هذا النظام أنه يخضع لإرادة وقيادة فرد واحد في إصدار أو توقيف القرارات إذا بعد كل هذه الصفات هو نظام بعيد عن الفضيلة. بالإضافة لذلك نظام الطغيان هو نظام خطر حيث أنه لا يترك إلا مساحو صغيرة جدا للعقل ويرتكز بشكل واسع على ممارسة العنف من أجل فرض إرادة الطاغية. ويقول أفلاطون:” إن الطاغية سيمكنه الخروج من حالة الطغيان إذا كان من حوله حكماء وفلاسفة يقودونه إلى الطريق الصحيح للحقيقة”. في الواقع ما يقوله أفلاطون هنا يذكرنا بالمشكلة الأبدية في العلاقة بين “المثقف” والسياسة، والتي وضع لها “ماكس فيبر” نظرية معروفة ومازالت موجودة و بقوة حتى اليوم. كما أن الأمثلة كثيرة على هذه العلاقة عبر التاريخ: فقد حاول أفلاطون لعب هذه الدور مع حاكم “سيراكوز”، وكذلك فعل أرسطو في محاولة تعليمه لتلميذه “الكسندر الأكبر”، وأيضا في مثل ليس بعيدا عنا وهي العلاقة بين “فولتير” و فريدريك الثاني.في النهاية، أفلاطون يعتبر الطغيان نوعا سيئا للحكم وللسلطة لأنه لا يخضع للفضيلة. ومن جهة أخرى، نظام يهدد بانقسام المجتمع وعامل للصراع في داخله.

ـ لماذا حكومة للفلاسفة عند أفلاطون ؟
1ـ الفيلسوف يعرف الحقيقة: معرفة الحقيقة وفق أفلاطون هي شيء صعب.فهي تفترض اختيارا قاسيا وتكوينا للعقل والروح عند الإنسان خلال سنوات طويلة. والفيلسوف ليس فقط مفكرا يهتم بالقضايا المجردة،فهو يمكن أن يكون عسكريا ويواجه كل صعوبات الحياة اليومية.
2ـ الفيلسوف ـ الملك يحكم وفق العدالة: حومة الفلاسفة التي يقترحها أفلاطون ليس حكومة العلم ولكن حكومة “الحقيقة” وحكومة العدالة. وفقط الناس العادلون و الفضلاء يستطيعون ممارسة الحكم.
في النهاية نستطيع القول أن فكر أفلاطون هو من أكبر الأعمال الفكرية في تاريخ الإنسانية[7].حيث العمق في التفكير والاتساع في التحليل.لا يتوقف الإعجاب بأفكاره من قبل القراء.

ثالثا ـ أرسطو
أحد أكبر و أهم مؤسسي الفكر السياسي الغربي. كتابه الشهير “السياسة” الذي كتب قبل خمسة وعشرين قرنا، في غناه وتحليلاته و نتائجه حول طبيعة السلطة السياسية، أيضا تأثيره الكبير الذي استمر حتى اليوم،سيكون محور حديثنا عن الفكر السياسي عند أرسطو.ولكن معرفة الأحداث الهامة في حياة أرسطو هي مهمة من أجل فهم عمله الشهير هذا،فمن جهة،أرسطو طور منهجه في التحليل انطلاقا من خبرته الشخصية،ومن أخرى، أقام فكره السياسي على ملاحظة الحقيقة “اليونانية” في زمنه.

ولد أرسطو في Stagire عام 383 قبل الميلاد، والده كان طبيبا للملك.ولكن الطب لم يكن علما بل فنا انتقل من الأب إلى ابنه. ولكن بما أنه ولد في Stagire هذا الشيء جعل منه دخيلا في أثينا.إذا لا يستطيع المشاركة في الحياة السياسية للمدينة لذلك التزم بالمراقبة والتنظير في هذا المجال.درس أرسطو على يد أفلاطون في أثينا حيث كان “للأكاديمية” الأفلاطونية مكانة كبيرة جذبت الكثير إليها ومن مختلف مناطق اليونان القديمة. غادر أثينا إلى طروادة بدعوة من “Hermias” طاغية ” أرتارني”. أسس فيها أرسطو مدرسة أفلاطونية وحاول أن يلعب دور المستشار عند هذا الطاغية كي يؤثر على قراراته السياسية.فشل في مهمته فغادر إلى “ليسبوس”وأسس مدرسة جديدة.

تأثرت أولى أعماله بأفكار أفلاطون،فنشر العديد من الحوارات ضمن الشكل الذي استخدمه سابقا أفلاطون، حول المشاكل السياسية.من بين هذه الأعمال “الحوارات” نجد: “السفسطائي”، “النبل”، “التعليم”، و “الصداقة”. أما كتاب “السياسة” هو المؤلف الأهم عند أرسطو.الكتاب يتألف وفق الشكل التالي : في الكتاب الأول،أرسطو يدرس تنظيم البيت ويحاول اكتشاف الأشكال الأساسية للحياة الاقتصادية،الاجتماعية والسياسية، إذا نقطة البادية تكون من محيط عائلي. في الكتاب الثاني يدرس الأشكال المختلفة للحكومة،وفي الثالث يقدم نظرية الدستور ويقترح تنظيما أو ترتيبا لمختلف أشكال الحكم، في الكتب الرابع،الخامس والسادس يحلل الأشكال المختلفة للأوليغارشية،الديمقراطية و لما سماه”politie” وهو شكل الحكومة الذي يفضله كما سنرى.

1ـ التحليل الأرسطي أو “الأرسطوطاليسي”.

أولاـ تحليل الحقيقية هو أساسي.
التكوين الطبي الذي عرفه أرسطو أثر تكوينه الفكري.حيث يطبق أرسطو السياسة على نفس المنهج الذي يحلل به علم الأحياء أو البيولوجي،وهنا يقول أرسطو:” في الواقع وكما في الحقول الأخرى،إنه من الضروري تجزئة المركب إلى أصغر عناصره الممكنة،كذلك حيث أننا نعتبر العناصر في المدينة أنها مركبة،سنرى بشكل أفضل إن كانت هذه العناصر تمتلك مفهوما علميا” [8]. ومن الضروري الانطلاق من الأكثر سهولة إلى الأكثر عمومية وشمولا، وبعد ذلك تحليل الأشياء الأكثر تعقيدا. وعمليا هذه الطريقة أو المنهج سنراه عند ديكارت في عمله ” مقال أو حديث في المنهج”. وبالنسبة لأرسطو بتطبيقه هذا المنهج فإنه ينطلق من الفرد ثم إلى العناصر الأكثر تعقيدا: العائلة،القرية ومن ثم المدينة.

ثانيا ـ مفهوم عضوي ” عضواني” organiciste.
أرسطو لديه مفهوما عضويا للمجتمع،إنه يقارن المجتمع بجهاز عضوي يعيش بفضل التعاون بين مختلف الأعضاء حيث أن العناصر المركبة للجهاز ليس لديها مصلحة إلا ضمن مقياس تكون فيه مرتبطة بالكل”الجهاز”. ويرى أرسطو المدينة أنها تشبه العائلة و القرية والتي لا تستطيع العيش بشكل معزول،هذا يعني أن المدينة تشكل وحدة يمكن أن تعيش بشكل مستقل عن الآخرين،والتي لديها منطقها الخاص،حاجاتها ووسائلها.من هنا “مدينة” أرسطو تشبه الدولة ولكن لا يمكنها أن تختلط معها.إذا يوجد اختلاف في الطبيعة بينهما،بين المدينة والدولة، اختلاف على أساس جغرافي ووظائفي يتعلق بالمؤسستين.

2ـ الأشكال المختلفة للحكومة عند أرسطو.

أ ـ نطاق التحليل.
استخدم أرسطو التحليل العلمي للوقائع السياسية بفضل التجربة السياسية التي حصل عليها بصفته مستشارا “سياسيا”. ومن أجل القيام بتحليله عرّف أرسطو وبدقة النطاق أو المحيط الذي بداخله تطور تفكيره، أو ما يمكن أن نطلق عليه “نطاق التحليل” أو “المعطيات الأساسية”.

أولا ـ المدينة.
من خلال الوقائع السياسية التي عاشها أرسطو في زمنه نراه يعالج ويحلل موضوع “المدينة” كوحدة أساسية للتحليل. والمدينة بالنسبة له ليست مخلوق إنسانيا،بل إنها معطى طبيعيا:” إنه من الواضح أن المدينة هي حقيقة طبيعية وأن الإنسان هو بالطبيعة كائن موجه للعيش في مدينة”.بمعنى آخر، أن أرسطو يرى وجود سابقا للمدينة على الفرد.فالمدينة موجودة في الطبيعة نفسها والإنسان هو عنصر،من غيرها، لا يستطيع العيش. أيضا يظهر أرسطو وكأنه فيلسوفا غير فردي individualiste،وهو واضح جدا في هذه النقطة :”الإنسان الذي لا يستطيع العيش في جماعة أو الذي لا يحتاج إليها نهائيا لأنه يكتفي بنفسه،لا يشكل جزءا من المدينة، إذا إما هو وحش أو إله”[9]. وبالنسبة لأرسطو المجتمع هو تعددي بالطبيعة.بينما نجد عند أفلاطون أن “الوحدة” يجب أن تطبع المدينة بطابعها وأية قطيعة في هذا المجال هي تراجع يحدث تأخرا وانحلالا في المجتمع ككل. بالإضافة لذلك، أرسطو يقبل بأن “المدينة” مركبة من عناصر مختلفة ولكنه يعتبر أنها ليس لديها حظ أو فرصة بالحفاظ على تنوعها إلى بشرط من خلاله كل جزء أو عنصر يكون ليده مصلحة بالبقاء، وبالنتيجة، سيكون هناك إرادة بضمان الاستمرار والديمومة.

ثانيا ـ طبيعة السلطة.
يتناول أرسطو هذا الموضوع من خلال معرفة إذا كانت السلطة “كلا واحدا” في طبيعتها أم هي متعددة.أرسطو يعترض كليا على المفهوم القائل “بوحدة طبيعة السلطة”. ومن هنا يوجه انتقاداته للأطروحات التي تدافع عن “وحدة السلطة” كما نراه في النص الأرسطي التالي:” البعض يعتقد بوجود علم أو معرفة، إنه سلطة السيد و هي نفس الشيء بالنسبة لرب العائلة، السيد،رجل الدولة و الملك…والبعض الآخر، يرى أن سيطرة وهيمنة السيد هي ضد الطبيعة،في الواقع إنه القانون هو الذي يجعل هذا عبدا وذاك حرا؛وفي الحالة الطبيعة لا يوجد فرقا،كذلك التسلط ليس عدلا لأنه عنيف”[10] . أرسطو لا يعتقد بأن السلطة “واحدة” لأنه إذا وجد خضوع لشخص ما في أية علاقة من علاقات السلطة، طبيعة هذا الخضوع هي مختلفة وفق الظرف الذي يكون قائما.إذا نظرية وحدة السلطة هي زائفة لأن كل أشكال السلطة لا تطبق بشكل واحد على نفس الأشخاص ولا تستخدم جميعها نفس النهج أو الطريقة.

بالمقابل،الفكرة القائلة أن السلطة ليس لديها طبيعة واحدة هي صحيحة ولكن العرض الذي يسمح بالوصول لهذه الخلاصة ليس مرضيا بشكل كلي.في الواقع، ومن أجل أن يكون هذا العرض مقنعا،يحاول أرسطو توضيح لماذا السلطة الممارسة على الناس الأحرار و المتساوين هي مختلفة بالوسائل المستخدمة عن تلك السلطة التي تمارس داخل العائلة، أو بشكل خاص على العبيد. تعريف طبيعة السلطة السياسية، كسلطة مختلفة عن الأشكال الأخرى للسلطات، هو من المشاكل الأساسية للنظرية السياسية والإجابة المقدمة من أرسطو هي عنصر خاضع للنقاش كما يمكن مقارنتها مع الحلول الأخرى التي اقترحت من قبل آخرين.[11]
، المرجع السابق، صفحة 35. Dimitri Georges Lavroff ـ
ثالثا ـ المواطن.
وفق أرسطو المواطن ليس بالضرورة أن يعرّف أو يوصف من خلال إقامته في إقليم محدد. حيث يوجد أشخاص يقيمون في إقليم معين ولا يتمتعون بصفة مواطن، وهذا هو وضع العبيد أو الأجانب في اليونان القديم. لذلك يقترح تعريفا إيجابيا. المواطن يعرّف بداية من خلال المشاركة في ممارسة وظائف القاضي والقضاء. وهنا أرسطو يسند في مرجعية التعريف إلى أوضاع المواطنين في المدن اليونانية القديمة وخاصة في أثينا. أيضا القدرة على التصرف و التحرك ضمن الأجهزة السياسية والقدرة في الحصول على العدالة هي عنصر مهم من وضعية المواطنة. ونكمل ذلك بصفات أخرى للمواطنة عند أرسطو، حيث يقترح الحل التالي:” أيا كان لديه الإمكانية بالمشاركة في السلطة التنفيذية أو القضائية؛نستطيع القول إنه مواطن في هذه المدينة”[12]

ب ـ التصنيف الشكلي للدساتير.

أولا ـ ما هو الدستور.
يعرّف أرسطو الدستور في أجزاء متعددة من مؤلفه وهذه التعريفات ليست جميعها متشابهة. بداية، الدستور هو ” تنظيم مختلف الهيئات القضائية في المدينة وبشكل خاص تلك التي تضمن السلطة السيادية في كل مكان،وفي الواقع، الحكومة تمتلك السلطة العليا في المدينة،ومن هنا،الدستور هو الحومة” [13]. هذا التعريف يعطينا مجموعة من الملاحظات: حيث نرى أنه يستند إلى تنظيم الهيئة القضية كمرجع للتعريف. وفي نفس الوقت هو يشير إلى الأخذ بالحسبان للسلطة العليا كسلطة بيد الحكومة، وهنا أرسطو يشابه بين الدستور والحكومة.

يعطي أرسطو تعريفا آخر للدستور:” الدستور،في الواقع،هو تنظيم السلطات في المدينة،مثبتا شكل وطريقة الفصل بينها وطبيعة السلطة السيادية في الدولة ثم الحياة الخاصة لكل جماعة”[14] . هذا التعريف يستند على فكرة أن الدستور يتعلق مباشرة بالتنظيم و فصل السلطات السيادية داخل المدينة. طبعا التعريف الثاني للدستور مع بعض التغييرات البسيطة يمكن تبنيه في عصرنا الحالي، وهنا تكمن عظمة هذا الفكر السياسي الأرسطي الذي لم يتغير عبر العصور.

ثانيا ـ معايير تصنيف الدساتير.
رأينا ووفق تعريفات أرسطو أن الدساتير متنوعة جدا.ولكن بالنسبة له، يوجد معيارا عاما يتكون من عنصرين أساسيين :
1ـ عدد الحكام :” بما أن الدستور والحكومة يشيران إلى نفس الشيء وأن الحكومة هي السلطة صاحبة السيادة في المدن،هذه السيادة هي إما فرد واحد،جماعة صغيرة أو مجموع المواطنين”.
2ـ البحث عن المصلحة العامة: فعند أرسطو لا بد من التمييز بين الدساتير التي هي صحيحة:”هذا يعني الدساتير التي فيها الحكومات تبحث عن تحقيق المصلحة العامة”، والدساتير الناقصة:”والتي تتصف بممارسة السلطة من أجل تحقيق مصالح مجموعة صغيرة”.

ثالثا ـ التصنيف الأرسطي المقترح.
من خلال تطبيق المعايير السابقة يضع أرسطو التصنيف التالي والذي يسميه ” الأشكال النقية أو الصافية”:
1ـ الحكومة التي يديرها فرد واحد، والتي تتطابق مع الملكية، حيث يوجد نظام ملكي يهدف لتحقيق المصالح العامة.
2ـ حكومة بعض الأفراد، وهي الأرستقراطية، وفيها نجد قبولا ” إما لأن الأفضل هم في السلطة، أو لأن سلطتهم تهدف إلى تحقيق أكبر نفع ممكن للمدينة ولأعضائها”.
3ـ الشعبية أو الجماهيرية، “وتوجد عندما الأغلبية في المدينة تحكم من أجل المنفعة العامة”.

إلى جانب هذه التصنيفات “النقية” نجد عند أرسطو التصنيفات التي يسميها “الفاسدة”، وهي تقوم على دساتير يعود الحكم فيها لمجموعة تتصرف وفق مصالحها الخاصة وهي :
1ـ الطغيان، وهو الشكل الفاسد للملكية ويتصف بممارسة السلطة من قبل شخص ولمصالحه الشخصية.
2ـ الأوليغارشية، وهي تشويه للأرستقراطية، حيث حكومة يترأسها الأغنياء يعملون لمصلحتهم.
3ـ الديمقراطية، وهي الشكل الفاسد “للجماهيرية أو الشعبية”، حيث يوجد حكومة فيها أكبر عدد ممكن من الشعب،ولكن تمارس سلطتها لمصلحة الفقراء والذين هم أكثر عددا وليس للمصلحة العامة كما هو الحالة في الحكومة الشعبية.

ت ـ التصنيف الواقعي للدساتير والأشكال المختلفة للديمقراطية.
أدخل أرسطو معيارا يرتكز على التركيب الاجتماعي للجماعات التي تحكم، وعلى المشاركة لكل من هذه المجموعات في ممارسة السلطة. ويقصد هنا تصنيف للدساتير الاجتماعية.

الأشكال المختلفة للديمقراطية.
أدخل أرسطو معيارين إضافيين على نموذج الحكم الشعبي “النقي” وهما :طرق الحصول على السلطة والوضعية المهنية المسيطرة داخل هذه الأنظمة. وفق أرسطو يوجد خمس طبقات اجتماعية أساسية وهي : المزارعون،الحرفيون،التجار،العمال المأجورون، العسكريون. عندما تمارس السلطة من قبل فئة من هذه الفئات الاجتماعية سنكون أمام شكل خاص من الديمقراطية. يعرّف أرسطو هذا الشكل كالتالي:”شكل آخر للديمقراطية هو المشاركة للجميع في الهيئات القضائية،بشرط واحد هو أن يكونوا مواطنين ولكن من غير حكم للقانون”. وفي النهاية نجد شكلا آخرا للديمقراطية عند أرسطو،ويتصف بوجود جميع الشروط السابقة ولكن مع اختلاف هو أن السلطة تعود للجماهير الشعبية وليس للقانون.

هناك تصنيف يعتمد الفئات الاجتماعية المسيطرة، ويميز فيه أرسطو ثلاثة أشكال أساسية للديمقراطية: أولا، ديمقراطية تصنف بالريفية، وفيها “الزارعون و المالكون لميزانية متوسطة يسيطرون على السلطة العليا للدولة”.ثانيا، “ديمقراطية” فيها:” جميع المواطنين لديهم الحق في المشاركة باتخاذ القرار ولكن يحق فقط لمن لديه وقت فراغ أن يحصل على هذا الحق”، وبالطبع الأغنياء هم أكثر الناس حصولا على هذا الوقت.ثالثا، ديمقراطية الجماهير الشعبية.كل المواطنين يشاركون في الحكم”إنها الجماهير الفقيرة التي تحكم وليس القانون، وهي تسيطر على السلطة العليا للدولة”.

ث ـ الشكل الأفضل للحكومة.

1ـ تبني خطوة علمية.
يقد أرسطو في هذا المجال أفكار لم تعرف من قبله،إنه يتبنى خطوة علمية و يعرّف موضوع علم السياسة كذلك الدور الذي يقوم به المتخصصون في هذا العلم:” إذا وبشكل واضح،وفيما يتعلق بالنظام السياسي أيضا، إنه يعود لنفس العلم اختبار ما هو الشكل الأفضل وأي نوع يجب أن يكون عليه حتى يقدم أو يستجيب لاحتياجات الناس، وما هو الشكل الذي يتوافق مع هذا أو ذالك الشعب،لأنه الكثير من الشعوب ليس باستطاعتها الوصول إلى النظام الأفضل،الهيئة القضائية الجيدة أو إلى رجال دولة حقيقيين”.[15] يطرح أرسطو ثلاثة قواعد جوهرية :الأولى،وهي أن نحاول تعريفها بشكل ذهني مجرد،أي شكل ممكن للحكومة سيكون أفضل ونحن نعرف أن هذا التعريف الذهني المجرد لا يمكن تحقيقه إلا في شروط أهما عدم وجود عناصر خارجية. الثانية، محاولة اكتشاف أفضل الأشكال للحكومة بالنسبة لشعب محدد.الثالثة،يجب أن نجهد لكي نعرف ما هي الوسائل التي تسمح بالاحتفاظ و لأكبر فترة ممكنة بالشكل الحكومي الذي نعتبره الأفضل في خياراتنا.

2ـ معيار المنفعة العامة.
يقول أرسطو:” إنه من الواضح أن جميع الدساتير التي لديها رؤية للمنفعة العامة هي صحيحة من منظار العدالة المطلقة؛أما الدساتير التي لا تهدف للمصلحة العامة فهي فاسدة،وهي منحرفة عن دساتير صحيحة”. [16] إذا البحث عن تحقيق المنفعة العامة هو معيار جوهري نقيم من خلاله النظام السياسي.

3 ـ سيادة القانون.
يعتبر أرسطو أنه لا يوجد حكومة جيدة ممكنة إذا كنا لا نستطيع ضمان سيادة القانون:” القوانين،وبشرط أن تكون موضوعة بشكل صحيح،عليها أن تكون ذات سيادة،فعندما القضاء لا يستطيع اتخاذ القرار بشكل سيادي، القوانين ستكون عاجزة عن القرار في مسائل محددة”.[17]

4ـ حكومة الطبقة المتوسطة.
في تحديده لمعيار الحكومة الجيدة،أرسطو يتبنى مفهوما واقعيا وليس مثاليا كما كان من قبله،إنه لا يبحث عن تعريف الدستور الأفضل “كأولوية” أو وضعه وفق مبادئ فلسفية معتبرة كقواعد أساسية. ما هو مهم لديه،وقبل كل شيء،هو الوصول إلى وضع :” شكل أو منهج للحياة حيث معظم الناس يستطيعون العيش بشكل مشترك،ودستور يتم تبنيه من معظم هؤلاء”. ” الحياة الأفضل هي تلك تشكَّل من خلال شيء وسطي، وهذا الشيء الوسطي يوضع في التنفيذ من خلال الطبقة الوسطى”. ففي المدينة يوجد ثلاث طبقات اجتماعية : الأشخاص الأكثر غنى،الأكثر فقرا، و “الأشخاص في الوسط بين الطبقتين السابقتين”.

ج ـ أهمية عمل أرسطو.
العمل السياسي لأرسطو “كتاب السياسة” هو الأكثر تأثيرا، والأكثر عمقا واستمرارا عبر التاريخ. في العصر الروماني،أطروحات أرسطو أثرت على أكبر المنظرين الرومان، مثل Polybe و Ciceron ،واللذان اعترفا بضرورة الأخذ بالتحليل الأرسطي لنماذج الحكم أو الأنظمة السياسية. فيما بعد وفي العصر الوسيط،كان أرسطو المرج الدائم فجملة ” كتب أو قال أرسطو” كانت موجودة و مستخدمة من قبل معظم الكتاب. أيضا حضرت أفكار أرسطو في عقول وقلوب فلاسفة السياسة في عصر الأنوار. بالمقابل،خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين تم إهمال الفكر الأرسطي. طبعا هذا لم يستمر طويلا،حيث النظريات الحديثة لعلم السياسة، كما “الوظيفية” مثلا، أخذت أيضا من مناهج و أفكار الأرسطية. إذا “كتاب السياسة” كتاب يفتن القارئ ويذهله كونه تحدث عن قضايا كثيرة نعيشها اليوم،وكونه مصدرا عظيما للفكر الإنساني.

أعمال حول فكر أرسطو بالفرنسية و الإنكليزية.
BARKER,E. ,Greek Political Theory, Aristotle and his successors, London, Methuen, 1918.
CLOCHE, P., La démocratie athénienne, Paris Beauchesne, 1932.
DEFOURNY , M., Aristotle, Fundamental of his Development, 2e ed. Oxford, Clarendon Press, 1970.
NEWMAN, W.L, The Politics of Aristotle, 4 vol. Oxford, 1887-1902.
ROMILLY, J.de., La loi dans la pensée grecque, des origines à Aristote, Paris, Ed.des Belles lettres, 1971.
SINACEUR, M.A., Penser avec Aristote, Toulouse, Erès, 1991.
WEIL. R., Aristote et l’histoire, Essai sur la Politique, Paris, Klincksiek, 1960.

توجد مشاركات جديدة منذ آخر زيارة لك في هذا الموضوع.
مدخل إلى الفكر السياسي الغربي (2)
توجد مشاركات جديدة منذ آخر زيارة لك في هذا الموضوع.
مدخل إلى الفكر السياسي الغربي (3)
توجد مشاركات جديدة منذ آخر زيارة لك في هذا الموضوع.
مدخل إلى الفكر السياسي الغربي (4)

مدخل إلى الفكر السياسي الغربي (2)

الفصل الثاني 

الفكر السياسي المسيحي بين السياسة و الفضيلة

1ـ المسيحية وعلم السياسة
لقد حدد أفلاطون موت سقراط بمعنيين : سقراط انحنى أمام القرار الذي أدانه بالموت، رفض الهرب عندما جاءته الفرصة وذلك بسبب طاعته وواجب احترامه لقوانين المدينة. من هنا إنه يظهر للجميع أن الفيلسوف هو مواطن صالح بامتياز، وأن وفاءه تجاه المدينة يصل إلى حد التضحية بحياته مقابل قرار ظالم. ولكن من خلال موقفه إنه يقول شيئا آخرا: ” إنه يجسد عظمة الحياة الفلسفية، إنه يشهد بالرقي و السمو الأخلاقي”. إن عظمة الموت عند سقراط أعطت للإنسان هيبته التي بقيت واستمرت عبر العصور.
لقد علمنا سقراط أن السياسة فن مُضاء بالفلسفة، منظم و مرتب باتجاه غايات و نهايات عقلية أو أخلاقية، يقاد بواسطة فضيلة التعقل و الحكمة. و يعلمنا أيضا أن الخير في السياسة يعتمد أولا على ناس خيّّرين و أنه لا يوجد أي نظام يمكن أن يسمح بتجاوز الفضيلة بالنسبة للقائمين عليه. بعد هذا المفهوم السقراطي سيأتي المسيحيون و يغيرون هذا الفهم، ثم يأتي المحدثون و يقومون بعكسه.

ولكن،كل التغيرات في فهم السياسة و علومها بعد المسيحية تقودنا لطرح مجموعة من الأسئلة كانت قد طرحت بأشكال متعددة منذ حدوث هذه التغيرات التاريخية: ما هي الطريقة الأفضل للتفكير بالسياسة ؟ هل نستند إلى ” الكلام السماوي” ؟ هل نبحث عن السياسة من باب الفضيلة فقط أم نطبق عليها كل تقنيات العلوم ؟ هل على العقل النظري إدارة و قيادة العملي؟ وهل يمكن أن يكون الله حاضرا دائما في السياسة؟
من أثينا إلى مكة مرورا بالقدس، مصادر ” علم السياسة ” تختلف بطبيعتها : فالمصدر الأساسي ليس أبدا أو دائما داخل العقل ولكنه أيضا داخل الوحي. فالأفكار لا تأتي دائما أو نهائيا من الإنسان الباحث عن اكتشاف العالم، إنها تأتي من الله ” الواحد” وهو صاحب السيادة و الذي يرسل للناس ويبقى محاطا بالغموض و الألغاز. العقل اليوناني ارتفع و ارتقى باتجاه السماوي الإلهي ( من الأرض باتجاه السماء)، أما العقيدة اليهودية، المسيحية و الإسلامية تنتمي ” لكلام” ينزل من الله ( من السماء إلى الأرض ).

يقول سقراط، بداية الفلسفة هي الحيرة و الدهشة والاستغراب التي تعطي الاهتزاز و الحراك للعقل، أما هي في الإنجيل و التوراة Ecritures saints أساس الإيمان أو الاعتقاد و بالتالي هي ابتعاد عما يدركه العقل أو يمكن أن يدركه إذا هي”فعل ثقة”.فالنبي إبراهيم يجسد إنسان الإيمان لأنه يخضع من غير تذمر لأوامر الله، هذا الله الذي لا يفهمه إبراهيم رغم محاولاته.أما التوراة فإنه يعلم و يبشر بمشاعر غريبة بالنسبة لليونان، إنها مشاعر الخضوع: فمن أنت، إنسان، في مواجهة أزلية و أبدية الله !!

هناك تغير أو انقلاب في الرؤى. حيث سان بول في Epitre aux corinthiens يعارض الحكمة داخل هذا العالم و خاصة التأمل أو التفكير اليوناني، فالحكمة الحقيقية، هي الحكمة الغامضة و الخفية لله. حيث سان بول يرتبط و بشكل مبكر بما هو قلب التعليم المسيحي : العمل الخارق لتجسد المسيح Incarnation،أي حكمة الله تجسدت في شخص المسيح المصلوب. مع ذلك المسيحية قامت و بسرعة باستقبال الفلسفة اليونانية و البحث الفلسفي. فالعصر الوسيط المسيحي عرف بحثا مكثفا للفلسفة و لكن تحت الرقابة، رقابة الكنيسة. والعقل احتفظ بمكانة ثانية أو مساعدة ولكنه مع ذلك بدأ يربح أهميته و استقلاليته.

في القرن الثامن عشر سان توماس حاول أن يعيد الكثير إلى الإيمان و العقيدة و إلى التعليم من خلال الوحي، وإلى الجزء الشرعي من العقل. لذلك حاول ” تصحيح” أرسطو وفق الإيمان المسيحي هذا الإيمان الذي رأته المسيحية الممثل بامتياز للحقيقة. ولكن كيف يمكن شرح هذا التغير أو التطور؟ يمكن أن نعيد هذا لسببين رئيسين يعودان إلى المنطق الداخلي في العقيدة المسيحية ( أو على الأقل للمسيحية التي شُرحت داخل الكنيسة الرومانية ). الأول: يتعلق بالوحي Révélation حيث الوحي لا يلغي العقل أو يقصيه، ثانيا: كما أن ما هو فوق طبيعي لا يلغي الطبيعي وحيث أن خالق ما فوق طبيعي هو من خلق الطبيعي. هناك معرفة عقلانية للأشياء ما فوق طبيعية وللحقائق الروحية الداخلية في الوحي. كل هذا ” التقليد” يؤكد إمكانية معرفة أكيدة و طبيعية لله و في نفس الوقت وجود قانون أخلاقي و روحي طبيعي في داخل كل إنسان. إذا يوجد حقائق عقلانية خالصة : و الباب مفتوح أمام الفلسفة. و يوجد أيضا و بالتحديد حقائق منزلة أو موحى بها و التي يسمح للعقل أن يعمقها، لاسيما باستخدام أدوات الفلسفة اليونانية.
هذه الحقوق للعقل تُفهم أو توَّضح من جهة ثانية كما يلي: بالاختلاف عن الديانة اليهودية أو عن الإسلام، المسيحية ليست دين من الأحكام، الشرائع و القوانين. فاليهود و المسلمون هم ملزمون بالخضوع و الالتزام إلى مجموعة من الأحكام المنزلة سماويا أو إلهيا، أو إلى تشريع ديني و الذي له طابع شامل يدير الحياة العامة و الخاصة على حساب المساحة الممنوحة لاستقلالية العقل. ” العهد الجديد” Nouveau Testament أو الإنجيل لا يصدر قانونا مدني، ولا قانونا جزائيا، ولا حتى قانونا دستوريا. في النتيجة، المسيحية التاريخية جوبهت بهذه المشكلة الأساسية: الوحي يسجل ثورة روحية ولكن المؤسسة الكنسية كمؤسسة أو جماعة من المؤمنين تعيش في الزمني، المسيحيون ينتمون إلى مجتمعات تاريخية و سياسية. أي موقف إذا يمكن اتخاذه تجاه النظام الزمني، التاريخ لا يتوقف، كيف يمكن الفصل بين النظام الزمني و بين النظام الروحي ؟

جيَّش العقل اللاهوتي نفسه حتى يفكر بمعنى التاريخ و العلاقات بين الكنيسة و السلطة السياسية، انطلق العقل الفلسفي ليعالج النظام الطبيعي و المستقل عن السياسة. في كل الأحوال، ظهر توتر جوهري داخل المسيحية: بين الروحي و الزمني، بين فكرة العمل من أجل الخلاص وبين فن السياسة.
ومن المعروف أن المسيحية لم توجد أو تؤسس على الأفكار، إنها أُسست على الأحداث. فالمافوق طبيعي surnaturel تم تسجيله في التاريخ، والله ظهر حتى في الحياة الأرضية الدنيوية التي يعيشها الإنسان. هذا التاريخ المقدس سيصل إلى ذروته مع الأحداث التي رافقت حياة السيد المسيح. إذا العقيدة أو الإيمان المسيحي تم تعليقه أو اعتماده كليا على صدق وصحة الأحداث التاريخية. بشكل خاص ما جرى تاريخيا ليلة ” القيامة” Pâques ” عيد القيامة عند المسيحيين”، هذا الحدث الذي يقود كل ما تبقى من المسيحية:”إذا المسيح لم يبعث أو يحيا، كتب سان بول، إذا فإن تبشيرنا بديننا عبث وبلا جدوى، وعقيدتنا هي عبث أيضا ” ( I، Corinthiens،14،15 ).

لكن حياة المسيح ذاتها ليس إلا بلوغ مغامرة طويلة، هي تخليص الإنسانية و الشعب المختار، مغامرة صيغت بفعل الحب ومن عدم الوفاء الذي وجد و استودع في ” العهد القديم” Ancien Testament.و من وجهة نظر المسيحية، إن العهدين القديم و الجديد يعودان لتاريخ واحد متشابه حيث تنتشر عناية و تعاليم الله، الوحي يتقدم، يكتمل ويتحقق مع فعل التجسد Incarnation. ماذا يقول هذا الوحي و الذي تم تجذيره في التاريخ؟ التوراة أو الكتاب المقدس (الكتاب المقدس عند المسيحيين لا يطابق الكتاب المقدس عند اليهود، حيث الكتاب المسيحي يضم زيادة على الآخر سبعة وعشرين جزءا ضمن ” العهد الجديد”. معنى النص ليس بالتأكيد هو ذاته في كلتا الحالتين، إنه أيضا مختلف بالنسبة للمؤمنين أو الأديان الأخرى أو عند الذين لا يؤمنون لا عن طريق قناعة أو عن طريق دراسة. النقد التاريخي ساهم بتقدم المعرفة ولكنه ترك السؤال مفتوحا : هذه الكتابات هل هي موحى بها أم لا؟ من وجهة نظر مسيحية خالصة، قراءة النصوص مرتبطة بإظهار أن العهد القديم و العهد الجديد يشكلان وحدة عضوية. لهذا السبب، الآباء الكنسيون طبقوا شرحا هو بشكل جوهري رمزيا allégorique، المفسرون في العصر الحديث يصرون على التعليم الإلهي وتقدم الوحي..)، أو كما يسمى ” كتاب الكتب” هو الكتاب أو المؤلف المتنازع فيه بامتياز، و الدراسات و الملاحظات التي كرست له تشكل مكتبة ضخمة لوحدها. وفق الكنيسة الكاثوليكية، الأناجيل يجب أن تكون متناولة ضمن نطاق “الرواية” أو الحديث Tradition الذي جاء من الرسل Apôtres. و في الواقع، الكاثوليكية ليس دين في كتاب مقدس Livre ولكنها دين من الكلام المقدس Parole.
صعوبات التفسير والشرح متفق عليها، لكنها أصبحت أقل :” التوراة، يقول الأب Lagrange مؤسس المدرسة التوراتية في القدس،هو بحر من النور و أيضا من الظلام”. هذه الكتابات حيث توضح خبرة دينية تنتقل من جيل إلى آخر خلال ألف وخمسمائة عام، هي شهادة وفق الكاثوليكية على أن : الله أرسل للبشر من خلال كلامه و أفعاله، لقد ذهب للقائهم، دعاهم للارتباط به من جديد. إنه عرض تحالفه وجدد عهده، ولكن ماذا يعني هذا العهد؟ لقد أخذ أشكالا متعاقبة فهو يترجم تطورا روحيا و أخلاقيا، أو بمصطلح مسيحي، هو تقدم للوحي. المسيح يقدَّم كرسول لتحالف جديد. في كلام ساطع ولكن أيضا غامض، إنه يعلن” الخبر الجيد الجديد”: وصول مملكة الله. طبيعة هذه المملكة هي في المعنى التالي: هي ليست مملكة زمنية، بل يجب أن تكتمل في العالم الآخر. بالمقابل، في هذه اللحظة ووفق شكل قدموها، المسيح يقدم خطابين. من جهة، حكم الله هو مملكة ستأتي و إنها ستأتي قريبا ” توبوا لأن مملكة الله هي قريبة” ( إنجيل متى، الرابع، 17) و ستكتمل بالعودة المجيدة للمسيح في نهاية الزمان. ومن جهة أخرى، إنها مملكة موجودة مسبقا داخل هذا العالم ” إنها موجودة بينكم أو في داخلكم” ( إنجيل لوقا،17، 21) على شكل بذرة وضعت في قلب الإنسان.

المسيح لا يتكلم ولا يتصرف كنبي عادي وفق الكاثوليكية. إنه يشيّد بشخصه ملك الله. ووفق الوصف الإنجيلي،المسيح لا يتحدث نهائيا عن نفسه، بل هناك طابع غامض ومستتر للحديث.التفسير الكاثوليكي يراه ظهورا لإرادة تعليمية: المسيح لا يستطيع التحدث بوضوح قبل أن تتم القيامة أو الإعادة.مهما كان، علم اللاهوت الذي جاء به سان بول سيعمل من المسيح نفسه، متحدا مع الله، مخلصا للبشر، إنه مركز الوحي الإنجيلي : المسيح في شخصه هو دعوة إلى الله. في قلب الوحي المسيحي،إذا هناك اقتصاد في الخلاص أو اقتصاد الخلاص،أو يمكن أن نسميه مخطط الله على البشر: الله يدعو جميع البشر إلى الحياة السعيدة،إنها مملكة القدس الإلهية.مرسلا كذلك إلى البشر، الله يكشف عن نفسه ويكشف أعماله.إن شرح جميع هذا الكلام المقدس الموحى تم تثبيته من قبل الكنيسة بعد مناقشات متعددة وتمزقات حوله.هذا التثبيت هو علاقة قطيعة عميقة جدا مع الفكر القديم. الله،العالم،الإنسان، الحياة كلها تتغير في وضعها ومعناها:

الله، العالم، الإنسان، الحياة كلها تتغير في وضعها ومعناها: إله التوراة هو جديد بشكل جذري وفي سموه المطلق.ليس فقط إله واحد،إنه خالق،خارج عن العالم الذي أراده وشكله بنفسه.إنه مطلق أبدي. لا شيء يوجد إلا ويتبع له ويعتمد عليه. هذا الله لا شريك له و لا يشترك بشيء مع آلهة الميثولوجيا القديمة،إنه يختلف عن إله الفلاسفة اليونان الذي هو جزء من الطبيعة أو الكون Cosmos ويُدرَك كأبدي. اليهودية و المسيحية بعد هذا التغير قدمتا العالم و كأنه العمل المجاني لله.الله في الكتاب المقدس التوراتي إنه شيء آخر،إنه فوق البشر و العقل البشري لن نستطيع إدراكه ولا فهمه، إنه إله كله ألغاز وغموض لأنه مختف ولا يمكن الوصول إليه.أما الله في المسيحية هو ” رب يحبنا حبا لا ينتهي، أراد الموت من أجلنا “، أي بعكس الديانات الأخرى وخاصة الإسلام حيث نحن الضحية و نموت في سبيل الله. هنا يبقى الله شيئا آخر لكنه يصبح أكثر قربا من كما تقدمه المسيحية.إنه شيء آخر بهذا القرب نفسه حيث تنتشر قداسة لا يمكن إدراكها، فالله في المسيحية لغز من المحبة.

العالم إذا تغير في حالته.إنه ليس طبيعيا أو سماويا، إنه عمل أو إنجاز لإرادة فوق طبيعية.إنه ليس أبدي،لديه الآن تاريخ.اليونان رأوا في الكون Cosmos نظاما مرتبا،متناغما، حيث الله نفسه هو جزء من هذا التناغم و الإنسان لا يشغل فيه إلا مكانا تابعا. الرؤية المسيحية هي بشكل جذري مختلفة: الترتيب و التناسق الجميل،السمو و الرقي الهندسي لهؤلاء الذين ليسوا إلا أشياء مخلوقة، وسيكون لها بداية ونهاية.العالم هو غير مقدس ويخضع للتاريخ. إذا اليهودية والمسيحية تدخلان مفهوما خطيا للزمن، على النقيض antipode من المفهوم الدائري عند اليونان.فكرة العودة الأبدية هي ” لا يمكن احتمالها” في الفكر المسيحي،وفق كلمة سان أوكستان، لأن “المسيح قد مات مرة واحدة من أجل خطايانا، وسيبعث بين الأموات،ولن يموت نهائيا” ( من كتاب La cité de Dieu، XII،17 ). إذا يوجد قبل وبعد، زمن له معنى، ماض ينطلق من الخلق إلى النهاية، ومن النهاية إلى الخلاص، ومستقبل ينطلق من الخلاص Rédemption إلى نهاية الأزمان. وفق المسيحية كل مخلوق بشري هو كائن محبوب من الله، المسيحية تعطي الإنسان شرفا ومجدا جديدا كان مجهول في العالم القديم، إلى التساوي في الخلق بين الجميع، إنها المساواة بين أطفال الله.الحالة المثالية اليونانية للحياة الفلسفية كانت محفوظة للبعض فقط، بينما الخلاص المسيحي هو مفتوح أمام الجميع. هذه النظرة المسيحية الكونية هي علاقة قطيعة مع الماضي. الحياة الدنيوية هي إذا مرتبة ومنظمة إلى نهاية تتجاوزها. الانجذاب المسيحي إلى مملكة الله يتناقض مع الحالة المثالية الوثنية القديمة، كما يتناقض مع الرؤية المثالية للحياة الفلسفية. ونعود هنا لطرح مسألة الزمني والروحي. فالروحي في المسيحية في جزء منه هو مرتبط مع الزمني.

2ـ بين الله والقيصر
في الإنجيل لا يوجد برنامج سياسي كما أنه لا يوجد في الكتب المقدسة الأخرى ” القرآن مثلا “، ولا يوجد برنامج للإصلاح الاجتماعي و الاقتصادي. فالمسيح يدعو إلى تغيير القلوب، وليس للقوانين أو المؤسسات. كما أنه “نهائيا” لم يتطرق إلى مسألة النظام أو المشاكل الأخلاقية و السياسية للحروب. الإنجيل يعتني بشكل كبير بإزالة الصورة المتعلقة بالمسيح كما عرفت في السابق. فرغم التطور الروحي الذي تشهد به النصوص التوراتية وكل كلام القديسين، الفكرة القديمة عن مسيح منتصر تبقى الأقوى في داخل المجتمع اليهودي: “المسيح سيأتي ليقوم أو يكمل مهمة سياسية ” إقامة المملكة الدنيوية لإسرائيل ” إذا وفق ظروف الزمن، سيضع نهاية للاحتلال الروماني. ولكن هذه المهمة ليست نهائيا في شيء مما حاول المسيح إكماله.

الأناجيل تبين ذلك مع محاولات جاهدة وحذرة لتحاشي عدم الإسراف أو التشتت: المسيح لم يقبل إلا في نهاية حياته أن يحيا ” كمسيح “. لقد أفشل المسيح الفخ الذي وضع له من قبل الفريسيين pharisiens،مميزا مجال عمل القيصر عن عمل الله، لقد ردَّ على الاتهامات السياسية معلنا أن مملكته “ليست من هذا العالم”.إذا المسيح يبتعد عن السياسة و بشكل عام عن جميع الشؤون الزمنية الخالصة. فإذا تحدث عن الفقر، و إذا حذر الأغنياء، هذا لأن الفقر يذهب إلى الأسوأ في مرحلة ” الطفولة الروحية”.

النقد هنا ليس نقدا اجتماعيا، بل يتم النقد لأن العالم أصبح خاضعا لحكم المعلمين المزيفين و الكاذبين و بسبب البؤس الروحي. ولكن هل الإنجيل ضمن هذا المعنى هو مخرَّب أو مدمَّر من الناحية السياسة ؟
الدين في الإنجيل، كتب جان جاك روسو: ” بعيد عن ربط قلوب المواطنين بالدولة (….)، إنه يفصلهم كبقية الأشياء الموجودة على الأرض. لم أعرف شيئا أكثر منه معارضة للروح الاجتماعية “. ( من كتاب ” العقد الاجتماعي”، الفصل الرابع، 8 ). مع ذلك يوجد وجه آخر للتعليم الإنجيلي. المسيح لا يرفض المدينة الدنيوية. بشكل عام، موقفه لم يكن غنوصيا رافضا للعالم: إنه يحاول شفاء المرضى، يتحدث عن جمال الخلق création، إنه يتحدث في كل كلامه عن الحياة و العمل في كل الأيام…،يدعو ويقول إن محبة الله هي محبة لمن حولنا جميعا أيضا. في النهاية إنه لا ينكر السياسة.

التعليم الأكثر خاصية أو الأكثر مباشرة من الناحية السياسية للإنجيل يعود إلى جملة حيث يعترف فيها بالمجال و الحقل الخاص للقيصر. الأناجيل تروي أن الفريسيين الراغبين بتعريض المسيح للخطر أرسلوا له تلامذتهم ليسألوه إذا كان مسموحا بدفع الضرائب أم لا للإمبراطور. أجاب السيد المسيح إجابة طبعت و بعمق كل التاريخ السياسي للغرب: ففي إنجيل ( متى، الجزء 22، 18 ـ 22 ) تدور القصة التالية:
” المسيح يعرف أنهم منافقون، فيرد عليهم قائلا: لماذا تضعون لي هذا الفخ ؟ دعوني أرى أموال الضريبة، ثم قدموا له درهما أو فلسا، فقال لهم: ” لمن هذا النقد الذي عليه صورة ” ؟ فقالوا: ” إنه للقيصر”. وقتها قال لهم: ” إذا أعطوا للقيصر ما هو لقيصر ولله ما هو لله “.

” أعطوا للقيصر…”، بمعنى أولي، هذه الجملة كانت انقلابا أو ثورة. إنها تطرح مبدأ غريبا على العالم اليوناني/الروماني كما أيضا على العالم اليهودي: الدين و السياسة لهما مجالات مختلفة. القاعدة الجديدة تتعارض مع كل النظام السياسي/الديني ومع كل الحكم الثيوقراطي، إنها تكسر الوحدة التقليدية للسلطة. وبمعنى آخر هذه الجملة ليست قطيعة، بل إنها تعترف بالجزء الشرعي للسياسة. هذا الشكل ربما يفتح الباب أمام صعوبات في التفسير و الشرح ولكنه يعني بوضوح أن: المسيح لا يدعو إلى التخلي عن السياسة.وفق التعليم القاسي و المتشدد للإنجيل، يرى سان بول: ” بالنسبة لنا، مدينتنا تتواجد داخل السموات، ولكن منتظرين عودة المسيح، على المسيحيين ألا يتواجدوا على هامش المدينة الزمنية”.

إذا يمكن القول أن السياسة تنتمي إلى عالم الإنسان المسيحي، وأن السلطة هي في خدمة خير لا يستطيع أن يكون هنا إلا خيرا طبيعيا. السلطة لها غايات خاصة، إنها تندرج ضمن نظام طبيعي للسياسة المرادة من قبل الله. اللاهوت السياسي الذي جاء به سان بول سيفتح الطريق أمام الفلسفة السياسية.
وفق رؤية الرسول سان بول، هذه القضايا تبقى رغم كل شيء ثانوية بالنسبة للقضايا الجوهرية: الأمل و الرجاء بما هو فوق طبيعي وعلى الأرض هو تكوين وتطوير تجمع أتباع وتلامذة المسيح كتجمع روحي. ويبقى أن المسيحي في هذا العالم هو جزء يستحوذ في نفس الوقت على المدينة الروحية و على المدينة الزمنية. علم اللاهوت لدى سان بول أظهر تفوقه ونجاحه، ولكن الصعوبات في الشرح و التفسير ازدادت مع متابعة الزمن التاريخي وتغيرات و تحولات السياق و الصيرورة الدينية، أو بمعنى آخر انتصار المسيحية على الوثنية. وهذا ما سيقود إلى طرح أسئلة في غاية الأهمية: كيف نرى هذا الانتماء الثنائي أو هذه المواطنة الثنائية في عالم أصبح رسميا مسيحي ؟ كيف يُنظَّم تاريخ المدينة الزمنية و تاريخها الروحي؟ المدينة الزمنية أو ( مجال عمل القيصر ) لديها استقلاليتها، ولكن تشارك بالنظام الطبيعي الذي أراده الله.فما هو هذا النظام الطبيعي وكيف يمكن ترتيبه وتنظيمه مع النظام ما فوق الطبيعي؟
هل الكنيسة مكلفة بمتطلبات الخلاص، وهل تدافع عن النظام الطبيعي، كيف تُنظَّم السلطة الكنسية والسلطة السياسية ؟ هذه الأسئلة تتقاطع، وتاريخية الإجابة التي أعطيت عليها هي معقدة جدا. ولكن هناك عملان مسيطران، واللذان كان في أصل و أساس تقليدين داخل الكنيسة، عمل سان أوغستان و عمل سان توماس.

