دراسة وبحث قانوني هام عن مصادر القاعدة الدستورية

مقدمة

تعتبر المصادر ذات أهمية بالغة في النظرية العامة للقانون لأنها منبع القواعد القانونية فالمقصود بالصدر لغة هو المكان الذي ظهر فيه الشيء بعد أن كان خفيا .
أما في موضوعنا فالمقصود بالمصدر فهو المصدر الرسمي الذي تستمد منها القاعدة الدستورية مبادئها.
أيضا كما هو معلوم عند الجميع أن الدساتير تختلف من حيث الشكل من دولة لأخرى حسب نظام الحكم فيها فهناك بعض الدول تستعمل الدساتير العرفية و التي هي دساتير مكتوبة تنشأ عن طريق العرف نتيجة إتباع لمدة طويلة بحيث تصبح ملزمة بالنسبة لهذه السلطات أما البعض الآخر من الدول أو بالأحرى أغلب الدول فهي تستعمل الدساتير المدونة و التي هي عبارة عن دساتير مكتوبة في وثيقة أو عدة وثائق معينة تتضمن المبادئ و القواعد التي تنظم السلطات العامة في الدولة فما هي إذن مصادر القاعدة الدستورية في الدول ذات الدساتير العرفية و في الدول ذات الدساتير المكتوبة ؟

المبحث الأول : مصادر القاعدة الدستورية ي الدول ذات الدساتير العرفية

المطلب الأول : القواعد العرفية

تعتبر القواعد العرفية من أقدم المصادر القانونية لكنها بدأت تتلاشى مع بداية ظهور الدساتير الحديثة في القرن 18 إلى أن حل محله التشريع و لكي تنشأ القواعد العرفية يلزم توافر ركنين أولهما مادي يتمثل في عنصر الاعتياد الذي تسير عليه الهيئات القائمة في الدولة وثانيهما ركن معنوي أي قيام العقيدة في ضمير الجماعة في إلزام هذه العادة و أن تكون واجبة الاحترام و الإتباع. و لكي ستنشأ الركن المادي يلزم توافر عدة شروط هي :
· أن يكون الإجراء الصادر عن السلطة العامة يستصغا بالتكرار
· أن يتصف الإجراء المتكرر بالعمومية بحيث تلجأ إلى استخدامه كل سلطة عامة معينة به
· أن يكون ثابت لا ينقطع عن التكرار
· أن يكون واضح لا يحمل صفة الإبهام و الغموض.
أما الركن المعنوي فيتحقق حينما يتوافر الاعتقاد بإلزام العادة و في وجود إتباعها على أساس أنها قاعدة قانونية جديرة بالاحترام، إلا أن الاختلاف قد ثار بين الفقهاء في شأن تحديد من الذي يجب أن ينشأ لديه الاعتقاد في التزام السلوك أو التصرف حتى تنشأ عنه قاعدة دستورية واجبة الإتباع فذهب البعض إلى أنه من الضروري أن ينشأ الاعتقاد بإلزام القاعدة لدى الهيئات الحاكمة التي صدر عنها التصرف.
في حين أن رأيا آخر ذهب إلى أنه لا يكفي الاعتقاد بالصفة الإلزامية من جهة السلطة العامة بل يجب فوق ذلك أن يستقر في ضمير الشعب و الرأي العام حتى يمكن للقاعدة أن تنشأ من الناحية القانونية .

المطلب الثاني : القواعد الدستورية المدونة في وثائق رسمية مختلفة

و تعتبر المصدر الثاني للقواعد الدستورية و هي تلك القواعد التي تتناول الحقوق و الحريات والفصل بين السلطات هذه القواعد لا تؤثر في الدولة ذات الدستور العرفي كونها مكتوبة لأن الأصل هو القواعد العرفية فإذا قلنا مثلا أن الدستور الإنجليزي عرفي فهذا لا يعني انعدام القواعد الدستورية المكتوبة ذلك أن ظهورها هي الأخرى يعود إلى العصور القديمة حيث كانت وثيقة العهد الأعظم التي انتزعها البارونات من الملك جان سانتير سنة 1215 هي الأول و التي تعهد فيها بعملية التدخل في عملية انتخاب رجال الكنيسة و احترام حرية إنشائها والتعهد بالامتناع عن فرض أية ضرائب جديدة دون موافقة المجلس الكبير هذا الى جانب ملتمس الحقوق الصادر سنة 1628 و قانون الحقوق لسنة 1639 و قانون توارث العرش الصادر في سنة 1781 و قانون البرلمان لسنتي 1911- 1949 اللذين تم بموجبهما إبعاد مجلس اللوردات من النظر في المسائل المالية و اقتصار ذلك الاختصاص على مجلس العموم و أخيرا قانون 1959 الذي يسمح للنساء الدخول إلى مجلس اللوردات.