فيما يتعلق بالممارسة في الميدان السياسي، هذه الممارسة حصلت على حريات مع مبدأ التمييز بين الأنظمة وهذا ظل حتى ردة الفعل الحديثة.أي منذ صعود Ascension المسيح و بانتظار عودته .هنا كيف تُرجِم مخطط الله في تاريخ البشر؟ المسيحيون الأوائل، على ما يظهر، كانوا في معظمهم مقتنعين يوشك نهاية الزمن. مع ذلك كان هناك أمل عند سان بول، لكنه أمل حذر: لا أحد يعرف تاريخ العودة لا في اليوم ولا في الساعة. لذلك دعا إلى حياة منظمة وبعيدة عن الفوضى، كل فرد فيها يملأ واجباته الاجتماعية. منتظرين عودة المسيح Parousie، التاريخ سيستمر. هذه المتابعة للتاريخ الإنساني تستدعي تفسيرا أو شرحا لاهوتيا. فالتاريخ المقدس هو في حركة سير دائم، ولكن بأي شكل؟

إذا تم تبسيط المسألة، نستطيع أن نميز أو نحدد إجابتين: من جانب، نموذج من التفسير جاء قبل سان أوغستان،يطور هذا التفسير لاهوتا زمنيا للتاريخ. العناية الإلهية تصبح واضحة ومفهومة عبر التاريخ المرئي للبشر، إنها تتجسد أو يجب أن تتجسد في تلك المدينة الدنيوية. ومن جانب آخر،التفسير الذي له تأثير وسلطة داخل الكنيسة الكاثوليكية و الذي أعطي من قبل سان أوغستان في القرن الخامس. حيث التاريخ المقدس هو ذاك المصير أو القدر الروحي للإنسانية، إنه غير مرئي. في النتيجة، الكنيسة ليست مرتبطة بأي شكل تاريخي.

إن علم اللاهوت الزمني للتاريخ أخذ أشكالا متعددة. شكله الأساسي يرتكز على رؤيا القديس يوحنا Apocalypsede Saint Jean، وهي ” الألفية” Millénarisme ( وهي نظرية عند بعض المسيحيين تقول بأن المسيح سيملك الأرض لفترة زمنية قدرها ألف سنة قبل يوم قيامة الأموات ). نص يوحنا في العهد الجديد هو وصف متوقد، متوهج و مليء برموز نهاية الأزمان وهو يدور حول النظرية الألفية. هذه النظرية رفضت من قبل كبار اللاهوتيين المسيحيين، بشكل خاص سان أوغستان و الذي يقول:” إن وصف سان جان أو ” يوحنا ” يجب أن يقرأ كمجاز أو استعارة روحية، انتظار ” الألفية” هو من غير هدف لأن ولادة المسيح هي التي لها علامة البداية”.

تفسير آخر يظهر أنه أكثر ” اعتدالا” فيما يتعلق بعلم اللاهوت الزمني للتاريخ وقد تم تطعيمه بتاريخ المسيحية نفسها. ماذا تقول حقيقة هذا التاريخ المرئي؟ إنها تروي نجاحات التنصيرchristianisation. فالإمبراطورية الرومانية كانت خاضعة للدين الذي اضطهدته. هذا التاريخ ظهر كتيار في الفكر المسيحي، كظهور لإرادة الله. التقليد الشرقي رأى فيما حصل بهذه الإمبراطورية وكأنه عناية إلهية. المسيحية ارتبطت بشكل سياسي ( تحالف دائم في الشرق والذي سيحدث التحالف بين القيصر و أتباع البابوية papisme في الإمبراطورية البيزنطية).

سان أوغستان ( 354 ـ 430) رفض كل هذه التفسيرات لأنها من غير أساس حقيقي في الكتاب المقدس وتخالف تعليماته. إنه يتعارض مع نظرية ” الألفية “، ثم يفصل قدر الإمبراطورية عن قدر ومصير الكنيسة، إنه يرفض الفكرة القائلة بأن الشرور ستختفي مع الزمن. باختصار، المسيحية الأوغستينية تتمرد على كل طوباوية،فالكمال ليس من هذا العالم. ” مدينة الله ” ( 427 ـ 415 ) واحد من أهم المؤلفات التي سيطرت على الفكر في الغرب المسيحي.المؤلَّف أخذ اتساعا كبيرا، عظيم في بلاغته وبيانه، لا يشكل وحدة منظمة كليا. من جانب هو كتاب لظروف وحالات، ومن جانب آخر هو توسط أو وساطة حول قدر الإنسانية على ضوء الوحي. أما الظروف و الحالات فهي: في عام 410،القوطيون Wisigoth استولوا على ” المدينة الخالدة الأبدية” ونهبوها. النتائج كانت كبيرة: إنها نهاية عالم كان يبدو غير قابل للتدمير.

فالمؤمنون بالدين الروماني القديم يتهمون المسيحيين بكونهم مسؤولين عن هذه الكارثة التي حصلت في الإمبراطورية. سان أوغستان يمسك بريشته للرد عليهم: إنه يشير إلى ضعف روما الوثنية،ثم يتحدث عن قيم الفضائل المدنية المسيحية. في الجانب الآخر من هذا الحديث و الاختلاف، إنه يفصل قدر الإمبراطورية التي هي في خطر عن قدر الكنيسة.

بلا شك لقد كان هو أيضا مواطنا وفيا لإمبراطوريته، ولكن كمسيحي أراد أن يقول: الدين الحقيقي لا يخضع أو لا يتضامن مع السياسة بأي شكل أو أي وقت. التعمق في تأمله وتفكيره سيقود إلى علم لاهوت عام للتاريخ. علم اللاهوت الأوغستيني ” للمدينتين “، الدنيوية و الإلهية، يبين العديد من الصعوبات في التفسير ويمكن أن يفهم خطأ. سان أوغستان يستخدم تارة صيغا دقيقة، وتارة أخرى صيغا ليست كذلك، ثم يأخذ أو يعتمد كلمة “المدينة ” في معان متعددة و مختلفة. بشكل جوهري كما يظهر، إنه كمن يستخدم لوحتي مفاتيح. اللوحة الرئيسة هي القدر الروحي للإنسانية:” هناك نوعين من الحب، يكتب الأسقف Hippone في فقرة مشهورة جدا، الحبان يبنيان مدينتين. حب الذات حتى أو لدرجة ازدراء الله في المدينة الدنيوية. وحب الله لدرجة ازدراء الذات في المدنية السماوية”. الحد الذي يفصل بين المدينتين هو حد غير مرئي، هو من نظام و ترتيب الوحي. المدينة الدنيوية أو الأرضية لا تختلط مع الحقيقة الزمنية للمدينة الإنسانية، إنها الجزء الفاسد من الإنسانية. ” مدينة الله ” ليست الكنيسة المرئية، إنها تضم هؤلاء الذين اختاروا الجزء الأفضل، هؤلاء الذين، هم داخل الكنيسة ولكن أيضا من هم خارج الكنيسة يكرَّسون للحقيقة و الفضيلة. هاتان المدينتان مختلطتان بشكل كبير في هذه الحياة، كما هو حال البذرة الجيدة و الأخرى الفاسدة كما تقول الحكمة أنه لا يمكن الفصل بينهما إلا في وقت الحصاد.
أما اللوحة الثانية هي العلاقة بين المدينة الإنسانية و الكنيسة. هنا المدينة الدنيوية الأرضية تختلط مع المجتمع السياسي و المدينة الإلهية ( بشكل أكثر أو أقل ) أيضا مع الكنيسة، أي بمعنى آخر مع مجتمع المسيحيين. بهذه المعاني، المسيحي هو عضو في المدينتين. إذا كيف يمكن تنظيم ثنائية المواطنة هذه ؟
إن موقع مبدأ أوغستان واضح جدا: إنه يميز وبقوة النظام الروحي و النظام الزمني، بين مجال السلطة الكهنوتية الكنسية ومجال السلطة السياسية. لكنه يعالج هذه القضايا بشكل عام ولم يعط أية نظرية دقيقة للعلاقات بين الكنيسة والدولة. بالتأكيد هو يتمنى أن المدينة السياسية تلقَّح بالمسيحية لكنه لا يرى أية ضمانة أن هذا الحل سيطبق أو سيستمر. في النهاية سان أوغستان لا يهتم إلا بشكل بسيط بالسياسة.
يتبع في الأجزاء القادمة.

3 ـ الطبيعة و الإنسان.
في عام 430، عندما مات سان أوغستان، عالم بأكمله كان في حالة تغير، إنه عالم الإمبراطورية الرومانية ومعها عصر الهرطقة الذي لم يكن قد انتهى أيضا. ثمانية قرون فيما بعد، عندما أخذ سان توماس الأكويني ( 1225 ـ 1274 ) ريشته للكتابة ، كانت المسيحية في القرون الوسطى قد وصلت الذروة. بالإضافة لذلك ومن الجانب الآخر للأحداث: النجاح التاريخي للمسيحية الرومانية تم تأكيده وتقويته في الغرب. رغم ذلك، القرن السابع عشر كان مسرحا لأزمة فكرية لم يسبق لها مثيل. حتى هذه اللحظة، الفلسفة كانت قد أصبحت مدجنة في بعضها : فبعد ” آباء الكنيسة “، أفلاطون ومن أتى بعده اعتُبروا روادا أو سباقين وعليهم العقيدة اعتمدت ولهم افتقدت. مصير وقدر الفلسفة كان التنازل عن استقلالها ” داخل معرفة وحيدة مطلقة منظمة و مرتبة بواسطة الوحي Révélation. ترجمة أرسطو و شارحيه و مفسريه العرب في القرن الثاني عشر زعزعت هذا اليقين أو هذا الوهم. هنا انبثقت و انتشرت كرائحة البارود فلسفة جديدة وثنية، هددت بالاستيلاء على العقل و على الفكر المسيحي. حيث يظهر أن العقل تم توجيهه في مقابل أو مواجهة العقيدة.

هل كان من الواجب تقليص العقل في مواجهة أسلحة العقيدة؟ جرأة سان توماس الأكويني قامت باختيار فعل معاكس ومعارض : في خدمة العقيدة، و بالاعتماد أيضا على العقل. الأكويني يميز ما بين الأنظمة. إنه في البداية عالم باللاهوت لكنه يدرك أيضا الفلسفة. القاعدة هي سهلة و أساسية: يجب متابعة العقل و السير وراءه إلى أكبر بعد ممكن. توماس الأكويني سيعيد التفكير بالقضايا اللاهوتية مستعينا بالعقل الفلسفي وبشكل خاص بالأدوات التي حصل عليها من أرسطو. نظرتان أو اتجاهان هما مرتبطان: هذا يعني، مع احترام الاستقلالية، أن يكون هناك عمل على الاثنين، العقل والعقيدة.
الأكويني يتقدم خطوة مريحة : بين عقل يأتي من الله ووحي يأتي أيضا من الله، التوافق لا بد أن يتم بالضرورة. لم يتردد بتعنيف الوعي الديني في زمنه لأجل طيّه أو إخضاعه لمتطلبات الفكر الفلسفي.

الأكوينية، في داخل الفكر الكاثوليكي، هي المحاولة التحديثية الوحيدة التي لم تنجح أبداً كما يقول Etienne Gilson. حجر الزاوية في مشروع الأكويني هي الحكمة التي يعيدها إلى ( sommethéologique): “النعمة أو الفضل لا يدمران الطبيعية و لكن يجعلانها أكثر كمالاً، أو يحملانها إلى الكمال”. النعمة، العفو، الفضل لا تتعارض مع الطبيعة لأنه، إذا ” العالم” هو سيئ، فالخلق هو جيد. الحقيقة التي أوجدت بواسطة الله لها استقلاليتها وحقيقتها، ولها أيضا قيمها الخاصة. طبيعة الإنسان، سيطرته على أفعاله، كل هذا يجعل منه شريكا بجزء من الله. التقليل أو التصغير بالمخلوق هو ازدراء للخالق، أو أن الخالق هو مخطئ. كما نرى علم اللاهوت الأكويني حول الخلق يؤسس منذ ذلك التاريخ الطويل ” إنسانية مسيحية” أو نظرية مسيحية في حقوق الإنسان.

ماذا تقول الطبيعة بالنسبة للأكويني؟ من أجل معرفة ذلك، إنه يعود لمدرسة أرسطو و التي هي الممثل بامتياز للعقل الطبيعي. الأرسطية Aristotélisme ظهرت كتهديد، و الأكويني أسكنها ووضعها في داخل الفكر المسيحي. ربما سيكون من الزيادة هنا أن نقول : إن الأكويني قام بتنصير ” أو أدخل إلى المسحية” أرسطو. دون شك توماس الأكويني أخذ الكثير من أرسطو و الذي يدعوه ” الفيلسوف”، ولكن أيضا قام بتصحيحه أو عدَّل بعض الأشياء من أجل أن يدخله في تركيب synthèse مذهبي doctrinal ( ليس بمعنى طائفي ). الأكويني يتفق مع أرسطو من أجل اعتبار كل من ينقطع عن المدينة هو خارج الإنسانية المشتركة. لكن احترامه الكبير لأرسطو لم يمنعه من كتابة : ” لا يوجد أي فيلسوف قبل مجيء المسيح، ورغم كل جهوده، استطاع أن يعرف الكثير عن الله”.
إن الفكر السياسي عند توماس الأكويني هو جزء صغير من عمله الضخم. ونستطيع أن نصنفه كفكر كلاسيكي/ مسيحي لأنه هنا كما في مكان آخر، ” القديس توماس ” ينظر إلى تنظيم و في تركيب واحد: الطبيعي و ما فوق الطبيعي. من جهة إنه يستند بشكل واسع على التقليد الكلاسيكي وبشكل خاص على أرسطو: السياسة فن، ينضم في نظام طبيعي. ومن جهة أخرى إنه ينفصل عنها لأسباب تتعلق بالعقيدة: السياسة تتركز بشكل نهائي في نظام ما فوق طبيعي.

فيما يتعلق بالقانون الطبيعي، سان توماس الأكويني يأخذ كلمة طبيعة بنفس المعنى الأرسطي، طبيعة كائن هي نهايته. طبيعة الإنسان هي قدره. القانون الطبيعي هو ما يميل الإنسان له وفق طبيعته وما هو معروف لديه بشكل طبيعي وهذا موجود و مسجل في العقل الإنساني. هذه النظرة هي ضمن خط الفلسفة الكلاسيكية، ويمكن وضعها ضمن التقليد المسيحي. القانون الطبيعي يقول سان أوغستان بعد سان بول:” هو قانون متموضع داخل قلب الإنسان، ولا شيء يستطيع مسحه”. الأكويني يقدم روايته و رؤيته الأكثر اكتمالا داخل مذهب القانون الطبيعي. القانون الطبيعي يشارك القانون الأبدي ولكن ضمن ما تستطيعه أو تقدر عليه الطبيعية الإنسانية. من أجل أن يكون الإنسان متجه نحو نهايته ما فوق طبيعية، من الواجب إعطائه قانونا آخرا و الذي يشارك وفقه بطريقة سامية في القانون الأبدي : إنه قانون الوحي، بمعنى آخر، وفق شكله الأكمل و المنجز، إنه القانون الإنجيلي. ما هو هذا القانون الطبيعي؟

سان توماس الأكويني يميز بين المبادئ المشتركة أو الأولى، الثابتة التي لا تتغير، الشاملة و التي يعرفها الجميع، و المبادئ الخاصة أو الثانية و التي هي معرضة للمتغيرات و التحولات المرتبطة بالظروف وهي غير معروفة لدي الجميع. المبادئ الأولى للقانون الطبيعي لا يمكن برهنتها،إظهارها أو إثباتها فهي حقائق بحد ذاتها. هذه التعاليم أو المبادئ هي للعقل العملي ( المتعلق بالفعل الإنساني )، هي المبادئ الأولى الجلية و المفهومة ( مثال : الكل أكبر من الجزء ) وهذا للعقل العلمي. في أساس السلوك الأخلاقي كما في المعرفة، هناك حقائق عقلية. ولكن ما هي هذه الحقائق؟

الحقيقة الأولى، عليها تؤسس كل المبادئ و القواعد الأخرى للقانون الطبيعي وهي : يجب البحث وعمل الخير وتجنب الشر. الخير الذي نتحدث عنه وهو الذي يحمل إليه الإنسان بشكل طبيعي. الأكويني يميز ثلاثة نماذج من الرغبة أو الميل الطبيعي. أولا، الإنسان هو كائن، وبما أنه كذلك، فهو يهدف إلى الحفاظ على نفسه.ثانيا، الإنسان هو حيوان، وبما أنه كذلك، فهو يميل للاتحاد مع الذكور و الإناث ويعتني بالصغار الخ… ثالثا، الإنسان هو حيوان عاقل، وبالتالي هو مدفوع للبحث عن الحقيقة و العيش في مجتمع ثم تجنب السرقة والقتل و احترام والديه الخ… كل هذه المبادئ العامة تضاف على مفاهيم أخرى ” ثانية” وهي نتائج قريبة.

المبادئ الثانية تحاول أن تكون قوانين طبيعية و لكن ليس لديها الحقيقة الفورية كما هو في المبادئ المشتركة وتطبيقها يمكن أن يتغير كما تتطلب الأوضاع و الحالات. توماس الأكويني يؤكد دائما : أن المبادئ الأولى هي حاضرة في قلب الإنسان دائما، بينما المبادئ الثانية يمكن أن تمحى من القلب الإنساني بسبب العادات أو الدعاية أو الفساد. ينتج من تحليل القانون الطبيعي أن هذا القانون لا يقدم سوى معايير عامة للسلوك الإنساني، إنه القاعدة الأولى العقلانية للبشر، لكنه ليس نهائيا قاعدة كافية. لا بد إذا من أن يتناسق أو يتشكل مع قانون آخر، إنه القانون الإنساني.

في السياسة، حدد توماس الأكويني سؤالا هاما: ماذا يمكننا أن نطرح حول النظام الذي ترتبط أو تدمج به السياسة؟ فيما يتعلق بالنظام الطبيعي، توماس الأكويني يطور بشكل جوهري بعض المواضيع الأرسطية: أولا، البعد المشترك ما بين الجماعات في الحياة الإنسانية. الإنسان هو اجتماعي بالطبيعة، شخصيته يتوجب عليها الكثير للذين بمصطلح حديث سندعوهم ” مجتمعه التشاركي”، فهذه الشخصية لا تكتمل إلا داخل مجتمعها، إلا في حالات خاصة. يقول الأكويني : ” من بين كل الأشياء المطلوب من الإنسان عملها، وهو الأكثر ضرورة، هم الآخرون المشتركون معه في الإنسانية”. ثانيا، الطابع النوعي للتجمع أو المجتمع السياسي. المجتمع الأول الذي ينتمي إليه الإنسان هو العائلة، إنها ضرورية له بالمطلق، لكنها لا تكفي بحد ذاتها. المجتمع السياسي هو العمل أو الصنعة الأكثر تمامية للعقل العملي الإجرائي.

ثالثا،الطابع أو الصفة الطبيعية للسلطة السياسية و المكان المركزي لمسألة النظام السياسي. المدينة هي مركبة من أجزاء متغايرة. سلطة واحدة هي ضرورية لترعى خير الجميع و تحافظ على وحدتهم. كما المدينة، السلطة السياسية هي في طبيعة الأشياء. الشكل الذي هي ممارسة ومنظمة من خلاله هو الموضوع المركزي للفلسفة السياسية. رابعا، تعرف غايات ونهايات السياسة من خلال وصولها إلى الخير المشترك. المدينة هي أكبر من حاصل مجموع أجزائها، خير المدينة هو شيء آخر يختلف عن مجموع الأشياء الخاصة، إنه خير مشترك.

نظرية الخير المشترك هنا، هي المشاركة الرئيسة الشخصية لتوماس الأكويني. الموضوع مع ذلك هو شائك وصعب لأن التناغم بين هذه الأشكال و الصيغ المبعثرة ليس منطلقا من الذات. الجوهري، يظهر أنه يحمل إلى ما يلي: الخير المشترك هو خير الجميع ولكنه غير منفصل عن خير الأشخاص. الخير المشترك هو أرقى و أسمى من الخاص و الشخصي كما هو الحال في أن الكل هو أسمى من الجزء. لكن هذا الكل ليس كيانا مميزا، يفضَّل على المواطنين، الخير المشترك ليس خير منفصل يبعد و ينحي المواطنين. الخير المشترك أو المنفعة المشتركة ليس خير أو منفعة لأنه في خدمة مجموعة من الأشخاص : فكل واحد يحصل على حياة بالاشتراك مع الآخرين، حياة منظمة مرتبة، كل واحد يحصل على المشاركة في عمل ومهمة مشتركة. رؤية الأكويني حول الخير المشترك يمكن أن تعرَّف، كما يظهر، بالشكل التالي: شكل أو طريقة في الوجود بالاشتراك بشرف في الحياة الجديدة، أي بالحياة الكريمة الشريفة وذات الفضيلة للجمهور أو الجميع. ومن أجل إقامة هذه الحياة الجديدة، سان توماس الأكويني يحدد في De Regno ثلاثة شروط ضرورية أو واجبة: على الجمهور”أن يكون ضمن وحدة المدينة من أجل السلام”، ” أن يدار و يحكم و يوجه نحو السلوك الجيد”، و أخيرا، ومن ” خلال التطبيق الحكومي، يجب أن يكون هناك كميات كافية من الثروات من أجل حمل الجمهور إلى الحياة الكريمة”. إن المنفعة المشتركة الزمنية هي غاية السياسة ضمن النظام الطبيعي. هذه الغاية هي ذاتها منظمة ومرتبة إلى نهاية أخيرة حيث على الكنيسة القيام بذلك. لكن هذا يجب ألا ينقص من استقلالية السياسة، ” الحق السماوي الإلهي الناتج عن الرعاية والعناية لا يدمر أو يهدم الحق الإنساني الناتج بدوره عن العقل الطبيعي”. إذا ما فوق الطبيعي لا يدمر الطبيعي بل يرعاه، و الرعاية السماوية لا تدمر الطبيعية بل هي إكمال وتتمة لها، والله لا يدمر الإنسان لأن الإنسان جزء من الله

4ـ القوانين بين السماء والأرض.
إن التنظيم الواقع والمجسد للمجتمع يبين ويوضح القانون الإنساني. هذا القانون يجب أن يستند دائما ويشتق من القانون الطبيعي. هذه القاعدة لا يمكن المساس بها، و لكن لا تطبق بأي مكان بشكل ميكانيكي، بل يجب أن تضم خاصتين: الأولى هي أن القانون الإنساني له صفات و طبائع خاصة، هو قانون وضعي عندما القانون الطبيعي يكون قانونا أخلاقيا. إنه يميَّز لأنه لا يتعلق إلا بالنظام الخارجي وهو يتلاءم مع الإجبار أو الإرغام. القانون الوضعي لا يتم خلطه مع القاعدة الأخلاقية. الخاصة الثانية : الفعل السياسي هو بطبيعته خاص و جائز أو محتمل. العقل الإجرائي أو العملي عليه أن يحصل على النتائج من المبادئ العامة داخل الظروف و الشروط النوعية في حالة واقعة مجسدة. القسر أو الإرغام الحاصل من أجل الوصول للخير و المنفعة يمكن أن يحدث شرا أكثر من الخير. هنا سان أوكستان لاحظ أن القانون الزمني عليه التسامح مع بعض الشر. ويؤكد سان توماس ذلك بالقول :”إن على السياسة أن تلتزم بمبدئها محدثة أقل شر ممكن”.
إن طروحات سان توماس حول هذا الموضوع أشعلت جدلا ونقاشا كبيرا. الصعوبة الأساسية تأتي من أن سان توماس يحدد شيئين أساسيين مهمين : الأول، أن البشر يجب أن يحكموا،ولكن أن يحكموا ضمن نطاق وحدود المنفعة المشتركة،هذا يعني من جهة أخرى أن يحكموا من قبل أناس خيّرين. هنا سان توماس يتبع أرسطو ولكن تفكيره أكثر تشددا و انغلاقا. أما في كتابه De Regno،إنه يأخذ ويضم التقسيم الأرسطي للأنظمة الستة، ولكن يعود وبسرعة ليشدد التحليل حول هذا الموقف: الملكية من جهة، الأشكال المختلفة من الطغيان من جهة أخرى.

مصطلح ” الملك” يجب أن يفهم ويدرك بمعنى يتعلق بجنس الكلمة ونوعها وشموليتها: إنه يشير إلى شخصية واحدة في مجموعة وربما يكون أميرا، إمبراطورا أو رئيسا شريطة أن يحكم للخير و المنفعة المشتركة.إذا فقدت هذه الشخصية غاية السياسة التي هي الخير المشترك و التي هي تشترط شرعيته وشرعية سلطته، فهي ليست شخصية زعيم أو قائد، إنها تصبح شخصية طاغية. الطغيان يمكن أن يمارس من قبل مجموعة صغيرة أو من قبل الشعب نفسه وخاصة عندما المجموع يحكم ويضطهد أقلية صغيرة. سان توماس ينظم في نفس الفئة كل الأنظمة الفاسدة. في الخلاصة، يوجد بشكل أساسي نموذجين من الأنظمة: الأنظمة المنتظمة و الحسنة، والأنظمة الغير منتظمة و السيئة. والقاعدة يتم الحصول عليها من القانون الطبيعي. الشيء الثاني الذي يحدده سان توماس، الذي يجب أو ينبغي كما جاء في كتابه ( sommethéologique ) ، أن الجميع لديهم جزء في الحكم أو الحكومة. إنه يلتزم بمبادئه العامة. يدعو إلى تفادي كل الطغيان والأنظمة الطاغية و بكل أشكالها، وعلى الفعل السياسي أن يُمارَس بالشراكة. في النهاية السياسة وفق سان توماس هي : ” فن أفضل الممكن”.

المسيحية أعطت وجودا لمجتمع له قدر ومصير شامل: إنه الكنيسة. الكنيسة هي مجتمع من المؤمنين مفتوح ومن غير تمييز لجميع البشر. إنها مؤسسة،أنشئت مع تكليف الرسل والمبشرين،وقد بنيت و أصبحت مركزية بشكل متدرج. المجتمع الكهنوتي أصبح مجتمع حقوق، من خصائصه وجود مؤسسة تراتبية، إنها المؤسسة الكهنوتية. إذا كيف تم تنظيم العلاقات بين الكنيسة ( كمجتمع وكمؤسسة ) و بين السلطة السياسية ؟

خلال القرون الثلاثة الأولى، المسيحيون احتفظوا بموقف يطابق المذهب أو الطريقة المثبتة من قبل سان بول:احترام مطلق الإمبراطورية،مقاومة الأنظمة التي تحمل ضررا للمعتقد بالله الحقيقي.لكن الدين المسيحي الذي هو أقلية و مضطهَدة أصبح في القرن الرابع الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية،ثم فيما بعد الدين المجمع عليه تقريبا في الغرب أثناء العصور الوسطى. القضية و السؤال العملي للعلاقات بين السلطة الزمنية و السلطة الروحية تطرح بطرق مختلفة: لا يعني نهائيا الحفاظ على استقلال الروحي في مواجهة متطلبات السلطة الزمنية ولكن مصالحة أولوية الروحي و أسبقيته مع استقلالية الزمني.

بشكل آخر،لا يعني نهائيا معارضة بين حقوق الله و مع القيصر الوثني، ولكن تعريف الحقوق والواجبات للقياصرة المسيحيين وعلاقتهم مع الكنيسة.إذا هو افتتاح لتاريخ طويل للعديد من الإثارات لها أوجه متعددة. ثلاث أفكار عامة يمكن فصلها هنا : استمرار وديمومة ثنائية السلطة، الغموض في الأنظمة تحت شكل النزعات في الأهلية و الاختصاص،الغموض في الأنظمة تحت شكل تقليدية الدولة وصرامتها.
مبدأ ثنائية السلطة لم يكن موضعا للنقاش.المجتمع المسيحي تمت إدارته وحكمه بنوعين من سلطات القضاء المنفصلة، وفق شرعيتين متمايزتين للقوانين. إذا وجد بشكل دائم سلطتان قضائيتان مختلفتان في طبيعتهما. حاول الباباوات دائما إخضاع السلطة السياسية لكنهم لم يستطيعوا ذلك نهائيا.المؤسسة السياسية و المؤسسة الكهنوتية تبقيان غير مرتبطتين. هذا الانفكاك أدى إلى خصوصية الغرب القروسطي، إذا ما قورن بالمناطق الأخرى في العالم، العالم الإسلامي و الإمبراطورية البيزنطية.

من جانب آخر،العلاقات بين السلطتين طُبعَت على مر تاريخ العصر الوسيط بالنزعات و الخصومات حول الاختصاص و الأهلية. وهمُ عالم مسيحي قائم بشكل دائم،فكرة المسيحية حيث الاختلاط بين السياسي و الديني، المقارنة عند سان أوغستان بين المسيحية و ” مدينة الله”، كل هذا سيعبر الحدود. المسيحية القروسطية كانت نظاما سياسيا/دينيا له رأسين،فيما بعد سيستمر بمنافسة طويلة ونزاع أطول بين الكهنوت Sacerdoce و بين الإمبراطورية.

في وقت من الأوقات، ” شارلمان ” حاول توحيد المسيحية الغربية تحت سلطته الخاصة والتي في نفس الوقت هي زمنية وروحية ( حيث اعتبر نفسه زعيما دينيا محاولا أخذ جزء من السلطة الداخلية للكنيسة ). فيما بعد في القرن السادس حتى السابع عشر،حاول الباباوات بجهد كبير إقامة تفوقهم السلطوي. روما مَنحت حق تجاوز وعزل الأباطرة، وذلك للسلطتين الروحية ممثلة بالكنيسة والزمنية ممثلة بالسلطة السياسية ولكن تحت وصاية الكنيسة. هذا التنافس بين السلطتين سيدور في النهاية وبشكل إجباري باتجاه تقوية سلطة الملوك.في نهاية العصر الوسيط، الملكية الوطنية تم فرضها كشكل سياسي. الغموض في الديني والسياسي لم يتوقف : الدين بقي صاحب سلطة ونفوذ في القرن السابع و الثامن عشر،و منظرو الملكية المطلقة سيستندون في تنظيرهم إلى نظرية الحق الإلهي. بعد الإمبراطورية القسطنطينية،وبعد الإمبراطورية القروسطية، الملكية الوطنية ( على الطريقة الفرنسية ) ادعت الاختيار و العناية الإلهية.
في العصر الوسيط وبعد ذلك، النزاعات استمرت في بعض الأحيان كنزاعات عائلية.مجتمع المؤمنون اختلط بالمجتمع السياسي مع قوة وصرامة الدولة.فالكنيسة تُعَلّم كما كانت تفعل دائما، مع حرية اختيار العقيدة ولكنها عمليا أو إجرائيا على أرض الواقع لم تتناغم مع ما تزعم به. فكرة ” الجمهورية” المسيحية وبعدها الأمة المسيحية بررت تجييش وتحريك السلطة السياسية في خدمة وحدة العقيدة. ” اليد الزمنية العلمانية ” ضربت الانشقاقات أو الانفصال عن الكنيسة الرومانية و الهرطقيات. فقوة القيصر كانت مستخدمة في خدمة شؤون الله. فكرة ” الدين يجب أن يكون حرا” هي ” خطأ إلحادي أو من الزندقة” كما جاء في كتاب Bossuet (السياسة مستمدة من الكتب المقدسة، الجزء السابع 1709 ).

الصيغة ( لاهوتي / سياسي ) كانت سلطوية. وتمت ترجمتها على شكل اضطهاد ديني، وتسببت بعد محاولات” الإصلاح” بحروب أهلية خطيرة. هذه الحروب الدينية و الاضطهاد الذي تلاها ساهمت بشكل كبير في تطور الفكر السياسي الحديث. ردة الفعل كانت بعد هذه الحروب كالتالي : الدين يقسم ويفرق، السلطة السياسية تضطهد الدين، في النتيجة الدين يجب أن يبعد عن السياسة. الكنيسة الكاثوليكية، و التي اعتقدت أنها نجحت بأن أصبحت كنيسة الدولة، وُجدت من الآن فصاعدا في موقع دفاعي.
المحدّثون Modernes التزموا الصراع ضد السلطة السياسية للكنيسة الكاثوليكية وقد وصلت النتيجة إلى النجاح. الكاثوليكية فقدت في بلاد ” الكنيسة اللاتينية” موقعها كدين للدولة، الكنيسة الرومانية أجبرت على ترك موقعها الزمني، المبدأ الحديث للتحييد الديني للدولة أصبح القاعدة العامة،المجتمعات تعلمنت أو تحول المجال الكنسي إلى دنيوي Sécularisation . متضررة داخل مواقعها الزمنية،وفي إمبراطوريتها الروحية، ضحية أيضا في بعض الأحيان للسياسة المعادية للدين ( اضطهاد الثورة الفرنسية لها )، أو كما في ألمانيا كما تسمى Kulturkampf ، السياسة ” المعادية للكهنوتية” في الجمهورية الثالثة الفرنسية، الكنيسة تمسكت على طول القرن التاسع عشر وبعد ذلك أيضا بالارتباط بالنموذج الماضي: المسيحية أو المدينة الكاثوليكية بمعنى آخر النظام السياسي / ديني.

الأشياء بدأت بالتبدل مع بابا الفاتيكان Pie الثاني عشر( انتخب في عام 1939). يوحنا الثالث و العشرون تابع التغيير، وتم تكريس التطور من قبل مجلس الفاتيكان الثاني ( 1962 ـ 1965 ). مقياس التغيير كان في غاية الحساسية ومتنازع فيه. النصوص الرومانية هي في الكثير من الأحيان صعبة في الشرح و التفسير وذلك بسبب عمومية العديد من الصيغ و الأشكال،وبسبب أيضا الممارسة التقليدية للتيار ” التوفيقي” Concordisme بين الكتب المقدسة و نتائج التقدم العلمي ( كما يحصل في الإسلام اليوم ). مع ذلك، يظهر أنه و بشكل أكيد أن النصوص التصالحية تطبع وتؤشر إلى تبدل و تغير مهم في المذهب. أي تبدل و أي تغير؟

الكنيسة أُبعدت عند النموذج السياسي القروسطي. المثالي السياسوـديني للمسيحية، مقارنة ومشابهة المجتمع السياسي بالمجتمع الديني، نظرية السلطتان، مع صرامة الدولة و الدعوة إلى الزمني تم التغيير، الدنيوي و العلماني يبدو أنها مصطلحات قابلة للحياة ، فعاشت و استمرت. التجديد الأساسي بالنسبة للتعليم التقليدي يتعلق بالحرية الدينية و الذي يكرس كرامة البشر وحريتهم : لا أحد لأسباب دينية يجبر على التصرف ضد عقيدته أو يمنع من ممارستها.الكنيسة من الآن فصاعدا هي جزء من هذه الثقافة الحديثة والتي هي الجوهر الأكثر قوة ووضوحا لكرامة الشخصية الإنسانية. إذا الكنيسة تم فصلها عن نموذج أخذته وورثته عبر التاريخ. أما بالنسبة للمبادئ الأساسية تبقى وفية لتعليمها التقليدي. ولكن ماذا يقول هذا التعليم في النهاية ؟

5 ـ بين مملكتين.
لقد قدم علم السياسة تفسيرات متعددة لفهم السياسة منذ العصور القديمة وحتى الآن،أو ما يمكن أن نسميه نماذج التفسير و الفهم للسياسة.هذه النماذج تقسم منهجيا إلى ثلاثة: تفسير القدماء ( خاصة الفلاسفة اليونان)، ثم التفسير والفهم (المسيحي) و أخيرا التفسير الحديث. ربما يكون هذا المنهج في التقسيم عرضة للنقد وهذا حق الجميع دون أدنى شك، ولكن عدم التطرق للتفسير من قبل ( الكنيسة الشرقية) أو رأي الأديان الأخرى في منطقتنا أو بمعنى أخر استبعادها عن منهج فهم السياسة، هذا يعود إلى رؤية أولية نستطيع القول من خلالها أن هؤلاء لم يدخلوا سوق إنتاج المفاهيم السياسية بصفتهم منتجين،و إنما لهذه الدقيقة هم من المستهلكين لهذه المفاهيم،الشروح و التفسيرات. أو بمعنى آخر أيضا، الإسلام كان هو الحل منذ ألف سنة، ومازال في نظر المسلمين هو الحل بعد انقضاء الألف سنة رغم أن كل شيء قد تغير حتى الله ( بمعنى النظرة إليه وفهمه) وفي قوانينه الاقتصادية والاجتماعية والإنسان في اختراعه لأديان ومعتقدات جديدة (سياسية وحتى عقائدية).

كنا قد تحدثنا في نهاية الجزء الرابع من ” المسيحية وعلم السياسة” عد طرح قضايا تتعلق بالحرية الدينية و أن الكنيسة أصبحت جزءا من الثقافة الحديثة، ثم أن الكنيسة لم تعد ذاك الموروث التاريخي الذي يشكل عبئا على المؤمنين أو غير المؤمنين بالمسيحية. تبقى الإجابة على السؤال الذي طرح سابقا : إذا انطلقنا من الخطاب “السياسي” للكنيسة، إلى أين يقودنا المذهب السياسي لهذه الكنيسة وخاصة ” الرومانية” منها؟
ثلاث أطروحات يمكن مناقشتها ضمن هذا الإطار:

أولا ـ النظام السياسي و النظام الروحي يجب ألا نخلط بينهما و ألا نفصلهما:
من جانب، و بالتطابق مع الحكمة الإنجيلية، مجال السلطة السياسية و مجال السلطة الروحية هما مجالان مختلفان. يوجد زوايا متعددة يمكن النظر منها للقدر الإنساني، كما كتب سان توماس، مع كل واحد الوسائل و الغايات الخاصة به. الدولة لها قوانينها، الكنيسة لديها قوانينها أيضا. لكل مهنته. ” في الميدان الخاص بهما، المجتمع السياسي والكنيسة هما مستقلان الواحد عن الآخر” ( Gaudium et spes, 76.3). ومن جانب آخر، الرسالة الدينية للكنيسة لا تتحدد بقطاع واحد خارج الوجود الإنساني، إنها تضم كل الإنسان. المسيحي يبقى دائما مسيحي، يجب ألا يعيش بشكل مزدوج أو بنسختين، بمعنى أن يكون مؤمنا يوم الأحد، وإنسان من غير عقيدة بقية أيام الأسبوع. ضمن هذا المعنى،الكنيسة عليها عمل الكثير حتى تكّون أو ” تنفخ” روحا مسيحية في كل مجالات العمل الإنساني، أيضا ضمن هذا المعنى لا يمكنها أن تبقى غير مختلفة عن النظام السياسي و الاجتماعي حتى ولو أن هذا الأخير يتفق أو لا مع متطلبات الشخص أو الأشخاص.” إنه غير مقبول،ويخالف الإنجيل، الإدعاء بتحديد الدين ضمن الفضاء الخاص بالشخص. إنه سيكون من التناقض أن ننسى بعده السياسي و الاجتماعي”. ( جان بول II ، مدريد، 13 حزيران 1993).

كيف يمكن الذهاب مع هاتين الرؤيتين؟ نموذج المصالحة أو التصالح يمكن، كما يظهر، أن يكتب كالتالي: لا يوجد مشروع سياسي مسيحي أو برنامج سياسي مسيحي، ولكن يوجد مبادئ سياسية مسيحية. الكنيسة ليس لديها حلول مجسدة واقعة أو تقنيات سياسية لتقدمها، ” إنها لا تقترح أنظمة أو برامج سياسية واقتصادية، أنها لا تظهر كمرجع عند هؤلاء أو الآخرين، شريطة أن تكون الكرامة الإنسانية واجبة الاحترام و على أن يكون لهذه الكرامة و الشرف الإنساني الفضاء و المتسع الضروري لتكملة مهمتهما داخل هذا العالم”. (جان بول،المرجع السابق،الصفحة 41).

موضوع المذهب أو النظرية الاجتماعية للكنيسة لا يكون من أجل تعريف نموذج سياسي/اجتماعي،أو” طريق ثالث” بين الرأسمالية الليبرالية و الجماعية الماركسية collectivisme marxiste ، ولكن هو تثبيت لمبادئ و توجهات، مؤسسة على الوحي Révélation وعلى القانون الطبيعي.
ضمن هذا المعنى أو الاتجاه، لا يوجد ” سياسة مسيحية”، ولكن يوجد ” متطلبات مسيحية في السياسة”. مع ممارسة و تطبيق الحل، الأفضل سيكون ” تعاون صحيّ وسليم ” بين الكنيسة والدولة، آخذين بالاعتبار بعض الظروف. ( Gaudium et spes, 76.3 ).

ثانيا ـ السياسة هي ” فن نبيل”:
السياسة هي فن لأنها في نفس الوقت مخصصة لغايات جوهرية و تابعة لظروف زمنية و مكانية. ولكن ما هي هذه الغايات؟ وفية لتقليدها و بشكل خاص لسان توماس، الكنيسة تذكر بشكل دائم بثلاثة مبادئ أساسية:

1 ـ السلطة السياسية هي خدمة، موجه إلى للخير المشترك وبشكل قاطع إلى خير الأشخاص.السياسة ليس شيء آلي ميكانيكي، لا تختزل إلى تقنيات، إنها فعالية أخلاقية تأخذ على عاتقها ظروف الحياة المشتركة و العمل، مستندة إلى الحرية و جوهر ومعنى المسؤولية، وضمن معنى الكمال الإنساني. المرجع هو خير موضوعي، إنه الإنسان الكامل، وليس جزء من الإنسان. حيث أن الإنسان البدائي حصل عليه.
2 ـ النظام السياسي يجب أن يحترم بل يرتقي ويرتفع بالبعد ” التجمعي” للحياة الإنسانية. مجتمع منظم جيدا ليس تراكم agrégat من الأفراد المعزولين تحت سلطة الدولة. بل يضم مستوى وسطي ” وساطة”، إنه تجمعات مشاركة كل وفق مقياس معين. هذه ” الأجسام الوساطة ” لها أشكال مختلفة: العائلات “وهي الخلايا الأولى و الحيوية للمجتمع”، البلديات، الجمعيات و المنظمات، النقابات..الخ على أن تكون جميعها من تجمعات مختلفة من الأشخاص، هذه التجمعات تهدف لتحقيق فضيلة الاتصال و الارتباط الاجتماعي القوي وفي نفس الوقت تسمح لكل فرد بأخذ جزء ناشط وفعال من الحياة المشتركة. داخل الدولة، ” الأجسام الواسطة” و الأشخاص، توزيع المهارات و الكفاءات يجب أن يخضع لمبدأ التناوب الذي وضعه Pie XI في عام 1931،بشكل دائم يتم تكراره : سلطة القرار يجب أن تمارس على أكبر قدر ممكن من قبل الناس. خير الإنسان يتطلب أن يكون هذا الإنسان لديه مسؤولياته، و أن يكون فاعلا مسؤولا، وليس موضوع أو شيئا سلبيا.

3 ـ الثابت في كرامة الإنسان لديه بعد سياسي/اجتماعي. تنظيم المجتمع يجب بطريقة لا تقلب العلاقات و الوسائل في النهاية: حيث أن الدول وجدت من أجل الإنسان و ليس الإنسان موجود من أجل الدولة، الملكية وجدت أيضا من أجل الإنسان وليس العكس،العمل أو الاستهلاك هما في خدمة الإنسان وليس الإنسان في خدمتهما، العلوم التقنية و التكنولوجيا هي منظمة و موجهة لخير الإنسان وليس العكس. الكنيسة تنبذ كل التفسيرات التي تُخضع الوجود الإنساني لمتطلبات جزئية أو إخضاعية كما في اتجاه économisme أو technicisme. الاتجاه أو المذهب الاجتماعي للكنيسة ولد مع RerumNavarum ( 1891) حيث Léon XIII تحدث عن الظرف القائم للتكتلات العمالية. اليوم، القائمون على العقيدة يلتزمون أو يرتبطون قبل كل شيء باللامساواة التي توجد في هذا العالم. ” القضية الاجتماعية هي اليوم عالمية” ( Paul VI ،Populorum Progressio ،1967، المدخل).

الكنيسة تدعو إلى تطور وتنمية جوهرية و التي لا تفصل الاقتصاد عن الإنسانية و أن تحقق متطلبات و حقوق جميع الأشخاص. أن يكون لديك و أن تملك هذا شيء مهم ولكن على أن يكون ذلك في خدمة الكائن الإنساني.
بناءا على هذه المبادئ، الكنيسة تطلق العديد من التقييمات و الأحكام فيما يتعلق بالأنظمة لكنها لم تقف أبدا لصالح هذا أو ذاك الشكل من الحكم. في مواجهة الديمقراطية الليبرالية، الكنيسة تبين في نفس الوقت انتقادات و تقييمات لصالح هذه الديمقراطية. يجب التمييز هنا: القائم على العقيدة” يقدر” النظام الديمقراطي كضامن لمشاركة المواطنين في اختياراتهم السياسية، حيث يظهر مثل الليبراليين دعاة حقوق الإنسان، لكن أيضا يطعن في ديمقراطية مطلقة و كل ليبرالية راديكالية : إرادة الشعب لا تعود لها الشرعية الوحيدة في القرار، أيضا إرادة الفرد ليست الوحيدة التي تبرر مسيرة الحياة. المعيار الأساسي هو احترام الخير المنشد أو المقصود. الإرادة الإنسانية ليست صاحبة سيادة، العقل الإنساني ليس هو مقياس و قاعدة الأشياء. هنا يكون دائما “حجر عثرة” pierred’achoppement بين الفكر الكاثوليكي و الفكر الحديث ( على الأقل في صيغته النقية الخالصة ).

الكنيسة تطرح العديد من المبادئ و التوجهات. تدعو أولئك الذين يمارسون مهنة السياسة و الذين اختاروها إلى هذه المبادئ. و المهم أولا، هي المعطيات الأخلاقية: أن لا يكون الشعب كتلة من البشر، أن يكون رجال السياسة أصحاب ثقة ويسعون نحو الكمال، أن يكون قلقهم الأول هو الخير المشترك. و المهم ثانيا، الأهلية و الجدارة أو العلم و المعرفة بالحكم وظروفه و حالاته الخاصة أي بمعنى آخر ” الانتباه و الحذر”. المسيحيون مدعوون لإعطاء القدوة و المثال. بما أنهم مواطنون، عليهم التصرف ليس باسم الكنيسة أو بإقحامها ولكن باسمهم الخاص ( في الفعل المجسد و الواقع، التعددية السياسية هي شرعية). بشكل آخر للقول، الكنيسة تنسب إليها التمييز أو التفريق الذي قام به Jacques Maritain بين ” التصرف كمسيحي” و ” التصرف بالمسيحية”. استلهام المسيحية يجب أن يكون حاضرا بشكل دائم ولكن لا يوجد برنامج سياسي مسيحي.

ثالثا ـ السياسة لديها حدودها لكن التاريخ مفتوح للفضيلة والعفو.
الذي نستطيع أن نتأمله من السياسة هو بالطبيعة موجود لكنه لم يتحقق. نظام السياسة لن يكون لديه نهائيا قيما مطلقة، الرجاء أو الأمل المسيحي هو في جانب آخر أو أبعد من السياسة، بل أبعد من الزمن.ضمن نظامها الخاص، السياسة نذرت نفسها لعدم الكمال. إذا وجدت ” بنىً للخطيئة ” ، لا يوجد أنظمة سماوية.( جان بولII). في نهاية المطاف، كل شيء يعتمد على الإنسان و الإنسان منقسم في داخله لأن طبيعته مجروحة بالخطيئة. الشر داخل الإنسان، ” الصراع ضد قوى الظلام والجهل تمر خلال كل التاريخ عبر الإنسان” وهذا سيستمر إلى نهاية الأزمان” أما المدينة الكاملة ليست من هذا العالم.
من جانب آخر وبشكل غير مرئي، الفضيلة موضوعة في التنفيذ داخل التاريخ و ” المملكة” Royaume بالحرف الكبير، هي مسبقا موجودة فوق هذه الأرض. المدينتان مختلطتان بشكل خفي أو غامض في هذا العالم. لهذا السبب، إذا كان من الواجب التمييز بعناية التقدم الإنساني نحو أو بتدرج باتجاه ” حكم المسيح”، هذا التقدم هو مع ذلك مرتبط في جزء منه مع ” المملكة ” ضمن مقياس حيث ” يأنس” humanise الحياة المشتركة للبشر. ( Gaudium et spes, 39.2). هذه ” الخميرة ” الإنجيلية تقرب الإنسان من الله (ونعتقد أن جميع الأديان تحتاج لهذه الخميرة)، إنها تقرب أيضا البشر من بعضهم أو فيما بينهم.
كذلك الكنيسة الكاثوليكية تجهد لتمسك بطرفي السلسلة، و أن تقدم ما عليها في المدينتين. إنها تعلم في نفس الوقت عدم كفاية العالم وعظمة الخلق، أسبقية الروحي و استقلالية السياسة، السير الغامض للتاريخ المقدس و فضائل النظام الطبيعي، ثم ضرورة وجود السلطة. المذهب الكاثوليكي يتناقض مع كل راديكالية أو مع كل طوباوية سياسية، إنه راديكالي في دعوته للأشخاص، إنه يقول بحكمة القانون الطبيعي. البعدان لا يتعارضان، الفضيلة والنعمة تعلي و ترفع الطبيعة، لكن تنظيمهما هو في حالة تجاذب وتقلب بين القطبين. أو ( بشكل مبسط) : الذي يجسده سان أوغستان و الذي تجسد من خلال سان توماس. التوتر بين المدينتين هو موضوع تعايش أو جوهر مشترك في الفكر الكاثوليكي.

6ـ تحرير الإرادة.
من يقرأ الفلسفة السياسية الحديثة يرى أنها ليست متجانسة. مع ذلك نحن نصنف مجموعة من علماء السياسة أو المفكرين في مجالاتها و كأنهم في خانة أو مجموعة واحدة، كما هو الحال مع كارل ماركس،مونتسيكيو،ميكيافليي…، علما أن بينهم تناقضات كثيرة، إذا ما هو سبب هذا التصنيف ؟
في النظرة أو الوهلة الأولى، وحدة الفلسفة السياسية الحديثة تعود لنفس الرفض: الحداثة ترفض تقاليد الماضي وكأنها شؤم أو غير واقعية. أكثر عمقا، هذا الرفض يستند على أشياء مشتركة نستطيع أن ندعوها روح الحداثة و التي تعمل في اتجاه : انعتاق الإرادة. فكرة الانعتاق يمكن أن يكون مفكر فيها بشكل معتدل أو آخر متطرف. تاريخ الفلسفة السياسية الحديثة يظهر بشكل واسع و كأنها تعميق للإرادة الانعتاقية هذه. في مجريات هذا التاريخ، الحالة الجديدة تعود أو تخص العقل. هذه الحالة تتميز بعدة عناوين أو أشكال. أولا، الروح الحديثة تؤكد استقلال العقل في معنى واحد أكثر راديكالية من الفلسفة الكلاسيكية أو بالأحرى من الفلسفة الكلاسيكيةـ المسيحية. استقلالية العقل الحديث لا تعني فقط رفض مبدأ السلطة ( و بالتالي رفض السلطة السياسية و الدينية )، إنها تعني أيضا رفض مبدأ الغائية. الإنسان ليس نهائيا جزءا من نظام يتجاوزه( الكون عند اليونان) Cosmos، الخلق وفق لمسيحية Création، ليس موجها أو منظما نهائيا إلى نهاية هي في طبيعته، إنه إنسان مستقل. إن تعرج الروح الحديثة يقود الاقتراح التالي: الإنسان هو سيد، إنه سيد العقل، الضمير و الإدراك. التقليد يجب أن يكون إذا مطعون فيه لأنه يضع الفرد في حالة من التبعية، إنه يمنعه من بلوغ رشده.

هذا العقل المستقل بشكل كبير وجذري هو، ثانيا، فاتح أو غاز. العقل عند القدماء و عند المسيحيين كان هدفه الحياة الشخصية: العقل يجب أن يسمح لكل منا بالسيطرة على أهوائه و أن يقود حياته بالتطابق مع طبيعته كحيوان عاقل. العقل الحديث يغير الاتجاه: إنه يرتبط بالعالم الخارجي و يمتد لتغيير ظروف الإنسان. أنه متقد بواسطة روح التحرر و الانطلاق و التي تهدف في نفس الوقت السيطرة على الطبيعة اليونانية و على العلم و التقنية، ثم السيطرة على المجتمع عبر تنظيمه بشكل عقلاني. مغامرة كبيرة وجديدة تفتح، إنها المغامرة الخارجية، التي تبدل أو تغير المغامرة الداخلية. العالم منظم، إنه قابل للتطويع أكثر مما اعتقدنا في السابق، وحرية الإرادة الإنسانية أصبحت أكثر كبرا. ” العالم الطبيعي هو للاقتحام” يقول باكون وديكارت،” الإنسان يجب أن يصبح سيدا و مالكا”، أما ماركس فيدعو لولادة عالم جديد. تحت شكل أقل أو أكثر راديكالية أو أقل أو أكثر اعتدالا، الروح الحديثة تمتد لإعادة التفكير في العالم من أجل تغييره. يتبع ذلك أن الفارق التقليدي بين النظرية و التطبيق سيصبح أقل بروزا و تضعف معالمه. المعرفة هي سلطة، إنها تعد بعصر جديد لظروف الإنسان.

ثالثا، هذا الاتجاه الجديد للعقل يعني ما يلي: من جانب العقل الحديث هو فاتح أو غاز،ومن جانب آخر هو عقل خادم. العقل يعطي القدرة على تغيير الأشياء الخارجية، إنه يمتد حتى يترك إدارة الأشياء الداخلية. بشكل آخر للقول، يوضع في خدمة حرية أكثر فأكثر ليس لها حدود، إنه يترك المجال أمام الرغبات الإنسانية. الروح الحديثة فرغت بشكل متدرج فكرة الطبيعة الإنسانية من كل جوهر و نختم الفكرة بالقول: الطبيعة هي حرية نقية صافية، تُبنى داخل و بواسطة التاريخ أو تُبنى كما يراها كل فرد ويفهمها. تحت شكلها النقي الخالص أو شكله الراديكالي، الفكر الحديث يعتبر الإنسان كخالق لنفسه. بمعنى آخر الإرادة تمحي الطبيعة. العقل يبادر بالفعل، إنه بذلك يشكل أداة و يدير الوسائل وفق القوة أو الاستطاعة الإنسانية، استطاعة يجب أن تستخدم من أجل إعادة الحياة أكثر مدة أو طولا، و أكثر راحة، أكثر غنى ممكن، أو استطاعة وقوة يبحث عنها بحد ذاتها.
بالمقارنة مع الكلاسيكيين، الحديثون يطلبون في نفس الوقت أقل أو أكثر من العقل: من جانب هم يرتقون به و من جانب آخر ينزلون به.في النتيجة،النتائج هي معكوسة: من الآن فصاعدا يوجد مجتمع أو نظام اجتماعي وفق العقل ولكن لا يوجد حياة وفق العقل.

السياسة بذلك تغير من طبيعتها. الثورة الحديثة تعني أن السياسة تتجاوز السلطة السماوية و السلطات اللاهوتية. بعمق أكثر، المشروع الحديث يعني أن السياسة تتوقف عن أن تكون فنا لتصبح بذلك تقنية أو تكنيكا. التعريف النهائي للسياسة يترك المكان لتعريف أداتي Instrumentale. موضوع السياسة وفق التقاليد كان العمل من العيش الجيد للإنسان، موضوع السياسة وفق الفلسفة الحديثة هو التنظيم و بشكل عقلاني للعالم الاجتماعي في خدمة الانعتاق الإنساني. بالنسبة للكلاسيكيين، السياسة تبقى بشكل ضروري بجانب العقل، وعند الحديثين، المشكلة السياسية لديها حل عقلي. هذا الحل هو مؤسساتي. الفلسفة الحديثة لا ترتبط نهائيا بفضائل الفاعلين، إنها تعتمد على فضائل النظام.

الفلسفة السياسية أيضا تغير من طبيعتها ومن خلال إستراتيجية. الفلسفة لا تفعل سوى توضيح السياسة، لديها دعوة للحكم. إرادة عقلنة السياسة بشكل كبير تبرر سياسة جديدة للفلسفة: الكتابات الحديثة لديها،بشكل عام، طابع نضالي. التحليلات هي أيضا برامج أو بيانات. اللغة المزدوجة التي يستخدمها الحديثون بشكل مستمر ليس لديها نهائيا نفس المعنى كما عند ” اليونان”. إنها لا تهدف لوقاية و صيانة الرأي و الفلسفة، بل تهدف لفتح الآفاق أمام الرأي و لنشر الفلسفة. اللغة المزدوجة هي باطنية ésotérique من أجل الدوران على الرقابة و النقد، وهي ظاهرية exotérique من أجل الإقناع من غير تصادم. فالمشاريع الكبرى تحتاج مناورات كبرى.

في التفاصيل بشكل مؤكد الأشياء أكثر تعقيدا بكثير. في البداية تاريخ الفكر ليس تماما هو مستقيم. فكرة التجذير radicalisation المتدرج للفكر الحديث لم يتم استغراقها إلا تحت مجموعة تحفظات ( ميكيافلي هو أكثر راديكالية من مونتسكيو). فيما بعد الفلسفة السياسية الحديثة ستقسم في تيارات مختلفة. إما، نبسطها مجددا فنقول: من جانب الليبراليين ( بالمعنى الواسع) من أجل انعتاق الأفراد أو حريتهم المستقلة تمر عبر الوضع في التنفيذ تقنيات تحافظ على الحرية؛ من جانب آخر الانعتاق من التاريخ السماوي الإلهي حتى يكون انعتاق الإنسانية داخل و بواسطة التاريخ، والسياسة ستزود بالتقنيات من أجل التحرر. إنهما وجها الحداثة. في الأصل، يوجد الثورة الأخلاقية مصنوعة بكل معرفة بالوقائع بواسطة الرائدين الكبيرين للفلسفة السياسية الحديثة: ( نيكولاس ميكيافلي) و ( توماس هوبز).

كتاب”الأمير” الذي وضعه ميكيافلي ( 1513) ينتمي إلى شكل أدبي تقليدي : ” مرايا الأمراء”. هذا الكتاب يأخذ مكانه في سلسلة طويلة ضمن المؤلفات حول فن الحكم. ولكن إذا كانت القربة “الزجاجة” قديمة فإن النبيذ هو جديد. الذي يطوره ميكيافلي ( 1469 ـ 1527)، من غير أن يرفع نبرة الصوت، هي مجموعة من الوصايا والتي بما أنها وصايا للحكم : ” لأن البشر إما أن يدمروا بعضهم وإما أن يتلاطفوا “، لأنهم يذهبون إلى الثأر لأقل الأسباب ( الفصل الثالث)، ” إنه من المؤكد أن يخافوك الناس أكثر مما يحبوك” (الفصل السابع عشر)، ” يجب أن يكون الأمير متصنعا بشكل كبير ومنافقا أيضا” ( الفصل الثامن عشر). في النتيجة بماذا ينصح ميكيافلي؟

إنه ينصح الملك بأن يأخذ بوسائل الطاغية. تحت ريشته، وفي جميع الأحوال في كتاب “الأمير”، التمييز القديم يُمحى لأن عالم الأخلاق أو عالم ميكيافلي هو نقيض للعالم الأخلاقي لأفلاطون،أرسطو و سان توماس. العلاقات بين السياسة، الخير والشر تغيرت في معناها، كما تغيرت في معنى الكلمات المتعلقة “بالفضيلة” و “الحكمة”. التعليم الواضح والمعلن عند ميكيافلي هو تهذيب الأخلاق وفق الضرورة : الشر هو ضروري في السياسة و هذه الضرورة مبررة.
ميكيافلي هو مفكر جرئ،حاذق و أيضا لغزي مبهم. كيف نشرح أخطاءه الظاهرة و الواضحة جدا، وتناقضاته أيضا التي نجدها في نصوصه؟ كيف ينصح “الأمير”، حيث يأخذ وجهة نظر الملكية ـ الطاغية؟ ما هي آخر كلمة لرجل باعترافه الخاص مارس الفن الذي أوصى به الأمير وهو ” النفاق و التصنع”: ” منذ بعض الوقت لا أقول نهائيا ما أفكر وأعتقد به، و لا أعتقد نهائيا بما أقول” ( رسالة كتبت في 17 أيار 1521 إلى Guichardin)؟ جرأة ميكيافلي تذهب،كما يظهر، أبعد من تعليمه المبين: المشروع الميكيافلي هو مشروع لقلب وتدمير العالم الكلاسيكي ـ المسيحي، لا يهدف فقط إلى تقويض الدور السياسي للكنيسة، إنه يهدف لتغيير وبشكل جذري التعاليم التي تدير وتحكم البشر. هذا الذي يظهر أو يقدم كمستشار للأمير هو في الواقع المُعلّم الخفي للأمراء الجدد. إنه المربي أو المنشئ لفضاء جديد لرجال السياسة. ميكيافلي يهدف ” لحكومة غير مباشرة” للبشر كما يرى ( Harvey Mansfield) من خلال تدخل عدد قليل من أولئك الذي لديهم القدرة على متابعة تعاليمه حتى النهاية. البشر العاديون غير قادرين لسماعه بشكل حقيقي أو حتى أن يأخذوا بشكل جدي ما يقوله بوضوح. هؤلاء هم الجبناء،إنهم لا يتجرؤوا، إنهم لا يفهموا هؤلاء الذين يتجرؤون. إنهم مدعوون ليكونوا مخدوعين. في الفصل الخامس عشر من “الأمير”، ميكيافلي يبين بشكل دائم الجديد في خطوته: ” لكن قصدي هو كتابة شيئا مفيدا لمن يسمعه. كثيرون تخيلوا جمهوريات و ملكيات لم تتم نهائيا رؤيتها أو معرفتها بشكل حقيقي.

في الواقع،هناك بعد كبير بين الشكل الذي نعيش والشكل الذي يجب أن نعيش”. ميكيافلي يعارض ” الأشياء التي تخيلناها” و ” الأشياء التي تبدو حقيقية”، بمعنى آخر تحليل الفلسفة الكلاسيكية و الفلسفة الكلاسيكيةـ المسيحية. فكر أفلاطون و من جاء بعده هو غير واقعي، إنه أسس على فكرة خاطئة بشكل كبير: الإنسان منظم و مرتب بواسطة دعوته إلى الحياة وفق الفضيلة. في الواقع،البشر هم كليا شيء مختلف. إنهم أشرار و محرومون من النهايات الطبيعية. ينبغي إذا إعادة التفكير في موضوع السياسة منطلقين من أهداف تكون بشكل حقيقي متابعة و ملاحقة من قبل الإنسان. ميكيافلي يقلص أو يخفض بعزم و ترو قواعد الفعل السياسي. النظام الأفضل عند الكلاسيكيين هو وهم. النجاح العملي يفرض أن نأخذه” بالحقيقة الفعلية للأشياء”.

ما هي إذا أهداف السياسة كما يقدمها أو يراها ميكيافلي خاصة في كتابه ” الأمير” ؟ وهل هي في خدمة الأمير ـ الطاغية ؟ وهل حقيقة ميكيافلي لم يقل كلمة واحدة خلال خمسة وعشرين فصلا من الكتاب عن الخير العام في تمييزه عن خير الملك ؟ هذا ما سنراه لاحقا مع دراسة الفكر السياسي عند ميكيافلي.

مدخل إلى الفكر السياسي الغربي (3)

الفصل الثالث
صعود الاستبدادية (الحكم المطلق) داخل الدولةـ الأمة لعصر النهضة.

في بداية القرن السادس عشر،المذهب الاستبدادي كان قد وجد قبل ذلك،تأسس في العصر الوسيط من قبل بابا الكنيسة و الملوك على قواعد لاهوتية،ولاسيما،على قاعدة القانون الإمبراطوري الروماني. هذه القاعدة سوف تنتشر، تتثبت و تأخذ طابعا أكثر تنظيما ضمن سياق “عصر النهضة” حيث ستتأكد الدول ـ الأمم.ولكنها ستصطدم مع تقاليد للاستقلال المحلي ومع مؤسسات تمثيلية هي أيضا موروثة من العصر الوسيط.

أولا ـ الأصول القديمة و الوسطى لمفهوم “السلطة المطلقة” الاستبدادية.
المذهب الاستبدادي هو من أصول قديمة أي يمكن رده للأفكار السياسية التي ظهرت في العصر القديم والوسيط. ولكن نحن سنبدأ دراسة هذا المذهب منذ العصر الروماني لاعتقدنا بوجوده بشكل ممنهج ومنظم أو قائم على قواعد محددة.

1ـ السلطة المطلقة في القانون الإمبراطوري الروماني.
السلطة الفردية للإمبراطور الروماني تم تثبيتها على طول ومر العصور. ففي عصر الإمبراطور Vespasien (69 ـ 79 بعد الميلاد)، الشعب الروماني تخلى عن إرادته في السلطة لصالح الإمبراطور. ولكن بسرعة كبيرة الأباطرة كانوا الوحيدين الذين لديهم حق التصرف فيما يتعلق بالقوانين ووضعها،ثم منح الامتيازات لمن يريدون و تسمية الموظفين الكبار. إذا انتهى تماما ما يمكن أن نسميه حق التشريع للشعب.

2ـ الإرادة البابوية الكاملة.
في أوربا الغربية الإقطاعية،قبل القرن الثالث عشر، لم تطبق فكرة السلطة المطلقة إلى من خلال الباباوات.ففي عام (1076) البابا غريغوار السابع أكد أن “السلطة الكاملة” تعود للبابا: إنه رئيس الكنيسة،يستطيع تشكيل السلطات الزمنية، ويشرع أي قانون يريده. وتأتي هذه السلطة من حيث أن البابا هو “نائب للمسيح”. ضمن هذا السياق، البابا له سلطات عادية يتصرف فيها من خلال القوانين القائمة،وسلطات ما فوق عادية تسمح له بالتصرف بشكل مطلق بعيدا عن الالتزام بالقوانين القائمة. ولكن الاستبدادية البابوية لم تتعلق في البداية بالسلطة الزمنية للباباوات، بل حصرا في سلطاتهم الروحية. بعد ذلك تحولت إلى سلطة يدعي فيها البابا أنه يأخذ أوامره مباشرة من الله من أجل الكنيسة ومن أجل المملكة أيضا، وكان هذا في القرن السادس عشر. إذا السلطة البابوية وحتى طبيعة السلطة التراتبية القائمة داخل الكنيسة أصبحت في أوربا العصر الوسيط نموذجا للملكية المطلقة والإدارة المركزية.

3ـ تطبيق البابوية على السلطة الزمنية.
أصبحت البابوية مدرسة بسبب هيبته القائمة والوزن المتنامي للقانون الكنسي. هذه المبادئ سوف تطبيق بعد فترة وجيزة على الملوك. ولا نسى أنه حتى الملوك كانوا يدعون بأنهم ممثلون لله على الأرض. إذا فكرة السلطة المطلقة كانت ماثلة في أوربا منذ وقت طويل. ولكن،في العصر الوسيط، كانت في منافسة مع سلطات أخرى. ضمن هذه الظروف، التغيرات السياسية،الاقتصادية و الاجتماعية التي طبعت عصر النهضة ستساهم في ميل الميزان داخل العديد من البلدان الأوربية لصالح السلطات القوية و المركزية التي اعتمدت الحكم الاستبدادي المطلق.

ثانيا ـ نشؤ الدول ـ الأمم.

1 ـ تحالف السلطات المركزية مع القوى الاجتماعية والاقتصادية الجديدة [18].
في الواقع ومنذ “الانقلاب البابوي” الكبير ما بين القرنين الحادي عشر و الثالث عشر، الإقطاع بدأ بالتراجع. فالكنيسة مع الممالك القائمة وجدت نموذج الدولة القديمة وعملت على بناء دول كبيرة متمركز على هذا النموذج. وبشكل متدرج،تقدمت في هذا الاتجاه لتضعف استقلالية الإقطاعيين، أيضا الاقتصاد تغير في أبعاده وبنيته ليصبح في جوهر المركزية الجديدة،فمن اقتصاد زراعي ريفي تسيده الإقطاع،إلى اقتصاد منظم تدعمه الاكتشافات الجديدة والسيطرة على الطرق البحرية وفيه مجموعة كبيرة من التجار والصناعيين الباحثين عن استغلال الفرص الجديدة . ضمن هذه الصيرورة الجديدة، أنصار نظام سلطة سياسية قوية، والتي تضفي على نفسها الشرعية من خلال الحكم المطلق، استطاعوا تحقيق مراحل قطعية وجذرية. ولكن هناك اختلافات بين الدول الأوربية تفرض علينا أن نفصل في دراستنا للحكم المطلق في أوربا.

2ـ اختلاف الحالات في الدول الأوربية.
لدينا حالة مختلفة ظهرت في هولندا،حيث النزعة الاستبدادية لم تستطع الوصول إلى إضعاف المؤسسات التمثيلية القائمة منذ العصر الوسيط. حالتان أنتجتا أوضاع ” وسطية”، إسبانيا و إنكلترا؛ وبلدان آخران يشكلان خصوصية هما إيطاليا وألمانيا؛ وأخيرا حالة فيه الاستبداد أو الحكم المطلق يظهر بشكل كبير وواضح، إنها الحالة الفرنسية.
في هولندا، بعد سقوط الدوق Charles le Téméraire الذي أراد بناء مملكة موحدة، النزعة الاستبدادية، ورغم حرب رهيبة، فشلت كليا وهزيمتها شكلت الفرصة لولادة أول أكبر جمهورية أوربية حديثة[19]. في إسبانيا، وفي القرن الخامس عشر، تحدث Alphonse الخامس ( 1396 ـ 1458) عن “القوة الكاملة لسلطتنا الملكية، إنها رائعة ومطلقة”. هذه السلطة المطلقة والتي وحدت إسبانيا كانت نتيجة لزواج بين ” فرديناند أرغون و أليزابيت كاستيل”، ولتصبح إسبانيا أقوى دولة أوربية.أما في إنكلترا، وبعد نهاية حرب Deux Roses،هنري السابع يصبح ملكا ما بين 1485 إلى 1509 ليبني العائلة الملكية Tudor. اعتمد على الطبقة الوسطى،طور التجارة ودعم المغامرات البحرية. بنى نظاما قويا على مركبات استبدادية. ولكن لا هو ولا خلفه الملك هنري الثامن و إلزابيت الأولى استطاعوا أن يبعدوا أو ينهوا دور البرلمان.
في ألمانيا، وجود إمبراطورية أدى إلى حالة خاصة: الإمبراطورية ضعيفة جدا لا تستطيع القيام بحركة توحيدية،ولكن مجرد وجودها أعاق قيام دولة ألمانية فيدرالية تقوم بالدور بدلا منها. لكن هذا لم يعيق انتصار الحكم المطلق في داخل العديد من الدول الألمانية لاسيما تحت تأثير النظرية اللوثرية luthéranisme. الحالة الإيطالية هي نوعية أيضا بسبب وجود البابوية ودولها.حيث كتب ميكيافلي:”إيطاليا مقسمة إلى خمسة دولة أساسية: مملكة نابولي في الجنوب،دوقية ميلان في الشمال،جمهورية البندقية “فينيس” في الشمال الشرقي،جمهورية فلورنسا والدول البابوية في الوسط.

في فرنسا. الملكية الفرنسية أخذت ثلاثة أشكال متعاقبة : أولا “إقطاعية”، ثم كانت “معتدلة”، وأخيرا ومع بداية عصر ” جان بودان” أصبحت سلطة الحكم المطلق والمستبد. [20] بداية من القرن الثالث عشر وحتى القرن الخامس عشر، بدأت السلطة الملكية الانتقال من الإقطاعية إلى الاستبدادية absolutisme والتي تستلهم القانون الإمبراطوري الروماني. هذه السياسة اصطدمت بمقاومة البارونات barons وأيضا”برجوازية” المدن. نذكر هنا أن هذا التحول قاده كل من :Philippe Auguste, saint Louis, Philippe le Bel.

حتى النصف الثاني من القرن السادس عشر، الاستبدادية الفرنسية كانت معتدلة، مع انقسام كبير بين المفكرين، فالبعض يفضل الاستبدادية و الآخر يعارضها، أنا الباقي فيسعى لتلطيفها أو التخفيف منها.[21] ولكن من المؤكد أن إشارات التوجه إلى الحكم المطلق كانت واضحة في السلطة الملكية الفرنسية منذ بداية القرن السادس عشر. وتبين التوجه الاستبدادي مع الملك فرنسوا الأول، حيث أكد بأن السلطات الملكية هي: الدفاع، القضاء، الحكومة والإدارة. تحت حكم لويس الثاني عشر الكاتب Jean Ferrault طالب بسلطات غير محدودة للملك. ونحو عام 1550 مجموعة من الكتاب ظهرت كتاباتهم كدعم واضح للاستبدادية المطلقة ومنهم Charles Dumoulin , Etienne du Bourg , Pierre Rebuffi.

الاستبداديون و أنصارهم اندفعوا بطرح منطقهم من خلال وضع الملك فوق القانون وأرادوا إبطال مفعول البرلمان وأحكامه السيادية الاستقلالية. في النتيجة،فكرة أن البرلمانات تراقب النصوص الصادر عن الملك وتعترض عليها بالنسبة لهم هي فكرة عبثية ولا يمكن قبولها قانونيا. إذا النزعة الاستبدادية تمركزت بقوة وزادت قوتها بعد عام 1560، في عهد حاكمة Hospital والتي في خطاب شهير لها في عام 1561 أكدت أن :” شخصا واحدا يجب أن يحكم و على الآخرين الخضوع”. ولكن في هذا التاريخ اشتعلت الحروب الدينية حيث ستغير طبيعة المشكلة كما سنرى فيما بعد. بمعنى أن تيارات ومذاهب جدية ستظهر أهمها ” الدستوريون” constitutionalistes، ومنهم انبثقت اتجاهات “ما قبل ديمقراطية” و أخرى”ما قبل ليبرالية”، ولكن لم ينته وجود المناصرين لتعزيز السلطات الملكية.

بالنسبة لمناصري الاستبدادية، لم يستطيعوا فرض وجودهم بشكل كبير في أوربا القرن السادس عشر والسابع عشر لولا أن العقليات في القرون الوسطى كانت مع تعزيز دور الدولة، وقد جاء التعبير عن هذه الأفكار والعقليات من خلال العديد من الأعمال الفكرية السياسية كما سنرى في الفصل التالي.

1 ـ ميكيافلي ( 1469 ـ 1527)
حياته
ولد في فلورنسا وينحدر من عائلة قديمة في هذه المدينة الإيطالية. شغل أول منصب سياسي له في عام 1494 بعد سقوط الديمقراطية الثيوقراطية في Savonarole، لقوم سلطة جمهورية كلاسيكية مكانها قادها منذ عام 1502 Gonfalonier وكان ميكيافلي رجل الثقة في هذا النظام الجديد. أما مهمته فكانت “سكرتير” (لجنة العشرة من أجل الحرية والسلام)، وهي شكل من أشكال وزارة الداخلية والحرب.خلال أربعة عشر عاما قضاها في خدمة الجمهورية تم تكليفه بالعديد من المهام الدبلوماسية في فرنسا وروما، أيضا عمل في المسائل العسكرية حيث حصل من حكومة فلورنسا على قرار بإنشاء جيش وطني دائم. شغل ميكيافلي ثلاث مرت مناصب رسمية هامة، في عام 1520، 1521 و 1525.

أعماله
1ـ كتاب “الأمير”. وهو الأكثر شهرة، ولكنه ليس الأكثر أهمية من بين أعماله.كتبه بين عامي 1513 و 1514.
2ـ “خطاب حول أو عشر كتب”، كتبه بين عامي 1513ـ1519. وهو الكتاب النظري الأساسي عند ميكيافلي.
3 ـ “تاريخ فلورنسا” ( Storie Fiorentine) كتب بين 1520 و 1526. يتحدث الكتاب عن الفترة من 1251 إلى 1492. ويتحدث فيه عن الأحداث التي حصلت منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية في الغرب.
4ـ كتب ميكيافلي أيضا وبين عامي 1513 و 1520 كتابا في غاية الأهمية عن “فن الحرب”.

يعتبر الكثير من علماء السياسة [22] أن ميكيافلي حتى ولو كان أو “اعتبر” منظرا سياسيا، إلا أنه لا يمتلك نظاما مفهوميا متطورا بشكل كلي أو شامل أو أنه متماسك.ففي جميع أعماله التي كتبها مستفيدا من خبراته العملية والوظائف التي مارسها يظهر وكأنه كتب فقط كمستشار للحكومة،الأمير، الباباوات أو القضاة في فلورنسا. ولكن يمكننا القول من جهة أخرى أنه بحث عن قوانين دائمة للحياة السياسية.

منهج ميكيافلي

أـ الواقعية.
رفض ميكيافلي كل أوهام المثالية :” بما أنني أحاول كتابة أشياء يمكن الاستفادة منها لمن ينتظروها، فإنه يظهر لي أكثر إقناعا أن أتبع الحقيقية الواقعي للأشياء وليس كما نتخيلها”.[23] وبسبب منهجه “الواقعي” اعتبر ميكيافلي من قبل العديد من الكتاب المعاصرين كأب “لعلم السياسة”. وربما يكون هذا التصنيف له ناتج عن أن ميكيافلي كان أول من فصل الأشياء السياسية عن جميع الأشياء الأخرى، الدين،الأخلاق و الاجتماع.

ب ـ الطبيعة الإنسانية وفق ميكيافلي.
أفكاره تستند في الكثير منها على التشاؤم، وهي رؤية رما ارتبطت بعد الاستقرار و حالة انعدام الأمن ثم العنف الذي عرفته إيطاليا في زمنه. يعتقد ميكيافلي أن البشر هم هكذا بطبيعتهم في كل زمان ومكان وهذا شيء من المستحيل تغييره أو إصلاحه:” منافقون، جشعون وشرهون للحصول على الربح”.( من كتاب الأمير، الفصل السابع عشر، الصفحة 339). أيضا بالنسبة له جميع البشر هم طغاة، والفرق بين إنسان عادي وطاغية، هي أن الثاني لديه الوسائل بينما الأول لا يملكها كي يصبح طاغية ولكنهما متماثلان في الطبيعة.

بالإضافة لذلك، يرى ميكيافلي أن الفضائل غير موجودة. وفقط هي الضرورة التي تقود إنسانا ما ليكون جيدا في بعض الأحيان، وهو لن يكون ذلك أبدا بشكل عفوي. وإذا اقتنعنا بعكس ذلك سيكون هذا وهما خالصا. ولا يتردد في وصف الإنسان بأنه حيوان، أسد أو ثعلب، وفق الظروف. وهنا يقول أننا نستطيع الحكم بالقوانين على ما هو إنساني في الإنسان،و بالقوة على ما هو من “خاص بالحيوانات”. وعندما القوانين لا تكفي علينا ألا نتردد في استخدام القوة، وعلى الأمير أن يعرف استخدام هذه أو تلك.(الأمير،الفصل 18،صفحة 341).

ت ـ الميكيافلية Machiavélisme
عندما لا يحدث أي وهم فيما يتعلق بالطبيعة الإنسانية فإن رجل الدولة سيستطيع الحفاظ على الحد الأدنى من النظام الاجتماعي، هكذا يرى ميكيافلي. وبما أنه لا يوجد في المجتمع سوى القوة،المصالح و الأنانية، وليس هناك قيم للعدالة والأخلاق تسمح بإبقاء القيم في حالة تناغم مع المصالح، فإن المشكلة التي على رجل الدولة حلها هي الحفاظ وبشكل مصطنع على التوازن بهدف وضع حدود لتبادل المصالح.وكل فكرة تهدف لإقامة “العدالة” تركها ميكيافلي أو في أحسن الأحوال تجاهلها.

ويبدو أن ميكيافلي في فكره السياسي يفضل ما يدعوه المعاصرون “بالبراغماتية”. حيث أنه لا يوجد مبادئ أخلاقية أو قانونية يمكن فرضها بشكل دائم، فإن القيادة لشؤون الحكم عليها أن تسترشد باعتبارات عملية خالصة، وبقدر تغير الظروف فإن قرارات الحكم يمكنها أن تتغير.” على الأمير أن يكون جاهزا ليدور مع رياح الحظ وتقلبات الأشياء التي يقودها”. ( الأمير ، الفصل 18، الصفحات 341 ـ 342).

المعيار القاطع، في السياسة، ليس أن تكون جيدا أو شريرا، وليس أيضا أن تكون ضعيفا أو قويا، ولكن سعيدا أو كئيبا في هذه السياسة. وهنا يؤكد ميكيافلي على أن الغاية تبرر الوسيلة، فليس المهم ما يفعله رجل الدولة في مراحل اتخاذ القرار بل المهم هو نتيجة هذا القرار. إن كل أفكار ميكيافلي تتمركز ضمن هذا المنطق أو النظام. ولكنها تختلف وفق ما يمكن أن نسميه أو نعتبره بالسياسة الداخلية أو بالسياسة الخارجية.

ث ـ السياسة الداخلية.
يفضل بالنسبة للحاكم أن تخافه الناس لا أن تحبه. شيء مثالي أن يكون محبوبا، ولكن، إذا من الواجب الاختيار بين الوسيلتين، الأفضلية يجب أن تعطى إلى الخوف. وهذا يبرر ويعود إلى الطبيعة العميقة للإنسان. ( الأمير، الفصل 17، الصفحة 339). بمعنى آخر، الأمير الواعي أو المتيقظ عليه أن يوجد وفق ما يريد هو، وليس على ما يريد الآخرون، ومن هنا تأتي أفضلية الخوف كأداة في السلطة. (المرجع السابق، الصفحة ، 341). واقعية ميكيافلي وتفكيره حول إستراتيجيات فعّالة للتوازن بين القوى الاجتماعية تقوده يعلن عن الأطروحة التالية : أحيانا، الحكام، ومن أجل تهدئة الشعب، عليهم ألا يترددوا في تقديم “كبش المحرقة” والذي سيخدم في مخرج من غرائزه العدوانية وبالتالي إيجاد حل لراحتهم ولجميع المواطنين. في الواقع هذه التفكير الميكيافلي حول التضحية بأحد المواطنين من قبل الدول هو ما يمكن أن نسميه “بجريمة الدولة”. فهو يعطي الشرعية للحكام بتصفية المعارضة من خلال ارتكاب الجرائم، ومن غير تقديم هؤلاء للعدالة، لذلك ندرس الفكر السياسي الميكيافلي هنا كجزء تابع لمرحلة الحكم الاستبدادي أو المطلق. ( يمكن مراجعة “الأمير” الفصل 17، الصفحة 338).

ج ـ ميكيافلي بين الملكية والجمهورية ؟
ساند ميكيافلي و بشكل متزامن في كتابه “الأمير” وكتاب “خطابات”، الأطروحات الملكية و الجمهورية، لدرجة أن العديد من المحللين اعتقدوا أن أطروحاته غير متماسكة. في الواقع مسألة نموذج أو شكل الحكم كان ثانويا بالنسبة له. فقد كان في البداية مدفوعا بمسألة الاستقلال الإيطالي، إذا إنها الدولة كمجسدة للأمة، التي اهتم بها في المقدمة. ولكن بواسطة من هذه ستؤسس ويتم حكمها ؟

في ” الأمير” يتحدث ميكيافلي عن الحل الملكي. ولكن في كتاب “خطابات” يظهر وكأنه جمهوريا. في الحالتين، الدولة الميكيافلية عليها وفي جميع الظروف أن تحكم من غير اعتبارات للقوانين أو الأخلاق. فروح الجمهورية الرومانية التي تم تحليلها في كتاب “خطابات” هي نفسها المملكة الفرنسية والإسبانية، أو بمعنى آخر سلطة سياسية مطلقة. ولكن يمكننا القول أن ميكيافلي اعتقد أن الجمهورية ليست شكلا جيدا للحكم في إيطاليا آنذاك، وهي على كل فكرة كانت سائدة بشكل واسع في ذلك العصر. إذا بالنسبة للدولة يجب أن تكون خاضعة لرجل واحد فقط يظهر قوة لا تعادلها قوة أخرى في الدولة. ( من كتاب”خطابات” الفصل 9، الصفحة 405). أما السلطة التنفيذية يجب أن تكون واحدة غير مقسمة لاسيما في أوقات الأزمات.

من جهة أخرى لا يتردد ميكيافلي في القول أن التعددية فيها إيجابيات كثيرة، وخاصة التعددية في ظل”جمهورية”. فأفضل القوانين في روما كما يقول، كانت ثمرة للتعددية. ولكن على هذه التعددية أن تتماشى مع اختيارات الحكام.

ح ـ ميكيافلي و القومية.
كان ميكيافلي يشعر بالإهانة بسبب الحالة التي تعيشها بلاده أمام الغزو الفرنسي و الإسباني،التي الدول التي اعتبرها أقل حضارة من إيطاليا وهي في نفس الوقت أقوى منها لأنها استطاعت أن تبني وحدة وطنية. من هنا أراد تحقيق الوحدة الوطنية في إيطاليا. قدم ميكيافلي مفهومه للأمة كشخصية مجردة وهي في نفس الوقت أسمى من الفرد الذي يكونها وأيضا لها طابع دنيوي خالص. هذه الأمة هي شيء آخر غير الفرد فليس من شانها الخضوع لأي أخلاق أو قانون. الفكرة الأهم عند ميكيافلي فيما يتعلق بالشعور القومي كانت في إنشاء جيش وطني مؤلف من جميع المواطنين وليس من ميلشيات. أيضا وقف ميكيافلي إلى جانب استخدام جميع الوسائل في العمل الدبلوماسي ضد العدو خاصة إذا كنا لا نملك القوة لمحاربته. فالأمة هنا ليست مضطرة لاحترام كل أنواع المعاهدات و الاتفاقيات التي وقعتها من أمة أخرى.

أخيرا وفيما يتعلق بميكيافلي ،نستطيع القول أن أفكار ميكيافلي السياسية لاقت إعجابا كبيرا من قبل أنصار الحكم الاستبدادي المطلق في مختلف الدول الأوربية، فالملوك الذين ترددوا في السير خلف شعار “الغاية تبرر الوسيلة”، وجدوا في كتاباته الوسيلة التي حررتهم من هذا التردد. أما في القرن العشرين فحصلت أفكاره على قوة أكبر عند اليمين المتطرف كما عند اليسار المتطرف. وحتى في القرن التاسع عشر لاقت ترحيبا عند ما يسميهم مؤرخ الأفكار السياسية Philippe Nemo ” بأسياد الشك” ماركس ونيتشه، إلى منظري التوتاليتارية الذي أخذوا أيضا من أفكاره. واستخدمه كمرجع كل من الفلاسفة Pareto, Sorel , Maurras ، كما كان مشهورا في الأوساط الجامعية الفرنسية كمفكر سياسي كبير وخاصة عند المفكرين المقربين من الماركسية. ونذكر هنا أن المنظر الماركسي الإيطالي الشهير أنطونيو غرامشي اعتبر أن النظرية الميكيافلية في كتاب “الأمير” هي أول نظرية “للثورة”، وقد كانت “اليعقوبية” في فرنسا الثورة الفرنسية وروسيا البلشفية التجسيدات التاريخية الأولى لكتاب ” الأمير”.

2ـ مارتن لوثر ( 1483 ـ 1546).

دولة وطنية من غير نفوذ كهنوتي.

يقول الكاتب الإنكليزي Figgis [24] :” لولا مارتن لوثر فلن يكون لويس الرابع عشر”. بداية يمكن القول أن لوثر شارك في مساندة فكرية للاستبدادية. فقد أنكر أن الكنيسة أسست بغرض التصرف كسلطة لها نفوذ. وبشكل عام قاعدة فكره هي القناعة أو اليقين العميق بأن دناءة الإنسان، شره،خطيئته، تجعل من الصعب التعايش و التعاون العفوي والسلمي بين البشر. والنتيجة أن تدخل الدولة يمكن أن يسمح بالحفاظ على النظام الاجتماعي. وهنا يلتحق لوثر مع ميكيافلي ولكن فقط في هذه النقطة.

حياة وأعمال مارتن لوثر.
درس لوثر القانون في جامعة Erfurt الألمانية،ثم درس علم اللاهوت وأصبح دكتورا في هذا التخصص في Wittenberg. أعطى إشارات أولية بقدوم الإصلاح عندما عرضا وبشكل علني في عام 1517،بيع “صكوك الغفران” من قبل الكنيسة الرومانية. نشر بشكل متقطع منذ عام 1520 ما يسمى “الكتابات الإصلاحية الكبرى” : ( الدعوة إلى النبل المسيحي للأمة الألمانية)، (الأسر أو العبودية البابلية للكنيسة)، (تحليل أو قراءة الحرية المسيحية). قدم ترجمة ألمانية رائعة للكتاب المقدس.بقي زعيما من غير منازع للكنيسة الجديدة حتى موته في عام 1546.

ـ الأفكار السياسية عند مارتن لوثر.
يعود لوثر إلى “التشاؤمية” عند سان أوغستان وسان توماس،ووفقها الطبيعة تعافت أو شفيت بواسطة بفضل رعاية الله،والإنسان يمكنه بشكل واقعي ملاحظة قوانين الله ويعمل بنفسه لخلاصه وخلاص العالم،والعقل لا يستطيع فهم الله، إذا لا بد من الخضوع لقوانينه، ليس لأننا سنفهمها ولكن لأنها قوانين الله.”فنحن جميعا عبيد، بؤساء، مرضى و موتى” كما يقول لوثر.

أما الكنيسة يجب ألا تحصل على سلطات سياسية وقانونية خاصة بها. فإذا كان الخلاص يأتي من خلال الإيمان وحده sola fides فإن الفكرة القديمة لكنيسة تعمل كوسيط للحصول على الخلاص يجب أن تختفي. والكنيسة، كما تشير الكلمة اليونانية ecclesia ليست إلا “شعب الله” Gottes Volk”، أو بمعنى آخر مجلس أو تجمع المؤمنين. وهي لا تتعلق إلا بأعضاء هذا المجلس أو التجمع. وفي هذا الحالة كل المؤمنون لديهم صفة روحية ولديهم القدر على مساندة أخوتهم روحيا، وبالتالي ليس هناك رجل دين، بل الجميع يحملون هذه الصفة ،ويقصد هنا انعدام الوصاية الدينية من أي شخص آخر.

إذا الكنيسة البابوية ليس من حقها الإدعاء بوجود أية امتيازات لها وليس لديها حق بالحصول على الأموال. كما لا يمكنها الحصول على سلطات قانونية وقضائية خاصة تضاف لسلطات الدولة وتكون بهذه الحالة سلطة أخرى ذات نفوذ داخل الدولة.حتى السلطة القضائية داخل الكنيسة نفسها يجب أن تمارس من قبل سلطة زمنية وليست دينية.

كذلك،أطروحة لوثر تلتحق بالأطروحة الأصلية عند سان أوغستان : كل أعمال السلطات الزمنية يجب أن تكون معتبرة كإرادة أو مشيئة سماوية إلهية، يقول لوثر :”الملوك أو الأمراء واجبهم استخدام السلطات التي أعطاهم إياه الله، عليهم الانشغال بكل حاجات شعوبهم من سلام وازدهار. عليهم إلا يستغلوا سلطاتهم وخاصة ضد فيما يتعلق بحرية العقيدة. إذا هنا يضع لوثر حدودا للسلطة المطلقة للملوك، فعلينا ألا نخضع لهم عندها لا يظهرون الرحمة.

هذه الحدود اللوثرية للسلطة تختلف بشكل كبير عن تلك الحدود التي ستضعها فيما بعد التقليد الليبرالية وكما سنراها في الفصول اللاحقة. هذا الاختلاف يأتي من جانبين :
الأول: لوثر،ومن أجل إنشاء هذا الحد في الخضوع الواجب للحكم، لا يستند على بعض القواعد السامية كما هي في القانون الطبيعي، بل يستند على أن الحكومات لن تذهب ضد إرادة الله، وحيث القديسين في الأرض هم متحدثين باسم الله، فالقانون الطبيعي بحد ذاته ليس له أية قيمة.
ثانيا : إذا أكد لوثر حق المسيحي في عدم الخضوع للأوامر الإلحادية للحكومة، فإنه أيضا يدين كل مقاومة حقيقية. فالعقوبات الناتجة عن عدم الخضوع يجب ألا نتجنبها لأنها تجارب من عند الله ” علينا ألا نقاوم الطغيان، بل الألم مع الصبر”. ( المرجع السابق، صفحة 17).

أخيرا، أفكار مارتن لوثر ساعدت في ظهور الملكية المطلقة في أوربا الشمالية ،ألمانيا،اسكندنافيا وفي مناطق أخرى، وبشكل أقل بكثير في إنكلترا. وجاءت كتابات كل من Philippe Melanchton (1496 ـ1540) في ألمانيا، و William Tyndale (1495 ـ 1536) في إنكلترا، لتطور بشكل كبير المبادئ و نتائج الأفكار السياسية عند مارتن لوثر. هذان الكاتبان اقتسما مع غيرهم أيضا، أفكار سيد Wittenberg والتي تقول بأن النظام الاجتماعي هو مشيئة الله أو بمشيئة سماوية ومن الخطأ القيام بثورة ضده.

ـ جان بودان (1529ـ 1596) ، منظر للدولة ذات السيادة.

جان بودان وضع من جانبه أسسا للاستبدادية من خلال وضع نظرية للدولة السيادية وهي من المصادر الأساسية للتقليد الدستوري الفرنسي.

حياته
ولد في Anger. كان ابن لتاجر غني ينتمي لعائلة من القضاة. عاش في باريس، “تولوز” و “نانت” (مدن فرنسية)، تعلم القانون ثم أصبح مدرسا له. بعد ذلك أصبح محاميا في البرلمان بباريس. نشر في عام 1566 كتابه ” Methodus ad facilem historiarum cognitionem” (منهج من أجل معرفة التاريخ بسهولة). تمت تسميته من قبل “شارل الرابع” مفتشا في منطقة النورماندي. انتقل للعمل بعد ذلك للعمل مع أخ الملك هنري الثالث الدوق “ألينسون” وسافر معه إلى إنكلترا وهولندا.[25]

أعماله
أهمها: كتاب “الجمهورية” la République، وفي هذا العمل يتخذ جان بودان مواقف تتعلق بمذهبه الفكري السياسي الذي يتطابق بشكل كبير مع الحكم المطلق، وفي عام 1986 صدر عن دار نشر “فيارد” في باريس تحت عنوان “الكتب الست للجمهورية”. وكتب جان بودان “مسرح الطبيعة العالمية” ونشر بعد موته بعام واحد. من جانبا سوف نقرأ أطروحاته الفكرية السياسية التي وردت في “الجمهورية”.

“الجمهورية” هو من أوائل وأهم كتب الفلسفة السياسية في العصور الحديثة (بالمعنى العلماني للمصطلح)،ويقدم نظرية دستورية كاملة. منهج جان بودان في هذا العمل هو منهج قانوني وتاريخي بشكل أساسي. في جوهر العمل،”الجمهورية” يقدم المبادئ التي يمكن أن تبنى عليها دولة ملكية قوية وموحدة،وفيها قانون وإدارة متجانسة. بداية سندرس النظرية العامة للدولة السيادية،ثم النظام الذي تمناه جان بودان لدولته فرنسا. وأخير سنحاول تبيين أن،وبشكل مختصر، هذه النظرية أخذت معناها ضمن سياق وصيرورة كبيرة، سيسيولوجية و وكوسمولوجية. قبل ذلك نشير على عناوين “الكتب الست” للجمهورية وهي كالتالي : الأول (تعريف الجمهورية ونظرية السيادة)، الثاني (الأنظمة السياسية)،الثالث(البنى الإدارية للدولة)، الرابع و الخامس (نظرية الأعراق و المناخات،دراسة التوازنات الاجتماعية،التطورات و الثورات)،السادس (قضايا خاصة تلمس الرقابة أو النقد،الأموال،العملة،الأنظمة السياسية، العدالة المتناغمة).

1 ـ الدولة السيادية.
السيادة هي المفهوم المركزي لنظرية جان بودان في الجمهورية، أي الدولة.هذا المفهوم يسمح بتحديد ماهية الدولة نفسها وما هي عليه بالنسبة للقوى الخارجية. والسيادة تتصف وفق بودان بالعديد من “العلامات”، حيث تعود النقاط التالية وبشكل خاص لمفهوم السيادة:

أ ـ إصدار و إنهاء القوانين.
السلطة السيادية أو “صاحب السيادة” يستطيع فقط وضع القوانين، أما السلطات الأخرى التي تصدر أوامرها أو بعض القواعد وإن كنا ندعوها قوانين فإنها لا يمكن أن تصبح كذلك إلا بعد مرورها للبحث أو الدراسة “السيادية”. هنا يميز بودان بين “محتوى” القوانين وبين “شكلها”. فالمحتوى يمكن أن يحدد من خلال مستشارين قضائيين،التقاليد،العادات ..الخ،بمعنى من خلال أشخاص لا ينطبق عليهم مفهوم السيادة. فالمفهوم الأخير وحده يستطيع أن يعطي للقوانين شكلها أي قوتها المجبرة أو المرغمة. أما السلطة التنفيذية يمكنها أن تمتلك سلطة إعلان أو إصدار القوانين ،تصحيحها وتفسيرها أيضا.ويعارض بودان حق التفسير للقوانين من قبل القضاة، بل يذهب في ذلك إلى الحد الأقصى، فما يرفضه هنا ” معارضة أن تكون الهيئة القضائية مصدرا، أو على الأقل مصدرا شرعيا بنفسها، للقانون”. وكل “علامات”السيادة الأخرى هي في السلطة التشريعية.

ب ـ قرار السلم و الحرب.
هذا القرار يجب ألا يخلط وفق جان بودان مع السلطة العسكرية أو الإستراتيجية. فالقيادة تعطى في مثل هذه الظروف لفرد أو مجموعة تستطيع التصرف في الحرب بصفة ملكية وتكون لديهم سلطات واسعة بل مطلقة، مع ذلك هؤلاء لا يتصرفون إلا كمندوبين عن “السيادة”، المجلس الشعبي أو مجلس الشيوخ،والذي وحده يمكن أن يدخل البلاد في حرب أو يمكنه أن يسحبها منها.

ت ـ تسمية منفذي سياسات الدولة.
هذه التسمية تعود للهيئة السيادية. ويبارك بودان في هذا الصدد السلطة الملكية في فرنسا والتي في عصره قامت بجعل هذه الموضوع محصورا بالملك وسحبته من الإقطاعيين أو الأقل منهم سلطة.

ث ـ ممارسة حق العفو.
يرى بودان أنه في روما، كل الحكومات الإقليمية ورغم أنها تجمع في يدها كل السلطات القضائية، إلا أنها لم تمتلك حق العفو،فهذه السلطة تعود فقط للشعب.أما في فرنسا فرأى بودان أنه من الواجب وضع حد فوري لإعطاء هذه السلطة لأي جهة غير سيادية.

2 ـ استقلالية الدولة ـ الأمة بالنسبة للقوى الخارجية.

في الكتاب الأول من “الجمهورية” يتحدث بودان عن العلاقات السياسية والاجتماعية التي كانت قائمة مع وجود الإقطاع والطبيعة العائلية لهذه العلاقات التي حولت أوربا إلى فوضى وأنهت الاستقلالية بسبب غياب السلطة السيادية. ففي العصر الإقطاعي، وبسبب علاقات الزواج و الميراث القائمة تمت إعاقة قيام إقليم موحد. فعند جان بودان كان لابد من الخروج من هذه الحالة من خلال إقامة إقليم واضح فيه سلطة أو قوة سيادية واحدة. هذا الخروج يتم بواسطة تبني نظرية قيام “الممالك ـ الأمم”. أي يجب تقسيم أوربا إلا دول مستقلة كل منها يمارس سيادة خاصة على إقليمه، وبهذا يكون جان بودان قد ساهم بشكل كبير في وضع مفهوم “الدولة /الأمة” الحديث.

3ـ سيادة مطلقة ولكن ليست غير محدودة.