المطلب الثالث : أمثلة للقواعد الدستورية العرفية

يكاد يكون الدستور الإنجليزي هو الدستور الوحيد المطبق حاليا الذي يسير إليه الفقه كمثال للدستور العرفي و يتضمن قواعد تتعلق بالسلطات العامة في الدولة و بالعلاقة فيما بينها، و من ضمن القواعد العرفية المتعلقة بالسلطة التنفيذية يمكن ذكر قاعدة أن الملك يستعمل سلطاته بواسطة وزرائه و أنه ملزم عند استخدام اختصاصاته الدستورية بتعيين رئيس الوزراء أن يعين في هذا المنصب رئيس الحزب الفائز بأغلبية المقاعد و هناك أيضا القواعد العرفية التي توجب أن يكون أعضاء الوزارة أعضاء في أحد مجالس البرلمان وأن يكون اختيارهم من بين أعضاء الحزب الفائز في الانتخابات البرلمانية أما عن السلطة التشريعية فهناك قواعد عرفية عديدة تتعلق بها تلك التي تحتم تمثيل الأحزاب السياسية في اللجان البرلمانية بنسبة تمثيلها في مجلس العموم و أن الحكومة هي التي تقوم بإعداد مشروع ميزانية الدولة و أن الحكومة و تقدمه إلى مجلس العموم و أنه من غير المسموح به لأعضاء مجلس اللوردات الذين لا يشتغلون مناصب قضائية بحضور جلسات الأخير و ذلك في حالة انعقاده بهيئة محكمة قضائية عليا .

المبحث الثاني : مصادر القاعدة الدستورية

مما لا شك فيه أن الدستور المكتوب هو الذي تكون قواعده الدستورية مدونة في وثائق فيختلف و يعد من أهم مميزات الدول الحديثة لماله من نفوذ واسع لدى المواطنين بدون هذه القواعد طرق وضع الدساتير باختلاف الدول و باختلاف درجة النضوج السياسي للشعب.

المطلب الأول : الوثيقة الدستورية (الدستور) :

يعد الدستور أهم منبع تستقي منه القاعدة الدستورية مادتها و تختلف نشأة الدساتير باختلاف أنظمة الحكم السائدة في الدول أثناء وضع الدستور فهناك طرق غير ديموقراطية كالمنحة أو العقد و طرق ديموقراطية مثل الجمعية التأسيسية و الاستفتاء.
الطرق غير الديموقراطية :

أ/ المنحة : فالمنحة كطريقة لوضع الوثيقة الدستورية ظهرت في العصر الملكي و يقصد بها استقلال الحاكم و تفرده في وضعها دون مشاركة الشعب بحيث يتنازل عن بعض سلطاته للشعب في صورة عقود و مواثيق و هذه هي الطريقة التي اتبعتها الملكية البربونية في دستور 4حزيران 1814 بعد فشل الثورة الفرنسية فقد نص هذا الدستور في مقدمته على أن الملك (بإرادته وممارسته الحرة السلطة الملكية تنازل و منح رعاياه المنحة الدستورية الآتية) و يتنازل الحاكم بهذه المنحة عندما يحس بأن الشعب لم يعد مستعدا للخضوع لنظام حكم مطلق بصفة إثراء ذلك و حفظا لكرامته و ضمانا لاستمراره في كرسي السلطة .
و له
أن يسترده متى شاء مثل ما فعل شارل العاشر في سنة 1830 حيث ألغى الدستور الذي صدر في شكل منحة عام 1814 لدرجة أن الشعب الفرنسي أظهر نكرانا للجميل و جحود المنحة .

ب/ أسلوب العقد : و هي طريقة وسط بين طريقة المنحة و الطرق الديموقراطية فالدستور هنا يوضع نتيجة لتقابل ارادتين الحاكم و الشعب فلا ينفرد الحاكم بوضعه بل يوضع من قبل جمعية منتخبة ثم يعرض على الملك الذي يضطر إلى الموافقة عليه تحت
الضغط الشعبي و ما عليه إلا الخضوع و الإذعان ، السلطة فيه ليست موزعة بالتساوي بين الطرفين فإرادة الملك كطرق تكون ضعيفة و مقيدة و من الأمثلة على هذا الأسلوب الأول سنة 1791 فالجمعية التأسيسية التي و ضعته وعرضته على قبول الملك (الذي كان مكرها على قبوله).

الطرق الديمقراطية :

أ/ الجمعية التأسيسية : ظهر هذا الأسلوب في الولايات المتحدة ثم في فرنسا ثم انتشر بعد الحب العالمية الثانية و يعتبر تطبيق الديموقراطية النيابية في مجال وضع القوانين حيث يقوم الشعب بانتخاب هيئة تقوم نيابة عنه بوضع الدستور بحيث ينظر إلى هذا الأخير و كأنه صدر عن الشعب و تنقضي بانتهاء و ضعه إلا إذا نص الدستور على تحولها لسلطة تشريعية و قد صدر الدستور الأمريكي المركزي بهذا الأسلوب .