أ ـ السيادة غير مجزئة.
أطروحة بودان هنا، هي أن إرادة الملك يجب أن تكون أكيدة وتظهر في كل لحظة، وهذا لن يكون ممكنا إذا كانت السيادة مجزئة. هذه الحالة نجدها في الأنظمة “المختلطة”. ويقف بودان بكل قوته ضد هذه الطرح التقليدي الذي كان مطروحا في زمنه من قبل الدستوريين البروتستانت. يعتقد جان بودان أن الدولة يجب أن تبنى وفق تراتبية تشبه البناء المعماري، حيث كل فيها يستطيع أن يكون له سلطة أساسية، ومنها كل السلطات الأخرى للدولة وكل القواعد القانونية تستطيع أن تكون معتبرة كصادرة وفق صرامة وشفافية، أو ما يسميه بودان ” تراتب القواعد والقوانين”. النظام المختلط لا يستطيع إلا أن يكون مفتوحا باتجاه هذه التراتبية.

ب ـ السيادة ثابتة أو خالدة.
السلطة المطلقة لن تكون محدودة مع الزمن. لذلك السلطات ذات الفترات المحددة مثل القضاة و القواد، أو نواب الملك،الأمراء والحكام ستنتهي عند عزل هؤلاء، وبالتالي لا يمكن اعتبارها سلطات سيادية.(من كتاب الجمهورية الأول،الصفحة 180).

ت ـ السيادة هي مطلقة.
السلطة ومن أجل أن تكون “سيادية”، يجب أيضا أن تكون “مطلقة”، وهنا في الواقع نلمس المفهوم المركزي لمذهب “السلطة المطلقة”. حيث جميع القوانين الداخلية مهما كانت فهي لا تستطيع أن تقف أو تشكل صعوبة أمام القانون الصادر عن الملك. (من الجمهورية الأول،الصفحة 192).

ث ـ الملك ليس لديه عقد مع الشعب.
يتابع جان بودان أطروحته، لا يوجد أي عقد يربط الملك مع الجسم الاجتماعي. لأن هذا العقد سيكون القانون المشترك للأجزاء التي تكونه، وبالتالي هذا يحد من السيادة المطلقة ( الجمهورية الأول، الصفحة 187)، وهنا من جديد يتجلى الفكر السياسي عند بودان والداعم للسلطة المطلقة.

ج ـ الحد الحقيقي للسيادة المطلقة: هي “قوانين السماء والطبيعة”.
مع كل ما سبق، فإن جان بودان لا يصل إلى الحالة الميكيافلية. في الواقع،وفق بودان، السيادة المطلقة والتي هي غير محدودة بالنسبة للملوك وفق ما رأينا، هي بشكل قاس محدودة بشكل آخر: “السلطة المطلقة لا يمكنها أن تمتد لتصل لقوة القوانين الإلهية أو قوانين الطبيعة”. (الجمهورية، الكتاب الأول،الصفحة 193). يمكننا ترجمة احترام السيادة المطلقة أو السلطة المطلقة “لقوانين الله والطبيعية” عند جان بودان من خلال وضع حدود مجسدة جدا وواضحة لسلطات الدولة. كما أنه على الدولة احترام الملكيات الخاصة واحترام المواطنين أيضا.

ح ـ مشكلة الضريبة والعملات.
الضريبة كانت في عهد جان بودان كشيء جديد وقليل الشرعية. ومنها يرى بودان أن الملك لا يستطيع إقرار الضريبة أو ضرائب غير عادية من غير موافقة المقاطعات أو الدول التابعة له. أيضا بالمقابل يعتقد بودان أنه لا يوجد شخص على الإطلاق،وابتداءا من الملك، يستطيع التلاعب بالعملة أو بالنقد.

4 ـ النظام الأفضل: الملكية أو “الملكية الشرعية”.
النظام المثالي الأفضل،وفي جميع الظروف،بالنسبة لفرنسا عام 1576 هو،وفق بودان، “الملكية الشرعية”. “ملك فرنسا عليه أن يحكم بناءا على القوانين حتى ولو كان هو لذي يضعها أو هو الذي يغيرها. عليه أن يحترم الحريات الفردية و الملكيات الخاصة.فالملكية المثالية لفرنسا ستكون شكلا من أشكال عودة الإمبراطورية الرومانية، أو على الأقل عودة ما استطاعت هذه الإمبراطورية تقديمه في أفضل أيامها تحت حكم عائلة “أنطونيوس”.هذه الملكية الشرعية تتعارض مع الملكية الطاغية التي لا تحترم القوانين ولا “قانون الله أو قانون الطبيعية”. إذا إنها تصالح بين الحكم المطلق و حرية الأفراد الذي يجب أن يبقون أسيادا على أنفسهم وممتلكاتهم. في الملكية الشرعية كل يخضع لقانون،الناس لقانون الملك،والملك لقانون الله والطبيعة”،( الجمهورية،الكتاب الرابع،الصفحة 210 ـ 213)، وهنا يظهر بودان قريبا جدا من “شيشرون” المفكر السياسي في العصر الروماني أكثر مما هو قرب من ميكيافلي أو هوبز.

في النهاية، “دولة” جان بودان ستكون ملكية متجانسة وتراتبية، حيث النظام والتماسك سيكونان مضمونان بوجود سلطة ملكية مطلقة،غير مجزئة ولا اعتراض عليها. وضمن فكر جان بودان، ممارسة هذه السلطة المطلقة لا تهدف في النهاية لتوحيد المجتمع في شكل واحد،بل على العكس من ذلك يجب أن تكون موجهة لقيان التعددية والحفاظ عليها في المجتمع أو ما يسميه بودان بالتناغم. فالدولة الملكية التي تحكم بشكل متناغم هي الأكثر جمالا والأكثر كمالا. ( الجمهورية،الكتاب الخامس، الصفحة 303).

التماسك الفلسفي أو الروحاني “الخفي” لفكر جان بودان هو ناتج عن فكرة أن البنية التناغمية و الانسجامية harmonique للعالم ترتكز على الوحدة الغير مجزئة للسيادة، إن كانت في الكون حيث الله هو صاحب السيادة الغير مجزئة، و في الدولة حيث الملك صاحب الحكم المطلق، أو إن كانت في الروح حيث العقل أو الفكر هو صاحب السيادة الغير مجزئة. يقيم جان بودان من خلال هذا التماسك الذي يكاد يتطابق مع النموذج الأفلاطوني الأكثر اكتمالا، توازيا بين شكل الروح وشكل المدينة. (انظر: الجمهورية، الكتاب السادس، الصفحة 307).

هذا هو برنامج جان بودان الذي اقترحه على ملوك فرنسا. ولكنهم بالإضافة للقضاة وحاشيتهم، لم يفهموا جيدا هذه التعليمات.لم يفهموا أو يستوعبوا دروسه الأساسية حول التناغم و الانسجام التي ضمت بين سطورها مبدأ التعددية الديمقراطية والليبرالية، بل أخذوا منها ما يتعلق فقط بالحكم المطلق أو السلطة المطلقة.
4ـ توماس هوبز ( 1588 ـ1679).

في انكلترا،الملوك Stuarts أرادوا السير على خطى ملوك السلطة المطلقة في فرنسا.وفي اللحظة التي ووجهت سلطتهم بالرفض من قبل الثوريين “الطهريين” puritains (جماعة بروتستانتية طالبت بالتمسك بالفضيلة)، ظهر منظر كبير للدفاع عن الحكم المطلق، إنه توماس هوبز. النقاط التي انطلق منها هوبز تختلف عن الآخرين السابقين الذين نظروا للسلطة المطلقة. عند هوبز لا يوجد”قانون سماوي”، لا توجد مرجعية للقانون الإمبراطوري الروماني ولا إلى فكر سان أوغستان. لقد انطلق من مفهوم مادي للإنسان.

حياته
حياة هوبز وأعماله تتمركز ضمن سياق الثورة الإنكليزية الأولى. بسبب انتمائه لعائلة غير ميسورة،قام عمه بتقديم المساعدة له كي يستطيع إكمال دراسته والتي أتمها في جامعة أكسفورد.عمل بعد ذلك سكرتيرا عند المستشار “فرنسيس باكون” وهو “رئيس وزراء” شارل الأول. وبسبب الحرب الأهلية غادر إلى فرنسا واستقر فيها حتى عام 1651 حيث تعرف على العديد من المثقفين والعلماء الفرنسيين( Mersenne, Gassendi , Descartes) . وخلال هذه المرحلة من حياته وفي باريس أنجز أهم عملين سياسيين لديه De Cive ( 1642)، Léviathan (1651).

عاد إلى إنكلترا، ولكن أعداءه أشاعوا عنه أن هذه العودة هي بسبب ارتباطه بنظام Commonwealth of Cromwell ، وهو نظام يتطابق عمليا مع أطروحة هوبز الأساسية في كتابه Léviathan،والقائلة أن شرعية أي نظام سياسي هي في قدرته على تامين وحماية النظام العام والاستقرار. أثناء “عودة العرش” Restauration في عام 1660، لم يقلق هوبز كثيرا، ولكن الملك شارل الثاني منعه من نشر كل كتابة سياسية له ويعود هذا في جوهره لسمعة هوبز بأنه ملحد ولا يعترف بالأديان. تفرغ هوبز بعد ذلك لإكمال عمله الفلسفي، قضايا الرياضيات والعلوم الطبيعية، ثم قام بترجمة هوميروس.

أعماله
ـ السياسية : “عناصر القانون” بالإنكليزية، طبع في عام 1650؛ ” المواطن” De Cive باللاتينية، عام 1642؛ “التنين” Léviathan بالإنكليزية، عام 1651، وظهر عنه نسخة مصححة باللاتينية في عام 1668.
ـ الفلسفية : De Corpore 1655، De Homine 1658، Elementa philosophica، ثم عمل عن فلسفة ديكارت في عام 1641.
ـ التاريخية : Behemoth أو the Long Parliament أو بصيغة أخرى ( Dialogue of the Civil wars of England كتب نحو عام 1668، لم ينشر أثناء حياته، وهو وصف للثورة الإنكليزية.
ـ العلمية : كتاب في البصريات، كتاب في الرياضيات ويقول فيه أن وجد حلا لتربيع الدائرة.

كتاب Léviathan ( وهو واحد من وحشين مذكورين في التوراة)، يشكل عملا فلسفيا كبيرا. في قسم كبير منه يحلل الإنسان، طبيعته، روحه، طرقه للمعرفة وللعلوم. وفي القسم الثاني يكرسه “للجمهورية” أو بمعنى آخر الدولة. القسم الثالث والرابع للقضايا الدينية.

1ـ حالة الطبيعة عند هوبز.

أ ـ حرب الكل ضد الكل:
في رأيي هوبز، الطبيعة جعلت من الناس متساويين. في الواقع يوجد اختلافات في القوة الجسدية والفكرية بين البشر،ولكن هذا لا يبرر اللامساواة الدائمة. فالضعيف،يقول هوبز،هو دائما لديه القوة الكافية من أجل قتل القوي، فالاختلافات الجسدية يمكن أن تصبح لا قيمة لها. أما بالنسبة للاختلافات العقلية فهي وهمية لحد كبير: فكل واحد يعتقد نفسه أكثر ذكاء من الآخرين، ولكنها فكرة موجودة عند كل البشر.
ب ـ (…) من المساواة تأتي الريبة والشك:
المساواة نفسها تسمح لكل واحد بالاعتقاد أنه يستطيع هزيمة الآخر، أو أن يكون مهزوما من قبله.إذا المساواة وبعكس ما نعتقد في الغالب، لا تحدث الألفة أو الود،بل تحدث الشك والريبة[26].
ت ـ (…) من الشك إلى الحرب:
بفعل هذه الريبة، فإنه تصرف عقلاني بالنسبة للإنسان ألا ينتظر أن يهاجمه الآخر، بل أن يأخذ المبادرة و يجعله غير قادر على مضايقته المحتملة وحتى يصل إلى درجة لا يمكن لأي شخص أن يهدده.(المرجع السابق).

ضمن هذه الظروف، نحن نفهم أن المجتمع، في حالة الطبيعة، هو بشكل كبير غير مستقر، وفي هذه الحالة البشر “هم في ظرف كهذا نستطيع أن نسميه بالحرب، وهذه الحرب هي حرب الكل ضد الكل”[27]،”وما هو أخطر من كل شيء، أن هذه الحالة من الحرب هي مستمرة، وبالتالي حياة الإنسان ستكون مليئة بالوحدة والرعب وقريبا جدا من حياة الحيوان”[28].

2 ـ حالة الطبيعة هل هي حقيقة موجودة ؟
هوبز يجيب : لم يوجد لحظة في التاريخ حيث كل الإنسانية عاشت في حالة الطبيعة. بالمقابل يوجد مناطق عرفت هذه الحالة ويعطي مثالا عن القارة الأمريكية. وحالة الطبيعة توجد أيضا بين الأمم، أما الدليل فهو واضح جدا: كل الدول تتسلح وترسل الجواسيس وتبني جيوشا. لكن المثال الأكثر عمقا عن حالة الطبيعة عند هوبز فيراه في “الحرب الدائمة وحالة الطبيعة الدائمة” في الدولة البوليسية نفسها، فهي تهدد بالظهور في كل لحظة.

3 ـ لا يوجد عدالة في حالة الطبيعة.
يصل هوبز إلى هذه النتيجة من خلال العديد من المضاعفات التي يتحدث عنها. ففي الحرب”العنف و الخديعة هما الفضيلتان الأساسيتان”،حيث لا مكان للحديث عن العدالة و الظلم، ما يمكن حسابه فقط هو علاقات القوة. وحالة الطبيعة هي حالة من الحرب، إذا نستطيع القول أن العدالة و الظلم غير موجدين فيها،حتى أنه لا يوجد قانون طبيعي”. (المرجع السابق،الصفحة 126). أيضا يقول هوبز:”في حالة الطبيعة، مفاهيم الشرعية و اللاشرعية،العدالة و الظلم، ليس لها مكان. هنا حيث لا يوجد سلطة مشتركة،لا يوجد قانون”. ( الصفحة 126).

4 ـ مشكلة التعاقدات.
حالة الطبيعة إذا لا يمكن العيش فيها، لذلك لا بد من البحث عن مخرج. ولكن كيف؟ للإجابة على هذا السؤال ،يحاول هوبز توضيح مفهوم العقد أو التعاقد. فالقانون الأول للطبيعة هو حماية النفس،ولهذا الغرض الإنسان يقوم بالحرب. ولكن إذا وجدت وسائل أقل تكلفة للحماية من الأخطار، فإن هذا سيكون بالنسبة للإنسان قانونا طبيعيا للعقل أن يقبل بالوسائل الجديدة. وحتى توجد هذه الوسيلة لا بد من المضي إلى مرحلة العقد. للأسف،من أجل إقامة العقد لا بد إجباريا عند هوبز من رفض الأفكار التقليدية “للحالة الاجتماعية الطبيعية”، للوعي الأخلاقي وللنيات الطيبة، هذه الأفكار التي تقع ضمن النظريات التقليدية للقانون الطبيعي؛ لأن هوبز يعتقد ومن أجل الوصل للتعاقد مع الآخر، أنه لا بد من الحديث معه، لكن الكلام لا يكفي فهو ليس إلا كلاما في الهواء، خاصة عند يشعر الإنسان بخطر يهدده فإنه يتخلى عن هذا الكلام. وفي هذه الحالة لا يحترم الكلام إلا بوجود قوة مشتركة تعاقب من لا يحترم التعاقدات وفي جميع الظروف وبالتساوي بين الجميع. وفي هذه الحالة فقط لا غير يمكننا الاعتماد على احترام التعاقد، ويصبح العقد عقلانيا و ليس طبيعيا. يبقى في هذه الحالة اختبار مدى إمكانية و طرق إقامة تلك القوة التي تحكم بين الجميع والتي هي إشارة لانتهاء عصر بأكمله وبداية طريقة أخرى في الحياة. في الجزء الثاني من كتاب”التنين” والمعنون “بالجمهورية” يختبر هوبز هذه الإمكانية.

5ـ العقد الاجتماعي عند هوبز.

أ ـ مقدمة أساسية:
القوة التي ستحك بين الناس سيتم إذا التعبير عنها من خلال عقد اجتماعي، هذا العقد سيكون فريدا بشكله ومحتواه، بمعنى أنه لن يحتاج إلا ضامن له، لأنه هو الضمان بحد ذاته. هنا هذا العقد سيؤدي إلى قيان “سلطة مرئية” قادرة على :” إقامة الاحترام بين البشر، ربطهم ببعضهم من خلال الخوف من العقوبة”[29]. يحدد هوبز في هذا الموضوع العديد من النقاط الأولية :
ـ القوة “التحكيمية” التي سيقيمها العقد يجب أن تكون وحيدة في الدولة، حتى لا توجد قوى أخرى ضد هذه القوة.
ـ بما أنه لا يوجد عدالة أو ارتباط واختلاط اجتماعي طبيعي، فإن هوبز يرد بشكل “مبطن”،كما سنرى، على أطروحة أرسطو والتي وفقها يوجد تناغم عفوي أو طبيعي بين البشر،وأن العقد ليس ضروريا.

ب ـ إنشاء أو خلق الكومونويلث Commonwealth أو “الرابطة”.
ما يجب القيام به وفق هوبز:” أن يسلم أو يعهد الناس بكل سلطتهم وقوتهم لشخص واحد،أو إلى مجلس واحد والذي يستطيع التقليل أو تخفيض كل أشكال العنف، وذلك من خلال قاعدة الأغلبية، أو على إرادة واحدة (….)حيث كل واحد يعترف و يعترف له ككاتب لكل ما سيحصل أو ما يجب أن يحصل فيما يتعلق بالسلم والأمن المشترك”.( الجمهورية،الكتاب الثاني، الفصل 17، الصفحة 177).

وما يجب أن يحصل:” من خلال تعاقد كل واحد مع الآخر و كأن كل منهم يقول للثاني: أسمح لهذا الإنسان أو هذا المجلس وأترك له حقي في حكمي”. (المرجع السابق). نشير هنا إلى أن العقد الاجتماعي عند هوبز ليس بين مواطنين وملوك، بل “بين واحد و واحد آخر”. أما العلاقة هنا فهي قائمة بين المتعاقدين، والملك “أو صاحب الحكم والسيادة” هو خارج العقد وليس جزءا منه. بمعنى آخر انه غير مرتبط بأي شيء،لا يعد المتعاقدين بشيء. طبعا هذه النسخة من العقد الاجتماعي هي أصلية وجديدة أتى بها توماس هوبز. إذا المتعاقدون والملك لا يشكلون كائنا واحدا نسميه الجمهورية (الكومونويلث أو civitas في اللاتينية)، لأنه من خلال هذا النقل للإرادات إلى إرادة واحدة تمثلها جميعا،هذا النقل هو أكثر من “توافق”. فما يتم تحقيقه هو وحدة حقيقية، “شخص واحد”. ومن يمتلك هذه الشخصية نسميه الملك، والآخرون هم خاضعون له ” حيث أنه،هذا الملك،يمثل المجموع،وأن هذا العقد للتمثيل هو من يؤسس المجموع، فالملك هو المجموع.لا يوجد مجموع لوحده و ملك لوحده من جهة أخرى، فالمجموع ليس مجموع أو جماعة إلا لأن أعضاءه يربطون شخصيتهم في ممثل واحد لهم هو الملك”. (المرجع السابق). بهذه الحالة نلاحظ عدم الفرق عند هوبز بين المجتمع والدولة،إنهما كلا واحدا. المجتمع هو الدولة، والدولة هي المجتمع. والسبب أنه لا يوجد عقد بين ” ليفياثان” Léviathan ( وهو وحش مائي في الأسطورة الفينيقية تم ذكره في التوراة،حيث أصبح رمزا وثنيا للعبادة) و الشعب،لا يوجد مكان في نظرية هوبز للفكرة الليبرالية القائلة “بمجتمع مدني” يميز عن الدولة. فالمجتمع ليس موحدا إلا من خلال وداخل الملك،ليس له سوى رأس واحد وصوت واحد، إنه صوت الملك، وإذا هذا الأخير رفض أو تاجر بسلطته المتفردة فإنه يتوقف عن الوجود.

6 ـ ” الليفياثان” Léviathan.
يرى هوبز أن الدولة هي كائن قوي مهما كان الشكل أو الطريقة التي وجدت من خلالها. هوبز يعطي أو يهب هذه الدولة اسما غريبا ” الليفياثان الكبير”، وهو أقل من إله وأكثر من إنسان، و عن هذا الكائن أيضا يقول هوبز :” إن سلامنا وحمايتنا تعود لهذا الله الذي لا يموت” أي الدولة. إنه يشكل بهذه الطريقة بل يؤسس من دون أدنى شك واحدة من النظريات الأكثر تطرفا التي عرفت عبر التاريخ فيما يتلق بموضوع الدولة وسلطاتها على الأفراد.

“الليفياثان” هو من سيضع القانون القضائي والأخلاقي في كل ما يتعلق بالأفراد. فالقانون ليس شيء آخر سوى إرادة الملك.القانون بالمعنى الدقيق للكلمة هو “قيادة الشخص”، هذا الأخير الذي لديه في نفسه مبدأ الخضوع. ( من كتاب ” المواطن” De Cive ، الفصل 14، الصفحة 1). القانون هو : ” بالنسبة لكل خاضع، مجموعة من الأحكام، والتي الجمهورية، شفهيا أو كتابيا أو أية طريقة أخرى تشير إلى إرادتها، تقوده للتميز بين ما هو صحيح وما هو خطأ ( right….wrong) بمعنى ما هو ضد القانون وما هو ليس ضده”. ( الليفياثان،الكتاب الثاني، الفصل 26،الصفحة 282).

يرى هوبز أن المذاهب البرلمانية أخطأت عندما اعتقدت أن قبول أو رضاء الجسم التمثيلي يمكن أن يضيف شيئا على القانون. فسلطة الملك غير محدودة.لا يوجد قانون أعلى منه، فهو من يعرّف القانون والأخلاق،وهي ليست إلا شرحا لإرادته. سلطته أيضا لا يمكن الحد منها بسلطات أخرى، لأن جميع السلطات موهوبة منه. أيضا حكمه المطلق غير قابل للتجزئة وهنا يلتقي هوبز مع جان بودان في هذا الموضوع.
أيضا ووفق هوبز، لا يستطيع أحد الاعتراض على المؤسسة الملكية التي تم الاعتراف بها من قبل الأغلبية، ولا أحد يستطيع تجريم أفعال الملك. لأن كل واحد أراد مسبقا كل ما يريده الملك؛ لا شيء من تصرفات الملك يمكن أن يعاقب عليها من قبل الخاضعين له، لأننا نعاقبه بهذه الحالة بسبب فعل قمنا به بأنفسنا. الملك هو من يقدر الضروري للسلام والدفاع عن رعاياه. إنه يختار مستشاريه ووزرائه،يحقق العدالة،يقرر السلم والحرب.
إن نظرية الحكم المطلق عند هوبز،كما هي عند جان بودان، تتلاءم مع أشكال متعددة للأنظمة، لأنها تستطيع اتخاذ تجسيدات متعددة للملك، ومنها التقسيم التقليدي للأنظمة: ملكية،أرستقراطية و ديمقراطية.لكن هوبز يفضل الملكية من بين مختلف الأنظمة الأخرى التي تشبه الملكية. إن حجج هوبز في دعمه للملكية أو أهمية نظريته تكمن في أنها تدافع عن السلطة المطلقة للدولة، وبعيدا عن أية مراقبة ديمقراطية، أخلاقية أو أي شكل من أشكال القضاء. فالدولة عند هوبز لديها جميع الحقوق.

خاتمة حول الحكم المطلق أو الاستبدادي.

لقد رأينا في هذا الفصل الذي تحدثنا فيه عن الحكم المطلق أن لطبيعة هذا الحكم مصادره في القانون الإمبراطوري الروماني، مصادر لم تخلو من طعم السلطة البابوية الكنسية ثم الدول “العلمانية” التي استخدمت هذا الحكم في صراعها ضد الإقطاعية في القرون الأخيرة من العصر الوسيط. مع ذلك،وخلال فترة طويلة جدا، الكنيسة و الدولة كانتا قوتان متوازنتان لا تستطيع قوة من بينهما إخضاع الأخرى وتأسيس سلطة مطلقة بشكل كامل. العقبة أمام السلطة الكهنوتية جاءت من خلال “علم لاهوت عصر الإصلاح”. أما ما تبقى من البنى الاجتماعية الإقطاعية فقدت شرعيتها مقابل الدولة ولو في بعض الدول من دون غيرها. إن مذهب الحكم المطلق الغير قابل للتجزئة تم رسمه على يد جان بودان، وتبعه معظم القضاة الفرنسيين في مجال القانون العام. ولكن ميلاد علوم اجتماعية جديدة سيضع هذا المذهب بعد فترة زمنية قيد المساءلة و البحث.

مدخل إلى الفكر السياسي الغربي (4)

الفصل الرابع

التقليد الديمقراطي و الليبرالي

مدخل

إن ما يميز العصر الحديث والمعاصر في حقل الأفكار السياسية في الغرب هو ظهور الفلسفة السياسية والنظريات الدستورية والتي أسست لوجود الدولة الديمقراطية الليبرالية . ولكن في الواقع إن الأفكار الأساسية هذه التي أسست ” لدولة الحق ” كانت قد شكلت بواسطة المفكرين في العصور القديمة والوسطى . ضمن هذا السياق لا بد من طرح السؤال التالي : لماذا إذا هذه الدولة وهذا المجتمع المتطور لم يزدهر بشكل حقيقي إلا في العصر الحديث والمعاصر ؟ الإجابة السريعة تقول : لأن القرون الأخيرة اكتملت بشكل عميق وكبير ومتقدم فكريا بالمقارنة مع العصور القديمة والوسطى . إن المفكرين في هذه العصور أسسوا نموذجا جديدا للنظام الاجتماعي ، والذي نستطيع أن نصنفه على أنه نموذج أو ” براديغم” التنظيم من خلال التعددية . لقد علموا أن الحرية الفردية والتعددية وهما متلازمان ونتاجات طبيعية ، لم تكن عنصرا أو سببا للتفجر الاجتماعي و الفوضى ، بل شكلا راقيا وساميا لتنظيم العلاقات بين البشر . هذه الأسس الفكرية للنظام الاجتماعي هي التي سمحت لهم بإنتاج وتشييد مؤسسات الدولة ” دولة الحق والقانون ” والنظام التعددي. أما أهم الأفكار فكانت [ حقوق الإنسان ، السوق ، الديمقراطية ، المؤسسات الأكاديمية الحرة ، الصحافة الحرة ..]

فيما بعد ، ومن خلال صيرورة التقوية والدعم والسمو الممنوح من خلال هذه المؤسسات للمجتمعات الغربية والأفضلية على جميع أشكال التنظيمات المعروفة ، تأمنت عملية البقاء والخلود للنموذج الديمقراطي والليبرالي . هذا النوع والنهج من التطور الاجتماعي وتطور تنظيم الدولة وبناء المؤسسات انتصر بشكل ساحق على الأشكال المرضية والتخريبية لبناء المؤسسات والفرد وأهمها الفاشية والشيوعية.

من خلال هذه ” الإشكالية ” ، إشكالية العلاقة بين بنية هذه الأنظمة المتعاقبة وتداخلاتها ، ونظرتها للدولة والمجتمع والفرد والمؤسسات والحرية ، نستطيع أن نضع الأساس الذي سننطلق منه في هذه المقولات حول الفكر السياسي في العصر الحديث والمعاصر .

في بداية هذه الرحلة الطويلة مع قراءة الفكر السياسي الديمقراطي والليبرالي ، لا بد من إيضاح وتعريف عدة مناهج تساعد على القراءة الدقيقة للإشكالية المطروحة أعلاه .

1- براديغمات متعددة للنظام الاجتماعي :

أولا : مفهوم البراديغم ” Paradigme ” :

ماذا يقصد بالبراديغم أو ” النموذج ” في الفكر السياسي و الاجتماعي ؟
بشكل عام ، البراديغم : هو نموذج يشكل البناء ” التحتي ” لفكر ما ، والذي يحدد بنيته ، والذي يطرح أسئلة محددة ، والذي ينظم ” المعطيات ” ،أو ” المعطى ” وفق بنى أو ” محيطات ” متعددة .
” البراديغم ” في الفكر السياسي والاجتماعي ، هو نطاق أو محيط في داخله نفكر بالمشاكل المتعلقة بالمجتمع والدولة . وكل “براديغم ” يرتكز على استيفاء أو الحصول على شكل ما للتنظيم أو الفوضى الاجتماعية ، وهذا يعني ، ما يحدد بدقة ” واحترام ” الازدهار ، السلام ، السعادة للمجتمع ، أو بالعكس ، الذي يحدث اضطرابات وبلبلة وعدم استقرار وسقوط وانهيار .هذا المفهوم ” للتنظيم ” سيحدد كل شيء على سلم أو مقياس للقيم بما يتعلق بالسياسة والاقتصاد والاجتماع ، ومن خلاله نحدد معيار أو معايير ما نفضل ، والأعمال التي سنقوم بها ، والبرامج التي سنعدها .

ثانيا : ” البراديغمات ” الثلاث للفكر السياسي والاجتماعي الحديث :
في الفكر السياسي الغربي الحديث نميز ثلاث عائلات من النظريات : اليمين ، اليسار ، والديمقراطية الليبرالية . ونستطيع الاعتبار أن كل واحدة من بينها ” تقاد ” بشكل عميق من خلال ” براديغم ” أساسي ، أو رؤية للنظام الاجتماعي . وبشكل عام أكثر تبسيطا ، الفكر اليميني يظهر كأنه يقاد من خلال النظام الفطري أو الطبيعي ، أم اليسار من خلال نظام مصطنع ، والتقليد الديمقراطي والليبرالي من خلال نظام عفوي ، تعددي ، ثقافي ، متداخل ومتعدد التنظيم .

ثالثا : النظام المقدس
في المجتمعات البدائية يوجد نظام مقدس وهو الذي أقيم بواسطة الآلهة . هذا النظام المقدس كان في الكثير من الأحيان متعذر مسّه ، حيث أعطته الآلهة و أعطت المجتمع بنى متعددة وفرضت عليه القيام بأشياء عدة . بالنتيجة ، إنسان المجتمعات الابتدائية سيكون خطرا على النظام الاجتماعي القائم ، أما الإنسان الحديث فقد طمح وعمل على التحرر من القوانين الطبيعية والميتافيزيقية . النظام المقدس يستبعد عملية التغيير الاجتماعي ومن ثم يعطل التقدم . فالمجتمع الكهنوتي هو مجتمع ” بلا تاريخ ” ، والتقدم العلمي والتقني لم يحدث غلا عندما قام المجتمع بتحطيم كل قيود الشعائر والطقوس والأساطير .

رابعا : الأنظمة ” الوسطى ” ما بين الطبيعي والمصطنع :
القارئ لتطور الفكر السياسي يتوصل على معرفة وجود نوع من ” الأنظمة ” التي تشكل حقائق داخل المجتمع والتي لا تنتمي لا للنظام الطبيعي ولا للنظام المصطنع . و إذا قمنا باختبار وتحليل ” الأخلاق ” أو ” القانون / الحق ” وهي من ” الأنظمة ” الجوهرية للفكر السياسي / اجتماعي ، فإننا سنعرف تماما ماذا نعني بالأنظمة الوسطى . فهي ” الأخلاق والقانون ” ليست من الأنظمة الطبيعية حيث أنها تتغير وفق الزمان والمكان . وهي ليست اصطناعية ، حيث لا يستطيع أي كان أن يصمم أو يخلق ” أخلاقا ” أو نظاما قانونيا على طريقة مهندس يصمم آلة أو أي شيء آخر مصطنع . ولكن فقط في العصر الحديث والمعاصر حتى تيقن المفكرون بكثير من الوعي والتيقظ ، على أهمية ونوعية هذه الأنظمة المذكورة و أنها كوّنت بشكل واضح وعلمي مفاهيمها الخاصة بها .

الاقتصاديون ” التوماسيون ” thomistes ، في القرن السادس عشر سيقولون أن الأسعار أقيمت وكونت بواسطة ” الله ” ، وهذا ما يشير إلى مسؤول آخر في العملية الاقتصادية خارج عن طبيعة الإنسان .
” هيوم ” hume ، سوف يشرح بوضوح فيما بعد كيف أن ” التعاقدات أو الاتفاقات ” التي تعرف العدالة هي من أعمال البشر من غير أن تكون من صياغة ” العقل الإنساني ” . ” آدم فيرغوسون ” ، سيتحدث عن “أنظمة ” ناتجة عن أفعال الإنسان ولكن من غير قصدهم أو نيتهم ، ” آدم سميث ” ، يضع ” اليد الخفية ” الشهيرة للسوق ، وهي ليست يد الله ولا يد الإنسان ، ولكن هو المجتمع الذي ينظم من خلال ذاته وهنا ” سميث ” لا يحدد ” المفردة ” الدالة على هذا التنظيم والتي يمكن أن تكون auto-organise .

المشكلة السياسية أيضا وضعت تحت نوع آخر من الأضواء . فهدف مؤسسات الدولة والنظام القانوني لم تكن نهائيا التقرب من النظام الطبيعي ، المصدر الوحيد لكل شيء ” عادل ” ، ” قابل للحياة ” ، ” خصب” . كما لم تكن الأهداف هي إقامة نظام اجتماعي مثالي أو طوباوي ، بل كان الهدف هو تصور أو إدراك المؤسسات الأكثر ” مقبولية ” من أجل انبثاق نظام اجتماعي ” عفوي ” ينتج عن أفعال إنسانية تعددية تهدف للتوافق أو التلاؤم بين البشر ، ثم إنتاج حقائق اجتماعية واقعية وسامية : قوانين مجردة عن أي شيء غير الإنسان تسمح بالسوق أي التنافس الاقتصادي الذي لم يسبق حصوله ، مؤسسات برلمانية وديمقراطية والتي تقلل بشكل كبير خطورة بقاء مجموعة من المتسلطين في أماكنهم بشكل دائم ، وحرية صحافة تسمح بظهور حقائق اجتماعية وسياسية أكثر موضوعية ، الحرية الأكاديمية والتي تسمح بالانبثاق السريع للعلوم . هذه التغيرات الجوهرية و الأساسية للمجتمع الغربي جعلت بالإمكان لتاريخ فكري أن يمتد هذه القرون ، و أن يكون نظريات حديثة للدولة الديمقراطية والليبرالية .

إن تاريخ الفكر السياسي الحديث والمعاصر هو تمازج مع هذه التكوينات السابقة للمجتمع ، ولكن وجد من يقاوم هذا الفكر الحديث ويعارضه وخاصة من خلال المفكرين التابعين لنماذج فكرية رجعية . من هنا يمكن تصنيف دراسة تطور الفكر الليبرالي والديمقراطي ونمييز ثلاثة محاور أساسية فيها :

– اتجاه من الفكر يصنف ب” التقليد الديمقراطي والليبرالي ” ، والذي ينطلق من نموذج غير طبيعي أو مصطنع في النظام الاجتماعي .
– عائلة من التفكير ” اليميني ” المعتمدة في أساسها على النظام ” الطبيعي ” .
– عائلة من التفكير ” اليساري ” القائمة على نموذج ” منظّم ” .
2- السؤالان الأساسيان للنظرية السياسية وفق ” لورد أكتون ” ( 1834 – 1902 )

تختص النظريات السياسيةوفق ” لورد أكتون ” في الرد على سؤالين كبيرين :
أ- من يجب أن يأخذ السلطة السياسية ؟
ب- ما هي الحدود التي يجب أن تكون للسلطة السياسية ، مع وجود أي كان فيها ؟

من الواضح هنا أن النظرية السياسية تبحث على حل : إما لمسألة السلطة داخل الدولة ، أو لمسألة سلطة الدولة . من المهم والجوهري الفهم أن هذين السؤالين الكبيرين يعودان إلى إشكالية مهمة في تاريخ البشر وهي ” إشكالية الخضوع والتبعية ” . يمكن اعتبار الإجابات على السؤال الأول تتدرج ما بين القطبين المتضادين أو النقيضين : حكومة تسلطية / الديمقراطية . يوجد حكومة تسلطية والتي تأخذ شكل ” الملكية ، أو الديكتاتورية ، أو أرستقراطية مغلقة …..” هنا الفرد الحاكم أو المجموعة الحاكمة تأخذ وحدها القرارات وتحتفظ لوحدها بالسلطة . ويوجد ديمقراطية حيث الحاكمين يكونون في السلطة وفق إجراءات قانونية سلمية ، مع تعددية للمرشحين ، وحرية التعبير ، والنقاشات العلنية ، انتخابات . من جهة أخرى يمكن تغيير الحاكمين بشكل سلمي على السلطة .

أما الإجابة على السؤال الثاني تترتب حول قطبين متناقضين آخرين : التوتاليتارية / الليبرالية .
يوجد ” توتاليتارية ” عندما الدولة تدير أو تقود ” كل شيء ” في المجتمع ، لديها سلطات غير محددة ، تسيطر على الفكر والتعبير، الحياة الاجتماعية و الاقتصادية ، لا تعترف بحقوق الأفراد ، أو الجماعات الخاصة ، ولا بحقوق الأقليات ، كما لا تعترف ولا تقوم بأي شيء يؤدي لقيام المجتمع المدني .
ويوجد ” ليبرالية ” حيث سيادة الدولة تكون محدودة ، وتكون مضطرة للاعتراف بالقانون أو ما يتفرع عنه من تشريعات دولية [ مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، أو الأحكام الدستورية الأساسية ] . والدولة تحترم هنا بشكل عملي المبدأ الذي وفقه سلطتها التنفيذية والتشريعية لا تعيق أي حق من الحقوق أو الحريات ” الدينية ، التفكير ، الملكية ، العمل ، التعاقد … ”

ولكن هل من تداخل بين هذه الأنظمة ؟
– يمكن أن يكون لدينا ” انتقال ” ديمقراطي للسلطة السياسية داخل الدولة ، والتي لديها نفوذ أو سلطان محدود على المجتمع ، من خلال الحقوق الأساسية للأفراد . وبالتالي يكون لدينا ديمقراطية ليبرالية .
– يمكن أن يكون لدينا سلطة سياسية ” تسلطية ” ودولة ” شمولية ” . وهذا ما نلحظه داخل ما ندعوه الأنظمة التوتاليتارية [ الفاشية ، الشيوعية ] ، حيث الدولة تفعل كل شيء مع الفرد دون حدود ، وبالإضافة لذلك ، الحكام يحتكرون السلطة ويبعدون المعارضة من خلال البوليس السياسي ، وهؤلاء في هذه الدولة لا يعترفون نهائيا بالانتخابات الحرة .

– ولكن بالإمكان وجود حكومة تسلطية في دولة ليبرالية : حصل هذا في الماضي ، في الإمبراطوريتين الفرنسيتين ، وحصل في تشيلي وكوريا الجنوبية وسنجابور ، وفي حكومة الشاه الأخيرة في إيران.

– إذن الإمكانية النظرية موجودة، وهناك أمثلة تاريخية لدول وأنظمة مهيمنة وشمولية، ولكنها في الأساس منتخبة ديمقراطيا. الأنظمة الثورية في أسابيعها الأولى تفعل نفس الشيء، عندما يأخذون التفويض من الشعب في الوصول على السلطة ولا يحترمون الأشخاص والملكيات، ومن ثم يعتبرون الشعب عدوهم. هذا الشكل من الأنظمة غير مستقر، ويقود في النهاية على استبعاد الآخرين، ويتحول من ثوري إلى تسلطي شمولي. .

3- الديمقراطية والليبرالية تفترض ” براديغم ” النظام ” العفوي ” Spontané :

Spontanéisme : نظرية قائمة على العفوية المبدعة في الفرد .

Spontanisme : نظرية تعتمد على التوالد الذاتي ” عفوية التولد ” .

عندما يتلازم وجود الديمقراطية والليبرالية عبر تاريخهما معا ، فهذا لم يأت محض صدفة ، بل لأنهما يملكان نقاطا مشتركة في تأسيسهما للأنظمة التعددية ” العفوية ” أو الأنظمة ” المنظمة ” ذاتيا من نفسها .
الأنظمة المؤسساتية الديمقراطية تستند على النقاش أو الجدال المتناقض والمتعارض ، وحرية الترشيح والتصويت ، وفي الغالب تعتمد على حكومات تأخذ بالإدارة الجماعية [ Direction collégiaux ] ، إذا هي تتطلب الفصل ” séparation ” ، وبالتالي التوزيع أو التقسيم ” répartition ” بين أيد متعددة للسلطة أو السلطات . أنصار الديمقراطية يعتبرون هذا كله لبلوغ فعل سياسي متلاحم وقوي ، ولتعريف وتنفيذ لسياسية تتم متابعتها ، وتكوين تشريع مستمر .

والليبرالية أيضا ، ليس فقط هي حرية السوق والمبادرات الفردية ، إنها تعددية الصحافة والعلوم ، تفتح الحقيقة ونموها ، فالتعددية تولد شكلا ساميا للنظام . لهذا السبب في العصر الحديث والمعاصر مذاهب الديمقراطية والليبرالية تطورت إلى هذا الحد . وتاريخ الفكر السياسي في هذه الفترة يستطيع أن يكون متصفا أو مطبوعا كتاريخ يرتقي أو يدور في داخل ” براديغم ” التعددية ، وفي داخل كل سؤال من الأسئلة الأساسية للسياسة والتي وردت سابقا . ومن جهة أخرى يدور بنفس التناسق في صراع ضد نموذج من التفكير يقام بواسطة مفكري ” اليمين ” المرتبطين في ” براديغم ” النظام الطبيعي ، ومفكري ” اليسار ” المرتبطين في ” براديغم ” العقل البنائي ” Constructiviste . Constructivism”نظرية تعنى بالجمال ظهرت عام 1920 ، جاءت في مكان النحت التقليدي ، وتؤسس نحتا مفرغا متعدد التشابكات والخطوط والسطوح ، وهي تعدّ كل موضوع للفكر ” مبنيّا “.وبهذا تكون الليبرالية قد حاربي على جبهتين : ضد هذه الأنواع من الفكر ، وفي سبيل صياغة نظرية للتعددية.

4 ـ القرن السادس عشر:”المدرسة الفلسفية الثانية”،” الملكية” و الدستورية الكالفينية calviniste.

في معارضة لصعود الحكم المطلق الاستبدادي، وضمن سياق من الحرب الدينية الدموية، عرف القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر تشكل مذاهب “ديمقراطية” (مذاهب لتقاسم السلطة داخل الدولة ضد الملك و المجالس الحاكمة)، وأخرى ليبرالية (مذاهب تدعو لوضع حدود لسلطة الدولة). حاولت هذه المذاهب البناء على مادة فكرة قديمة: القانون الروماني، القانون الكنسي، المدارس الفلسفية،التصالحية، الجمهورية républicanisme الإيطالية،التقاليد البلدية من العصر الوسيط، الإنسانية humanisme.

نشير هنا في البداية إلى ملاحظة هامة. في العادة نقول أن الأفكار الديمقراطية و الليبرالية هي “حديثة”. بالتأكيد، لديها تعبيراتها المذهبية doctrinal الكاملة في العصر الحديث والمعاصر. مع ذلك، إنها لم تظهر هكذا بضربة واحدة أو بشكل مفاجئ بعد “ظلام” العصور الوسطى. فمنذ العصور القديمة وحتى العصور الديمقراطية الليبرالية الحديثة مرورا بالعصور الوسطى، هناك الكثير من هذه الأفكار. “الثورة البابوية” في القرن الحادي عشر و الثالث عشر وجدت العديد من الأفكار القادمة من العصور القديمة وفكرت بها ضمن معنى التبشيرية messianisme المسيحية والتي دعت إلى التقدم الاجتماعي والفكري. مع الإشارة هنا إلى القطيعة التي حصلت مع هذه الأفكار على مع نظريات ميكيافلي و هوبز. سنرى مباشرة عملية الانتقال من “التصالحية” القروسطية إلى الدستورية الحديثة، بمعنى آخر من” Gerson إلى Grotius “[30] ومن ” Constanceإلى 1688″ [31].

أولا ـ مثابرة التقاليد القروسطية.
رأينا في السابق ومنذ تجديد دراسة القانون الروماني في القرنين الحادي عشر و الثالث عشر،وخاصة بعد انفصال الدول الأوربية عن الإقطاعية لتصبح أكثر قوة ومركزية، العديد من القانونيين حاولوا تبرير هذا التطور إلى الحكم المطلق. ولكن بعض القانونيين في المقابل عرضوا هذا الصعود للاستبداد مبينين الجوانب الديمقراطية و الجمهورية في نفس القانون الروماني،أي على العكس من مبرري الاستبداد. حصل في هذه الفترة نوع من المناظرة بين “اللاهوتيين” أنفسهم، هؤلاء يبحثون لتعميق الاستبداد،والآخرون يشيرون على التقاليد “الديمقراطية” للكنيسة حتى تشكيل ما يمكن اعتباره المذهب الديمقراطي الأول أو “التصالحية”. وكما فعلنا في الإشارة على الأفكار العريضة والكبرى لمذهب الحكم المطلق الاستبدادي، سوف نشير هنا إلى أهم أفكار المشرعين والمدرسيين الكنسيين القروسطيين الذين دعوا للتعددية وظهروا فيما بعد في ثوب الدستوريين constitutionalistes في القرن السادس عشر.

1 ـ التفسيرات القروسطية غير الاستبدادية للقوانين الرومانية والكنسية.
العديد من المشرعين والكنسيين عارضوا مفهوم “السلطة المطلقة” من خلال ما وجدوه في القانون المدني، ثم قالوا جملتهم الشهيرة ” ما يتعلق بالجميع يجب أن الجميع موافق عليه”.

أ ـ ” بارتول” Bartole و الحكم أو السيادة الشعبية.
في القرن الرابع عشر،قدم بارتول (1313 ـ1347) تفسيره لما كان يسمى قانون ” lex regia”، وهو في الواقع القانون القديم الذي تم التصويت عليه من قبل “الجمعيات المشيخية الناخبة” وكانت موجودة في العصر الروماني، و ينص على منح الهيئات القضائية الجمهورية دورا كبيرا في اختيار الإمبراطور. يؤكد بارتول أن الإمبراطور الأول كان دائما يقول أنه حصل على سلطته من هذا القانون. والقانون يعني أيضا أن الشعب لا يقوم سوى بتوكيل ممارسة الحكم أو السيادة لشخص أو جسم منتخب، وأن السيادة نفسه بقيت داخل الشعب. بارتول وفي سياق البحث عن استقلال بعض المدن الإيطالية الشمالية عن الإمبراطورية،ساند التفسير الذي يقول بأن هذه المدن حصلت على استقلالها عن الإمبراطورية وفق القانون المسمى lex regia الذي ينص على أن السيادة الأصلية تعود للشعب، وأن هذه المدن عادة وحصلت على “أميرها الخاص” sibi princeps.

ب ـ ” غيرسون” Gerson والتصالحية.
بعد ذلك وجد وضمن سياق الانفصال الكبير عن الكنيسة الرومانية Grand Schisme (1378ـ1417)، بروز الأفكار التصالحية، حيث اللاهوتيين و المدرسيين الكنسيين، Pierre d’Ailly, Francisco Zabarella, Jean Gerson , Nicolas de Tudeschis , Nicolas de Cuse، لعبوا الأدوار الأولى في هذا الموضوع. الأطروحة التصالحية الأساسية كانت ترى أن “المجمع الديني” concile هو أعلى من البابا نفسه. إذا هي أطروحة “ديمقراطية”. “غيرسون” أسس لهذا الموقف ،لاسيما، على الاعتبار التالي: في الكنيسة كما في الدولة، السلطة العليا تعود للمجلس التمثيلي لكل الأعضاء. حيث لا يستطيع أي زعيم حتى ولو كان في تعريفه بأنه”أكبر من الآخرين” أن يكون “أكبر من الجماعة”.

2ـ إعادة التأكيد على الأفكار التصالحية.
في بداية القرن السادس عشر،هذه الأفكار حول مصدر السلطة عادت بقوة وتم الإصرار عليها من قبل عالمين من جامعة السوربون في باريس،الاسكتلندي John Mair [32] و تلميذه الفرنسي Jacques Almain [33]. أكد كلاهما أن السلطة السياسة وجدت من خلال الشعب وتبقى للشعب. اللاهوتي الاسكتلندي يقبل بأطروحة “غيرسون” القائلة بان سلطة آدم هي سلطة أبوي وليست سياسية. ثم أسس لفكرة لم تأتي من قبله ووفقها أن السلطة السياسية تشكلت من خلال البشر الذين هم قدموا الزعماء،مستخدمين العقل الذي أعطاهم إياه الله. هذه الفكرة سيتم تطويرها فيما بعد من قبل المدارس الفلسفية لتصبح القاعدة الأساسية للأفكار السياسية لكل الفكر السياسي الحديث، أفكار “حالة الطبيعة” و ” العقد الاجتماعي”. أيضا مع الاسكتلندي وتلميذه الفرنسي جاء القول بشكل أكثر راديكالية من “غيرسون”، ففي نظرهما وبما أن السيادة للشعب،فإن أية حكومة لا تحكم بشكل صحيح يجب إسقاطها.

ثانيا ـ في أصل المذاهب الليبرالية:
المدرسة الفلسفية الثانية، و مدرسة ” سلامونك” Salamanque.
في القرن السادس عشر، نرى تفتح بذور المذاهب الديمقراطية والليبرالية في البلدان الأوربية الأخرى. نبدأ بدراسة تكون المذاهب “الليبرالية”. فالعنصر الفكري الأساسي فيها هو ولادة “التومائية” Thomisme نسبة إلى توما الأكويني ،بداية في باريس ومن ثم في إسبانيا. في باريس، وفي بداية القرن السادس عشر، واحد من تلاميذ John Mair، وهو Pierre Crockaert (1450ـ1514) سينفصل عنه وعن الحياة الحديثة من اجل الدخول إلى مدرسة Saint-Jacques. مع بداية عام 1509، سيختار ككتاب أساسي لتعلمه اللاهوت كتاب somme théologique لمؤلفه “توما الأكويني” بدلا من الكتاب التقليدي “الحكمة أو الحكم” لمؤلفه Pierre Lombard. هذا التحول سيكون ولادة جديدة وكبيرة “للتومائية” في القرن السادس عشر.

خلال أربع فقرات متتالية سنقدم الكتّاب الأساسيين لهذا التيار، ثم نتحدث عن النقاط المشتركة في منهجهم،وبعد ذلك أطروحاتهم السياسية، وأخيرا أطروحاتهم الاقتصادية.

1ـ الكتّاب.
مع قدوم التيار “الإنساني”، المدارس الفلسفية، أو الفكر التقليدي للجامعات في العصر الوسيط، أصبح مهملا. في البلدان المعادية للإصلاح وبشكل خاص في إسبانيا، عرفت هذه الأخيرة في القرن السادس عشر آخر تجديد يمكن أن نقول عنه مهما. وهذا في الواقع ما ندعوه “المدارس الفلسفية الثانية”. وما سنتحدث عنه في هذه الفقرة هو أهم الكتاب التي عرفتهم هذه المدارس. الكثير منهم كان بروفسورا في المكان الذي أنهى فيه دراسته، أي في جامعة “سلامونك” Salamanque، الأولى في إسبانيا واهم المراكز الثقافية الأوربية، لذلك نحن نقول ” مدرسة سلامونك”.

أ ـ ” فيتوريا” Vitoria.
من المحتمل أنه ولد في عام 1492 وتوفي في عام 1546، فرانسيسكو فيتوريا درس في مدرسة “سان جاك” في باريس عام 1509.أصبح أستاذا في جامعة السوربون عام 1523. بعد ثلاثة سنين سمي أستاذا في جامعة “سلامونك” بفضل ما يمتلكه من مهارات تعليمية، وحيث سيعلم فيها حتى وفاته. في هذه الجامعة ستربى على يديه أفضل التلاميذ ومن بينهم Domingo de Soto. اتخذ من كتب “سان توماس الأكويني” قاعد لتعليم اللاهوت. ساند “فيتوريا” فكرة السلطة غير المباشرة للبابوية على السلطة الزمنية للملوك مع الحق في تصحيح أخطاء الملوك إذا هددوا بشكل كبير الغايات الروحية (وفي الحقيقة هذه أطروحة لتوماس الأكويني). اهتم أيضا بالفكر الاقتصادي وبقضايا تتعلق بالعملة أو النقد.

ب ـ ” دو سوتو” De Soto. ( 1449ـ 1560).
تلميذ عند “فيتوريا” في جامعة السوربون ومن ثم جامعة “سلامونك”. أيضا قام بالتدريس في الجامعة الإسبانية حتى وفاته.باستثناء بعض السنوات التي قضاها كعالم للاهوت في “مجلس الثلاثين” حيث كان له تأثير كبير. ألف عشر كتب حول العدالة والقانون، ولعب دورا أساسيا في تكوين مذهب “حالة الطبيعة” و “العقد الاجتماعي”. في أواسط هذه القرن،السادس عشر، تم تأسيس “اليسوعيين”( سموا أنفسهم جماعة المسيح، تأسست الجماعة في عام 1540 من قبل ” سان إيناك لويال”)، أصبحت منافسة بشكل قوي لمدرسة باريس و إسبانيا “سلامونك” وفي إيطاليا أيضا. استطاعت أيضا الدخول بقوة على الجامعات الإسبانية ليكون لها فيها العديد من اللاهوتيين والمفكرين السياسيين. أما أكبر “اليسوعيين” الإيطاليين فهم Antonio Possevino (1534ـ1611)، و الكاردينال Robert Bellarmin ( 1542ـ1621)، و أكبر اليسوعيين الأسبان هم Luis de Molina (1535ـ1600)، Juan de Mariana (1535ـ1624)، و Francisco Suarez ( 1548ـ1617).

ت ـ ” بيلارمين” Bellarmin.
درّس في Louvain عام 1570،ثم في المدرسة الرومانية، و الجامعة اليسوعية منذ عام 1576. ثم قضى حياته كلها في الدعاية لسلطة رجالة الكنيسة. عاد على أطروحة “فيتوريا” حول السلطة الغير مباشرة للباباوات. اعتبر “بيلارمين” كما كان يعتبر في السابق”سان توماس” أن أصل السلطة يعود إلى الله، ولكن من خلال وسيط هو المجالس الشعبية mediante consensu hominum. إذا لا يوجد أي “حق سماوي” بالمعنى الذي كان سائدا عن منظري الحكم المطلق في فرنسا وإنكلترا، و الذي يضع الملك فوق كل تقييم إنساني.

ث ـ “ماريانا” Mariana.
درس اللاهوت والفلسفة الإنسانية في جامعة ” Alcalá”. عمل مع “اليسوعيين” منذ عام 1554، ثم أستاذا في Collège Romain عام 1561.ألف الكثير من الكتب و أهمها ( Isidore de Séville)، (تاريخ إسبانيا، مجموعة من 25 كتابا نشرت بين عامي 1592 و 1598)، أيضا عمل على القضايا الاقتصادية و النقد، ثم مسائل التعليم. لديه فكر سياسي غني جدا. يعتبر من الورثة الكبار لمدرسة”الأكويني” لكنه أيضا في نفس الوقت ينتمي إلى تقاليد “المدرسة الإنسانية الإراسمية” Erasme،المدرسة التي ظهرت في روتردام على يد الهولندي Erasme ( 1469ـ1536) والتي حاولت تعريف “الإنسانية المسيحية بناءا على نقد العهد الجديد”، ولكن مع تذوق لفكر “شيشرون”. كان مهتما كثيرا بالأفكار الليبرالية.

ج ـ “مولينا” Molina.
كان تلميذا في جامعة “سلامونك” ثم في ” Alcalá”. أصبح أستاذا في علم اللاهوت بجامعة Evora البرتغالية عام 1571. ألف عشر كتب حول العدالة والقانون .

ح ـ ” سواريز” Suarez.
يعتبر من أهم المفكرين في القرن السادس عشر. ولد في غرناطة، درس القانون الكنسي في جامعة “سلامونك” ثم علم اللاهوت عند “اليسوعيين”. قام بالتدريس في العديد من الجامعات و أهمها “سلامونك” الإسبانية، “المدرسة الرومانية”،و في جامعة ” Alcalá”، وأخيرا في جامعة coïmbre البرتغالية حيث عين فيها كأستاذ لعلم اللاهوت. يعتبر من أهم منظري الأفكار السياسية في عصره، ومع زميله De Soto يعتبران من أهم مؤسسي مذهب “العقد الاجتماعي”، قام “سواريز” بتجديد أطروحة “الأكويني” حول السيادة الشعبية، لكنه لم يطور نتائجها الديمقراطية.
2 ـ مراجع المدرسة : ” التومائية” Thomisme المُجدَّدة.
أسس الكتاب الذين تحدثنا عنهم في الأعلى ما يمكن أن يوصف “بالمدرسة” وللإجابة على خصومهم فقد استخدموا وتبنوا نفس الأفكار الفلسفية واللاهوتية الأساسية التي استخدمها هؤلاء، إنها أفكار توماس الأكويني لكن بصيغة أخرى جديدة.

أ ـ الخصوم المستهدفون.
سيهاجم كتَّاب هذه المدرسة ما كان يسمى “باللوثريين” luthériens و أنصار ميكيافلي machiavéliens فيما يتعلق بدور الدولة.فيما يتعلق “باللوثريين”: عاد هؤلاء الكتّاب إلى جذور علم اللاهوت “اللوثري”،بمعنى آخر، أي الفكرة القائلة بأن الطبيعية الإنسانية تم تدميرها كليا بعد “سقوط” الإنسان من السماء. رفض هؤلاء في مجلسهم، “مجلس الثلاثون”، هذا الخطأ وعملوا على دحضه. واعتبروا أن في الطبيعة الإنسانية عدالة ضخمة يمكن للبشر أن يتعرفوا عليها. أي أن “أصل السلطة السياسية هو في الطبيعية و ليس في الرعاية الإلهية”. هاجم كتّاب المدرسة النظرية اللوثرية في ثلاثة نقاط أساسية :
ـ رفضوا الفكرة اللوثرية القائمة على رفض التقليد الكنسي.
ـ حاربوا الفكرة اللوثرية و التي وفقها الكنيسة ليس لها وجود سياسي خاص. “فالمدرسة” ترى في الكنيسة أنها جسم تشريعي مستقل ينتج قانونه الكنسي الخاص بالموازاة مع القانون المدني ولا يخضع له، لأن هذا القانون هو ضروري حتى تستطيع الكنيسة قيادة البشر إلى غايتهم الماورائية.
ـ رفضوا النظريات الثورية اللوثرية التي تؤكد أن السلطة لحاكم ما ليس فيها أي إجبار في المعتقد. حيث ترى “المدرسة” أنه إذا الحاكم يحكم بالتطابق مع القانون الطبيعي فإنه يجب أن يخضع له، وإذا لم يتقيد بهذا القانون تجب محاربته.
وفيما يتعلق “بالمكيافيليين”: انبرى كل من Possevin, Ribadeneyra, Suarez لمهاجمة أتباع أو أنصار مذهب ميكيافلي. فالدولة عند ميكيافلي ليس من شأنها أن تسير وفق العدالة. وهذا يعني أن هناك إنكار بان روح الحكام مضاءة بنور سماوي وطبيعي يأتي من الله، وأن ميكيافلي لا يرى بان القوانين يجب أن تخضع للعدالة بل للوحدة السياسية.

ب ـ القواعد الفلسفية و اللاهوتية لإجابات “المدرسة”.
رفض هؤلاء الكتّاب ما يمكن تسميته “بالاسمية” nominalisme (مذهب فلسفي لا يقر بوجود الكليات أو المفاهيم المجردة بل هي أسماء فقط) و “الشكوكية” scepticisme (التي تشك في معظم المفاهيم الدينية وخاصة ما يتعلق بالآخرة وروح الإنسان) عند ” أوكهام”، رفضوا هذه الفلسفات وقالوا عنها بأنها ليست إلا مصدرا من مصادر الهرطقة والبدع اللوثرية. يعتقد كتّاب “المدرسة” أن الإنسان يمكن أن يبني نظاما سياسيا على العقل،لأنهم، ويعودون هنا من الحياة الحديثة إلى القديمة، يجدون فكرة توماس الأكويني، والتي وفقها العالم هو موضوعيا يسير وفق تراتبية من القوانين، يمكن إتباعها بواسطة العقل. والهدف من القوانين الإنسانية هو ببساطة إعطاء قوة داخل العالم الخارجي in foro externo لقانون سام والذي كل إنسان يعرف من خلال ضميره الأخلاقي في العالم الداخلي in foro interno.

بالتأكيد هناك مشكلة نوعية إذا كان الهدف قيام فلسفة مسيحية للقانون الطبيعي، ومعارضو الإصلاح من “المدرسة” لا يستطيعون،في مواجهة الإيمان البروتستانتي، تجاهل هذه المشكلة والاصطفاف بشكل كامل حول “المذهب الطبيعي” للفلاسفة والقائل أن الطبيعة هي المبدأ الأول في الكون، وحول القانونيين الإغريق و الرومان. في هذه الحالة، عالم القدماء هو خالد، والعالم المسيحي هو مخلوق. القانون الطبيعي في النتيجة ليس جوهرا في ذاته أو من خلال ذاته، ولكنه ينتج كما هو ظاهر عن إرادة الخالق الذي هو الله.

في هذه الحالة كان لا بد من “طريق وسط”، بين الواقعيين réalistes و الاسميين nominalistes، المفكرون مثل Grégoire و Rimini اعتقدوا أن القانون الطبيعي كان موضوعيا ويمكن اتبعه بالعقل، والمفكرون مثل Ockham و تلامذته Mair و Almain اعتقدوا أنه ليس إلا إرادة الله. وفي الواقع القانون هو كليهما، إنه في النفس الوقت “دليل”، وأيضا “إجباري” نابع من إرادة الله.الفلسفة السياسية البروتستانتية فضلت الجانب الثاني. أما عند “اللوثرية” العادلة التي أتى بها الإنجيل هي تجديد مطلق مقارنة بالقانون الطبيعي. نستطيع الآن الدخول في أطروحات”المدرسة” الخاصة وللكتّاب الذين عرفناه قبل قليل. هذه الأطروحات كان لديها أهمية خاصة في تكوين وانبثاق النظريات الدستورية الحديثة، وعلى الصعيد السياسي أدت لظهور مذهب “العقد الاجتماعي”، أما على الصعيد الاقتصادي فقدت أسست لظهور وتفوق الحرية على قسرية أو إجبار الدولة.

3 ـ الأطروحات السياسية.

أ ـ قانون الهنود.
الغزو الإسباني للقارة الأمريكية “العالم الجديد” على أعمال رهيبة واغتصاب لحقوق السكان الأصليين وكثيرا ما أدى هذا الغزو لارتكاب مجازر مرعبة.المبشرون الأسبان انتقدوا هذه الأعمال بشدة وكان على رأس المنتقدين Antoine de Montesino،و Bartolomé de Las Casas. ولكن العديد من الكتاب الأسبان ساندوا الفكرة القائلة بأن الهنود هم من العبيد ويجب تحويلهم على الإنجيلية. برروا ذلك بالقول لو أن الهنود من المسيحيين ويريد الله حمايتهم لما وضعهم في هذه الأرض البعيدة. بمعنى آخر نحن لن نكون أرحم من الله نفسه مع هؤلاء الهنود.
“فيتوريا” افترض أن الهنود هم على الأقل بشر ولهم حقوق طبيعية يملكها كل إنسان،وكونهم شعبا فيحق لهم كل ما يحق للشعوب الأخرى. وأكد أنهم جزء لا يتجزأ من العالم.( من كتاب،فيتوريا،” دروس حول الهنود وحول قانون الحرب”). فالنسبة له الهنود لديهم حقوق شخصية، ولكن جماعية أيضا. هذا التفكير والمنطق قاده لرفض الأطروحة القائلة بالسلطة الزمنية المباشرة للباباوات والسلطة الشاملة و الكلية للإمبراطور. هنا يستند “فيتوريا” على سان توماس. حيث لا يمكننا تبرير الغزو بحجة نشر تعاليم الإنجيل، وورد هذا المنطق في كتاب سان توماس “تحليل الإيمان”،:”إنه من العبث إجبار شخص على الاعتقاد،كما أننا لا يمكننا تعميد أو تنصير أطفال اليهود أو غير المؤمنين من غير موافقة أهلهم”. وهذه الآراء سعى”فيتوريا” لتطبيقها على الهنود.

ب ـ حالة الطبيعة،و تأسيس المجتمعات السياسية “بالتوافق”.
خارج الحالة الخاصة للهنود،فإن “المدرسة” تعتقد أن الشعوب يجب أن تحمى بحكومات. هذه الحكومات تقوم بالتوافق بين الشعوب ووفق شروط محددة. من هنا تحدث كتاب “المدرسة” عن الانتقال الكبير من أجل المستقبل من “الحالة الطبيعية” إلى “الحالة المدنية” بواسطة “عقد اجتماعي”.كما أشرنا سابقا،هؤلاء رفضوا المقولة اللوثرية بأن الدولة هي عمل مباشر للعناية الإلهية. ولكن يمكنا الرفض أيضا إذا بينا أن الناس يستطيعون بناء الدولة بأنفسهم كما ترى “المدرسة”. حالة الطبيعة بالنسبة لهم هي حالة من الحرية والمساواة وهي حالة اجتماعية منذ البداية. علما أنه في هذه “الحالة” لا يوجد قوانين إيجابية، لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد قانون لكل شيء. في هذا الوقت يطرح سؤالان أساسيان من قبلهم: لماذا البشر يريدون الخروج من حالة من الحرية وفيها جميعه قادرين على العيش؟ وهل الحالة الجديدة التي ستنشأ،ستكون شرعية؟

ت ـ أسباب الخروج من حالة الطبيعة.
السبب الرئيسي الذي يدعونا للخروج من حالة الطبيعة هو أن هذه الحالة غير دائمة ومؤكدة كما أنها مهددة بخطر الظلم.إذا قرار البشر ترك حريتهم الطبيعية هو ثمرة لحسابات من أجل مصالحهم. إذا سيكون من مصلحتنا القبول بتشكيل مجتمع سياسي من أجل “إنشاء بعض السلطات العامة والتي دورها سيكون الحفاظ على الخير المشترك”.

ث ـ شرعية الحالة الجديدة،”العقد الاجتماعي”.
هذه الحالة هي شرعية لأن البشر يعترفون أنها عقلانيا هي مفضلة؛ إنه يشعرون بأن البقاء في الحالة القديمة سيكون مستحيلا أو فيها خسارة لهم. إذا هم يقبلون بأن تكون حريتهم محددة في حالة أن الجميع يقبل بذلك، في هذه الحالة لا أحد سيكون له امتيازات أو أنه سيضحي بأشياء كان يمتلكها في حالة الحرية الطبيعية. إذا هو التوافق بين الجميع الذي سيخلق الدولة. ربما يكون هؤلاء ساندوا الملكيات التي كانت في جنوب القارة الأوربية ولم يكن لهم مواقف ديمقراطية، ولكن بالمقابل وضعوا بشكل واضح الحقوق الطبيعية للإنسان التي تخلق معه وليس من حق أية سلطة دنيوية أن تجعلهم يتخلون عنها، وأنه لا بد من وجود آليات دستورية يمكنها معاقبة سلطات الدولة في حالة قيام باغتصاب الحقوق الطبيعية للبشر، آليات يمكن دعمها “بسلطات روحية” مستقلة عن الدولة. في كل الأحوال هؤلاء الكتاب ومدرستهم لعبوا دورا كبيرا في نشؤ وتكون الليبرالية.

4ـ الأطروحات الاقتصادية.

كتّاب مدرسة “سلامونك” كان لديهم أيضا مساهمات هامة على الصعيد الاقتصادي كانت مهمة جدا في إنشاء المذاهب الليبرالية المستقبلية. دعوا إلى حماية الملكية الخاصة، وعلى هذه القاعدة رأوا أن السوق الحرة هي شرعية. الكتّاب ذهبوا بعيدا في موضوع الحرية الاقتصادية حتى أنهم تجاوزا سان توماس.تحدث كتّاب مدرسة “سلامونك” عن الآليات الطبيعية والعفوية للسوق وهذا ما سمح لهم بوضع نظريات اقتصادية متقدمة. بداية مع “النظرية الكمية للعملة” والتي وضعها Azpilcueta.ثم وضع المدرسيون الأسبان نظرية عن “معدلات التبدل” ووفقها القيمة المتعلقة بالعملة هي محددة من خلال تساوي القوى الشرائية”، أيضا نظرية حول القرض مع الفائدة [34].
يمكننا القول إذا بأن الأطروحات الليبرالية هي “حديثة” ولكن هي ناتج عمل بدأ منذ القرون الوسطى، لاسيما مع مدرسة سان توماس الذي دمج مع علم اللاهوت عند “شيشرون” ومع القانون الروماني والفلسفة اليونانية في الطبيعة، معان للحرية و للملكية. التوماسيون استحقوا إعادة تشكيل هذه القضايا في مواجهة التعصب الكامن في “الأوغستانتية الجديدة” البروتستانتية وضد أتباع الحكم المطلق الاستبدادي المدعين “بالإرادة الخالصة” الإنسانية التي تتجاوز العقل وقوانين الطبيعة.

ثالثا ـ في أصول المذاهب الديمقراطية.
إن الأفكار السياسية الأولى عند “لوثر” و”كالفن” ذهبت في اتجاه مساندة الحكم المطلق.مع ذلك،وبسبب الصراعات مع القوى الكاثوليكية، هذه الأفكار تحولت باتجاه “حق المقاومة” وفي النهاية أصبحت نظرية حقيقية “للثورة”،نظرية تطورت في إنكلترا مع علم اللاهوت “الميثاقي أو التعاهدي” ولتلاقي نجاحها الأول في اسكتلندا. فيما بعد، هذه “الثورية” الراديكالية سوف تصبح أكثر هدوءا وتعقلا وأقل “تعصبا” لتعطي مكانا لظهور النظريات الدستورية والتي تم وضعها ضمن سياق “الحروب الدينية” التي استمرت من 1562 إلى 1598.

أ ـ راديكالية “اللوثرية” و “الكالفينية”، في إنكلترا واسكتلندا.
منذ عام 1529،اللوثريون كان عليهم وضع أطروحاتهم الاستبدادية في المساءلة وإيجاد حجج لصالح مقاومة السلطات القائمة. في هذه الفترة أصبحت الأفكار الثورية عند البروتستانت أكثر راديكالية. وبعيدا عن تفاصيل الحياة السياسية التي كانت قائمة، نستطيع إيجاز الأطروحات الأساسية الأربعة التي وضعها البروتستانت.
1ـ الدلائل التي استندت على القانون الخاص.
برر العديد من اللوثريين المقاومة المسلحة بالاستناد على القانون الخاص والذي تم تفسيره من قبل القانونيين الكنسيين: يمكننا المقاومة باستخدام القوة ضد قاض حكم وفق إجراءات غير قانونية أو ظالمة،لأنه لم يعد قاضيا بل أصبح شخصا عاديا أو خاصا.
2ـ نظرية “الهيئات القضائية الدنيا”.
لوثريون آخرون غير راضين عن الاستناد على القانون الروماني ـ الكنسي،بحثوا عن حجج في الأناجيل. فقد رأوا من خلال بحثهم أن “سان بول” أمر بإطاعة “الهيئات القضائية” من غير تحديد إن كان المقصود بذلك هيئات قضائية”عليا” أو أخرى “دنيا”. ضمن هذه الحالة فإن هؤلاء و الآخرين “هم مأمورون” من الله” والذي أعطاهم سلطاتهم لهدف محدد”العيش والحكم وفق إرادة الله في كل شيء”. بعد ذلك، إذا سلطة عليا ما سخرت من واجبها، فإن الهيئات القضائية الدنيا تستطيع تغييرها، وفي حالات أخرى يمكنها استخدام القوة المسلحة.
3 ـ نظرية “الحاكم الإسبرطي”.
“كالفن” Calvin، وفي الطبعة اللاتينية لكتابه “تأسيس الدين المسيحي” الصادر في عام 1559،تحدث عن “الهيئات القضائية الشعبية” وليست الدنيا والتي يتم تأسيسها لكسر إرادة الملوك، وقد أخذ بشكل واضح عن حكام إسبرطة اليونان. يريد”كالفن” الحديث عن القضاة المنتخبين، وفي هذه الحالة يصبح الشعب لديه أو يقوم بدور ما.
4ـ نظرية “المتعاهد”.
في الجزء الثاني من كتاب “تأسيس الدين المسيحي”، وضّح Calvin أطروحة وجود دائم “لمعاهدة” أو “تحالف” وقد ترجمه الإنكليز بمفردة ” covenant” بين الله والإنسان. حيث كل مواطن هو شخصيا مسؤول عن احترام القوانين الإلهية في المجتمع الذي يعيش فيه. هذه الفكرة يمكنا مقارنتها بشكل واضح مع الفكرة الإنجيلية “الكلاسيكية القائلة بتفوق وسمو السلطة الروحية على السلطة الزمنية، لكن هذه السلطة الزمنية تغنيها وتجددها، لأنه من الآن فصاعدا، أصل “الروح” التي تحكم على الحالة أو الوضع وتتصرف في هذا العالم ليس نهائيا محصورا في نبي أو رجل دين، ولكن الضمير الفردي والمواطن العادي أيضا.

ب ـ “الهوغونية” الفرنسية.
الأفكار البروتستانتية ما قبل ديمقراطية سوف تتأكد فيما بعد مع ما يسمى huguenots français أي “البروتستانتي الفرنسي”، والهوغونية Huguenotisme هي التمسك بالبروتستانتية الفرنسية.هذه البروتستانتية لحقت بها تحولات كبيرة كما سنرى. فالسياق الإيديولوجي والسياسي الفرنسي يشكل تحليلا نوعيا أو خصوصيا لهذه البروتستانتية.

1 ـ خصوصية السياق الفرنسي.
ـ وجد في فرنسا،لاسيما من خلال تيار “الإنسانية القانونية” ومدرسة “Bourges”،كل المواد الفكرية الضرورية لبناء قانون دستوري “علماني” يذهب في اتجاه ملكية تشاركية.
ـ “الهوغونية” الفرنسية لم تستطع الحصول على تصلب الإنكليز و الاسكتلنديين بسبب الحالة الحرجة التي كانت تمر بها، خاصة أنها كانت أقلية بالنسبة لعدد السكان الكلي. مما دفعها بالمطالبة فقط بحق الوجود، بالتوازي مع وجود الكاثوليكية.
ـ منذ سنوات سابقة على هذه الأحداث، “الإنسانيون” كانوا قد أكد وجود الحقوق و عدم القدر على اغتصاب العقائد.
ضمن هذا السياق الخاص جدا، البروتستانتيون الفرنسيون كان عليهم تشكيل نظرية سياسية تكون من طبيعة إرادتهم، ليست فقط مساندة إخوانهم في الدين أو العقيدة، ولكن، إذا أمكن، مساندة الكاثوليكية الغاضبة من الحكم المطلق القائم وخاصة من قبل كبار النبلاء[35].

2ـ مؤلفات البروتستانتية “الهوغونية” الفرنسية.
صدرت مجموعة من الكتب الغنية جدا عن البروتستانتية الفرنسية يمكن أن نذكر أهمها:

Le Réveille –Matin des Français et de leurs voisins,( 1573-1574).
ـ ” منبه الفرنسيين و جيرانهم”، تأليف، Eusèbe Philadelphe.
– Vindiciae contra Tyrannos.
ـ ” القوة الشرعية للأمير على شعبه، وللشعب على الأمير، تأليف،Etienne Junius.

في كل هذه الكتب، كان الهدف هو تأسيس “قانون إلهي للتمرد” ضد ملك فرنسا. البروتستانتيون عادوا إلى إعطاء نظريات القرون الوسطى حول سمو المجتمع والقانون قوة جديدة، ثم عودة الحديث عن الواجبات المتبادلة بين الشعب والملك، وعن شرعية المقاومة ضد الطغيان.
من أجل اختتام هذه الفقرة نعود إلى الأطروحات الأربعة التي قدمتها البروتستانتية ضد الحكم المطلق الاستبدادي، لنقول أنه من بين هذه الأطروحات فقط علم لاهوت “المتعاهد” covenant هو عنصر له خصوصية أو مرجعية إنجيلية. أما الثلاث الباقية فهي استعارت بشكل مباشر أو غير مباشر، من القانون المدني أو الكنسي الذي كان في القرون الوسطى. وكأن البروتستانت انتهوا بالالتفاف على أو الاتجاه إلى الفكرة التي وضعها “سان بول” و” سان أوغستان” التي تقول أن الله أخضع الإنسان لسلطة غير عادلة بسبب خطاياه ، ثم عاد البروتستانت لاكتشاف أهمية الأطروحات الكلاسيكية حول “المواطنية” civisme القديمة التي تم تجديدها من قبل المدارس الفلسفية قبل إعادة الاكتشاف البروتستانتي الفرنسي لها. وهذا يؤكد ما ذكر سابقا بأن البروتستانتيين وجدوا أفكار مشابهة على قواعد تشبه القواعد الفكرية لخصومهم،وخاصة من المدارس الفلسفية أو مدرسة “سلامونك”،وقد ترافق ظهور وتطور الأفكار البروتستانتية الفرنسية مع نفس الفترة التي وجدت فيها هذه المدارس في إيطاليا وأسبانيا.نذكر هنا أن الحروب الدينية قسمت أوربا إلى نصفين، ولكن هذه الحروب ستؤدي بدورها إلى ولادة النظريات السياسية الحديثة.

رابعا ـ الفكر السياسي للثورة الإنكليزية الأولى.
في إنكلترا القرن السابع عشر، والتي ورثت من جميع تأسيس المذاهب الفكرية السياسية التي درست سابقا، تم إغناء التقاليد الديمقراطية والليبرالية بشكل كبير. كل هذه الأفكار تم وجودها ضمن سياق دار بين ثوريتين إنكليزيتين، فمن الضروري هنا تقديم الروح التي كانت سائدة في تلك اللحظات.

أ ـ النطاق التاريخي للثورة الإنكليزية الأولى وإعادة بناء البروتستانتية.
نعود هنا إلى فترة حكم “إليزابيث الأولى”، حيث في هذا العصر تم تشكل القوى السياسية والتي ستتواجه خلال قرن الثورات الإنكليزية[36]. إليزابيث جاءت على العرش في عام 1558 بعد الكاثوليكية “ماري تيودور” والتي اضطهدت البروتستانت لفترة طويلة. إليزابيث هي ابنة ” آن بولين”،ولن تصبح ملكة قبل القطيعة التي أنجزها “هنري الثامن” مع روما؛ إذا يمكننا فهم أن هذه الملكة رغبت بالعودة إلى البروتستانتية. ولكن كان لديها مشاعر دينية معتدلة وقابل تحديات مع المتطرفين ومن بينهم “جون كنوكس”. من هنا ستقوم سياسة دقيقة بقيادة قيام كنيسة أنكليكانية anglicane قوية. لكن العديد من البروتستانت الإنكليز لن يقبلوا بالصيغة التي تقدمت بها إليزابيث ومستشاروها.

1ـ المتزمتون الصارمون Puritains.
رفض هؤلاء الكنيسة الأنكليكانية، إما لأنهم وجدوا فيها القرب من الكاثوليكية من ناحية المظهر (الألبسة على سبيل المثال)، أو لأسباب تتعلق بالعقيدة. لم يكونوا منظمين في البداية، لكنهم سيصبحون كذلك خاصة أنهم كانوا لاجئين في سويسرا وألمانيا،حيث نضجت مذاهبهم من خلال احتكاكها بالحركات البروتستانتية الراديكالية. مع بداية عام 1572،السلطة الملكية أصبحت أكثر تشددا. الجامعات و المطابع أصبحت تحت الرقابة، الطبقة الكهنوتية تمت تنقيتها من خلال تأسيس محكمة خاصة، اللجنة العليا أصبحت مؤسسة من اثني عشر كاهنا. وفي نهاية حكم الملكة كانت الجماعات المتزمتة قد أصبحت ضعيفة.

2ـ البرلمان.
منذ قدوم عائلة Tudors في عام 1485، حدث تطور في الملكية الإنكليزية باتجاه الحكم المطلق الاستبدادي. حيث وضع الملك بيده جميع السلطات التنفيذية،التشريعية والقضائية. مع ذلك،وعلى العكس مما كان يجري في فرنسا في نفس الوقت،النظام الإنكليزي أبقى البرلمان. هذا البرلمان كان يجتمع بشكل مستمر منذ عام 1529. وأثناء حكم إليزابيث، عشر برلمانات اجتمعت في 13 جلسة.وكان الملوك يسيطرون بالكامل على مجلس اللوردات، وكان لديهم القدرة أيضا على معارضة جميع قرارات المجالس.

3ـ تصاعد الصراع بين الملك،البرلمان والمتزمتين مع حكم “جاك الأول” و”شارل الأول”.
وصل “جاك الأول” على العرش في عام 1603 ليؤسس بعد عائلة Tudors، العائلة المالكة “ستيوارت” Stuarts. خلفه ولده “شارل الأول” في عام 1625.وباعتبار الاثنين عمدا لتعزيز الحكم المطلق للملوك فقد اصطدما مع البرلمان من جهة، ومن جهة أخرى وباعتبارهما زعيمين للكنيسة الأنكليكانية فقد اصطدما مع المتزمتين Puritains. لم يتردد الملكان في استخدام جميع الوسائل القمعية ضد معارضيهما.امتد الصراع من “جاك الأول” على خلفه ” شارل الأول”.حيث رفض الملك “عريضة الحقوق” في عام 1628 وبضغط من Edward Cock. وقد كانت هذه العريضة أول نص دستوري يهدف لضمان الحريات الفردية ضد التعسف، منذ عام 1215. ضمت العريضة خمسة إلغاءات: إنهاء التوقيف التعسفي،كل المعتقلين لهم ضمانات قانونية، أي معتقل بطريقة غير قانونية يجب أن يحرر فورا،التاج أو الملك عليه أن يرفض كل ضريبة تفرض على الناس ولم يقرها البرلمان والشعب ليس مسؤولا عن إيواء مشردي الحرب[37]. في عام 1629 أمر “شارل الأول” بإلقاء القبض على المسؤولين الأساسيين عن “العريضة أو البيان”. ثم حكم خلال أحد عشر عاما ولم يدعو البرلمان للانعقاد ولا مرة واحدة،وهذا ما يسميه الإنكليز “دكتاتورية السنوات الإحدى عشرة”، أي الحكم المطلق الاستبدادي على الطريقة الفرنسية. لكن الإنكليز سيقاومون هذه النظام بشجاعة ونجاح أكبر من جيرانهم الفرنسيين.

هذه المعارضة السياسية تغذت عمليا من المعارضة الدينية. الملوك في إنكلترا هم زعماء الكنيسة الأنكليكانية، والتي تحتفظ بقدرة دعمها الخارجي للكاثوليكية. أكثر من ذلك،مع الملك “شارل الأول”، هذه الكنيسة أصبحت “أرمنيوسية” نسبة إلى العقيدة اللاهوتية التي أسسها Arminius. هذه العقيدة لها مواقف دوغمائية متصلبة حول قدر الإنسان، وأيضا دعت للاعتراف من جديد بشرعية دور رجال الدين وبالعديد من الطقوس الكاثوليكية، وهذا التطور أخاف الإنكليز إلى تحول بلادهم من جديد إلى “الأنكلو ـ كاثوليكية”، مما قاد في النهاية على صب الزيت على النار فكانت ثورة عام 1638.

ب ـ الثورة.
في هذا التاريخ عرفت اسكتلندا انتفاضة ضد الأنكليكانية وقام بها “الكالفينيون” Presbytériens، وهم كما نعرف ضد سلطة رجال الدين أو الأساقفة.هذه المرة اضطر الملك على دعوة البرلمان للانعقاد وذلك من أجل فرض الضرائب بطريقة تجهض الانتفاضة. اجتمع البرلمان بتاريخ 13 نيسان 1640، لكن الأحداث جرت بطريقة تراجيدية نذكر هنا أهم السيناريوهات التي تجلت عنها:
ـ البرلمان يشطب أدوات الاستبدادية والحكم المطلق (اللجنة “الدستورية” العليا، المحاكم الاستثنائية،والمحاكم الاستثنائية الكنسية). ثم أوقف وزراء “شارل الأول”، الذي لم يستطع أن يفعل شيئا.
ـ في كانون الثاني 1641، البرلمان يصوت على بيان و على ” إنذار كبير”. حيث قام بتجريد الملك من مستشاريه وفرض عليه مستشارين ووزراء جدد. لكن الملك رفض وجرب توقيف الأشخاص الذين اقترحوا نص البيان على البرلمان. بالطبع علاقات القوة ليست من صالحه في هذه اللحظة، والنتيجة أن هيمن على لندن الميلشيات التي تسكن المدن، فما كان على الملك سوى الهروب.

ـ بدا سبع سنوات من الحرب الأهلية. البرلمانيون في البداية لم يفكروا نهائيا في القضاء على الملكية، بل محاولة إعادة توازنها. أما الحرب فكانت بين الجيش الملكي وجيش البرلمان المنظم على الطريقة السويدية، فمن المعروف أن الجيش السويدي تم تنظيمه بالكامل على يد الملك “غوستاف الثاني أدولف” بين عامي (1594ـ1632)، وهذا الجيش كان الطريق الذي سلكه البروتستانت أثناء الحرب الأهلية التي استمرت ثلاثين عاما وكان للجيش السويدي سمعة كبيرة فيها. جيش البرلمان قاده الجنرالان Fairfax و Cromwell.تم تسليم الملك في النهاية إلى الجنرال Cromwell من قبل الاسكتلنديين، ليوضع في السجن عامين متتالين جرب خلالهما التفاوض من غير نتيجة. في النهاية تم إعدامه من قبل “مجلس ضباط الجيش” في 30 كانون الثاني من عام 1649.
ـ الملكية ومعها غرفة اللوردات في البرلمان تم إلغاؤهما، ثم أنشئ “الكومنولث” أو ما يمكن أن نسميه بشكل قريب “بالجمهورية”، وأنشئ أيضا ما سمي وقتها Free State في 19 أيار من عام 1694.
ـ خلال أربع سنوات 1694ـ1653، وجدت حكومة مدنية حكمت البلاد لكنها كانت خاضعة لضباط الجيش.
ـ في النهاية وفي نيسان من عام 1653، جيش Cromwell أخذ السلطة وأبعد نواب البرلمان، ثم شكّل برلمان “دمية” Barebone’s Parliament. ووضع دستورا مكتوبا كأداة لحكم البلاد.أما السلطة فأصبحت مركبة من لورد يحكم الكومنولث (إنكلترا،اسكتلندا،ايرلندا)،ومن مجلس مؤلف من 26 عضوا، ثم برلمان من 460 نائبا منتخبا باقتراع “دافعي الضرائب” censitaire، ولكت حتى يستطيع أي شخص أن يقترع عليه أن يملك عقارا أو ملكا معينا قيمته على الأقل 2000 جنيها بريطانيا.

ت ـ القانون غير المكتوب Common law و “الدستور الإنكليزي القديم”.
التاريخ الإنكليزي يشكل خصوصية معينة، والتي تبين أن مشكلة الحريات السياسية و القانون المدني تطرح في هذا البلد بشكل مختلف عما هو الحال في القارة الأوربية.

1ـ النورمانديون و الساكسون.
إنكلترا وقع بين أيدي ” غيوم الفاتح أو الغازي” كما كان يلقب، في عام 1066 ثم حكمت بعد ذلك من قبل ورثته من نفس العائلة ومن طبقة محددة من البارونات النورمانديين، هؤلاء اعتبروا من الغرباء،خاصة أنهم حافظوا على الحديث بلغتهم الفرنسية ولمدة قرنين من الزمن. كل ذلك أدى إلى نتيجتين هما:
ـ الملوك النورمانديون كانوا مجبرين على تغير “قانون العادات” السكسوني و المحاكم الذي تدير هذه القوانين، ولن يستطيعوا أبدا فرض القانون الروماني أو كل ما يتعلق بالمفاهيم الاستبدادية. لم يتدخل التاج أو العرش في وضع القانون إلا بشكل غير مباشر ومن خلال هيئات قضائية تابعة لمحاكمه والتي سميت المحاكم التي تأخذ بالعادات أو القوانين غير المكتوبة Common law[38].
ـ بينما عرفت فرنسا عبر زمن طويل مجموعة من الملوك و الذين استطاعوا، خاصة من القرن الثالث عشر،فرض سلطة قوية ومركزية، إلا أن إنكلترا أو الملوك الإنكليز دائما اعتمدوا على مجالس تابعة للخاضعين لحكم الملوك، أي أنها ليست مركزية.

وعندما بدأ الصراع بين الملك والبرلمان في بداية القرن السابع عشر،هذه الخصوصية الإنكليزية ترجمت بوجود معسكرين متواجهين ومتعارضين. من الجانب الملكي،نرى أن الملوك الإنكليز يمسكون بسلطتهم من خلال قانون سموه “قانون الفتح أو السيطرة”، وهذا يعني أنه من العبث الطلب إلى الملوك بتنفيذ “عقد” بين الملك و رعيته هذا العقد الذي لم يوجد أصلا. أما من جانب البرلمانيين، فقد دعوا بشكل دائم وذكروا، كما فعل ” إدوارد كوك”، بأن إنكلترا عرفت ما يسمى “الحريات القديمة الأنكلوـ سكسونية” ومنذ زمن طويل.

2ـ Edward Coke (1552ـ1634).
درس القانون في كامبردج. عمل محاميا ثم أصبحا رئيسا “لغرفة محاكم قوانين العادات”، وبعد ذلك محاميا للدولة في عهد الملكة إليزابيث والملك “جاك الأول”. أصبح نائبا عام 1620 في الوقت الذي صعدت فيه البروتستانتية 1621 و نشرت “عريضة” الحقوق 1628. له العديد من المؤلفات أهمها : Reports ( 11 جزءا، نشر بين عامي 1600 و 1615)، Institutes of the Laws of England (1628ـ 1644) والذي هدف إلى ربط “قوانين العادات” مع “الدستور القديم”. القانون بالنسبة له يضم شكلين: statutes أي قوانين تفرض من قبل السلطة، و common law أي قوانين العادات. هذا الأخير كان الأهم بالنسبة له حيث ضم القانون المدني والقانون “الدستوري”،أي العلاقة بين السلطة الملكية والبرلمان.
يرى “إدوارد كوك” أنه إذا “قانون العادات” أو غير المكتوب ومعه القانون الدستوري هما متعارضان مع الإرادة السياسية القائمة،فإن هذا لأنهما يحتويان على “حكمة متفوقة وسامية”، إنهما تجسيد للعقل نفسه[39].طبعا نفهم هنا من “إدوارد كوك” أنه ينتمي إلى براديغم “النظام الطبيعي العفوي” والذي سنتحدث عنه عندما نصل إلى المفكرين الليبراليين. أما بالنسبة “للقانون غير المكتوب” والقانون الدستوري فلا يمكن أيضا تغييرهما أو تحريفهما وفق إرادة الملك. “كوك” لم يتحدث فقط في أطروحاته عن موضوع القانون الخاص، بل أيضا تحدث عن القانون العام، تنظيم السلطات ضمن المملكة الإنكليزية،توزيع السلطات بين الملك واللوردات والمحاكم، بهذا يكون قد وضع جميع المفاهيم الاستبدادية لعائلة Stuarts وبشكل عميق، قيد المساءلة.
3ـ النتائج السياسية لمذهب “الدستور القديم”.
في جميع الأحوال، حتى يتم قبول الجوانب الفلسفية و التاريخية لأطروحة”الدستور القديم”،هناك نتائج أساسية تلحق بهذا القبول.
ـ ” العقد الأصلي”.
يتحدث هنا عن واجبات الملك: الملك يحمي الأرض و الحريات، يحقق العدالة هو ومستشاريه. الناس في القرن السابع عشر فسروا هذا النص كشهادة ثمينة جدا على واجبات الملكة في السلطة وسموه”العقد الأصلي”.
ـ امتيازات البرلمان.
على قاعدة نصوص “الدستور القديم”، البرلمانيون في عام 1628 استطاعوا معارضة ممارسات العائلات الملكية التي وضعت منذ القرنين الحادي عشر والثاني عشر من قبل عائلتي Tudors و Stuarts، مثل الضرائب التي تفرض بالقوة، السجن التعسفي للمعرضين والإيواء الإجباري لضحايا الحرب. أيضا وضعوا قانونين هامين : قانون التمثيل البرلماني لمقاطعات إنكلترا، قانون “غرفة المحاكم” وممارستها للسلطة التشريعية خارج إرادة الملك و اللوردات وتوازيهما في القوة.

ث ـ المستقلون و دعاة المساواة السياسية Levellers.
خلال سنوات 1640، ظهرت أفكار جديدة مدعومة من قبل مجموعات مستقلة وخاصة من قبل جماعة”المؤيدين للحقوق السياسية”. هذه الأفكار أكدت فكرة التسامح والتي تحضر لفصل بين الكنيسة والدولة، وبأكثر بعد وعمق، مبدأ حرية التفكير. “المؤيدون” اقترحوا أفكارا دستورية جديدة أكثر تقدما من المبادئ التي كانت سائدة في دول أخرى آنذاك.

1ـ أصول النقاشات حول التسامح.
فكرة التسامح تعود إلى العصور القديمة.تم التأكيد عليها في العصور الوسطى من قبل العديد من المفكرين”المعزولين”. مع العهد البروتستانتي الإصلاحي،ظهر موضوع التسامح كأولوية حيث بدأ الحديث في أوربا عن التعددية الدينية. في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، “المذهب الإنساني” شكل قاعدة فكرية للتسامح مع أهم منظريه : Nicolas de Cuse , Marsile Ficin, Pic de la Mirandole, Erasme, Thomas More, Guillaume Postel, La Boétie, Montaigne….،الفكرة الأساسية التي طرحها هؤلاء كانت أن الإنسان يمتلك معرفة ضعيفة، هذه المعرفة تمنعنا من التمزق حول قضايا وأشياء غير مؤكدة. (بالتأكيد هناك مدارس ومذاهب كثيرة حول هذا الموضوع لكن اكتفينا هنا بعرض أهم الأفكار الأولى للتسامح).

2ـ المشاركة الإنكليزية.
استقبلت إنكلترا هذه الأفكار التي كانت تدور في أوربا وقدمت لها الكثير من الغنى الفكري. دافع الكاثوليك الإنكليز عن فكرة التسامح ومنهم William Allen, Robert Person وقد قتلا كلاهما من قبل البروتستانت. يمكننا تمييز عدة مراحل في الحالة الإنكليزية. مع “الكالفينيين” presbytériens كان هناك نقد لمذهب ” érastianisme”، بمعنى نقد للمذهب القائل بأن الأمير يمتلك جدارة أو وضعا خاصا فيما يتعلق بالبوليس الديني الذي وضع أثناء حكم ” هنري الثامن، إدوارد السادس، إليزابيث الأولى”. الكنيسة إذا يجب أن تكون كليا مستقلة عن الأمير،من هنا جاءت الدعوة لانتخاب ديمقراطي في الكنيسة ابتداءا من القواعد وحتى قمة الهرم. بالنسبة “للكالفينيين” هذه الفكرة كانت أشبه بجريمة دينية كبيرة.

إن موقف “المستقلون” كان أكثر تقدما. حيث هذه المرة الفكرة الدينية نفسها التي تقف وراء العقوبات،أصبحت مكانا للنقد.فبالنسبة “للمستقلين”، الدولة والكنيسة يجب أن يكونان مجتمعات منفصلة كليا عن بعضها،الدولة لا تستخدم سلطاتها الإلزامية الإجبارية إلا في ميادين خاصة بالحكومة الدنيوية”العلمانية”.
مع دعاة “المساواة في الحقوق السياسية” Levellers،كانت أيضا هناك مشاركة كبيرة خاصة مع مؤلفات William Walwyn والتي جاءت تحت العنوان التالي: The comassionate Samartane Liberty of conscience asserted and the separatist vindicated(1644)، قدم فيها أربع دلائل أو مبررات جوهرية :
ـ لا أحد يستطيع أن يسيطر على أفكاره، فالإنسان يعتقد بشكل حقيقي ما يراه كما هو،بالتالي لا نستطيع معاقبة أحدهم لرؤيته لأشياء خارجة عن إرادته.
ـ يوجد شك قوي في هذه الحياة،فالمضطهِدين يمكن أن يصبحوا مضطهَدين في لحظة معينة من غير أن يدروا.
ـ كل ما لا يأتي من الإيمان هو خطيئة،إذا المضطهِد (بكسر الهاء) يجبِر على ارتكاب الخطيئة، وهو بهذه الحالة يرتكب بدوره الخطيئة.
ـ إن التماثل لحد الوحدة، وليس التعددية، هو في حد ذاته سبب في الفوضى.

فكرة التسامح انتشرت في هولندا وفي إنكلترا في القرن السابع عشر،ولكنها لم تكن مقبولة من الجميع.ونشير هنا إلى أن ممارسة هذه الفكرة بشكل عملي أدت إلى تراكمات لها شيئا فشيئا لاسيما في هولندا وإنكلترا،وفيما تبقى من أوربا كانت الحالة متأخرة جدا مقارنة مع التطور الأنكلوـ هولندي في هذا المجال.

ج ـ الأفكار الدستورية عند Levellers.
الفكر السياسي عند “دعاة المساواة في الحقوق السياسية” تجاوز بكثير الحديث فقط عن مفهوم التسامح. هذه المجموعة لم تلعب دورا كبيرا في “الثورة” لأنها لم تحاول تنظيم نفسها داخل الجيش في فترة ما بين (1646ـ1649). مع ذلك، مشاركتها الفكرية والإيديولوجية كانت أساسية بل يصفها البعض”بالنبوية” prophétique. إنهم كما يشير اسمهم،يطالبون بالمساواة السياسية ولكن ضمن مفهوم المساواة في الحقوق، وهي ليست مساواة ظرفية.
1ـ سلطة الدولة تقوم بالتوافق أو التعاقد.
يقول أحد منظريهم وهو Liburne ،كل سلطة مدنية تمارس “فقط من خلال المؤسسة، أو الوثيقة،بمعنى من خلال اتفاق وقبول متبادل وتضمن أمن هؤلاء والآخرين”. [40] ويقول أيضا أحد أعضاء هذه الجماعة وهو Thomas Rainborough:” حقيقة أعتقد أن الإنسان الأكثر فقرا في إنكلترا لديه رأي في الحياة،تماما كما الإنسان الأكثر غنى ومركزا”.
2ـ الاقتراع الوطني.
ينتج من هذا المبدأ، أن جميع المواطنين يجب أن يستطيعوا وبشكل متساو المشاركة في الحياة السياسية من خلال الاقتراع الوطني الشامل، وأن البرلمان يجب أن يكون مجلسا تمثيليا للمواطنين الأفراد وبكل طبقاتهم. هذا المفهوم الثوري بكل معنى الكلمة في ذلك الوقت، اصطدم مع المفاهيم القديمة القروسطية. فمن المعروف تقليدا في إنكلترا أن المملكة هي تنظيم للمصالح الجماعية المستمرة،وللطبقات التي تمتلك أحكاما خاصة بها، وفي الواقع هذه البنية العضوية انعكست على البناء السياسي و المؤسسات السياسية القائمة. لكن مع “دعاة المساواة في الحقوق” الأمر مختلف تماما،فلا أحد يخضع لقانون تم وضعه من غير مشاركته شخصيا أو مشاركة ممثلين له، ويكون هذا من خلال الاقتراع.