ب/ الاستفتاء : و يعتبر تطبيقا للديموقراطية المباشرة حيث يختار الشعب دستوره بنفسه فالدستور أيا كانت الهيئة التي تضعه لا يكون نافذا إلا بعد عرضه على الشعب في استفتاء عام و مرافقة هذا الأخير عليه و هذا الأسلوب يسمح للشعب بممارسة سيادته الدستورية بنفسه لا عن طريق النواب و يمكن أن يكون الاستفتاء سياسيا إذا كان الغرض منه هو أخذ رأي الشعب في أمر من أمور الحكم (خطة سياسية) و لكن أن يكون دستوريا إذا كان الغرض منه أخذ رأي الشعب بشأن تشريع دستوري (وضع أو تعديل نصوص).
مثال هذا الأسلوب الدساتير الجزائرية و دستور إيطاليا 1848 .
يعد العرف المفسر جزء من القاعدة الدستورية المكتوبة إذا قله فوق النصوص المفسرة سواء كان جامدا أو مرنا، أما العرف المكمل و المعدل لأنهما يشتركان في إضافة بعض الاحكام اختلف الفقهاء في تحديد مرتبة كل منهما بالنسبة للقواعد الدستورية فالبعض يري أن لهما نفس القوة من الناحية القانونية مع القانون العادي لأنهما عبارة عن النية الصريحة للمشرع على قرار النية الصريحة المتماثلة في القانون العادي .

المطلب الثاني : القوانين الأساسية

تعرف بالقوانين العضوية la loi organique و هي أدنى درجة من الدستور تختلف عن القوانين العادية في إجراءات وضعها المعقدة فعند وضعها يجب موافقة الأغلبية ثم تمر على الرقابة الدستورية لدى المجلس الدستوري لمراقبة مدى مطابقتها للدستور مثلا الدستور الفرنسي لسنة 1958 تضمن العديد من الأمور المندرجة ضمن القانون الأساسي مكانتها بالنسبة للدستور و القوانين العادية حسب الدساتير، فإذا كانت الدساتير مرنة تكون لها نفس المرتبة مع الدستور نظرا لأن هذا الأخير لا يتطلب إجراءات خاصة في تعديله و السلطة التي تتولى ذلك هي ذات السلطة التي تسن القوانين الاساسية و نجد ذلك غالبا في القواعد الدستورية العرفية نظرا لمرونتها و إجراء تعديلها و أما إذا كان الدستور ملزم بجميع السلطات في الدولة وبالتالي كل القوانين يجب أن تخضع له و تحترمه فالدستور في المرتبة الأولى أما القوانين العضوية فتأتي في المرتبة الثانية قبل العادية التي تحتل المرتبة الثالثة .

المطلب الثالث : العرف الدستوري و أنواعه

و يعد من بين مصادر القاعدة الدستورية فللعرف الدستوري قواعد دستورية مستقرة ومطردة التطبيق من قبل السلطات العامة في الدولة و التي أصبحت مرفوقة بعنصر الإلزام له أهمية كبيرة في الحياة الدستورية و إما يكون العرف مفسر أو مكمِل أو معدل.
أ/ العرف المفسر : و هو الذي يفسر نص من نصوص الدستور فدوره ليس إنشاء أو تعديل قاعدة دستورية لا يجوز في النصوص الواضحة بل في الغامضة منها التي تحمل عدة معاني و هنا هو جزء من الدستور لا يكتسب صفة الإلزام

ب/ العرف المكمل : و هو الذي يسد الفراغ الموجود في الدستور و لا يستند على نص دستوري في ظهوره و مثال ذلك نص دستور 1875 على أن الانتخاب يتم على أساس الاقتراع العام دون تحديد أوضاع هذا الانتخاب فكمله العرف بأن جعله على درجة واحدة .

ج/ العرف المعدل : و يقصد به مجموع القواعد العرفية التي تعدل أحكام الدستور بالإضافة أو الحذف و مثال التعديل بالاضافة زيادة سلطات الحكومات المركزية على حساب السلطات المحلية في الاتحادات الفدرالية ، وأن يتولى رئاسة الدولة في لبنان ماروني و الوزارة سني والبرلمان شيعي رغم أن الدستور لم ينص على الطائفية أما التعديل بالحذف فمثال ذلك ما وقع في فرنسا 1962/1969 أين قدم رئيس الجمهورية مشروعين للتعديل الدستور دون عرضهما على المجلس مع أن هناك نصوص صريحة خاصة بكيفية تعديل الدستور .

الخاتمة

بعد أن تطرقنا لمصادر القاعدة الدستورية في الدول ذات الدساتير العرفية و الدول ذات الدساتير المكتوبة نرى أنه لا وجود لدستور عرفي بالكامل اليوم فعلى سبيل المثال إنجلترا بالرغم من أن دستورها يعتبر عرفيا إلا ان هناك لديها وثائق رسمية دستورية مكتوبة ومن هنا يمكننا أن نعتبر هذا التقسيم نسبي ، و إذا أخذنا به قصد معرفة العنصر الغالب فيه أهو مدون أم عرفي كما أن الملاحظة تبين أن الدستور المدون يتميز أكثر بالدقة و الوضوح.