3ـ فكر الدستور المكتوب.
انشغل”دعاة الحقوق” بتوسيع سلطات البرلمان في إنكلترا،أيضا في نفس الوقت وضعوا فكرة حديثة حول “الدستور المكتوب”، هدفها وضع حدود لسلطات الدولة، ثم أو مخطط واضح “لإعلان حقوق الإنسان”،Agreement of the people. هذا الإعلان حدد النقاط التالية: سلطة مختلف مؤسسات الدولة التي هي في حالة إنشاء كما جاء في الإعلان،الحقوق الأساسية التي يعلن المواطنون الاحتفاظ بها لأنفسهم ولا توكل لممثليهم في البرلمان. أيضا البرلمان لا يمكنه وضع العديد من أشكال القوانين غير موجودة في نص. لا يمكنه أيضا تشريع القوانين فيما يتعلق بالدين، لا يمكنه إعلان الحرب،لا يمكنه سن قوانين تعرض للخطر المساواة أمام القانون. الدستور المكتوب بالنسبة لهم هو “عقد اجتماعي” حقيقي على الجميع الموافقة عليه من خلال الاقتراع.

ح ـ الجمهوريون.
بالنسبة للنزعة الجمهورية الإنكليزية فإنها إيديولوجيا أنتجت أفكارها في مراحل مختلفة، وكل مرحلة كان لها كتابها الأساسيون:
1649ـ1660 ( Marchmont Nedham, John Milton, James Harrington).
1675ـ 1683 ( Henry Neville, Algernon Sidney).
1690ـ وما بعد ( Robert Molesworth, Walter Moyle, John Trenchard, John Toland, Andrew Fletcher).
ونستطيع أن نذكر أهم المواضيع المشتركة التي عملوا عليها: الأفكار حول النظام المختلط، حكم القانون،الدستور المكتوب،فصل السلطات.

1ـ المواضيع المشتركة.
ـ النظام المختلط: إشكالية النظام الملكي أو الجمهوري للحكم لم تكن يوما في مقدمة أولويات ثورة البروتستانت الإنكليز،أي حتى عام 1649.أما ضباط “كرومويل” فقد أعدموا الملك “شارل الأول” ليس لأسباب تتعلق بالنزعة الجمهورية، وإنما لمعرفتهم بعدم إمكانية التوصل إلى اتفاق دائم معه.ولكن بعد إقصاء الملك كان لابد من التفكير بشكل سياسي جديد للحكم، من هنا بدأ التفكير بالجمهورية. تم البحث بداية في النماذج التي وجدت آنذاك، في البندقية، سويسرا أو غيرها، وبسبب تعدد الأشكال الجمهورية تم الأخذ بالنظام المختلط وليس الأخذ بالديمقراطية.
ـ حكم القانون rule of law.
وهو موضوع عاد مع الجمهوريين الإنكليز وتحول بواسطتهم إلى مذهب سياسي حقيقي، وسيصل هذا المذهب إلى شكل الأكمل مع “جون لوك” كما سنرى لاحقا، بمعنى “حكم القوانين وليس حكم الرجال” gouvernment of laws, not of men . والفكرة هنا أن القوانين والحرية يتواجدان بشكل كل منهما يشترط الآخر، حيث لا يوجد حرية من غير وجود القوانين. إن موضوع النظام مهم بالنسبة لهم،ولكنه متروك لصالح قيام هذه الحالة الجديدة” حرية تحت القانون”. فإذا كانت الجمهورية أفضل نظام هذا يعود لأنها تضمن أفضل قيام ومحافظة على هذا الوضع.
ـ الدستور المكتوب.
حتى “أليفييه كرومويل” نفسه أراد مثل هذه الفكرة التي جاء بها “دعاة المساواة في الحقوق السياسية”، حيث تمنى وجود نص يشكل القاعدة الثابتة لنظام الحكم ويقول في هذا الصدد:”في كل دولة يجب أن يوجد أشياء أساسية، أشياء على شكل عقد اجتماعي تبقى ثابتة لا تتغير”.

ـ فصل السلطات.
في العادة عندما نتحدث عن هذه الفكرة فلابد أن يخطر ببالنا مباشرة الفرنسي “مونتسيكيو”، ولكن في الحقيقة إنها تعود لجماعة “دعاة الحقوق” Levellers وبالتحديد عند John Liburne في عام 1645.وبشكل عام ترجمت هذه الفكرة من خلال المفهوم التالي عند هذه الجماعة :” يمكننا أن نقول أنه ومن خلال قانون الطبيعية،السلطات التشريعية،القضائية والتنفيذية يجب أن تكون في أيد مختلفة ولناس متعددين”.

2ـ الجمهوريون الإنكليز بعد عام 1660.
عندما اقترب حكم الملك “شارل الثاني” من النهاية، تبين أن وريثه الوحيد هو شقيقه دوق York، والذي كان كاثوليكيا. اندلع النزاع من جديد. الملكيون كان لديهم فكرتهم في 1680: حيث نشروا محاولة مكتوبة كانت قد ظهرت قبل ثلاثين عاما وأثناء الثورة الإنكليزية الأولى. إنه كتاب وضعه Sir Robert Filmer وكان بعنوان Patriarcha or the natural power of kigs. يطرح الكتاب موضوعا ضعيفا جدا: الملوك لديهم الحق الطبيعي، لأنهم الوارثون الشرعيون لأول ملك للإنساني وهو آدم، ويتحدث الكتاب أيضا عن حجج أكثر قوة ضد فكرة العقد الاجتماعي، من خلال إجابتين شهيرتين سنتحدث عنها في الفصل اللاحق، بمعنى أنهم قدموا دراسات “جون لوك” كحجج لهم : Two Ttreatises on Civil Gouvernment، و Discourses Concerning Gouvernment of Sidney، وهي كتابات ظهرت بين عامي 1680ـ1683 ونشرت 1698.

في الواقع، كتاب Sidney، والذي يدحضه Filmer صفحة بعد صفحة، يؤكد حق المقاومة ضد شرعية الطغيان و الطغاة. إنه يظهر ارتباطا عميقا بالنماذج الجمهورية القديمة، ويعيد الأفكار الجمهورية التقليدية السابقة التي تقول:” كل الشعوب لديها حق طبيعي أن تحكم نفسها، ولديها الحق في اختيار قادتها الذين يرون أن يخدمون ويحققون مصالحهم”. بعد الثورة الإنكليزية الثانية 1688،الجمهوريون يستمرون في توضيح وشرح آراءهم، وكانوا أيضا في مواجهة مع النظام السياسي الجديد في إنكلترا وهو النظام الملكي الدستوري رغم تحقيقه جزءا من برنامجهم المطروح.
الجمهوريون حاربوا أيضا مبادئ “الجيوش الدائمة”. حيث طرحوا سؤالهم التالي: لماذا إنكلترا تحتفظ بجيشها بعد أن وقعت اتفاق سلام مع فرنسا ؟ الجيوش الدائمة تكلفتها كبيرة وتبرر فرض ضرائب كبيرة على الشعب وهي حجة بيد السلطة الملكية لتحصيل هذه الضرائب. عاد الجمهوريون في عام 1700 لنشر أو إعادة نشر سلسلة من المؤلفات التي شكلت القاعدة الإيديولوجية “لحزب الأحرار في بريطانيا” Whig في القرن الثامن عشر، أما اهم هذه الكتب فكان :
ـ Memoirs d’Edmund Ludlow ، وهو كتاب يتحدث فيه عن الحرب الأهلية.
ـ Historical and Political Works of Milton.
ـ Discourses of Sidney.
ـ Plato redivivus of Neville and Harrington.

خلال تلك الفترة سيظهر أيضا كتاب جدد ضمن نفس المجال لفكري وأهمهم : John Trenchad و Thomas Gordon وخاصة في عملهما المشترك The Independant Whig “الأحرار المستقلون”،وسيكون لهم وقعا كبيرا في أمريكا. أيضا الاسكتلندي Fletcher المتأثر بالأفكار “الإنسانية المدنية” في اسكتلندا، سيكون له تأثير كبير على كل من David Hume و Adam Smith. الجمهوريون الإنكليز لم يكن لهم تأثيرا سياسية فورية، لأن فكرة الجمهورية نفسها فقد الكثير من التعاطف في إنكلترا بسب دكتاتورية “كرومويل”. مع ذلك،الشكل والمنهج الجمهوري للنظام لم يكن إلا جانبا من الفكر عند الثوريين الإنكليز، و الجانب الآخر كان “الحرية تحت القانون” rule of law،وهي حالة من الحرية المدنية تتوافق مع أنظمة أخرى وبشكل خاص الملكية الدستورية.هذا الجانب الثاني ستتم قيادته حتى تحقيقه على يد كاتب ليس جمهوري، إنه ” جون لوك”.

خامسا ـ جون لوك و الثورة الإنكليزية الثانية.

1 ـ مذهب الحرية في ظل القانون، “سيادة القانون”.

مدخل:
السياق التاريخي.
في عام 1685، أخ الملك “شارل الثاني” دوق York،خلفه على العرش تحت اسم أو لقب “جاك الثاني”. وبما أنه كاثوليكي، فقد اشتبه فيه فورا بأن سيقيم في إنكلترا وفي نفس الوقت المذهب الكاثوليكي ونظام الحكم المطلق الاستبدادي. بدأ الملك الجديد باتخاذ إجراءات تسلطية مستبدة لم يكن الشعب الإنكليزي معتاد عليها منذ قيام الثورة الأولى. الكثير فكر في ظل هذا المناخ السياسي بتأييد القطيعة مع النظام الوراثي العادي الذي كان قائما. وفي عام 1688، العديد من هؤلاء طلبوا من Guillaume d’Orange، حاكم “الأقاليم المتحدة” والذي تزوج من Marie ابنة “جاك الثاني”، التدخل لإنهاء الحالة القائمة.

Guillaume وصل مع جيشه، أما “جاك الثاني” من غير مواجهة” تخلى عن العرش، أي لم يكن هناك مكان للعنف ولهذا يسمي الإنكليز هذه الفترة ” الثورة المجيدة”. Guillaume و زوجته أصبحا في الحكم ملك وملكة وبعد تصويت في البرلمان بغرفتيه وذلك في 13 شباط من عام 1689.وكانت بداية البرلمان مع نص جديد وأساسي إنه Bill of Rights أو ” شرعة أو ميثاق الحقوق” انطلاقا من عام 1689 أي قبل الثور الفرنسية بمائة عام. هذه الوثيقة كانت عبارة عن “عقد” بين البرلمان والملك الجديد. الشعب الإنكليزي موجود وممثل في البرلمان ووجوده لا يعود بفضل الملك. والشعب يختار بين العديد من المرشحين قدر الإمكان ، أما الملك فقد احترم هذه الوثيقة لتكون أشبه بدستور جديد في إنكلترا. أما الفلسفة السياسية لهذا الشكل الجديد تم وضعها على يد “جون لوك”، والذي انتشرت أفكاره بسرعة في أوساط “حزب الأحرار البريطاني” whigs وخاصة مع كتابه المؤلف من جزأين “تحليلات حول الحكومة المدنية”. والنظام الجديد تبنى بالمقابل تشريعا حول التسامح سمي “ميثاق التسامح” والذي يكرس حرية جميع الطوائف البروتستانتية وتم إبعاد جميع الكاثوليك عن الوظائف العامة طبعا مع إبقاء الكنيسة الأنكليكانية.

جون لوك

حياة و أعمال
ولد في عام 1632 قرب مدينة بريستول. درس الأدب والطب في جامعة أكسفورد حيث سيعلم فيما بعد اللغة اليونانية. عاش فترة طويلة في فرنسا ( 1672ـ1679)،و كان يتردد بشكل دائم على كلية الطب بجامعة مونبيليه. انتقل إلى هولندا في عام 1683، هناك التقى وفي عام 1689 بالملك الذي أصبح ملكا على إنكلترا Guillaume d’Orange. عاد معه إلى إنكلترا وبقي فيها حتى وفاته في عام 1704. أم أهم أعماله فهي :
ـ “محاول حول التسامح” 1667.
ـ “الدساتير الأساسية في كارولين”،عمل جماعي، 1669.
ـ “حول الاختلاف بين السلطة الكنسية و السلطة المدنية” 1674.
ـ “رسالة حول التسامح” 1686.
ـ “تحليلان حول الحكومة المدنية” 1680.
ـ ” رسالة ثانية حول التسامح” 1690.
ـ “معدل الفائدة والعملة” 1692.
ـ “نصوص حول الاتفاق بين المسيحية والعقل”1695 و 1697.
“تاريخ الإبحار” 1704.

أولا ـ جون لوك و نظرية سيادة القانون.
جون لوك هو المنظر الرئيسي لما سمي”بالثورة المجيدة” في انكلترا 1688، هذه الثورة التي شيدت الملكية الدستورية و الليبرالية الاقتصادية.انتقد جون لوك في الجزء الأول من كتابه “تحليل الحكومة المدنية”، الأطروحات الملكية لمعاصره “روبيرت فيلمر” التي تقول بأن السلطة السياسية لا يمكن أن تكون إلا ملكية و أن “السلطة الأبوية” للملوك أسست في نفس الوقت بالطبيعية و من خلال الثورة. يقول لوك أن هذه النظرية خاطئة ولابد من اكتشاف واحدة أخرى تتعلق بالحكم. ومن أجل هذا لابد من العودة للحالة الطبيعية عند الإنسان. فما هي هذه الحالة الطبيعية ؟

ـ الحالة الطبيعية:
هي حالة من الحرية و المساواة، حيث لا يوجد تبعية أو طاعة بين البشر، والذين هم من فضاء واحد ونظام واحد، لقد ولدوا من غير اختلاف ولديهم نفس المؤهلات. طبعا هذا الطرح كان قد سبق عصر جون لوك وخاصة في المدارس الفلسفية التي اعتمدت النهج الأرسطي، ثم تم أعادة تشكيله تحت عناوين مختلفة أثناء الثورة الإنكليزية.

الحرية الطبيعية ليست من غير حدود عند لوك. إنها محددة بما سماه “قانون الطبيعة” نفسه، هذا القانون يمتزج مع العقل والذي يعلم جميع الناس أن البشر جميعهم متساوون ومستقلين ،يجب ألا يضر أحد أحدا آخر، لا في حياته ولا صحته ولا حريته. نفس المنطق في الحق الطبيعي يتطلب أن يكون لدي القدر على محاسبة الذي يشكل أذى لي أو يضرني، هذا الذي يغتصب القانون الطبيعي. والجميع في حالة الطبيعة يمتلكون هذا الحق الذي يتكون من جانبين أساسيين : إعاقة ضرر الآخرين، و الحصول على الحق في محاول وقوع هذا الضرر. هذا الحق في الدفاع عن النفس وفي العقوبة هو أيضا له حدود، حيث لا نستطيع أن نفعل ما نريد مع شخص مذنب.

في الواقع من العبث القول أن الإنسان سيطبق القانون في غير مصلحته، لأن “حب الذات” كما يقوا لوك يجعل من البشر متحيزين لمصالحهم و لمصالح أصدقائهم. بالتأكيد، ولهذا السبب سنرى أن الإنسان يسعى للخروج من الحالة الطبيعية إلى حالة أخرى نتحدث عنها لاحقا.

نرى جون لوك أنه مازال يصطف خلف التقاليد القديمة الموروثة من (أرسطو،سان توماس،و غروتيوس)، حيث أن حالة الطبيعة هي منذ البداية حالة اجتماعية، البشر مجبرون للقيان بأشياء تجاه بعضهم البعض، حتى ولو لم توجد حالة مدنية أو حالة سياسية.

ـ الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة السياسية.
ترافق الحالة الطبيعية العديد من الصعوبات. حيث ملكية الفرد أو الإنسان في هذه الحالة معرضة لضعف وهشاشة كبيرة. يقول جون لوك هنا :” إذا كان الإنسان حرا في حالة الطبيعة وسيدا مطلقا على شخصيته وأملاكه، إلا أنه ليس الوحيد الذي يمتلك ويعيش نفس الحرية، فالجميع لديهم نفس المميزات والقسم الأكبر منهم لا يحترم المساواة ولا العدالة، وهذا يعرض الملكية للخطر وعدم الثبات. ضمن هذه المشكلة لابد من البحث عن علاج.

ولكن السؤال هنا: هل نترك الحالة الطبيعية للبحث عن حالة أكثر سوءا منها ؟
حالة الطبيعة حتى ولو كانت عابرة وغير ثابتة إلا أنها عند جون لوك تختلف عن ما جاء به “هوبز”. هوبز يرى أن الحالة الطبيعية هي قاتلة، فمن أجل حماية الحياة نحن جاهزون لكل شيء،وخاصة للتضحية بالحرية. بينما عند لوك لا نصل للحديث عن فقدان الحياة بل عن الازدهار ، لذلك لا يمكننا الانتقال للحالة السياسية إذا كنا سنفقد ميزات الحالة الطبيعية. ولن نغير حالتنا الطبيعية إذا لم نحصل في الحالة الجديدة على ميزات أكثر من الحالة الماضية.

من أجل وضع حد أو نهاية لضعف وهشاشة الحياة في الحالة الطبيعية، لابد من أن نجتمع أو ننتقل إلى الجماعية. حيث يتخذ الإنسان قرارا بالاتصال بالإنسان الآخر، من أجل حماية بالتبادل لحياتهم،لحريتهم ولأملاكهم. وحتى يصيح هذا ممكنا، يجب و يكفي أن كل فرد من بين الجماعة يمتلك و يمارس حقه الطبيعي ، وهنا لن يكون لديه القدر على الحصول على حقه أو يثأر للضرر الواقع عليه لأنه أصبح يعيش في جماعة وليس لوحده. إذا الجماعة هنا عليها أن تمتلك القوانين والتي من خلالها تتم المحاسبة ثم تنفيذ الأحكام، في هذه الحالة الحق الطبيعي في العقوبة سيكون مضمونا من قبل الجماعة بدل من أن يقوم كل فرد وبنفسه بتحصيل أو تطبيق الأحكام.

نستنتج هنا الصفات الثلاث الجوهرية للاجتماع السياسي. هذا الاجتماع سيكون لديه :
1ـ قوانين، معروفة وواضحة ومجربة.
2ـ قاض يطبق القوانين بشكل موضوعي، وهذا ممكن لأنه لا يطبق قوانينه الشخصية بل قوانين الجماعة أو المجتمع السياسي.
3ـ سلطة تستطيع تنفيذ الأحكام ، وهذا ممكن أيضا لأن من سيملك السلطة هي قوة مشتركة مكونة من كل الجسم الاجتماعي.

من يريد مميزات قيام الدولة عليه القبول و احترام هذه القوانين التي تكفل الحرية التي كفلتها القوانين الطبيعية. و بالتالي يتم التخلي عن الحق الطبيعي في العقوبة لصالح السلطة ( إلا في حالات الدفاع عن النفس حيث الضرورة والحالة الطارئة لا تسمح للسلطة بالتدخل الفوري).

هنا ننتقل لما نسميه “العقد الاجتماعي”،هذا العقد الذي لن يجعلنا نخسر أو نفقد حقوقنا في تبادلها مع الآخرين لأن:
ـ العقد الاجتماعي سيحمي الملكية، أو جوهر الحقوق الطبيعية.
ـ يتم التخلي عن الحقوق التي ليست من الأولويات، لأن الدولة ستنوب عن الفرد في ممارستها، وسيكون هذا لصالح المجموع.

إذا يمكننا في النهاية أن نختصر نظرية العقد الاجتماعي عن جون لوك بما يلي : حقوق انتقلت إلى الدولة حيث كانت في حالة الطبيعة : وفيها (الحق في تفسير القانون الطبيعي ،الحق في الحكم،الحق في العقوبة). وأصبحت في المجتمع السياسيسلطة تشريعية، سلطة قضائية، سلطة تنفيذية). أما بالنسبة للحقوق المتعلق بالفرد ، انتقلت من حق الملكية الطبيعي إلى حق الملكية القانوني.
ـ الاجتماع السياسي و حماية الملكية.
الخروج من الحالة الطبيعية ليس لديه معنى إلا إذا أوصلنا لحماية أفضل للملكية التي يملكها الإنسان في الحالة الطبيعية . فالدولة ليس لوجدها سبب إذا لم تكن تستطيع حماية الملكية. وهنا يقول جون لوك :”النهاية الرئيسية و الجوهرية، لوضع يكون فيه الناس مجتمعين أو خاضعين لجمهوريات أو حكومات، هي حماية و الحفاظ على ممتلكاتهم”. وهنا الدولة يجب ألا تستخدم قوة المجتمع ،في الداخل، إلا من أجل ضمان تطبيق القوانين، وفي الخارج، من أجل حماية الدولة من الاعتداءات الخارجية، ووضع المجتمع في حماية من الغزو أو الاجتياح.

ـ حدود السيادة.
من الوظيفة الأساسية للمجتمع السياسي في حماية “المجال الخاص” سيكون لدينا وظيفة أخرى كبرى: وهي حدود السلطة السياسية. يقول جون لوك في هذا الصدد:” بما أن المواطنين ليس لديهم اهتمام آخر إلا القدرة على الحفاظ على شخصياتهم،حريتهم، ملكياتهم، فإن سلطة المجتمع و السلطة التشريعية المقامة من خلالهم لا تستطيع الافتراض أن من واجبها الامتداد بشكل أوسع و أبعد من حماية الخير العام. هذه السلطة يجب أن تضع في مأمن وتحافظ على المجالات الخاصة لكل إنسان.

إذا السلطة التشريعية، إذا كانت عليا ( أعلى مصدر تشريعي في الدولة)، فهي ليست مطلقة، إنها محددة كالدولة نفسها، من خلال القوانين الطبيعية. ويقول جون لوك في هذا الشأن:” إنها سلطة ليس لها غاية سوى الحفاظ على الحقوق، فليس من حقها التدخل في تحديد أي موضوع. قانون الطبيعة يستمر دائما كقاعدة أبدية بالنسبة لكل البشر، عند المشرعين وعند غيرهم، وقوانين المشرع يجب أن تنطبق مع القوانين الطبيعية”.

جون لوك يشكل هنا في نظريته ما سيصبح قلب أو مركز مذهب حقوق الإنسان، و الذي كل الديمقراطيات الليبرالية الحديثة تعترف به كمؤسس لها، حيث هذه الديمقراطيات جعلت من مبادئ جون لوك مبادئ عليا لها.

ـ شروط قيام و تجديد العقد الاجتماعي.
إن المفهوم الذي قدمه جون لوك “للعقد الاجتماعي” ليس مفهوما طوباويا لا يمكن تحقيقه. إنه لا يتخيل أن الناس يجتمعون في يوم جميل و يخلقون الدول بواسطة اقتراع شكلي. إنه يفهم العقد الاجتماعي أن بإمكانه أن يكون بشكل متعاقب متتالي و ضمني. لقد دفع لوك هذه الموضوع و التفكير فيه بشكل كبير نحو الأمام. حتى أكثر مما قدم جان جاك روسو في “العقد الاجتماعي”. أما الشروط التي تحدث عنها جون لوك فهي :
1ـ ضرورة الانتساب الطوعي:
الإرادة الطوعية في الانضمام على العقد الاجتماعي، وفي كل الظروف، هي مطلوبة حتى يكون العقد سليما وصالحا. بحيث لا أحد يمكن أن يسحب الحالة الطبيعية ويخضع للسلطة السياسية للآخرين من غير إرادته الخاصة.

2ـ تاريخية “العقد الاجتماعي”، أي حصوله تاريخيا:
فيما يتعلق بالعقد الاجتماعي الطوعي يمكن أن نقدم اعتراضين على هذا المفهوم : الأول، عدم وجود مثال تاريخي لمجتمع سياسي بدأ بعقد اجتماعي. ثانيا، وهذا من جهة أخرى مستحيل، حيث كل إنسان ولد في دولة ومن هنا حريته هي منذ البداية متنازل عنها، فهو ليس حرا برفض العلاقة التي أخذها وربطته مع الآخر في مكان وجوده أو في مكان آخر.

فيما يتعلق بغياب المثال التاريخي، جون لوك يعترف بالعقبة. فالانتقال من مرحلة الطبيعة إلى المرحلة الاجتماعية ضاع غياهب الماضي. رغم ذلك، يعتقد لوك أن الحكومات الملكية البدائية أنها كانت ثمرة لعقد اجتماعي. باختصار، الدول هي في الحقيقة تشكلت بواسطة عقد اجتماعي طوعي، حتى ولو كان هذا العقد في الغالب ضمنيا و نتيجة لتتابع أو توال في الانضمام الفردي إليه.

ـ مذهب الحرية برعاية القانون أو ” دور القانون”.
رأينا أنه في عملية الارتباط أو التجمع السياسي، القوانين الناتجة عن الطبيعة تتجسد في القوانين المدنية. وعلى هذه القوانين تستند الأحكام والقضاء. “دولة لوك” هي حكومة من القوانين وليس من البشر، هي حالة من حكم القانون. من هذا المفهوم و الذي كان قد خضع للتداول في إنكلترا قبل جون لوك، يستنتج جون لوك أو يعطي تحليلا خاصا واضحا وعميقا. إنه يبين أن “دور القانون” و الحرية لا يمكن فصلهما وكل منهما يشترط الآخر. هذا المذهب سيشكل جوهر الليبرالية الحديثة.

أولاـ جوهر الحرية.
لا بد في البداية من الإشارة أن الحرية لا تعني القدرة على فعل كل شيء. إنها شيء آخر، إنها عدم الخضوع لسلطة تعسفية للآخر. ” الحرية الطبيعية للإنسان هي عدم خضوعه لسلطة تهيمن على إرادته، الحرية ترتكز على أن تكون غير معيقة أو تشكل عنفا ما ضد الآخرين”. بمعنى آخر الحرية ليست سلطة بل هي علاقة اجتماعية، وعكس الحرية ليس الضرورة بل التعسف و القهر.

ثانياـ جوهر القانون.
يتطرق لوك لهذا الموضوع بعناية ودقة. إنه يبين أن ، إذا القانون استطاع أن يلعب هذا الدور، هذا يعني أن له قيمة معرفية إدراكية: إنه قبل كل شيء معرفة ما يتوجب علينا فعله وما يجب ألا نفعله. إذا إنه يعطينا الوسيلة الفكرية لتجنب كل خلاف معه و يعطي للآخرين نفس الوسيلة بالنسبة لنا.
ثالثاـ العلاقة بين القانون والحرية.
القانون عندما يدرك ويتم فهمه فإنه يجعل الحرية ممكنة. فحيث لا يوجد قانون لا توجد حرية. في حكم القانون و سلطته، قدرتنا على التصرف محدودة، حيث لا يمكننا معارضة القانون في التعدي على أملاك الآخرين أو على حريتهم. بالمقابل حريتنا غير محددة، في أشياء أو أسباب جيدة، أي عندما نتصرف وفق القانون. أما قوة الدولة في “حكومة من القوانين وليس الأشخاص” لا يمكنها التدخل غلا وفق القانون، القاضي لا يستطيع أن يقضي إلا وفق القانون. لذلك التعسف والقهر ضد الفرد لا ينتج من سلطة ناتجة عن إرادة هذا الفرد.
وفي دولة جون لوك، الناتجة عن عقد اجتماعي، التعسف الدولاتي تم تقليصه على أبعد حد، ذاك الحد الذي سيكون ضروريا لحماية الحرية.

ـ صفات القانون.
حتى يستطيع القانون أن يلعب الدور الذي يريده له جون لوك، لابد أن يكون مؤكدا وواضحا في الموضوع الذي يتناوله. لأن أي غموض في القانون سيؤدي للإضعاف من قيمته المعرفية. يحدد جزن لوك صفات القانون بما يلي :
ـ الوضوح : أي الابتعاد عن الغموض في صياغته. ونحن نعرف من أيام الرومان أن كل تقدم في القانون هدف للبحث عن أدوات معرفية فكرية تسمح بتقليل الغموض في القوانين.
ـ العمومية: ينتج تعميم القانون من خلال مفهومه. على القانون ألا يصدر عن شخص أو يستهدف شخصا،فالقانون المدني يجب أن يكون عاما كما هي قوانين الطبيعة.
ـ نشر القانون والإعلان عنه: القانون ليس المطلوب فقط معرفته، بل يجب أن ينشر أمام الجميع.بمعنى الجميع يعرفون بأن الجميع قد علموا وعرفوا بهذا القانون. و بالتالي هناك واجبات من قبل الجميع تجاه هذا القانون. أيضا القانون يشكل وسيطا بين جميع المواطنين يساعدهم على الاتصال فيما بينهم ويشكل تصرفاتهم تجاه قضايا معينة.
ـ ألا يكون للقانون مفعول رجعي: هذه صفة ملازمة للصفة الماضية أو ناتجة عنها. إذا كان القانون ذا مفعول رجعي، فهذا يعني أنه وجد زمن خلاله هذا القانون لم يكن منشورا أو معلنا عنه، وخلال هذا الزمن لا يوجد أي مواطن كان يعرف أن هذا القانون ساريا.
ـ الاستقرار: منذ لحظة الإعلان عن القانون، هذا يعني بعدم تطوير التشريع إلا ببطء كبير. فالتشريع الذي يتغير باستمرار لن يكون لديه الوقت لكي يصبح عاما ويعرف الجميع،و بالتالي لن يشكل قاعدة من أجل تعاون المواطنين فيما بينهم، ولا من أجل الحفاظ على حرياتهم في مواجهة السلطة.
ـ المساواة: فكرة المساواة أمام القانون هي فكرة قديمة، لكن نظرية لوك السياسية و حول القانون تضيف الجديد على الفكرة. السبب الذي من أجله يجب أن يكون القانون مساويا للجميع هو سبب إدراكي معرفي وليس سببا أخلاقي. إذا من الواجب أن تكون القوانين مساوية للجميع، هذا لأنها الوسيلة الوحيدة حتى يعرف كل واحد بماذا هو مرتبط ومتمسك ، ومهما كان الشخص الذي يندمج أو يعيش معه. و إذا الآخر ليس لديه نفس الحقوق التي أملكها، لا استطيع أو لا أعرف كيف سأتفاعل معه، حيث أنني في حالة عدم المساواة، سأجهل الواجبات القانونية التي يخضع إليها الآخر بالنسبة لي، و ما هي واجباتي القانونية تجاهه.
لقد أكد جون لوك في نظريته السياسية على الصفات المتعددة للقانون ، حتى يكون بإمكانه إدانة جميع السياسات التي تستخدم القوانين الطارئة، التعسفية والقمعية تجاه الإنسان. ثم إدانة القوانين التي تشرعها الأكثرية و لا تأخذ بظروف الأقلية وحاجاتها. إذا حصل هذا من تجاوزات للقوانين وعدم اكتمال صفاتها المذكورة فإنه من الأفضل كما يقول لوك العودة إلى حالة الطبيعة.

إن جون لوك يؤسس بنظريته السياسية و القانونية، نظرية كاملة للثورة في بلاده، مبررا الثورة التي قامت في عام 1688 أو ثورة ” ويغ” Whig ، ولكنه أيضا وضع أسسا للثورات المستقبلية في الولايات المتحدة وفرنسا. لقد تفرد جون لوك في نظريته من خلال طرحه لمبدأ المقاومة ضد الأنظمة السياسية الطاغية، و إدخال هذا الحق في رفض الاضطهاد كمبدأ من المبادئ الدستورية، هذا المبدأ الذي أصبح عضويا في كل دستور ولا يمكن فصله عنه.

2ـ تقليد النظام العفوي “الطبيعي” في إنكلترا القرن الثامن عشر.
( Mandeville, Hume, Smith, Ferguson, Burke ).

يقصد بتقليد “النظام العفوي الطبيعي” أنه تقليد فكري فرض من قبل الديكارتية،وهو يطور الحدس و الأفكار التالية: العقل الإنساني هو بشكل أساسي محدود؛وعمل المجتمع يستند على الأشياء العملية و الحدسية والتي لا يمكننا أن نفهما بكليتها،ولكن هي مع ذلك مؤثرة بشكل عميق وخصبة،كما أنها تشرحها حتى ولو لوحدها درجة التطور الاقتصادي و العلمي التي تبلغها المجتمعات الحديثة؛ هذه الممارسات”الأشياء العملية” و معها الحدس أخذت شكلها بفضل “عملية متطورة”،مبادرات متعددة،محاولات وأخطاء.

أما كتّاب هذا التقليد”العفوي” سيؤسسون الحرية وفق حجج أو قواعد ليست ميتافيزيقية،بل وضعية،والتي ستؤدي لقيام ما ندعوه اليوم بالعلوم الاجتماعية.إنهم يدافعون عن الأطروحة التي تقول بأنه من المستحيل على حكومة مهما كانت أن تدير المجتمع بشكل تعسفي قمعي من غير أن تخلق الفوضى بدلا من أن تخلق النظام والاستقرار،وأن المؤسسات الديمقراطية و الليبرالية هي الشكل الوحيد “العقلاني” الذي يمكنه إدارة المجتمع.
نقطة الانطلاق لتقليد النظام العفوي الطبيعي في العصر الحديث هي ردة الفعل ضد الفكرة القائلة بأن القانون و المؤسسات يمكنها أن تكون المنتج لإرادة شخص واحد.من بين الكتّاب الذين اشرنا لهم سابقا وعملوا على هذه الأطروحة نجد Edward Coke و Mattiew Hale. فيما العديد من ردات الفعل ضد نظرية “هوبز” ستزيد من تطور هذه الأطروحة. أما الحوار الإنكليزي الكبير حول حرية الصحافة وحول التسامح،وقد شارك فيه “جون لوك” بقوة، شجع الأخذ بالحسبان والوعي بحدود معرفة “الاجتماعي” social من قبل العقل الإنساني،و بقيمة المؤسسات المبنية بواسطة التقليد البسيط العفوي. ولكن مرحلة جديدة سيتم الانتقال إليها ضمن هذا الإطار مع Mandeville.

أ ـ Mandeville. (1670ـ1733).
ولد في روتردام.درس الطب والفلسفة في جامعة Leyde.استقر فيما بعد في لندن وظل فيها حتى وفاته في عام 1733. من أهم أعماله : ترجم من الفرنسية إلى الإنكليزية في عام 1703 أعمال “لافونتين”.نشر في عام 1704 كتاب Typhon أو “حرب الآلهة والعمالقة “. في عام 1705 نشر The Grumbling Hive , or Knaves Turn’d Honest . في عام 1720 كتاب “أفكار حرة حول الدين،الكنيسة،الحكومة و سعادة الأمة”. أما كتابه “أسطورة النحل” يمكن تصنيفه ضمن تاريخ الأفكار السياسية و الاجتماعية.
يمكننا هنا عرض أهم الأفكار التي وردت في هذا المؤلف الأخير:
ـ دور المصالح الشخصية كمحرك حقيقي هو دور منتج أكثر مما هو دور مستهلك.
ـ المنفعة الشخصية تولد و تنتج منافع جماعية.
ـ إن صعود وهبوط الاقتصاد، ضعف الإنتاج وقوته، هي عوامل ضرورية لديناميكية الاقتصاد نفسه.

أيضا المجتمع يسير من دون أن يدري أي شخص أو يكون لديه أية فكرة دقيقة عما يجري في هذا المجتمع،ففي داخله تتفاعل قوىً و بنىً قوية وثابتة،بالرغم من أن معظم الناس لا يفهمون دورهم ولا يفهمون هذا المجتمع؛ بمعنى آخر “هذا المجتمع يسير لوحده”. ويرى Mandeville أن الأخلاق والقانون،عملا جماعيا يتحدد عبر الزمن من قبل أفراد كثر لا أحد منهم يمتلك رؤية كاملة للبنية التي يتم بناءها.

في النتيجة، النفس الإنسانية هي في نفس الوقت محدودة وقوية: حيث لا يوجد أي ذكاء فردي يمكنه أن يفهم كليا السبب بأن القيم والمؤسسات الاجتماعية التي يوجد هذا الفرد بداخلها؛ لكن التطور العفوي الطبيعي لجماعة إنسانية هو باستطاعته بناء القيم والمؤسسات القوية،المعقدة والثابتة، متجاوزا بذلك كل ما يمكن أن يبنيه المسعى “الديكارتي” القائل بالبناء المنطقي ـ الاستنتاجي. وهذا عمليا ما يمكننا أن نسميه “بضد العقلانية” antirationalisme في القرن الثامن عشر،حيث هذه المعرفة لشرعية التقاليد و المعارف السابقة يمكن أن تكون معتبرة،على العكس مما هو سائد، كشكل متفوق على العقلانية[41]. لقد لعب Mandeville دورا مهما في شرح وتوضيح هذا النقد الجديد للعقلانية. لقد فتح الطريق لكل من Hume و Ferguson.

ب ـ David Hume . (1711ـ1776).
ولد في Edimbourg، ينتمي إلى عائلة من البرجوازية الصغيرة.درس في نفس مدينته وكان مهتما منذ البداية بالعلوم الطبيعية.انتقل للدراسة في فرنسا وفيها كتب “تحليل طبيعة الإنسان”.عاد إلى لندن في عام 1737 لينشر كتابه هذا. في عام 1742 كتب “دراسات سياسية وأخلاقية”، وعمل بعد ذلك كدبلوماسي في ألمانيا، فيينا و إيطاليا. كتب في عام 1752″خطابات سياسية”. بعد ذلك قدم مؤلفا ضخما حول”تاريخ إنكلترا”. الأفكار السياسية عند Hume جاءت في “خطابات سياسية” و” تاريخ إنكلترا”.

1ـ الأخلاق لا تختزل بالعقل.
بالتطابق مع الإبستومولوجيا و البسيكولوجيا التجريبية التي عرضهما Hume في الجزأين الأولين من”تحليل طبيعة الإنسان”، إنه يضع بداية مبدأ عاما يلحق من زاوية أخرى بأطروحة Mandeville:”القواعد الأخلاقية ليست نتائج لعقلنا”. فالقيم الأخلاقية لديها قوة وهي تحدد عمليا تصرفاتنا. فالأخلاق عند Hume لها أصول غير العقل التجريبي، وهنا ينتقد بعض الفلاسفة مثل “سبينوزا”.

2ـ العدالة أصلها الاتفاق.
الإنسان عند Hume هو الأكثر ضعفا من بين المخلوقات. في حالة الطبيعة يثق بنفسه من خلال”اتحاد توحشي للضعف والحاجة”. ولكن من خلال المجتمع فقط يستطيع حل مشاكله الأكثر إلحاحا. في الواقع،المجتمع يسمح في اتحاد القوى،توزيع العمل والمساعدة المتبادلة.”اتحاد القوى يزيد من قوتنا؛فتوزيع المهام يزيد قدرتنا،والمساعدة المتبادلة تقلل من الأخطار حولنا”. (صفحة 602 من الكتاب).

ولكن المشكلة هي كيف نعرف طريقة الدخول إلى المجتمع. لحسن الحظ،الطبيعة أمدت الإنسان بقاعدة أول مجتمع،إنها العائلة. يبقى أن أنانية الإنسان تحول بينه وبين الوحدة التي يجب قيامها في المجتمع. والحل هو في تدخل عنصر ليس طبيعي”اصطناعي” ومنه نستطيع بناء قاعدة حقيقية للحياة الاجتماعية. العقل المجرد لا يستطيع وفق Hume أن يقوم بهذه المهمة. إذا إنها “الاتفاقيات” أي قواعد يتم تشكيلها. “العقد” أو الاتفاق الإنساني هو في نفس الوقت واعٍ و حدسي، يقوم على الوعي والحدس. ومع التدرب النفسي للفرد فإنه يمضي من العلاقات العائلية إلى العلاقات المجتمعية أو “المجتمع”، والقواعد هنا يتم تعزيزها من خلال التجربة. ضمن هذه الحالة يجب احترام وضع الآخر، هذا الاحترام نفسه يقود على إنتاج ميزات تزيد من مشاعر الارتباط بالقواعد. هنا يقترح Hume عملية تطورية سيستفيد منها فيما بعد العديد من المنظرين لما يسمى “نظام التنظيم الذاتي”.

3ـ التعاقد على استقرار الملكية هو مصدر لكل القواعد الأخرى في القانون.
كل شيء يبدأ عند Hume بواسطة التعاقد أو الاتفاق على الكف أو الامتناع عن الهيمنة على أملاك الآخرين. وفقط إقامة هذه القاعدة هي التي تعطي معنى لأفكار العدالة والظلم، لأنه في اللحظة التي يضر فيها أحدهم أحدا آخر أو أملاكه،فإن هذا سيوقظ مشاعر من الشك.إن موقف Hume يتعارض مع موقف”هوبز” ومع “الوضعية القانونية”، ويقترب كثيرا مع الفكر الأرسطوطاليسي الممتد إلى مدارس الفلسفة الأوربية ذات البعد الأرسطي،ومع مدرسة “سلامونك” الإسبانية: بمعنى أن مفهوم وجوهر العدالة يسبق الدولة، مفهوم وجوهر القانون يسبق التشريع.

من بين جميع القواعد التي تتعلق بالعدالة عند Hume، تعتبر القاعدة التي تتعلق باستقرار الملكية هي الأكثر أهمية لديه. فعدما تكون الملكيات واضحة ومستقرة، فإن تعاونا اجتماعيا سلميا يصبح ممكنا.أما الأهواء و النزوات يمكن أن تقود المجتمع إلى الانفجار.وعلى قواعد استقرار الملكية يضيف Hume قاعديتين أساسيتين: أولا ،نقل الملكية بالتراضي،ثانيا، احترام الوعود.

4ـ المجتمع يمكن أن يتجاوز الدولة،ولو بشكل مؤقت.
الدولة لا تظهر ضمن هذا المعنى عند Hume إلا في وقت الحروب،أما الحياة الاجتماعية يمكن أن تجري من غير الدولة. مع ذلك الدولة يمكن أن تحسن من ظروف العدالة،ولكن هي لا تخلقها.( نلاحظ هنا الاقتراب من مفاهيم جون لوك).

5ـ القانون قبل التشريع.
القانون هو قبل التشريع،والدولة،بالرغم أنها بعيدة عن تأسيس القانون كما يعتقد هوبز، تستمد شرعيتها من الذين يحترمون قانونا سبقها في الوجود. “فالدولة لا تقيم العدالة، بل تساهم بتطبيق أكثر صرامة لها، وهذا يسمح بحماية المميزات السابقة عليها واقتناء مكاسب جديدة”. (المرجع السابق، صفحة 665).إن الدولة ضرورية من أجل العدالة وخاصة في “المجتمعات المتنازعة” (صفحة،666). هنا يلتقي Hume مجددا مع جون لوك في هذه النقطة،لكن Hume يزيد شيئا جوهريا على مذهب لوك في الدولة الليبرالية.

6ـ وظيفتا الدولة.
Hume في الواقع هو واحد من أوائل المفكرين السياسيين الذي أعطى للدولة دورين شرعيين: الدور الأول هو احترام قوانين العدالة ويخدم في تحكيم وفض النزاعات. الدور الثاني هو تزويد أو تقديم المنافع وخدمة المجتمع. ( المرجع السابق، صفحة 659ـ660).
ت ـ Ferguson. اسكتلندا (1723ـ1816)
كتّاب آخرون ساهموا في بناء “تقليد النظام العفوي الطبيعي”. من بينهم Josiah Tucker (1712ـ1799)، Thomas Reid (1710ـ1796)، و Adam Ferguson. هذا الأخير هو كاتب شديد التعقيد،يحلل الكثير من المواضيع المتنوعة ولها علاقة بتاريخ علم الاجتماع،الأنثروبولوجيا ،الأدب،الفلسفة الأخلاقية الفلسفة السياسية بشكل خاص.ولكنه ليس ليبراليا له خصوصية في ليبراليته.

درس Ferguson علم اللاهوت في جامعة إدنبرة.ثم أصبح أستاذ في الفلسفة الطبيعية ثم في الفلسفة الأخلاقية وفي نفس الجامعة. من أهم مؤلفاته: “دراسة حول تاريخ المجتمع المدني” (1767)، ” مبادئ العلوم الأخلاقية والسياسية” (1792).

ما يهمنا في دراسة الفكر السياسي عند Ferguson، في الواقع، منهجه أكثر من أطروحاته . في كتابه حول تاريخ المجتمع يحاول رد الاعتبار إلى تاريخ المجتمعات الإنسانية، من المجتمعات “المتوحشة” إلى المجتمعات “التجارية” في المملكة المتحدة المعاصرة.ضمن سياق هذه الإشكالية، يقاد Ferguson إلى صياغة العديد من الفرضيات الجديدة فيما يتعلق بمنطق تطور المجتمعات الإنسانية. هذا التطور كما يراه،هو بشكل أساسي متقدم ومتراكم،بشكل بطيء ومعقد، من غير أن يستطيع الإنسان الادعاء بأنه يقود هذا التطور للمجتمع.

على الخلاف من “جان جاك روسو” الذي يتخيل أنه كان هناك بالنسبة للإنسان حالة طبيعية وأن كل المخترعات الاجتماعية هي مصطنعة وغريبة عن هذه الطبيعة، Ferguson ينكر أننا نستطيع التمييز عند الإنسان بين ما هو مصطنع وما هو طبيعي.حتى عند الإنسان البدائي كان هناك ما هو مصطنع،بمعنى أنه استخدم عقله،إرادته وحريته من أجل الاختراع؛ وعند الإنسان المتحضر هناك ما هو طبيعي. في الحقيقة وكما يقول Ferguson،الإنسانية هي مختلط من الطبيعي و المصطنع،بمعنى آخر يريد أن يسميها” مجتمع مدني”،ولكن هذا المصطلح يظهر أنه يتطابق بشكل واضح مع مصطلح للحداثيين يدعونه “الثقافة”. في كل الأحوال، إنه يريد وضع نظام وسطي بين النظام الطبيعي والنظام المصطنع.

وجد Ferguson في بحثه عن طبيعة هذه الظاهرة من التطور،تعبيرا في غاية الأهمية سيساهم في وضع حد للصعوبة المعرفية التي تعيق التمييز بين مفهوم النظام العفوي للمجتمع،و النظامين المصطنع والطبيعي : فالتطور الثقافي يختلق،كما يقول،” أنظمة والتي تعتمد على الفعل البشري أو الإنساني، وليس على نيات البشر”. يعطي مثالا عن التطور العفوي “للثقافة” أو “للتاريخ”، فهو بالنسبة له عملية لم يتم تخطيطها ولم يقررها أي شخص، فالتطور حصل من خلال تعدد الفعل الإنساني، حيث لكل فعل هدف متفرد يميزه،وأفعال جميع أعضاء المجتمع الإنساني تتعاقب و تتراكم مع الزمن. هذا التراكم يصل إلى قيام مؤسسات،قيم،معارف كلها ذات تأثير وفعالية.

ث ـ Adam Smith ( 1723ـ1790).
ليس المقصود هنا أن نتحدث عن الفكر الاقتصادي،ولكن سوف نتحدث عن Adam Smith فيما يتعلق بدوره في وضع مفهومه حول “اليد الخفية”. اعتقد Smith بشكل واضح بأن السوق يشبه نظام “التسيير الذاتي”. فمبادرات الفاعلين الاقتصاديين كما يبين Smith، هي محكومة ليس بالمعرفة التي سيحتاجونها و بالقدرة الفعلية لشركائهم المباشرين أو البعيدين،ولكن من خلال الإشارات المجردة للسعر والتي عليها تكون الأشياء في حالة عرض وطلب في السوق. والناشطون أو الفاعلون الذين يتحركون وفق هذه الإشارات من أجل شراء منافعهم الإنتاجية أو الاستهلاكية،أو من أجل بيع منتجاتهم،يندمجون بواسطة الفعل نفسه ،من غير أن يكونوا واعين لهذا الفعل، داخل الشبكة المعقدة لتقسيم العمل.

فالإنسان،ودائما وفق Smith،إذا ترك حرا في متابعة مصالحه الخاصة ووفق طرقه الخاصة،وإذا على الأقل احترم قواعد المساواة،الحرية والعدالة، فإنه يقاد ليلبي حاجات إنسان لا يعرفه؛وبهذه الحالة هو يشارك في عمل وحركة مجتمع أبعد من أن يدركه بذكائه المحدود. Smithلن يستطيع أن يكون ضد الاشتراكية،مذهب سيشكل بعده بعشرات السنوات. ولكنه يبشر بمقدمات هذه الاشتراكية، مع ما يدعوهم”برجال النظام”. أما صورة “اليد الخفية” ستفهم من خلال التعارض أو التناقض مع صورة ” اليد المرئية”،بمعنى أنها يد ستتم قيادتها بواسطة رأس واضح ومرئي، أي يقصد بواسطة الدولة التي تمتلك إرادة وسلطة التنظيم.

Smith رأى بشكل واضح التعرض بين نموذجين لتنظيم الاقتصاد، “المخطط” و ” السوق”، النظام المخطط والنظام العفوي،ولم ير أنهما مختلفين فقط بالقيم،ولكن أيضا أن المجتمع الحديث لا يمكنه أن ينتظم إلا وفق النموذج الثاني.

من الوقت الذي طلب فيه Smith العمل لهذا النظام الذي يقوم على المبادرة الحرة و التبادل الحر ورأى أنه الطريقة الوحيدة لتنمية “ثروة الأمم”،فإنه بذلك أعطى للمسألة التي جاء بها جان لوك وتركها معلقة، إجابة كان لهل رنينها مع الفلسفة القانونية/السياسية عند جون لوك: “حرية في سيادة القانون” وسوق،هما وجهان لنفس الظاهرة، ظاهرة النظام العفوي للمجتمع. فالقانون ليس شيئا آخرا سوى قاعدة لتنظيم لعبة التبادل، فالتبادل الاقتصادي السلمي و الفعال ليس ممكنا إلا في وجود القواعد القانونية.

مع Smith، تقليد “سيادة القانون” والذي وضعته الثورة الإنكليزية الثانية ثم أضافه عليه جان لوك،وتقليد النظام العفوي، شيئا فشيئا بدأت خطوطهما ترتسم في إنكلترا القرن الثامن عشر. وقواعد المذهب الليبرالي تكون قد تأسست حتى ولو أن Smith نفسه لم قد أتم أو أنجز تركيبه الأخير لهذا المذهب.
ج ـ Edmund Burke (1729ـ1797).
يوضع هذا الاسم بشكل واضح ضمن “تقليد النظام العفوي”. ايرلندي وأحد قادة “حزب الأحرار البريطاني”،دافع عن الحريات الأمريكية و الحقوق الايرلندية وعن الهنود أيضا. هاجم الثورة الفرنسية من خلال كتابه “تأمل حول الثورة الفرنسية”[42] (1790)، والذي عرف نجاحا كبيرا.
1ـ فكرة التقليد.
عارض Burke فكرة “السيادة” أو فكرة المجلس الذي يدعي هذه السيادة. إنه يعتقد “أن المؤسسات السياسية تشكل نظاما ضخما معقدا من القوانين والعادات؛وأن هذه المؤسسات ظهرت بشكل متدرج في الماضي وهي تأقلمت في الحاضر من غير وجود حل لاستمراريتها؛ وأن تقليد الدستور و المجتمع يجب أن يكون مكانا للاحترام بشكل أوضح من الاحترام الواجب للدين،لأنه الخازن لذكاء جماعي وحضارة جماعية”[43].

2ـ نقد فكرة الدستور المصطنع.
Burke وبما أنه من حزب الأحرار البريطاني،فقد دافع عن حقوق البرلمان في مواجهة الملك،ولكنه أيضا انتقد دور البرلمان نفسه. لا يعتقد Burke أن الرأي العميق للبلاد هو يعادل هؤلاء الذين يقررون بشكل أغلبية من الأفراد،ولا يعتقد أن برلمانا يمثل المواطنين الأفراد ويبحث للدفاع عن مصالحهم وهو في نفس الوقت يمثل كل البلاد.فالبرلمان في رأيه يجب أن يكون مشكلا أيضا من زعماء الأقليات الذين يتبادلون النقد بالتبادل من خلال النقاش والحوار.

أما الثوريون الفرنسيون الذين يعترضون على النموذج الإنكليزي وبشكل خاص على مذهب حزب الأحرار، فهم فهموا هذا النموذج وذاك المذهب بشكل خاطئ. فشعاراتهم السياسية مثل المساواة الطبيعية بين الناس أو قانون الأغلبية هي مجردة ومدمرة عندما تتطلب وفي دارة صغيرة عملية زمنية من خلالها تتشكل التقاليد. الدساتير التي يقوم بها النموذج الإنكليزي أو حزب الأحرار ستكون دائما معلنة كدستور حقيقي للشعب والذي تم إيجاده عبر قرون عدة، أو الذي تم تسجيله وخلقه من قبل كل واحد من الفئات الاجتماعية ،وأيضا من خلال عمل وفعل الأكثر ثقافة والأكثر غنى والذين حموا الأكثر ضعفا،وهذا يعني أنه دستور يتضمن العادات،التراتب والتنظيم العضوي، وهذا ما يرفضه الثوريون الفرنسيون، ولكن تلك الأفكار القادمة من الثورة الإنكليزية ستجعل من الشعب الفرنسي”شخصية سياسية حقيقية” لا تستطيع إرادة الثوريون تدميرها.

3ـ “العقد الاجتماعي” الحقيقي هو الذي يضعه مختلف الأجيال في الأمة.
ينتقد Burke تمجيد الثوريين الفرنسيين “للعقل”. فالمجتمع يرتكز على “أشياء استباقية” أكثر مما يستند على “العقل” الواعي.فالأشياء الاستباقية كما يراها Burke هي المشاعر المتجذرة بشكل عميق في النفوس،هي الحب و الارتباط والتي تولد في العائلة والبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الإنسان بشكل مباشر،ثم في البلاد كلها. هذه المشاعر والأحاسيس تشكل الركن أو الأس soubassement الغير واع للشخصية، وإذا قارنا بها وعي العقل والمصالح الشخصية فإن هذه الأخيرة تبدو أمامها شيئا صغيرا.فالمجتمعات تقدم مشاعر الانتماء والواجب،وليس الحساب الدائم للمصلحة الشخصية كما يريد بعض المنظرين الحداثيين للعقد الاجتماعي، خاصة أن الحساب الدائم للمصالح يؤدي لبناء جماعات غير مستقرة.إذا الدولة المجردة التي يريدها الثوريون الفرنسيون هي فقط لتسيير وتدبير”تجارة البهارات والقهوة” وهي يخاطر بتدمير الدولة بمعناها القوي والذي هو “المجتمع” و “الأمة”.

الفصل الرابع
ديمقراطيون وليبراليون في إنكلترا القرن التاسع عشر.
أولا ـ ديمقراطيون وليبراليون في إنكلترا القرن التاسع عشر.
شهد القرن التاسع عشر توطيدا و تحول في نفس الوقت، لليبرالية الاقتصادية و الديمقراطية البرلمانية.حيث لحقت إنكلترا تأخرها في هذا الموضوع بالولايات المتحدة.هذه التحولات كانت بالتأثير الفكري للمفكرين والاقتصاديين،وضمن سياق تاريخي خاص نتطرق إليه بشكل مختصر.

1 ـ السياق التاريخي.
حتى عام 1819،النظام السياسي كان مازال خاضعا كليا للارستقراطية.حيث بضعة آلاف من العائلات “النبلاء” تمتلك نصف الأرض الإنكليزية.والإدارات المحلية كانت خاضعة للملاك الكبار. بين عامي 1832ـ1867، تم وضع العديد من القوانين الانتخابية والتي بشكل تدريجي أدت إلى اقتراع وطني شبه كلي ما بين عامي 1885ـ1886. الحركة “الراديكالية” لعبت في هذا الموضوع دورا هاما جدا.هذه الحركة التي تبلورت بين عامي 1768ـ1770، ظهرت في أوساط المدن الصناعية تحت قيادة مجموعة من المفكرين من الطبقة الوسطى.إنها حركة سياسية طالبت بالاقتراع الوطني،إصلاح البرلمان و إضعاف السلطات الملكية.امتدت جذورها داخل الديمقراطية الإنكليزية التي درسناها سابقا،وفي تأكيد الحريات التقليدية للشعب الإنكليزي،المساواة أمام القانون.

في هذا الفصل سوف نستحضر العديد من الأسماء التي ساهمت في بناء هذه الحركة،وفي الحركة الديمقراطية و الليبرالية الإنكليزية في القرن التاسع عشر.

أ ـ Bentham و الراديكاليون الفلسفيون.
Jeremy Bentham ( 1748ـ1832). فيلسوف و قاض. مؤسس النفعية utilitarisme، والذي سيؤثر كثيرا على كل من James Mill و John Stuart Mill، ثم سيشكل تيارا للفكر الأنكلوـ سكسوني. من أهم أعماله : ” نبذة عن الحكم” 1776، ” مدخل إلى مبادئ الأخلاق والتشريع” 1789،” علم الواجبات الأدبية ” Déontologie 1834.
ـ النفعية:
الفكرة الليبرالية بوضع حد للسيادة هي فكرة سيئة بالنسبة له: مراقبة القانون من قبل القضاء عليها أن تحصل مبدئيا ليس على فكرة القوانين غير قابلة للتقادم impre–SS–ible أو غير القابلة للتصرف للإنسان، بل على فكرة النفعية فقط. يفترض Bentham أن السعادة و الحزن يمكن قياسهما وهما مشتركان و متناظران: فكمية معينة من إحداهما يمكن أن تعوض أو توازن كمية من الأخرى. يرى أيضا في مبدأه، والذي يرى أنه أسس على علم النفس الحسي، وعلم النفس الترابطي (يفسر الحياة العقلية كنتيجة للترابط بين الإحساس والمعنى)، أن لديه فضيلة إعطاء الفكر القانوني والسياسي الوهم الميتافيزيقي.
ـ إصلاح القانون:
اقترح Bentham إصلاحات للقانون الإنكليزي الذي يراه معقدا وليس له فعالية، وذلك من خلال تطبيق مبادئ النفعية. درس جميع فروع القانون الإنكليزية،القانون المدني،قانون العقوبات والجريمة،القانون الإداري و التنظيم القضائي.ويرى أنه على المصلحين للقوانين ألا يتوقفوا عند شيء وأن لا يكون هناك حدود للقوانين الجديدة. لا العادات و لا المؤسسات لا تشكل حدودا مطلقة للإصلاح، لأنها عبارة عن عادات بسيطة،فكريا ليس لها معنى وتعيق تأسيس ووضع قواعد الوسائل والغايات.أفكاره ستصبح مرجعا لمعظم المصلحين الإنكليز في القرن التاسع عشر،حتى ولو أنها لن تحقق كليا. هذه الأفكار “الراديكالية”لعبت دورا كبيرا بالمعنى الجوهري كما هي الأفكار الأمريكية عن Kant و Humboldt، أو الفرنسية بعد ثورة 1789، وذلك رغم التباعد والفرق في اللغة و المرجعية الفلسفية: ويقصد هنا تجديد وتحسين المؤسسات السياسية و القانونية ضمن اتجاه أو معنى “عقلانية كبيرة”،و توضيح كبير للمواطنين، والهدف هو الوصول إلى مجتمع أكثر استقرارا وينعم أكثر بالحريات الفردية،وكل هذا ضمن معنى ووعي” تقدم الحضارة”.

ب ـ الاقتصاديون .
في نفس العصر،ظهر في إنكلترا تفكير يدعو للإصلاح وهو مشابه للأفكار الأخرى. حيث أن أفكار “آدم سميث” و الفيزيوقراطيين الفرنسيين (وهم يشكلون مذهبا اقتصاديا يدعو لاعتماد الزراعة كأساس للثروة)، تم تطويره من قبل الاقتصاديين الإنكليز،ومن بينهم Robert Thomas Malthus (1766ـ1834) ومن أعماله الشهيرة “دراسة حول مبدأ السكان” (1798)،” مبادئ الاقتصاد السياسي”(1820)، أيضا David Ricardo (1772ـ1823)، ومن أعماله “مبادئ الاقتصاد السياسي” (1817).
وجهة نظر Malthus و Ricardo تختلف عن وجهة نظر “آدم سميث” وفي العديد من النقاط. “آدم سميث”كان مع التحرير الكلي للاقتصاد. Ricardo و Malthus وضحوا الانقسام بين الفاعلين الاقتصاديين إلى فئات وفق المصالح المميزة والمتنافسة. فكما هي المداخيل تنتج عن نماذج متعددة (أجور،رواتب،ريع)، النظام الاقتصادي يجب أن يكون مبينا أو محللا كنتيجة لتوازن ليس بين الأفراد، بل بين الطبقات الاجتماعية.
أخذ “ريكاردو” قانون السكان عن “مالتوس”. حيث كل ارتفاع في الإنتاج يقابله زيادة في السكان، هذه الزيادة تستهلك الفائض من الإنتاج. إذا التقدم هو مستحيل في هذه الحالة.في النهاية جميع هذه التحليلات تبين فكرة أن إقامة نظام عفوي أو هارموني اجتماعية أمر مستحيل، حيث سيكون هناك وبشكل دائم طبقات لها امتيازات وأخرى تضحي مقابل القليل. رغم ذلك، هذه الأفكار والنقاشات التي سادت في إنكلترا القرن التاسع عشر ستطرح إشكالية عدة أمام تاريخ الأفكار. ونشير هنا أن العديد من الكتّاب الإنكليز وضعوا،قبل كارل ماركس، الكثير من الأفكار “الماركسية” الجوهرية مثل : الصراع الطبقي، القيمة المضافة..الخ

في كل الأحوال،المدرستان الاقتصاديتان “مدرسة سميث” و “مدرسة ريكاردو”،انقسمتا بهدف الوصول إلى الحرية التجارية وإلغاء القوانين المتعلقة بالقمح (حيث أن مدرسة سميث كانت ضد،ومن حيث المبدأ،كل التشريعات القسرية للتجارة،أما مدرسة ريكاردو اعتبرت أن قوانين الحبوب سترفع سعر المنتجات الزراعية ). عموما، قدم الاقتصاديون الإنكليز أفكارا ستلعب دورا مهما في تبني تشريعات ليبرالية في النصف الأول من القرن التاسع عشر في إنكلترا. وأخير،ساهمت هذه الأفكار في تعزيز التوافق داخل المجتمع الإنكليزي حول اقتصادي لا تديره الدولة.

ت ـ John Stuart Mill.
إن الفكر الليبرالي “الراديكالي” امتد وتعمق بشكل كبير بعد مؤلفات John Stuart Mill. ولد هذا الأخير في عام 1806،لم يذهب إلى المدرسة نهائيا، ولكن والده الفيلسوف James Mill قام بتربيته وتعليمه،اللغات القديمة، الرياضيات والاقتصاد السياسي. تعرف في فرنسا على Auguste Comte, Tocqueville, Carlyle. توفي في عام 1873.
من أهم مؤلفاته :
ـ مبادئ الاقتصاد السياسي، 1848.
ـ الحرية، 1859.
ـ النفعية ،1861.
ـ الحكومة التمثيلية،1861.
ـ ثلاث دراسات حول الدين،1874.
ـ دراسة ينتقد فيه إخضاع النساء، 1869.

1ـ إعادة قراءة النفعية:
أكد John Stuart Mill في جميع كتابته وفاءه للمبادئ الأساسية “للنفعية”،لكنه حاول التغيير فيها. يرى أن البشر يبحثون عن المتعة، وهو يدع هذه الفكر،ولكن إنه يساند أن ليس جميع المتع لها نفس الوزن،لأن ليس لها نفس القيم الأخلاقية والمعنوية. ويقول هنا :”من الأفضل أن تكون سقراط غير راض على أن تكون في حالة رضا مزيفا”. أيضا إنه يرى أن :” التمتع عند الإنسان لا يمكن اختزاله إلى تمتع حسي أو مادي،لأنه وبالنسبة عند الإنسان،أفضل متعة يحصل عليها هي النجاح في كل حياته، ويمكن أن يكون هذا من خلال حب الغير وليس من خلال الأنانية”.

2ـ الحرية:
الحرية بالنسبة له ليست فقط محددة من أجل الفرد،ولكن أيضا من أجل المجتمع.كل فرد له الحق في التفكير،البحث،الحوار،التقييم بحرية، ولديه الحق أن يكون مقتنعا وليس مجبورا على الاقتناع. الحرية هي جزء من الطبيعية الأخلاقية عند الإنسان،ومجتمع ليبرالي هو المجتمع الذي يعترف بهذه القيمة الأخلاقية الجوهرية “الحرية”،ويقيم مؤسساته على أساس حمايتها. يقف John Stuart Mill مع دولة ليبرالية ليس لأنها الأكثر فعالية،بل لأنها الوحيدة التي تأخذ بالحسبان هذا البعد الجوهري للطبيعة الإنسانية. أما الديمقراطية،التي تعطي الفرصة لكل إنسان في المشاركة في النقاش العام،شرح أفكاره،أن يكون له صوت في اتخاذ القرار ومشاركة في تنفيذه، هذه الديمقراطية تشكل بيئة حقيقية للنمو الحر للشخصية، ولهذا السبب الديمقراطية هي النظام المفضل أخلاقيا.

ث ـ Herbert Spencer.
مع “سبنسر” سوف نغير عالمنا الفكري، ولكن سنجد دائما الدفاع عن الحرية وأهميتها لمستقبل الإنسان.ولد “سبنسر في عام 1820 وتوفي في عام 1903. ينتمي إلى أسرة متواضعة ووالده كان بروفسورا. انتمى “سبنسر” إلى الأوساط التي كانت تهاجم الكنيسة والأرستقراطية. درس هندسة الطرق الحديدية. من أهم أعماله : The Proper Sphere of Gouvernment،وقد ورث الأفكار التي تنتمي إلى النظام العفوي للمجتمع عن Ferguson، إنه أيضا من هؤلاء الذين يميزون بشكل جذري بين الدولة والمجتمع.
عاش “سبنسر” في لندن مع بداية عام 1848. وبدأ بالكتابة في The Economiste الشهيرة،حيث نشر في عام 1850 Social Statics. ويتم تقييمه على أنه من المفكرين الليبراليين الأساسيين.

1ـ النشوء والارتقاء évolutionnisme.
لقد أبدى “سبنسر” في أكثر من مرة ووضح رؤيته حول هذا المذهب الفكري. فبالنسبة له لا يوجد”طبيعة إنسانية” لا زمنية “أبدية” intemporelle. التاريخ الإنساني هو صيرورة من التأقلم، من خلالها الإنسانية تتغير بشكل تدريجي، تقترب من نموذج معين للمجتمع حيث الجميع يصبحون أحرارا لأنهم الجميع سيحب الغير. ولكننا لم نصل بعد لهذه الوضعية أو الحالة،ولهذا السبب هناك حقائق سيئة في نفسها مثل الدولة مثلا،موجودة وقائمة.
يرى “سبنسر”أيضا، بما أن الزمن يمضي فالمؤسسات القهرية و الجبرية تفقد فائدتها،وضمن هذا المعنى فإن إنكلترا هي متقدمة على سائر الأمم الأخرى. هناك نفوس جديدة في إنكلترا تفضل الإنسانية،السلم،رفض الإعدام،الإصلاح في العقوبات، تطلب المزيد من الحرية،السوق الحرة،الصحافة الحرة،إلغاء الكنيسة التابعة للدولة. إذا الدولة مدعوة للاختفاء.

إن فكرة التطور البيولوجي،والتي كانت مطروحة مسبقا مع Lamarck،كانت في قوتها في الوقت الذي كتب عنها “سبنسر”. أيضا، يتحدث عن تطور الحضارات مقارنا إياها بالتطور البيولوجي “أو تطور ونمو الجنين و تفتح الورد”. في النهاية،وفي عام 1858، يضع تصورا لمشروعه والذي يحتوي كل أفكاره السابقة وسيتم تحقيقه بشكل تدريجية وهو ” نظام من الفلسفة التركيبية”. فكرته الرئيسية هي أن التطور هو ظاهرة كلية شاملة تقود عوالم الحقيقة وتبلغ ذروتها في الأخلاق.

منذ عام 1855،كتب سبنسر “مبادئ علم النفس”.وفي عام 1862 نشر الجزء الأول من كتابه “المبادئ الأولى”. حيث يساند فيها أطروحة نستطيع أن نصنفها بأنها “وضعية” positiviste: فالأخلاق لها أساسها في الطبيعة. ويحدث نفسه عن “علمنة الأخلاق”. والأخلاق التقليدية تزعزعت بسبب تقدم العلوم،وينبغي عند “سبنسر”،كما هو عند “أوغست كانت” إيجاد أخلاق على قواعد جديدة يمكنها أن تحدث قبولا للروح العلمية الجديدة. إذا إنه يعتقد أن أخلاقا علمية يمكن أن تبنى على قاعدة لعلم اجتماع هو بدوره سيصل إلى مرحلة علمية.

2ـ الإنسان ضد الدولة.
أنهى “سبنسر” حياته في نوع أو شكل من العزلة، وفي وقت بدأت فيه الأفكار الاشتراكية تأخذ مساحة متنامية بين المفكرين. نشر ،مع ذلك، في عام 1884 The Man versus the state، حيث يهاجم “الجماعية” وتدخل الدولة في كل شيء من خلال أشكال عدة: الضمان الاجتماعي،التعليم،قوانين العمل…الخ لقد اعتبر هذا الأفكار كعودة إلى المجتمع العسكري،وهي عوارض جديدة لنشؤ الإمبريالية.وفعل حدث ما قاله”سبنسر” مع قدوم بسمارك في ألمانيا، و “جوزيف تشامبرلن “في إنكلترا.

وبعد سنوات قليلة،سينتمي القادة العماليون مثل Sidney و Béatrice Webb في نفس الوقت إلى الاشتراكية الفابية في الداخل و التوسع الاستعماري في الخارج. لتصدق جميع توقعات “هربرت سبنسر”.

ثانيا ـ التقليد الليبرالي و الديمقراطي في القرن العشرين.

1ـ التعددية و النظام.
حققت أنظمة الديمقراطية الليبرالية شكلا من أشكال الأمور المستحيلة: لقد جعلت من الممكن وبشكل متزامن،وبفضل القانون والسوق،قيام التعددية و النظام. التعددية هي النواة الاجتماعية للحرية الفردية. فإذا الأفراد كانوا أحرارا،في فكرهم وتعبيرهم،في الاقتراع،في الذهاب والرجوع،في الارتباط والاتصال،في اختيار مهنهم وعملهم،في الشراء والبيع..الخ،فإن هذا لن ينتج وبشكل دائم إلا تعددية في مراكز القرار داخل المجتمع. فالمجتمع الحر هو بالتعريف مجتمع متعدد في مراكز اتخاذ القرار وهو مجتمع متعدد.

في الواقع، وبالنسبة لقسم كبير من الفكر الفلسفي و الاجتماعي وحتى وقت متأخر،التعددية هي فوضى.فالحرية الفردية هي في الغالب وعلى المستوى الفكري،تم تفسيرها كمصدر لعدم التماسك. خصوم الفكر الديمقراطي الليبرالي من اليسار واليمين كان هذا تفسيرهم للفكر الليبرالي. فاليمين المناصر لنظام طبيعي أو ديني يرى في الانحراف الفردي مخالفة فاضحة وخطيرة لنظام يجب أن يبقى ثابتا لأنه أقيم في لحظة سامية متعالية على الإنسان،هذه اللحظة هي الطبية والله. أما اليسار،فيريد إعتاق المجتمع من هذا النظام الذي لا يمكن مسّه،ولكن من خلال إخضاعه إلى نظام آخر مصطنع،وكليا هو مفكر فيه بواسطة العقل المجرد.

ولكن حرية التفكير تسمح،على عكس اليمين و اليسار،بقيام النقد داخل العلوم،إذا بالاكتشاف و التجديد. أما الحرية الاقتصادية تسمح بتنظيم للمصادر والثروات وبتقسيم العمل،إذا مستوى عال من الإنتاج والاستهلاك. والإجراءات التعددية للديمقراطية تسمح بسلمية السلوك والتصرف السياسي وتقلل من خطر اتخاذ قرارات خطيرة من قبل قادة سيئين.

السبب الرئيسي لهذا التفوق في نظام التعدد هو أن يسمح بإدارة كمية كبيرة من المعلومات وبشكل أكبر بكثير من النظامين المذكورين سابقا،اليمين والسار.فهو وحده يسمح بإدارة التعقيد. فالنظام التعددي هو ما يجعل مؤسسات الديمقراطية الليبرالية تستطيع تنظيم التعايش السلمي وضمان الحريات الفردية، “فروح القوانين” للديمقراطية الليبرالية هي في إدارة التعددية.

إن الصفات النوعية للنظام التعددي لم تكتشف إلا بشكل تدريجي،منذ القديم،من خلال منظري السياسة،القانون، المجتمع والاقتصاد. ونستطيع أيضا القول أن المؤسسات الديمقراطية الليبرالية وضعت أو أقيمت بشكل تدريجي من خلال بعض الأفراد الذين يعرفون قيمتها وقيمة وجود الفضيلة.ولكن لا بد من القول أن ظروفا تاريخية ساعدت في تسارع مسيرة الفهم النظري للطابع البناء للتعددية.
2 ـ دولة القانون و التعددية.
أ ـ Karl Popper ( 1902ـ1994).
فيلسوف إنكليزي،عرف بشكل أساسي كفيلسوف للعلوم. ومع ذلك فقد كتب مؤلفين عن النظرية السياسية وهما ” المجتمع المفتوح وأعداؤه” (1945)، ” بؤس التاريخانية” (1944ـ1945). ولكن في مختلف إنتاجه المعرفي كان يدعم الديمقراطية الليبرالية.يعتبر من أهم المفكرين الذي كتبوا ونادوا بسمو التعددية الفكري وارتقائها على الفكر الديماغوجي، لقد كان أطروحاته عاملا هاما في تطور المذاهب الديمقراطية والليبرالية.

انتقد “بوبر” الاستقرائية inductivisme لما سمي “حلقة فيينا”. حيث يعتبر أننا لا نستطيع البرهنة على أن نظرية علمية هي حقيقية من خلال مضاعفة التجارب، فالاستقراء induction،وكما بينه “دافيد هيوم” هو قيمة بسيكولوجية وليست منطقية. التجربة لا يمكنها أن تقدم “منطقا” إلا إذا برهنا أن نظرية ما هي خاطئة. فإذا قلنا أن لون ألف عصفور من الشحرور لونها اسود،فهذا لا يعني أن كل هذا النوع من العصافير لونه أسود،لأنه شحرور واحد أبيض يبرهن على خطأ أن الجميع لون أسود. فهناك لاتماثل dissymétrie بين التحقق “التدقيق” و الدحض أو الرفض لنظرية معينة.لذلك العلم لا ينطلق من المراقبة،ولكن من الفرضية.

تحدث “بوبر” عن العقلانية الناقدة. فالعقلانية الناقدة لديه تدين فقط الدوغمائية،بمعنى آخر غنها تدين الفكرة الواحدة أو أن بعض الأفكار لا يمكن وضعها قيد التحليل أو الشك.من هنا هو ينتقد ويدين أشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي المرتبطة بالديماغوجية أو الدوغمائية،فهو ينزع إلى النظرية التعددية و إلى الديمقراطية.

حتى يكون هناك حقائق علمية وتقدم للعلم،لا بد أن يكون النقد الاجتماعي ممكنا، ومن أجل هذا يرى “بوبر” أن حق النقد يجب أن يكون معترفا به.فالعلم لا يمكن أن يكون ممكنا إلا داخل مجتمع متعدد حيث النقد مضمون بالقانون وهو من الحقوق،بمعنى آخر في مجتمع ديمقراطي وليبرالي تتم فيه مأسسة النقد وتعددية في اتخاذ القرار.وأي مجتمع لا يمكن أن يكون مجتمعا علميا إلا إذا مارس التعددية المؤسسية. هنا يظهر “بوبر” مثل عالم المعرفة الأمريكي [44]Thomas Kuhan، حيث يبين أن تقدم العلم يحدث من خلال تغيرات متقطعة أو غير مستمرة في “البراديغمات”. (انظر تعريف البراديغم في بداية الكتاب).

ضمن هذه الحالة،كل مؤسسة علمية هي مؤسسة بشكل أكثر أو أقل وبشكل خاص على “براديغم” معين.إذا من الضروري أن المؤسسة لا تمتلك احتكارا لنظام ما أو براديغم معين، وإلا فإننا لن نحصل أبدا على براديغم او نظام آخر للأفكار. فكل المؤسسات التي تحتكر البراديغم (الكنائس،أنظمة التعليم التابعة للدولة التي تعتمد تعريفا ومنهجا واحدا ورؤية واحدة…) تخاطر بجعل التقدم العلمي أمرا مستحيلا.

لم ينس “كارل بوبر” الحديث عن حرية الصحافة أيضا. فتعددية الصحافة بالنسبة له هي ضرورية ليس لأنه من الواجب وجود وجهات نظر متعددة أو من حق الجميع أن يعبر عن رأيه،بل لأن هذا أيضا شرطا من أجل قيام الحقيقة الموضوعية. والتعددية أيضا لا تعني تعددية في الحقيقة،بل العكس من ذلك هي شرط ضروري حتى نستطيع الحصول على حقيقة موضوعية واحدة. بالإضافة لذلك، التعددية تعيق وجود حقيقة أيديولوجية نهائية مجمع عليها بالإجبار وهي زائفة في نفس الوقت. وأخيرا يتم تدعيم التعددية بحق النقد،فالنقد يمنع تشكل ما نسميه بالأساطير،هذه الأساطير التي تتحول إيديولوجية ندعيها “بالفكر الواحد” وهو أساس الفكر الاستبدادي والديكتاتوري.

ب ـ Michaël Polanyi ( 1891ـ1976).
بريطاني من أصل هنغاري،بروفسور في الكيمياء (1933ـ1948)،ثم بروفسور في العلوم الاجتماعية (1948ـ1958) في جامعة مانشستر،ثم كبير الباحثين في جامعة أكسفورد. من أهم أعماله : The Contempt of Freedom (1940)، Atomic Reaction (1933)، Sience, Faith and Society (1946)، Fulle Employment and free Trade (1948)، The Logic of Liberty (1951)، The study of Man (1958)، Personal Knowledge (1958)، The Tacit Dimension (1955)، Knowing and Being (1966).
أهم أفكاره السياسية:
يتألف الجزء الأول من كتاب “ميخائيل بولانيي” The Logic of Liberty من المقالات التي كتبها بين عامي 1942 و 1949،وحتى هذه الفترة كان الكاتب تحت تأثير صدمة العمل الذي قدمه Lyssenko في الاتحاد السوفييتي. كان عمل “بولانيي” يتمركز على أن العلم يجب أن يبقى مستقلا عن السلطة السياسية فهو يهدف لتحقيق مصلحة الجماعة. يميز “بولانيي” بين العلم الخالص و العلم التطبيقي “التكنولوجي”. “الخالص” يقدم من مشكلة على مشكلة،يوضع في عالم نظري مستقل والذي فيه عرض العلاقات مع العالم التجريبي للاقتصاديين والسياسيين. العلماء الذي يتقدمون بالعلم الخالص عليهم إذا أن يُترَكوا بكامل حريتهم ولا يخضعون لمنطق المشكلات نفسه.

الكاتب يوضح أيضا اقتراحه من خلال تاريخ للميكانيك، عند “كوبرنيكوس” و “ديراك”، حيث يظهر التسلسل الداخلي للإشكاليات، كيف نظريات “غاليلو” و “كيبلر” تستجيب وتستدعي نظريات “نيوتن..الخ
إنه يشير إلى ضعف الحجج عن المنظرين الماركسيين الذين بحثوا لإثبات الحتميات الاجتماعية/الاقتصادية لكل مرحلة من هذه المراحل.

من هذه الرؤية عند “بولانيي” تنتج اعتبارات معرفية تؤدي على نظرية مؤسساتية حقيقية حول “الحرية الأكاديمية”. فالدولة،أو أية سلطة اجتماعية،عليها ترك البحث العلمي حرا. هنا يتحدث عن الحرية الفكرية،كشرط جوهري وضروري للتقدم الفكري. فلا يمكننا الحصول على مجتمع علمي مستمر أو دائم من غير مؤسسات حرة.

ت ـ نظرية ” جون راولز” في العدالة.
مدخل في محاولة فهم فلسفته السياسية.
ولد جون راولز في الولايات المتحدة عام 1921 وتوفي في عام 2002 ، وهو فيلسوف و بروفسور في جامعة هارفارد. في عام 1971 جمع فكره في كتاب ضخم، سماه “نظرية العدالة”. وفي عام 1993 كان له كتاب آخر تحت عنوان” الليبرالية السياسية”.بالرغم أن كتاب “نظرية العدالة” صنف وكأنه”ميثاق للحركة الاجتماعية الديمقراطية الحديثة”، إلا أنه أيضا يمكن الملاحظة أن “راوولز” يبرر سياسات إعادة توزيع الضرائب في دولة “الرفاهية/العناية” وفق قواعد سياسية صنفها “الديمقراطيون الاجتماعيون الكلاسيكيون” على أنها لم تكن على قطيعة كاملة مع تراث الفلسفة الماركسية، وخاصة الصراع الطبقي.

يعتبر من أهم واضعي هذه النظرية في القرن العشرين.ويشار بداية إلى أن “راولز” عندما ترجم إلى الفرنسية لأول مرة أحدث نقاشا كبيرا لم ينته حتى اليوم، كما حصل تماما في العالم الأنكلوـ سكسوني وتأثيره الكبير على فلسفته بعد كتاب “نظرية العدالة”.
قراءة “راولز” تجعلنا نطرح السؤالين التاليين: ما هو الهدف الذي يريده من نظريته،وهل مازال الهدف موجودا بعد عام 1980؟ هل النقد الذاتي الذي قدمه لنفسه يغير بشكل عميق “نظرية العدالة”؟ طبعا من الصعب الإحاطة بالنقاشات الكبيرة التي أحدثتها النظرية،ففي الولايات المتحدة مثلا،شكلت النظرية ما يمكن أن نسميه الفلسفة الأكثر رواجا أو “بيعا”،كما اعتبرت فلسفته ولاسيما نظرية العدالة هي الأكثر قراءة في القرن العشرين. بالإضافة لذلك لا يمكن إحصاء الكتب والمقالات التي كتبت عن هذه النظرية.”إن “نظرية العدالة” عند راولز بالنسبة للعالم الأنكلو ـ سكسوني هي الإطار الذي نجد بداخله التفكير الأخلاقي والسياسي والذي سينمو ويتطور فيما بعد كما يقول “روبرت نوزيك” صديق راولز في جامعة هارفارد عام 1969،ويضيف أيضا :” الفلسفة السياسية من الآن فصاعدا يجب أن تعمل ضمن إطار نظرية راولز وإلا علينا أن نشرح لماذا لا تعمل ضمن هذا الإطار”،علما أن “نوزيك” يمثل النزعة الليبرالية الأكثر “تطرفا” في الفلسفة السياسية،مع ذلك هو أقل تطرفا من النزعة الفوضوية الداعية إلى زوال الدولة نهائيا لصالح الأفراد والجماعات. بينما راولز يمثل أو يصنف كليبرالي يساري أو “اجتماعي ـ ديمقراطي”.

حتى عام 1971 كانت الفلسفة الأنكلو ـ سكسونية خاضعة للفكر التحليلي، مكرَّسة بشكل جوهري للمنطق الفلسفي،الإبستومولوجيا و إلى فلسفة اللغة و التعبير.أما الفلسفة السياسية كانت غير مؤثرة بشكل عميق بالفلسفة الأنكلو ـ سكسونية. حيث بقي “المذهب النفعي” الأكثر تأثيرا من الناحية الأخلاقية والسياسية،علما أنه كان قد بدأ يفقد قوته وهيمنته. بالنسبة للفلسفة السياسية التحليلية، انغلقت في تصنيف معاني المفاهيم الأخلاقية ووضع أحكامها وتقييماتها. عمليا،الفلسفة التحليلية،تاريخيا، هي فلسفة ما بعد الفيلسوف الألماني ” Frege”،حيث أُسست ضمن تحليل منطقي للغة،وبشكل أشمل أعطت للغة وضعية سامية. في جيلها الأول، فضّلت هذه الفلسفة المحور النحوي في اللغة،أما في جيلها الثاني والثالث فقد فضلت المحور الدلالي و البراغماتي. والفلسفة التحليلية تنكر إمكانية علم للأخلاق أو خطابا عقلانيا حول القيم.

مع نظرية العدالة عند “راولز” عرفت الفلسفة الأخلاقية والسياسية ضمن سياق “الفلسفة التحليلية” تجديدا وتحديثا.اقترح “راولز” عقلانية أخلاقية ضمن استمرارية مع ” Kant”، وقد صرح بذلك بشكل واضح:” نظرية العدالة هي جزء،ربما الأكثر أهمية، من نظرية الاختيار العقلاني”. أيضا تحدث راولز عن “علم هندسة للأخلاق” كشكل مثالي بالنسبة لنظرية العدالة.بمعنى،أنه من الممكن معالجة العدالة ذاتها بشكل عقلاني،وأنه ضروري بل شرعي أن يعاد وبشكل عقلاني بناء مؤسساتنا،مفاهيمنا وأخلاقنا. وحتى مجيء راولز لم تكن الأسئلة الأخلاقية معتبرة كأسئلة لها أولوية، فمعه تم أعيد طرح هذه الأسئلة وبقوة لتدخل أو تطرح بمنطق عقلاني. إن كتاب “نظرية العدالة” كتاب ضخم،غني بالأفكار،وعندما ندخل بالتفاصيل ربما نضيع عن العنوان الرئيسي للكتاب. وهذا ما يقوله المؤلف :”الكتاب طويل جدا،وليس فقط في عدد الصفحات”.

المتابع لتطور نظرية العدالة عند “راولز” يعرف أنها لم تكتب دفعة واحدة،بل هناك تطور لكتابتها أتى على شكل مراحل متدرجة، ففي عام 1957، كتب “راولز” عن العدل و الإنصاف وشكلت هذه الكتابة الجزء الأول من “نظرية العدالة”. وعندما أكمل “راولز” نظريته” كانت في النهاية عبارة عن مجموعة من الجهود الهادفة لتحقيق عمل متماسك حول الأفكار التي كتبها في عام 1957. وهنا يقول راولز:” الأفكار الرئيسية بقيت في جزء كبير منها ولم تتغير،ولكن حاولت إبعاد الأفكار غير المتماسكة”.أيضا المقدمة التي جاءت في الطبعة الفرنسية للكتاب الذي يعود صدوره بالفرنسية إلى عام 1986،وهي مجموعة من المقالات الهامة،جمعت في فرنسا وصدرت تحت عنوان “عدالة وديمقراطية”. أخيرا كتاب “الليبرالية السياسية” الذي صدر في عام 1993،يضم بعض النصوص الغير صادرة في السابق،ولكنها تهدف لتوضيح ما كان قد صدر عن الكاتب قبل هذا التاريخ وفيما يتعلق بنظريته للعدالة.
منهج جون راولز في كتابه “نظرية العدالة”.
من الصعوبات التي ترافق قراءة كتاب راولز، هي أنه يذكر الكثير من المؤلفات و الأسماء التي يصعب الحصول عليها. وإن كنا نعتبر هذا من الصعوبات الشخصية أمام القارئ،ولكن بالمقابل علينا أن نتساءل فور قراءة راولز إلى ماذا يرمي في كتابه و إلى أين يريد الوصول؟

يردد راولز وفي العديد من المرات أن “نظرية العدالة” :” اقتراح لمتابعة نظرية النفعية utilitarisme أو نظرية “لإعادة التغيير”. ويتابع راولز ” الشكل الأفضل لشرح الهدف من هذا الكتاب هو كالتالي : النفعية،بشكل أو بآخر،كانت النظرية المهيمنة بشكل منهجي على الفلسفة الأخلاقية الحديثة،أو على الأقل في جزء منها.وهذه النظرية تم تبنيها من قبل كتاب كبار،هؤلاء شكلوا مذهبا قويا استطاع الاستمرار بقوة. وفي الواقع هناك اتجاه أو نزعة لنسيان أن كبار النفعيون utilitaristes، دافيد هيوم، آدم سميث،بينتام و ستيوارت ميل، كانوا من أفضل منظري المجتمع،وأنهم اقتصاديون من الطراز الأول،و أن المذهب الأخلاقي الذي أسسوه لبى طموحهم وشكل مفهوما شاملا. أيضا أعتقد أنهم لم ينجحوا في فرض مفهوم أخلاقي منظم ويمكن تطبيقه.والنتيجة أننا كنا مجبورين على الاختيار بين “النفعية” و “الحدْسية”.(الحدسية هي مذهب فلسفي يأخذ بالحدس قبل البرهان).إن انتقاد جون راولز للنفعية يأتي ضمن مشروع ضخم هدف منه إلى بناء مفهوم فلسفي كامل لما سماه بالديمقراطية الدستورية.

يرى راولز في كتابه “نظرية العدالة” أن الهدف هو أخذ مكان داخل الفلسفة الأخلاقية و السياسية.فالنظرية بنيت بشكلها النهائي ضد النفعية،ولكن هذا الدحض للنفعية استند على قناعة عميقة وقوية: وهي أن الثقافة الديمقراطية تحمل في داخلها متطلبا أو واجبا جوهريا يسير باتجاه الحريات و الحقوق الأساسية للمواطنين،وأن هذا المتطلب له الأولوية بشكل مطلق،وهو ما يشرح مفهوم راولز للعدالة. وفي الواقع وكما يرى راولز،النفعية غير قادرة على القيام بهذا الواجب والمتطلب. أو بشكل آخر للقول،النفعية هي في تناقض، مهما كانت حقيقتها و قوتها،أو حتى بنيتها،مع الوعي الحديث للعدالة.

لكن،ما هو المنهج أو الأداة النقدية التي سمحت لراولز بدحض النفعية من خلال قناعة تعتمد على أولوية الحقوق والحريات، وتستند إلى الثقافة الديمقراطية؟ يوضح راولز هذا السؤال في مقدمة الطبعة الإنكليزية من الكتاب :” حاولت القراءة الشاملة و الوصول إلى أعلى درجة من التجريد للنظرية التقليدية للعقد الاجتماعي كما جاء عند “جون لوك، جان جاك روسو، و كانط”. وهذه النظرية “نظرية العدالة” يظهر أنها تُقدَّم كحل بديل من خلال تحليل منهجي منظم ومتفوق للعدالة،كما أرى، للتقليد النفعي،الذي مازال مهيمنا. ويتابع راولز :” النظرية التي أقدمها هي ذات طابع كنطي عميق ولا أدعي في هذا المجال أنني أقدم أفكارا جديدة لم تطرح من قبل.إن الأفكار الكلاسيكية هامة جدا ومعروفة، أما عملي فهو تنظيمها في نظام عام وتبسيطها لتصل إلى الجميع. إن الطموح في هذا الكتاب سيكون مُرضيا إذا استطعت الوصول إلى الصفات الأساسية البنيوية لمفهوم العدالة،والتي هي موجودة بشكل ضمني في العقد الاجتماعي.ومن بين جميع المفاهيم التقليدية،أعتقد أن العقد الاجتماعي وحده هو الذي يقترب بشكل أفضل من تقييماتنا المستندة بشكل كبير على العدالة ،وهو الذي يشكل القاعدة الأخلاقية التي يمكن أن تكون مقنعة في مجتمع ديمقراطي”.
عمليا،أن التوجه العام لكاتب “نظرية العدالة” ليس شيئا جديدا بحد ذاته،لأنه يعود إلى الفلسفة التعاقدية contractualiste في القرن الثامن عشر.ولكن ما هو جديد بالفعل،هو استخدام هذه الفلسفة في كتاب راولز، بمعنى التعديل الذي قام به راولز لنظرية العقد الاجتماعي. ويظهر هذا جليا عندما نبين الفرق بين نظريات العقد الاجتماعي ونظرية العدالة كإنصاف انطلاقا من النظرية التعاقدية.في الواقع إن راولز يتحدث عن نظرية العقد الاجتماعي وكأنه لا يوجد اختلاف بين جون لوك،روسو و كانط. ولكن من جانب،راولز يعيد روسو و لوك إلى تقليدين للفكر الديمقراطي الذي هو في حالة صراع. بمعنى أولا: أنه يعيد إلى التقليد المرتبط مع لوك والذي يعطي وزنا لما سماه “بنيامين كونستا” بحرية الحداثيين،أي حرية التفكير والمعتقد،و العديد من الحقوق الأساسية للشخص،ثم حق التملك وقيام دولة القانون rule of law،وثانيا: أنه يعيد إلى التقليد المرتبط بجان جاك روسو الذي يفضل “حرية القدماء”،أي المساواة في الحريات السياسية وقيم الحياة العامة. ومن جانب آخر،إن توحيد النظريات في تقليد واحد هو “نظرية العدالة” يكون متجانسا، يوضح الاستخدام الإستراتيجي لدحض المدرسة النفعية،وهذا ما فعله راولز.

إذا إن منهج راولز هو منهج دائري ويبحث ليطابق ومع كل مرحلة من مراحل تطوره،الحدس القوي للعدالة الاجتماعية و البرهان النظري الذي يستند إلى نموذج التقليد التعاقدي الاجتماعي contractualiste. وهنا يمكننا أن نحدد بيانيا المراحل التي اتبعها راولز في “نظرية العدالة” : ينطلق من وعي العدالة الخاص إلى الثقافة الديمقراطية،محددا الأفكار الحدسية التي تتواجد في هذا الوعي؛ ومن خلال عمل من التصنيف و الشرح، يصل راولز إلى تشكيل مبدأين يلخصان مجموع هذه الأفكار الأساسية في مفهوم واحد متماسك.إنه يعود إلى نظرية العقد الاجتماعي ليستخلص المبدأين ويعطيهما تفوقا على المبادئ الأخرى المنافسة للعدالة الاجتماعية،لاسيما مبادئ النفعية. وفي النهاية يبين راولز النتائج التي علينا استخلاصها من هذا الجهد النظري ومن أجل بناء وتكوين المؤسسات السياسية والاقتصادية، مبرهنا بشكل خاص أن مجتمعا منظما هو مجتمع مستقر،بمعنى أنه مجتمع يمتد ليعاد إنتاجه كنظام عادل من التعاون.
في الفصل الثاني من الكتاب، يبين راولز أن مبادئ العدالة التي درست في الفصل الأول تشكل مفهوما سياسيا قابلا للتطبيق،كما أنها مقاربة و امتداد مدرك أو حكيم لمحاكماته التي فكر بها طويلا كما يقول. وهنا لا يقصد راولز فقط البرهنة على أن نظرية العدالة كإنصاف ليست فكرة طوباوية،وأنها يمكن أن تكون قاعدة لمؤسسات ديمقراطية دستورية، بل أيضا تدقيق التوازن في التأمل بين المبادئ المجربة من خلال ” الحالة التعاقدية contractuelle” و تقييماتنا الحدسية، على سبيل المثال فيما يتعلق “بحرية المعتقد متساوية بالنسبة للجميع” والتي تستنبط من المبدأ الأول للعدالة وتشكل في نفس الوقت “واحدة من النقاط الثابتة لتقييماتنا المستندة بقوة على العدالة”.
في الفصل الثالث، يجرب راولز تقديم قاعدة بسيكولوجية لنظريته و لاقتناء وإعطاء “معنى للعدالة”،وذلك من أجل تبيين أن المبدأين يستطيعان إحداث وتطوير هذا المعنى للعدالة ثم إنتاج ،وبشكل مثالي،شروط مجتمع مستقر. أيضا يمكننا القول،إن راولز في تركيزه على المفهوم الفلسفي للعدالة يقول:”إن نظرية العدالة كإنصاف تحاول الأخذ بالحسبان لهذه القناعات التي لها معنى مشترك،لاسيما فيما يتعلق بأولوية العدالة”. ولكن أولوية العدالة تتطابق أيضا مع أولوية الحريات الأساسية والحقوق التي لا يمكن أن تخضع لمساومة سياسية ولا لحسابات للمصالح الاجتماعية.إن هذه الأولوية ذاتها يمكن أن تحققها نظرية العقد الاجتماعي في أعلى درجة لها من التجرد.
يرى بعض منتقدي فلسفة راولز أنه من الصعب تحقيق الكمال المنهجي خاصة في المسائل المتعلقة بفلسفة الأخلاق كما يقول ” ريكور”:” منهج راولز يهدف لتأسيس نظرية معيارية للعدالة على قواعد تعاقدية contractualistes أو بنائية constructivistes.لكن الخطوة تبقى بالإضافة لذلك تحليلية،وذلك من خلال عمل التنقية للمفاهيم و البديهيات. أو يمكننا القول أيضا إنه منهج “للتوازن المتعقل” للبديهيات الأخلاقية العميقة، يحل مكان خطوة تأسيس الأخلاق.ولكن رغم ذلك،هل الفلسفة الأخلاقية يمكن أن تتخلص من هذا الفضاء التحليلي للرأي والذي يستخدم الفكر في شرح التوافق على القيم الضمنية لثقافتنا؟” يتابع ” ريكور” تعليقا على راولز في مقال له نشر في عام 1988 تحت عنوان ” دائرة البرهان”:” الفلسفة الأخلاقية تبرر القناعات الأخلاقية الأكثر اشتراكا فيما بيننا”.
إن عدم الكمال المنهجي،وفق نقاد راولز، ربما يضع قيد المساءلة مشروع راولز نفسه،كما أكد هو ذلك وبنفسه في بداية عمله “عدالة وديمقراطية”:” الهدف تعميم و إيصال المذهب التقليدي للعقد الاجتماعي إلى أعلى درجة ممكنة من التجرد”.
ـ في الواقع، مقابل ” التمامية أو الكلية” Holisme في الماركسية ( وهي نظرية أو مقولة تتحدث عن نظام معقد يشكل خلية واحدة، وهذا النظام العضوي الكلي أكبر و أعظم من أي جزء من أجزائه من الناحية الوظيفية)، راولز يقبل بأن ” تعددية الأفراد، التي لها أنظمة تنتهي لغايات منفصلة، هي طابع وصفة جوهرية للمجتمعات الإنسانية”. بمعنى آخر يؤكد راولز على حصانة وحرمة حرية الفرد. ثم يعلن قائلا:” سأصنف مبدأ الحرية يعادل كل شيء وهو قبل مبدأ الذي يتحدث عن اللامساوة الاقتصادية والاجتماعية”.

ـ و مقابل نظرية الصراع الطبقي، يقول بان الاقتصاد هو ذلك الذي إنتاجه بشكل يرتفع عندما المشاريع الفردية يكون لديها حرية المبادرة. وليس الاقتصاد بإنتاج ثابت لا يتغير. فاللامساواة الاجتماعية بهذه الحالة ليست نتيجة الملكية لطبقة و الناتجة عن عمل تقوم به طبقة أخرى. إن النظرية السياسية عند راولز نستطيع تصنيفها ضمن ما يمكن أن نسميه “التقليد الديمقراطي و الليبرالي”. ولكن في جوانب أخرى سنرى أنه يبتعد عن أسس هذه التطرية.

أولا ـ ما هي أهداف نظرية للعدالة ؟
يقول راولز:” إن العدالة هي الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، كما الحقيقية هي أنظمة وطرق في التفكير، القوانين و المؤسسات يجب أن تكون عادلة”.

1ـ ضرورة مبادئ العدالة؛ صفاتها العامة؛ وبنية قواعد المجتمع.
العدالة، بالنسبة لراولز، تتطلب في البداية ” حصانة” للشخص : لا يوجد أي مجتمع يمكن أن يكون عادلا إذا ارتكز على التضحية بالعديد من أفراده، أو حتى الأقليات فيه.من جهة أخرى، بما أن” المجتمع هو ارتباط، أكثر أو أقل رضا لأفراده، من الأشخاص الذين يعترفون بالعديد من القواعد الإجبارية لسيره،و الذين لديهم في نفس الوقت “صراع” من أجل المصالح و” هوية” للمصالح، فالمشكلة بالنسبة لهم ستكون التفاهم على مجموعة من المبادئ التي تحدد “توزيعا” صحيحا أو “عادلا” للامتيازات و المميزات و للأعباء”.

راولز يقترح إقامة “مبادئ للعدالة” و التي سترضي أو تلبي هاذين المطلبين. اقتراحاته ستشكل أو تؤسس”نظرية العدالة بمعنى الإنصاف و الحق” ، أي justice as fairnesse. مبادئ العدالة يجب أن تكون عامة، بمعنى ليس فقط أن توجد و توضع في التنفيذ، بل أن تكون معروفة من قبل الجميع، كل واحد يعرف أن الآخرين يعرفون هده المبادئ مثله، كما يجب أن يكون هناك وجهة نظر مشتركة حول هذه المبادئ أو حول مبدأ العدالة، وبذلك يؤسسون “الميثاق الأساسي بمجتمع منظم بشكل جيد.بالتأكيد لن يكون لدى الجميع نفس الفكرة حول العدالة؛ ولكن وفق راولز، على الأقل يظن أنه الجميع يستطيعون أن يحصلوا على نفس المفهوم حول ما يجب أن تكون عليه العدالة بشكل جوهري و أساسي. بالإضافة لذلك، نظام قواعد العدالة سيكون عليه السماح بالتنظيم،الفعالية و الاستقرار للحياة الاجتماعية.

أما “بنية قاعدية ” للمجتمع ستنتج من معرفة و الاعتراف بمبادئ العدالة. إنها ستضم تأسيسا سياسيا،و المبادئ والعناصر لنظام اجتماعي/اقتصادي، في داخلها سيكون للفرد دورا مميزا ووضعا أولويا.

في الواقع، عندما قرر راولز دراسة “البنية الوحيدة القاعدية” للمجتمع، استبعد بشكل واع دراسة قواعد العدالة “للمجموعات الخاصة” داخل المجتمع. أيضا من جهة أخرى، دراسة العدالة يمكن أن تنقسم إلى نظرية “الخضوع الصارم” لقواعد العدالة أو ” عدالة مثالية”، و نظرية “الخضوع الجزئي”، ولكن راولز لا يهتم إلا بالنظرية الأولى. فنظرية “الخضوع الجزئي” هي دراسة ” المبادئ التي تقود مسيرتنا أو سلوكنا ضد الظلم” ، و تضم نظرية العقوبات، تبرير الأشكال المختلفة لمعارضة الأنظمة الظالمة،التمرد،الثورات، اللاخضوع للحياة المدنية،الخ. مهما كانت أهمية هذه الدراسات، فإن راوولز يعتبر أن تعريف الظروف والشروط المثالية للعدالة هي لها الأولوية. و في النهاية، إنه يؤكد أن نظرية العدالة ليست هي نفسها سوى جزء من دراسة للمجتمع و لتعريف ” لحالة اجتماعية مثالية”. إن جون راولز سيؤسس هذه النظرية على قواعد جديدة، ستتجاوز في نفس الوقت “النظرية النفعية” utilitarisme و ما يسميه ” الحدسية” intuitionnisme ( مذهب فلسفي يعتمد على الحدس قبل البرهان).

2ـ نقد النفعية.
إن نظريات النفعيون في الأخلاق وفي القانون سيطرت في العالم الأنكلوـ سكسوني، لكنها اصطدمت بتناقضات كان أهمها، أنها لا تتطابق إلا مع المشاعر الأخلاقية تلك التي نحصل عليها بالحدس المباشر. خطأ “النفعية” يتكون من أنها أرادت تطبيق على المجموعة الاجتماعية نفس المنطق الذي تطبقه على الفرد. فالفرد هو جاهز للتضحية بالعديد من رغباته، أو أن يصيبه العديد من العقوبات، من أجل الحصول في النهاية على أفضل شكل من الرضا الشخصي. النفعية رأت أن المجتمع يمكن أن يقوم بنفس المنطق. ولكن المجتمع في الواقع ليس لديه الحق بالتضحية بالعديد من الأفراد أو بحريتهم في سبيل سعادة الجميع. فالنفعية هنا كانت خاطئة من حيث أنها لم تأخذ على محمل الجد التعددية و الطابع الذي يميز و يفرق بين الأفراد. فالنفعية إذا ليست فردية.

نظرية العدالة كحق و إنصاف ستختلف عن النفعية، من حيث أنها لن تبحث نهائيا ولا في أي شكل من الأشكال عن الوصل بحالة التضحية بالفرد إلى أقصاها. أيضا بالإضافة لذلك، في النظرية النفعية هناك بحث للوصل إلى أقصى حد من الرضا، مهما كانت نوعيته، فالعدالة فيها ترتكز على الحصول على الأشياء التي تعرفها هذه النظرية بأنها جميعها جيدة. بينما في نظرية العدالة عند “جون راولز”، على العكس، ” مفهوم العدل هو أدنى من مفهوم الخير، بمعنى تحقيق العدالة من خلال الخير”.

ثانيا ـ فكرة العقد الاجتماعي عن جون راولز.
يقول “جون راولز”، هدفي هو تقديم مفهوم للعدالة و الذي يعمم ويحمل إلى أعلى مستوى من التجريد النظرية المعروفة للعقد الاجتماعي، والتي نجدها عند “لوك”، “روسو” و ” كانط”. ومن أجل هذا،علينا ألا نفكر بأن العقد الأصلي هو مدرك أو مفهوم حتى يلزمنا أن ندخل في مجتمع خاص أو من أجل إقامة شكل خاص من الحكم. الفكرة التي سترشدنا هي قبل كل شيء مبادئ العدالة المقبولة من أجل البنية القاعدية للمجتمع وهذه المبادئ هي موضوع الاتفاق الأصلي في المجتمع.
إنها المبادئ نفسها التي، الأشخاص الأحرار والعقلانيون، الراغبون في تحويل رغباتهم و مصالحهم الخاصة ووضعها في موقع من المساواة، سيقبلونها، والتي وفقها، سيعرفون المصطلحات الأساسية التي ستربط فيما بينهم. هذه المبادئ عليها خدمة القاعدة التي هي أساس الاتفاقات، فالأشخاص يميزون أشكال التعاون الاجتماعي و الذي بداخله يمكن أن نلتزم، و أشكال الحكم التي يمكن أن تقوم أو تشيد. ضمن هذا الشكل من رؤية مبادئ العدالة، يمكن أن نسمي ذلك بنظرية العدالة كحق و إنصاف”.

نعتقد إذا أن عقدا اجتماعيا يمكن القيام به انطلاقا من حالته الأصلية، هو الذي يعادل أو يساوي ،وفق راولز، ” حالة الطبيعة” التي تحدث عنها الكتاب الكلاسيكيون. المبادئ التي ستقام أثناء قيام العقد الاجتماعي هي ثمرة للتوافق بين الحدس والتفكير. الحدس الأول يجعنا نطرح العديد من المبادئ، تتوافق مع معتقداتنا الكبيرة حول العدالة، ولكن فيما بعد، عندما يتدخل التفكير، سيستطيع هذا التفكير، إما أن يؤكد قناعاتنا الأولى، أو يقودنا إلى تحسينها و إصلاحها. بمعنى في حال قيام العقد، فإن المبادئ التي يقام عليها سيتكون قد خضعت لتوازن مفكر فيه. وفي هذه الحالة، العقد الاجتماعي لن ينتج عن حقيقة بسيطة، ولا عن بناء مصطنع و مجرد للعقل، ولكن عن اختلاط بين الحدس و التفكير.

ثالثاـ الخيارات الكبرى للعدالة.
في الوقت الذي فيه يختارون مبادئ العدالة و البنية القاعدية للمجتمع، الناس من المفترض أنهم متساوون في المنافع،في طلب العدالة وفي الإرادة الخيرة. من جهة أخرى من المفترض أنهم يجهلون ماذا ستكون مواقفهم الخاصة في المجتمع. وبالتالي في هذه الحالة هم ينتقلون إلى العقد الاجتماعي تحت حجاب من الجهل. إذا عليهم التفكير حول المبادئ التي من شأنها الوصول إلى الحالة الأفضل لكل فرد سيعيش في هذا المجتمع. في هذا الحالة كيف تفرض مشكلة العدالة ؟

جون راولز ينقل المشكلة إلى موضع آخر، ليطرح مجموعة من الخيارات أو ( مبادئ العدالة) و التي نوجزها بالتالي :
1ـ مبدآن للعدالة وفق التعبير القاموسي أو المعجمي وهما :
ـ مبدأ الحرية الأكبر و الذي يساوي بين الجميع.
ـ مبدأ العدل من خلال تكافؤ الفرص، و مبدأ الاختلاف.

2ـ مفاهيم مختلطة. وفيها ثلاثة مبادئ أساسية :
ـ مبدأ المنفعة المتوسطة.
ـ مبدأ المنفعة المتوسطة، ولكنه خاضع لإجبار معين، هذا الإجبار إما أن يكون ضمان الحد الأدنى اجتماعيا، أو أن التوزيع الشامل و العام للمنافع في المجامع يجب ألا يكون فيه فوارق كبيرة.
ـ مبدأ المنفعة المتوسطة ويكون خاضعا لواحد من الإجبارين السابقين، مع إضافة التكافؤ في الفرص.

3ـ مفاهيم غائية كلاسيكية.( الغائية هي نظرية تقول بأن كل شيء في الطبيعة موجه لغاية محددة).
ـ المبدأ الكلاسيكي للمنفعة.
ـ مبدأ المنفعة المتوسطة.
ـ مبدأ الكمال.

4ـ مفاهيم حدسية. وتضم:
ـ التوازن للمنفعة الشاملة و مبدأ التوزيع العادل.
ـ التوازن للمنفعة المتوسطة ومبدأ التوزيع.
ـ التوازن بين قائمة من المبادئ المقبولة من النظرة الأولى.

5ـ مفاهيم أنانية. وتضم:
ـ استبدادية وديكتاتورية “الأنا”: حيث على كل واحد أن يخدم مصالحي ومنافعي.
ـ كل واحد أو فرد عليه التصرف وفق العدالة ويخضع لها، إلا أنا، حيث أقرر ما أريد فعله.
ـ بشكل عام: كل واحد لديه الحق بمتابعة مصالحه كما يراها.

إن جون راولز يبعد مبدئيا كل المبادئ بعد توجيه انتقادات لها، باستثناء المبدأ الأول المتعلق بالمفهوم المعجمي للعدالة.

1ـ النفعية الكلاسيكية،النفعية المتوسطة، والكمالية.
ـ النفعية الكلاسيكية: تعتبر المجتمع كفرد واحد. هنا يذكر جون راولز نظرية “آدم سميث” حول (المشاهد أو المتفرج الحيادي أو النزيه)، و التي تقيم المنافع و المصالح وغير المنافع أيضا ، لمختلف الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية بأنها ممكنة. حيث وضع”سميث” نفسه في أماكن العديد من الموجدين في المجتمع، وشاهده من خلال رغباتهم ثم قارن فيما بينهم، بعد ذلك وقف لجانب النظام الذي يزود المجتمع أو الجماعة بأفضل المنافع. لكن راولز ينتقد ذلك، حيث يقول أن هذا ينكر أن الرغبات عند الأفراد هي منفصلة وغير متشابهة ولا يمكن مقارنتها وفق مقياس واحد. بمعنى آخر، نظرية النفعية الكلاسيكية، لا تعتبر عذاب وألم الأفراد أنه ظلما، إذا استطعنا اعتباره ضروري للوصل للإرضاء العام في أقصاه.

ـ أما النفعية المتوسطة: و التي تسعى إلى الوصول إلى الرضا في أقصاها لأكبر عدد من أعضاء المجتمع، فهي امتداد وتشجيع للنفعية الكلاسيكية في العديد من النقاط.

ـ أخيرا، مبدأ الكمال، والذي يدعيه راولز، بالمبدأ المعنوي ووفقه مجتمع يكون مفضل على آخر إذا سمح بظهور وتفتح الكمال عند الإنسان، وهذا يكون غير موجود في مجتمع آخر. ولكن في الواقع هذه المسألة نسبية. فالمجتمع الذي أعطى ( ليوناردو دافنشي، موزار، بيتهوفن، أو أي بطل رياضي ما) يمكن تقييمه بأنهم المفضل على مجتمعات أخرى، حتى ولو كان فيه الكثير من الفقر أو العبودية أو الظلم الاجتماعي. بشكل مقلوب، أصحاب النظرية الكمالية، سيقيمون بالمجتمع، حيث يحكم العدل الاجتماعي، ولكن فيه الناس هم بحالة رديئة. راولز يرفض هذا المبدأ، لأنه في الحالة الأصلية أو الطبيعية للإنسان أي ما قبل العقد الاجتماعي لا يوجد أحد لديه أي ضمان بأنه سيكون من بين من يحصلون على الرضا الكامل بعد قيام العقد.
أما الحلول”الذاتية الأنانية” هي مبعدة لأنها متناقضة مع فرضيات القاعدة الأصلية. ولأن هذا المبدأ لا يمكنه أن يحدث اتفاقا بالإجماع، حيث هذا الاتفاق هو ضروري لإقامة العقد الاجتماعي. وإذا كل فرد تابع مصالحه بالطريقة التي يردها، فإننا نصل إلى مجتمع الأقوى هو الذي يحكم. وبما أنني تحت حجاب الجهل لا أستطيع معرفة ما هو وضعي بعد العقد الاجتماعي،هل سأكون ضعيفا أم قويا، فإنه من الخطورة القبول بهذا المبدأ.

ما هما مبدآ العدالة الذي تحدث عنهما جون راولز ؟
المبدأ الأول :
كل شخص يجب أن يكون له حق متساو في النظام العام للحريات المتساوية للجميع.
ضمن هذا المبدأ،الحريات الأساسية لا يمكن الحد منها إلا باسم الحرية نفسها، وهنا يوجد حالتين: أولا، تقليص للحرية يجب أن يدعم النظام العام للحريات الموزعة بين الجميع؛ثانيا، عدم المساواة في الحريات يجب أن يكون مقبولا من قبل أولئك الذين لديهم حرية أقل.
المبدأ الثاني:
عدم المساواة الاقتصادية و الاجتماعية يجب أن تكون محدودة، ولكن ضمن مجتمع مفتوح أمام الجميع و يؤمن بتكافؤ الفرص.
هذا المبدأ عمليا موجود في مبدأ الفعالية والوصول إلى أقصى حد من المنافع؛ و بالنسبة للمساواة في تكافؤ الفرص هي موجودة في داخل مبدأ الاختلاف. وهنا أيضا لدينا حالتين : الأولى، عدم المساواة في الفرص يجب أن تحسن فرص الذين لديهم فرصا أقل؛ ثانيا، معدل مرتفع من الادخار يجب أن يخفف التكاليف و الأعباء عن الذين لا يستطيعون تحملها.

المبدأ الأول :
الحريات الأساسية للمواطنين هي بشكل عام، الحرية السياسية ( حق الاقتراع أو حق الوصول إلى أي مركز عام في الدولة و المجتمع)، حرية التعبير،الاجتماع، حرية التفكير و الاعتقاد؛ الحرية الشخصية والتي تضم الحماية من أي تعسف أو ممارسة للتعذيب، وتضم أيضا حق الملكية، الحماية من التوقيف و السجن التعسفي. وجميع المواطنين في دولة قائمة على العقد الاجتماعي يجب أن يحصلوا على هذه الحقوق بشكل متساو. نلاحظ هنا أن الحريات التي لا تظهر على هذه القائمة من الحريات الأساسية هي ليست محمية بالمبدأ الأول. يقصد هنا “حق تملك العديد من الأملاك الضخمة، مثل وسائلا لإنتاج مثلا. وعندما يقول جون راولز أن الحريات لا يمكن الحد منها إلا باسم الحريات، فهذا يعني أن الحد من واحدة من الحريات، أو الحد منها عند العديد من المواطنين، هذا مشروط بزيادة الحريات عند الجميع أو الآخرين.

المبدأ الثاني:
يطبق على توزيع الدخل والثروة، وعلى بناء منظمات تستخدم سلطات مختلفة ومسؤوليات مختلفة ومتعددة. كل فرد يستطيع الانتماء إلى نظام اقتصادي أو اجتماعي الذي يحسن الفرص للجميع. لا بد من التذكير هنا أن مبدأ الاختلاف يرتكز على الفكر الليبرالية حيث الاقتصاد هو تعاون يحسن بشكل قاطع الإنتاج العام. فعندما عدد من الفاعلين يربحون أكثر من الآخرين، فهذا يمكن أن يشارك في تحسن الإنتاج العام.

رابعا ـ المساواة الديمقراطية
لقد ترك راولز بشكل مقصود بعض التعابير الغامضة ضمن هذا المجال، وأهمهما تعبيران أساسيان هما “المنفعة للجميع” و ” مفتوح للجميع”. الأول يمكن أن يمتد إلى معنى آخر إما أن يكون “مبدأ الثبات والفعالية”، أو ” مبدأ الاختلاف، أما الثاني، إما “طريق مفتوح أمام المواهب والإبداعات” أو” العدالة في الفرص”.إذا افترضنا أن المبدأ الأول ليس غامضا،سيكون لدينا إجمالا وفي هذه المرحلة، أربع تفسيرات ممكنة للمبدأين والتي يسميها راولز كما يلي : 1ـ نظام الحريات الطبيعية.2ـ المساواة الليبرالية.3 ـ الارستقراطية الطبيعية.4ـالمساواة الديمقراطية. راولز سيبعد الثلاثة الأولى لصالح “المساواة الديمقراطية”. لذلك نتناول هنا التفسير الثالث عند راولز.

من بين الأنظمة الاجتماعية المختلفة والممكنة، راولز يدين تلك الأنظمة التي تضم بشكل كلي أو جزئي الملاحظات التالية :
ـ “نظام الحرية الطبيعية”، الذي يعرّف من خلال ،الحرية، الطريق المفتوح أمام المواهب و من خلال الفعالية، بمعنى لآخر الليبرالية المحضة من غير وجود “دولة العناية أو الدولة الفاضلة”، هو بشكل مضاعف نظام ظالم ويرفضه راولز.

ـ مجتمع” المساواة الليبرالية”، و الذي يعرّف من خلال الحرية، مبدأ الفعالية و تكافؤ الفرص، بمعنى آخر مجتمع ليبرالي مع نظام ضريبي مفروض، كذلك نظام للتعليم، خاص أو عام، ممهد أمام كل الطبقات،هو مجتمع مفضل على السابق، حيث أنه يبحث عن تقليص التأثير الاصطدام الاجتماعي و من الصدفة الطبيعية لتوزيع الثروة. مع ذلك، راولز يتهمه بأنه لا يصارع إلا في جزء منه من أجل المساواة وتكافؤ الفرص.
ـ “الأرستقراطية الطبيعية”، ستكون النظام الاجتماعي الذي سيحترم الحرية، مبدأ الاختلاف والطريق المفتوح أمام المواهب. وهذا يعني مجتمع منظم، والمراكز القيادية فيه تعود فقط لمن يستحقها أو لأصحاب القدرات، من في أن نقلق من الظروف التي يمكن أن تغير من ذلك.

لكن راولز يرفض أيضا هذا النظام، حيث أنه لا يفعل شيئا من أجل تصحيح اللامساوة الاجتماعية أو الطبيعية في الفرص. يبقى إذا “المساواة الديمقراطية”، بمعنى آخر المجتمع الذي يعترف بمبدأي العدالة. راولز يصف هذا النظام كما سيأتي.

مؤسسات “دولة العناية أو الفاضلة”.
1ـ المؤسسات التي تتطابق مع المبدأ الأول.
المجتمع يجب أن يكون “ديمقراطية ليبرالية”، إذا نفهم من خلال استخدام هذا المصطلح، أنه يحترم حقوق الإنسان و الحريات الفردية و أنه ديمقراطي على الصعيد السياسي، ويرتكز على مبدأ “دور وحكم القانون، وعلى دولة الحق، حيث القانون معمم على الجميع ويعرفه الجميع وهو مرتكز الجميع. يضيف جون راولز، إذا الحرية لا يمكن أن تكون محدودة من خلال النظرة أو البحث عن أفضل توزيع للمنافع الاجتماعية والاقتصادية، إلا أنها يمكن أن تكون كذلك باسم الحرية نفسها.

راولز يميز بين الحالة المثالية التي تكون لدينا بشكل فعلي بعد العقد الاجتماعي، الذي يؤسس مجتمعا عادلا، و الحالة غير المثالية، حيث نتفق على ما يمكن أن يكون في مجتمع عادل، ولكن نحن نعرف أن المجتمع الحالي هو غير عادل ولا بد من تبديله.وفي الحالة الأخيرة، راوولز يعلن: أننا نستطيع أن نقيد حريات أولئك، على الأقل الحريات السياسية، الذي يعارضون هذه التغييرات.

2ـ مؤسسات تطابق المبدأ الثاني.
المبدأ الثاني هو بدوره دليل من أجل تحديد البنية القاعدية للمجتمع. إنه أولى مقارنة بالمبدأ النفعي القائل بالوصول إلى أقصى حد من المنتج الاقتصادي. هذه العناصر التالية لنظام راولز تقترب من سياسات”الاجتماعية ـ الديمقراطية” التقليدية.
يؤكد راولز أنه سيبين العديد من الأفكار حول البنية الاجتماعية/الاقتصادية من أجل تبيين خصوصيته حول العدالة. إن مسألة البنى الجيدة الاجتماعية الاقتصادية تبين أو تعطي علوما اجتماعية واقتصادية.فنظرية العدالة لا تهتم سوى بالمبادئ. كذلك، بشكل خاص، راولز يؤكد أن نظريته لا تسمح بأن نفضل أو نؤثر شيئا مع أو ضد الليبرالية أو الاشتراكية. فالنظامان يمكن أن يرضيان أو العكس، أهداف العدالة. فمسألة الاختيار بين اقتصاد متمركز على الملكية الخاصة أو العامة، هي متروكة أو مفتوحة على طول و أثناء عملية التنمية. ولكن هناك فكرة سابقة تقييمية تتعلق بالنظام الليبرالي ولصالحه وهي أنه يحترم الحريات.
إن راولز سيصف ليس فقط بنية قاعدية مثالية،يبحث عن تأسيسها أو خلقها،ولكن بشكل عام، يبحث عن “دولة العناية/الرفاهية” والتي هي موجودة من قبل، والذي يبحث عنه هنا “هو رؤية كيفية تنظيمها يتفق مع مبدأي العدالة”. الهدف هو،فلنتذكره كما أوردناه سابقا، ثلاثي:الحفاظ على الحريات،زيادة أو الرفع من أوضاع الأقل حصولا على المنافع، ثم بناء عملية تكافؤ الفرص.

الفصل الخامس
نموذج من تحليل التوتاليتارية “الشمولية”

ـ “آنا أروندت”
تحدثنا في السابق عن أفكار تتعلق بالديمقراطية والليبرالية،و نتحدث الآن عن أفكار مناقضة لها و هي من أهم الأسباب التي تقوم بتقويض هذه الأفكار، إنها الأفكار الشمولية، وتعتبر “آنا أروندت” من أهم من قام بتشريح هذه الأفكار كي تبدو على حقيقتها.

ولدت لعائلة يهودية في عام 1906 في مدينة ( كوينكسبيرغ). درست الفلسفة في عام 1924. تعرفت على أهم الفلاسفة من بينهم ( هيدجر،هوسرل). في سن 23 نشرت أطروحتها للدكتوراه وكانت بعنوان ( مفهوم الحب عند سان أوغستان).هربت من النازية في عام 1933 واستقرت في فرنسا.تركت فرنسا في عام 1941 باتجاه الولايات المتحدة وبدأت تعمل في الصحافة. اتخذت مواقف كثيرة أهمها رفض قيام دولة إسرائيل. انتقدت في مؤلفتها الإمبريالية والعداء للسامية.

من أهم مؤلفاتها الستة: أصول أو أسس الشمولية 1951، ظرف الإنسان الحديث 1958،أزمة الثقافة 1961، محاولة حول الثورة 1963، الحياة السياسية من الكذب إلى العنف. بالنسبة لنا سنختار من بين هذه المؤلفات تحليلها للشمولية و الذي جاء في مرجعها الهام ” النظام الشمولي”.

تطرح “أروندت” فرضيتها القائلة بأن عوامل التشابه بين الفاشية و الشيوعية هي أكثر من عوامل الاختلاف، فكلاهما يمكن تصنيفه في فئة واحدة متفردة هي الشمولية. وأهم مثال على ذلك عند الكاتبة هي ألمانية النازية وروسيا الستالينية. وتؤكد الكاتبة أن الشمولية تختلف بجوهرها عن جميع الأشكال المعروفة للاستبداد، الطغيان أو الديكتاتورية. وهذه في كل مكان وصلت إليه إلى السلطة.

فالشمولية من وجهة نظرها أحدثت مؤسسات سياسية جديدة كليا، لقد دمرت كل التقاليد الاجتماعية،القانونية و السياسية للدول التي حكمتها. والنظام الشمولي يحول دائما جميع الطبقات إلى جماهير، يبدل النظام بأحزاب،ليس بدكتاتوريات ذات حزب واحد، ولكن بحزب للجماهير، ينقل مركز سلطة الجيش والأمن، ويضع في التنفيذ سياسة خارجية تريد الهيمنة على العالم.

أولا ـ الشمولية كظاهرة جماهيرية.
الشمولية هي حركة “للجماهير”.و لكن “أروندت” تعطي معنى دقيقا وخاصا لمفردة “الجماهير”،غير المعنى الذي تبنته الماركسية أو الاشتراكية، الذي يشير إلى ” الطبقات الكادحة”. “أروندت” أطروحتها هي على العكس من ذلك، الجماهير أو التكتلات الجماهيرية التي عليها ومعها الحركات الشمولية تريد التحرك والقيام بسلوكها وأفكارها ليس عبارة عن طبقات،بمعنى ليست مجموعات منتظمة مبنية،لها حالة معينة،أو هوية و أهداف واضحة دقيقة في البناء الاجتماعي الكامل أو العام، ولكن هي مجموعات غير منتظمة، غير متبلورة وليس لها شكل، جاهزة، وهي بهذه البنية، لكل التحولات ولكل المغامرات.

أيضا تشير “أروندت” إلى أن الشموليات لم تكن حركات أقلوية، أخذت في قبض بعض الرجال الذي سيغتصبون هذه الجماهير ويضحكون عليها. بل تمت مساعدتها بشكل فعال من قبل أغلبية السكان. فلا هتلر ولا ستالين لم يصلا إلى السلطة ولم يبقيا فيها لو أنهم لم يحصلوا على ثقة الجماهير. فلا يمكن الاستناد كثيرا في حالتهما على أنهما حصلا على هذه الشعبية من خلال انتصار دعاية سياسية كاذبة ومتناغمة مع الجهل والغباء. والسؤال هو معرفة لماذا العديد من السكان أو الشعوب وجدت متمركز في حالة أو وضع عقلية أو معنوية حيث استطاعت تقاسم المشاريع مع الشموليات وشاركتها جرائمها. وهذا ما يجعلنا ننتقل للفقرة الثانية في محاضرتنا وهي :

ثانيا ـ تدمير “الجماهير”.
هناك ظاهرة سبقت وفق “آنا أروندت” تحويل الشعب إلى جماهير أو كتلة من البشر: وهي التطور الرأسمالي والذي أحدث تغيرات في المجتمع من خلال قطيعة مع التضامن التقليدي القائم في هذا المجتمع. ففي البلدان التي انتصرت فيها الشيوعية، التطور الرأسمالي لم يذهب بعيدا، ولكن عناصر أخرى بقيت موجودة. في روسيا السكان كان بإمكانهم أن يصبحوا جماهير أو كتلا بشرية لأن السكان الريفيون لم يكونوا يشكلون طبقات. من جهة أخرى، الشيوعيون أنفسهم التزموا بتفكيك أو تدمير المجتمع من أجل الذهاب إلى عمق منطقهم في التفكير.

فمن أجل تحويل الدكتاتورية الثورية عند لينين إلى نظام شمولي بالكامل،ستالين كان بداية مجبورا بخلق أو إنشاء وبشكل مصطنع هذه المجتمع المتذرر ” من ذرة” حيث الظروف التاريخية كانت قد تهيأت مسبقا في ألمانيا عند النازيين. النازيون وجدوا جماهيرً غير متبلورة أو لا شكل لها، البلشفيون دمروا “القروية” أو طبقة القرويين، ثم الطبقة العمالية، وبعد ذلك بيروقراطية الحزب والدولة نفسها، حيث 50% من بيروقراطية الدولة تمت تصفيتها بين عامي 1936 و1938.

مهما كان السبب الدقيق للتدمير في كل حالة من هذه الحالات، يبقى أن الحركات الشمولية نشطت بين سكان ضائعين ولم يستطيعوا العمل والحركة إلا بين هكذا نوعية من السكان. في الواقع مصطلح “الجماهير” وفق ـ آنا أروندت ـ يطبق فقط على ناس لأسباب متعددة لم يستطيعوا الاندماج في أية منظمة أو تنظيم مؤسس على المصالح المشتركة، أحزاب سياسية،مجالس بلدية،منظمات مهنية أو نقابية. و”الجماهير” توجد في جميع البلدان بشكل قوي،وتشكل الأغلبية من تلك الطبقات الضخمة من الناس الحيادية والمتشابه سياسيا، والتي تصوت بشكل نادر ولا تنتمي نهائيا لأي حزب.

السكان في البلدان المتطورة حيث ظهرت الشمولية كانوا في أغلبيتهم” مادة أولية” جيدة كي يتحولوا إلى جماهير أو كتل بشرية لأنه لم يكن لديهم سوى وعي سياسي ضعيف. لم يكونوا مرتبطين بمؤسسة سياسية بمعنى المؤسسة، بل ساندوا بعض الأحزاب التي تمثل مصالحهم كطبقة تسمى “الجماهير” ولكن هذه المساندة لم تقم أو تتأسس على قيم محددة أهمها “المواطنة والتي تجعلهم يشعرون كأفراد وشخصيات مستقلة بأنهم مسؤولون عن قضايا كبيرة تتعقل بالدولة ككل”.من هنا نستطيع الاعتقاد بأن المواطنين في الدول الأوربية ارتبطوا بشكل كبير إلى الديمقراطية التمثيلية، هذا الارتباط كان في الحقيقية سطحيا جدا.لأنه في الدقيقة التي سقطت فيها جدران الحماية لهذه الطبقات، تحول هؤلاء المواطنون أو في معظمهم إلى كتلة جماهيرية كبيرة مشكلة من أفراد ساخطين.

ثالثا ـ اللامبالاة.
هذه الجماهير الغير موجه بل الضائعة، وليس لها مصالح خاصة ومحددة يمكن أن نسميه أو نطلق عليها مصطلح” اللامبالاة”. على هذه الحالة من اللامبالاة الحركات الشمولية تستند وبشكل متناقض من أجل إطلاقهم في مشاريع خطرة جدا، وهي إيديولوجيات شمولية يأتي في طليعتها ما يسمى : بناء الاشتراكية،تنقية العرق وغزو العالم ..إلخ

النظام الشمولي لم يؤسس،كما النظام الاستبدادي، على انتصار المصلحة العامة، لأنه جاهز تماما للتضحية بالمصالح الحيوية فورا. وفي هذه الحالة يلتقي بجماهير جاهزة لهذه التضحية، من أجلها ومن أجل الآخرين، ليس بسبب الإيجابية التي تحركها وتدفعها، بل لأنها لا تمتلك ارتباطا خاصا بها يمكن أن يقف أمام ارتباطها بالشمولية.
وهنا علينا أن نعرف هذه “اللامبالاة” عند هؤلاء ليس بالمعنى المثالي للمصطلح، فالكلمة”لامبالاة” تفهم في هذه الحالة من خلال اختلاط عقلي،وغياب أي نقط واضحة، وهذه نتيجة لانهيار البنية الاجتماعية الداخلية. إنها حالة مرضية تؤدي لنتائج خطيرة، حيث “اللامبالاة” في جميع الأحوال،ستسمح لهذه الجماهير بالقبول بالاعتقاد والعمل خلف الإيديولوجيات الشمولية، وحتى القبول بالموت. فهي تحرر أيضا ما بداخلهم من شعور إجرامي وتطلق غريزة الموت.

ومن أجل الحفاظ على هذه الحالية المرضية من قبل الأنظمة الشمولية، هذه الأنظمة ستسهر على منع بناء إي “جماعة مستقلة” يمكنها أن تؤدي إلى تغيير في البنية والجوهر لدى الجماهير. ستقضي على جميع الجماعات الاجتماعية التي لم تخلقها هذه الأنظمة بيدها والتي لا تقودها بنفسها، مهما كان سبب وجودها: جماعات نقابية،سياسية، مهنية،عرقية أو حتى جماعات تهتم بحماية الحيوانات. وتعلن هذه الجماعات عدوة لها وتهددها بشكل دائم.

أما ظاهرة تفكيك وتذري الجماهير، التي تأتي بعد إعادة تنظيمها من قبل الحزب “القائد”، هي مستقلة بشكل كبير عن الإيديولوجيا. ففي هذه الحالة الإيديولوجيا تلعب دورا ضعيفا وخاصة في حالة الفاشية و النازية. فتنظيم الجماهير سيحدث من خلال سلوك مسرحي ودرامي أكثر مما هو سلوك فكري عقلي، حيث نرى المظاهرات الدائمة،الحركات الجماهيرية ، الاحتفالات في كل مكان..إلخ
الأحزاب الشمولية.
على تلك الجماهير المفككة و المتذررة تبنى الحركة أو الحزب الشمولي. بالنسبة للدعاية أو البروباجندا، إنها في الغالب موجه نحو الخارج. أما في الداخل فيمارس الإرهاب و القمع، وحيث يحكم الإرهاب والقمع لا داعي لحكم البروباجندا أو أنه ليس ضروريا.
1ـ هذيان الإيديولوجيا:
هناك صفات محددة و أساسية يمكن قراءتها. ” العلمية ” و “التاريخية” ويلعبان في خطاب الأحزاب الشمولية الدور الأول، وتشترك هذه الأحزاب في تقديم ” قوانين ثابتة” حيث تفسر كل شيء ويمكنها إقناع الجماهير بأنها خاضعة إلى حتمية لا يمكن الإفلات منها. تدعي هذه الأحزاب أنها وضعت اليد على قوانين التاريخ التي تقود بشكل لا يمكن تحاشيه إلى النصر،وبذلك تكون قد “قضت أو حذفت كليا الإنسان من التاريخ وخاصة الطابع الإنساني للتاريخ”. أيضا قوانين الطبيعة من جهتهم” هي خاضعة إلى إرادة ثابتة ومن الضروري معرفة هذه القوانين و إخضاعها”. ضمن هذا المعنى جاء في الكثير من أدبيات الفكر الشمولي ما يلي “نحن نشكل الحياة لشعوبنا و لتشريعنا”.

ولكن كيف نفهم الإعجاب الكبير للجماهير في هذه الخطابات الحتمية؟ بما أن هذه الجماهير كما رأينا ليس لها بسبب اللامبالاة أي مصلحة خاصة، فهي فقدت معنى وروح الحقيقة وتترك نفسها للافتتان بخيالها الوحيد الذي تملكه.الحقيقة دائما معقدة وتخالف الكثير مما نتخيله، حيث يكون العقل يعيش في اللاحقيقة فإن الإيديولوجيا تأتي لترضي هذا العقل وتكفيه. وهذا ما نسميه بالهذيان الإيديولوجي. فعلى العكس من النظريات أو الأفكار العلمية التي تهتم بشكل موضوعي بالحقائق، الإيديولوجيا يمكن مقارنتها بشكل فعلي بالهذيان. فهي تشبه في العديد من النقاط أساطير المجتمعات البدائية.

2ـ بنية هذه الجماعات أو الطوائف الشمولية.
الحزب والفكر الشمولي يريد بناء مجموعات من الشعب في داخلها الجميع متساوين، وفي خارجها هناك خلاف كبير. في هذه التجمعات أو المجتمعات، الزعيم سيكون له وضع متفرد.فهو لن يتصرف ضمن سلطة تراتبية نقارنها بقواد الجيوش أو الدكتاتوريين التقليديين، الذين يبدون بشكل نسبي مستقرين. الزعيم لن يبقى زعيما إلا إذا وضع الجماهير في حالة هيجان أبدي، والمجتمع لن يبقى مجتمعا إلا إذا اتبع يوما بعد يوم إرادة هذا الزعيم. لكن هذا المجتمع،بعكس ما تقوا البروباجندا هو غير متساو. فهو خاضع لتنظيم معين وبشكل قوي من قبل مركز هو “الحزب”، إلى أو حتى محيط أو طرف هو “المجتمع”، مع سلسلة من التنظيمات الوسيطة بين الاثنين. التنظيمات الوسيطة يمكن تسميتها “بمنظمات الواجهة” وهي تلعب دور الوسيط بين التنظيم الشمولي والعالم الخارجي. إنها تخدم كوسيطة، وتحمي في الواقع التنظيم الشمولي ضد أي تأثيرا خارجية.

في الحركتين الشموليتين ،الشيوعية والنازية، يمكننا ملاحظة تنظيم أو بنية نوعية “تشبه حبة البصل”،مع دوائر متتالية أكثر فأكثر سرية،وهذا يسمح للدائرة الأكثر عمقا أن تكون بشكل مطلق سرية لأنها محمية كليا وبعيدة عن الحياة العادية من قبل الأعضاء الذين يشكلون حلقات متتالية ويفصلون هذه الدوائر عن بعضها. هذه النوع من التنظيم لا نراه إلا في الجماعات السرية أو بعض الطوائف الدينية ذات التنظيمات الباطنية. ضمن هذه التركيبة المعقدة كل من ليس في داخلها يكون مستبعدا، وكل من هو ليس بصديق فهو عدو.

السلطة الشمولية.
1ـ ذوبان الدولة في الحزب.
إذن يصل الحزب الشمولي إلى السلطة بهذا التكوين الذي تحدثنا عنه.فهل سيتصرف وكأنه في دولة عادية؟بالتأكيد لا، فهذه الأحزاب الشمولية تبرهن على تراجع خطير في مراحل التقدم المدني و الحضارة نفسها. فالمدينة” الدولة” تعرّف من خلال وجود فضاء عام للشعب ومن خلال حكومة تقوم على القانون. ولكن في ظل الشمولية، لا يوجد ولا يمكن الحصول على فضاء عام في الدولة، ومن جهة أخرى، إنه الحزب الذي يحكم وليس القانون. بالإضافة لذلك، القوانين تتغير بشكل دائم حتى أنها لا تنشر بشكل علني أمام الناس أو ليس لديها وقت كي تنشر ويطلع عليها العامة أو المواطنون. كل ذلك على العكس من الأنظمة الدكتاتورية، فهذه الأخير الحزب الوحيد يستولي على الدولة كي تخدمه فهو بحاجة لها لذلك يقوم على تعزيزها، إذا الدكتاتورية تستند على الدولة أما الشمولية فتستند على العدمية.

2ـ مفهوم ” العدو الموضوعي”.
الدكتاتورية تقوم بسجن المعارضين وتحاربهم في كل مكان. الشمولية لديها دائما ” الأعداء الموضوعيين”، تم تعريفهم منذ البداية من قبل الإيديولوجية، هذه الإيديولوجية تحدد فئات من البشر تدينهم القوانين الطبيعية والتاريخية موضوعيا، مهما قالوا أو مهما فعلوا. النظام الشمولي يعامل هؤلاء كأنهم أعدا حتى ولو لم يكن لديهم أي شيء ضد النظام، وبشكل متناقض يعتبرهم مناصرين له بالفطرة.

هذه الفئة متحركة ولا تنتهي، بمعنى إذا قضى النظام الشمولي على هؤلاء حتى آخرهم، فهذيان الإيديولوجيا يخترع آخرين، حيث أن دوائر الجماعات السرية ذات السلوك الباطني عن الأحزاب الشمولية لا تكتمل إلا بوجود هؤلاء الأعداء. فعند الشيوعيين مثلا، العدو الموضوعي هي البرجوازية حيث تم تصفيتها أو قتل من ينتمي إليها، وعند النازيين كان اليهود أهدافا موضوعيين ثم البولنديين و هكذا..

3ـ البوليس.
البوليس في الدولة الديكتاتورية لديه الكثير من الاستقلالية، من حيث امتلاكه لمعلومات سرية وتحقيقات خاصة به. البوليس في الدولة الشمولية يخضع بشكل كامل إلى الزعيم، ويمكن في أي لحظة أن يذهب ضحية هذا الزعيم. التشابه بين البوليس السري الاستبدادي و البوليس السري في نظام شمولي يكمن في أن كليهما يستغلان ماليا وضع الحزب ويستفيدان من حالة الفساد القائمة.

4ـ المعسكرات.
ظاهرة المعسكرات ستصبح رمزا لا يمكن محيه من تاريخ الإرهاب والرعب في الأنظمة الشمولية. ففي المعسكرات كل شيء ممكن ،ليس هناك حدود للقمع والإرهاب. ولكن الظاهرة الغالبة لهذه المعسكرات ليس فقط التعذيب والاضطهاد بحد ذاته، بل لأنه في داخل هذه المعسكرات البشر يفقدون شخصيتهم، وهذا عمليا هو جوهر الشمولية نفسه، فلا شخصية لأحد. ففي مفهوم الإيديولوجيا الشمولية كل شخصية تظهر من خلال بعض المبادرات الفردية ستكون إنكارا للإيديولوجية التي تؤسس النظام الشمولي، لذلك تصفية جميع الشخصيات هو من صلب هذه الإيديولوجية التي لا تميز مذنبا عن بريئا. وقد وجد هذه الأنواع من التصفيات في الأنظمة الشيوعية كما النازية.

في النهاية نستطيع القول أن الرعب الشمولي ينجح في القضاء على كل القرار الصادرة عن الضمير وعن الوعي. فهو يقتل بشكل متعاقب متتال، الشخصية القانونية،الشخصية الأخلاقية، والشخصية الفردية. وعندما يدمر هذه الشخصيات الثلاث فينا، الفرد لن يبادر بأي شيء، فهو ليس إلا “كلبا من كلاب بافلوف”. إذا هو شطب جذري للشخصية ونهائي للإنسان.

نلتقي في الجزء الثاني من الفكر السياسي الغربي

[1]- Yves GUCHET, « La pensée politique » (الفكر السياسي), éd. Armand Colain, Paris, 1992, الصفحة 6-7 .
1ـ صلاح نيّوف، ” المسيحية وعلم السياسة”، مجلة عالم الغد،العدد 13 خريف 2007،تصدر عن المركز الأكاديمي للدراسات الإعلامية وتواصل الثقافات، فيينا.

[3] – Dimitri Georges Lavroff, « Les grandes étapes de la pensée politique » (المراحل الكبرى للفكر السياسي) , éd. Dalloz, Paris, 1999, الصفحة 28 ـ32
ـ من كتاب “السياسيّ”، المدخل، صفحة [ ل: 11]. ويمكن العودة إلى المرجع السابق “المراحل الكبرى للتفكير السياسي”، صفحة 34.[4]

، المرجع السابق، صفحة 35. Dimitri Georges Lavroff ـ [5]

ـ أفلاطون،”الجمهورية”،الكتاب السابع، الفصل السادس.[6]

[7] ـ أهم الأعمال حول فكر أفلاطون : 1ـ ” الأعمال الكاملة لأفلاطون”،مجموعة من الباحثين،صادر عن جامعات فرنسية،بالفرنسية، باريس.2ـ”أعمال أفلاطون”، الجزء الثاني، صادر عن دار نشر “Gallimard”،باريس،(بالفرنسية).3ـ “الفكر السياسي عند أفلاطون”،لوسيني،باريس، PUF،1970. 4ـ ” بؤس التاريخانية”، كارل بوبر، باريس، دار نشر Plon، 1956، أيضا لنفس الكاتب”المجتمع المفتوح وأعداؤه”،باريس،دار نشر Seuil، 1979. 5ـ ” دراسات للفلسفة الأفلاطونية”، ليفي شتراوس، بالإنكليزية. 6ـ “تاريخ الفكر السياسي اليوناني”، سانكلير، باريس،دار نشر Payot، 1953.
ـ من كتاب “السياسة”، الكتاب الأول، الفصل الأول، الفقرة الثالثة.[8]

ـ من كتاب “السياسة” ، الكتاب الأول، الفصل الثاني، الفقرة 14.[9]

ـ ” السياسة”، الكتاب الأول،الفصل الثامن، الفقر 1.[10]

ـ للتوسع في قراءة “السلطة” عند أرسطو يمكن مراجعة الكتاب السابق ” المراحل الكبرى للفكر السياسي”، الصفحة 55 ـ77.[11]

ـ “السياسة”، الكتاب الثالث،الفصل الأول،الفقرة 12.[12]

ـ “السياسة” الكتاب الثالث، الفصل السادس، فقرة 1.[13]

ـ “السياسة” الكتاب الرابع،الفصل الأول،الفقرة 10.[14]

ـ “السياسة”، الكتاب الرابع،الفصل الأول،الفقرة 4.[15]

ـ “السياسة”، الكتاب الثالث،الفصل السادس، الفقرة 11.[16]

ـ “السياسة”،الكتاب الثالث، الفصل 11،الفقرة 19.[17]

[18] – George H. SABINE, A History of Political Theory, Chicago, 1973, chap. 18.

[19] – Philippe NEMO, Histoire des idées politiques aux Temps modernes et contemporains, puf, Paris, 2003, P. 39.
1 ـ للإطلاع بشكل أكبر على “الاستبدادية” في فرنسا يمكن مراجعة كتاب: فرنسوا أوليفيه مارتان، “الاستبدادية الفرنسية”، بالفرنسية،صدر في عام 1951 و أعيد طبعه في عام 1997 في باريس.

ـ بيير ميسنارد،”ازدهار الفلسفة السياسية في القرن السادس عشر”،بالفرنسية، كتاب طبع في عام 1935، وأعيد طبعه في عام 1977 في باريس.[21]

[22]- Philippe NEMO, Histoire des idées politiques , مرجع سابق، الصفحة 47.

[23] – « Le prince », XV, p. 335.

[24] – in « The Foundation of Moderne Political Thought », Volume two, The Age of Reformation, Cambridge University Press, 1978.

[25] ـ انظر كتاب Yves Charles Zarka، ” جان بودان : طبيعة،تاريخ،قانون وسياسة”، صادر بالفرنسية، دار نشر PUF،1996، الصفحة 233ـ244. أيضا انظر Julian H.Franklin ،” جان بودان و ولادة نظرية الحكم المطلق”، صادر بالإنكليزية عام 1973.
[26] ـ انظر، توماس هوبز” كتاب التنين”، صادر عن دار نشرSirey ، باريس،،بالإنكليزية والفرنسية ،1971.

[27] ـ من مقدمة كتابه De Cive ” المواطن” باللاتينية، الصفحة 124.

[28] ـ المرجع السابق، الصفحة 125.

[29] ـ الجزء الثاني من “التنين”، الفصل 17، الصفحة 173.

[30] ـ هذا التعبير ” من Gerson إلى Grotius “، يظهر في الواقع ضمن عنوان لكتاب John V. Figgis ” Studies of Political Thought from Gerson to Grotius” ،لندن، 1907. أما ” Gerson” ( 1363 ـ 1405) فهو واحد من أهم المنظرين “للتصالحية”، و “Grotius” (1583 ـ1645) فهو من الكتاب الهولنديين الأوائل الذين أسسوا لنظرية القانون الطبيعي المتعارض مع الدولة كما سنرى ذلك في مراحل متقدمة من الكتاب.

[31] ـ ” Constance”: هو مجلس استشاري (1414 ـ 1418)، ثبت الأفكار التصالحية. و عام “1688”: هو تاريخ الثورة الإنكليزية الثانية التي أدت لإيجاد أو تأسيس نظام دستوري.

[32] ـ ولد في عام 1468 وتوفي في عام 1550. حصل على دبلوم في علم اللاهوت من جامعة السوربون في عام 1506. علم فيها حتى عام 1518،حيث عاد إلى اسكتلندا للتعليم في غلاسكو.

[33] ـ ( 1480ـ1515). دكتور في علم اللاهوت. رد على العديد من الأطروحات التي كانت ضد التصالحية.

[34] – Marjorie Grice – HUTCHINSON, « The School of Salamanca : Reading in Spanich Monetary Theory 1544-1605, ( 1950); early Economic Thought in Spain: 1177-1740, (1978); Economic Thought in Spain, selected essays edited with an introduction by Laurence S. Moss and Christopher K. Ryan, Edward Elgar, Aldershot, Vermont, 1993.

[35] ـ انظر، فرنسوا هوتمان، ” التخبط الفرنسي”، صادر بالفرنسية، مجموعة من الأعمال الفرنسية تمت مراجعتها من قبل Christiane Frémont، وصدر عن دار نشر Fayard، باريس 1991. انظر أيضا، تيودور بيز،” قانون القضاة”،بالفرنسية، نشر وتعقيب Robert M. Kingdon، أيضا في نفس الكتاب: انظر بحث “كلاسيكيات الفكر السياسي”، صادر بالفرنسية، جنيف، مكتبة Droz، 1970.

[36] ـ يمكن العودة هنا ومن أجل قراءة تاريخ بريطانيا بشكل أوسع إلى : رولان ماركس،”تاريخ بريطانيا العظمى”،باريس دار نشر Armand Colin، 1980، و لنفس الكاتب ” إنكلترا الثورات”، نفس دار النشر، 1971. انظر أيضا، Barry Coward , and Chris Durston، « The English revolution », London, 1997.
[37] ـ من نص كتبه David Wootton تحت عنوان ” Divine Right and Democracy”، الصفحة 168ـ171.

[38] ـ انظر: رينيه دافيد، ” le droit anglais”، بالفرنسية، مجموعة من الكتّاب، دار نشر PUF، الطبعة التاسعة، 2001.

[39] ـ انظر ، George H. sabine and Thomas L. Thorson, « A history of Political Theory », Winston, 1973, p.418.

[40] ـ انظر، Wootton،” Divine Right and Democracy”، مرجع سابق ،الصفحة 283ـ285.

[41] – F. A. Hayek , « New Studies in Philosophy, Politics, Economics and the History of Ideas », London and Henley, Routledge & Kegan Paul, 1978, p. 260-261.
[42] ـ صدر هذا الكتاب عن دار النشر الفرنسية “هاشيت” في عام 1989.

[43] – George H. Sabine, « A History of Political Theory », op. cit., p.558.
[44] ـ انظر، Thomas Kuhan،” بنية الثورات العلمية”، صادر في باريس عن دار نشر “Flammarion”، 1983.