ضوابط التوصيف الجنائي
أ. د. محمد جبر الألفي
للتوصيف الجنائي ضوابط تجب مراعاتها، وهي – في مجملها – ثمانية:

1- أن يكون الحكم الشرعي المراد تطبيقه محددًا ومؤصلاً: فعلى القاضي أو المحقق أن يميز الحكم واجب التطبيق من الأحكام المشابهة له أو المتداخلة معه، ثم يتحقق من توافر شروط تطبيقه وعدم طروء مانع أو سبب للإعفاء من المسؤولية.

2- أن يكون الحكم الشرعي المراد تطبيقه مفهومًا ظاهر المعنى وليس واردًا في عبارات تحتاج إلى تفسير وبيان.

3- أن تكون الواقعة الجنائية مؤثرة في موضوع الاتهام: وذلك بتحليل عناصرها ومقابلتها بالحكم الشرعي حتى تكون صالحة للتوصيف.

4- ثبوت الواقعة بالبينات المقررة شرعًا: من إقرار وشهادة ويمين وقرائن قاطعة وغير ذلك مما يدل على ثبوت التهمة.

5- وضوح الواقعة الجنائية وبيانها: حتى تكون مفهومة للقاضي أو المحقق فيمكنه توصيفها بتنزيل أوصاف الحكم الشرعي عليها.

6- أن يكون التوصيف ملاقيًا للدعوى الجنائية: بمعنى أن الواقعة الجنائية إذا تم توصيفها بأنها تدخل في باب الحدود فيكفي ملاقاتها للبينات القضائية.

7- اشتراك الواقعة الجنائية مع الحكم الشرعي في الأوصاف المؤثرة: لأن التوصيف القضائي لا يكون صحيحًا إلا بانطباق الأوصاف المؤثرة المقررة في الحكم الشرعي على الأوصاف المؤثرة المقررة في الواقعة الجنائية.

8- مراعاة أصول التوصيف: فلا ينظر المحقق أو القاضي إلى الأحكام الكلية مجردة عن أحوال الوقائع وملابساتها وآثارها، حتى لا ينساق وراء أمر قد يظهر له من دون تبصر في عواقبه، ولا نظر إلى باطنه وقرائن أحواله، ومعرفة قبول الواقعة الجنائية المنظورة لديه للحكم الشرعي وملاءمته لها.

أركان التوصيف الجنائي

للتوصيف الجنائي الصحيح ثلاثة أركان: الحكم الكلي محددًا ومؤصلاً ومفسرًا، الواقعة الجنائية منقحة ومثبتة ومفسرة، أصول التوصيف الجنائي (قواعد الملاءمة).

الركن الأول: الحكم الشرعي الكلي:

يجب على القاضي أو المحقق معرفة الأحكام – وضعًا وتكليفًا- حتى يمكنه أن يطبق الحكم على الواقعة الجنائية.

والحكم – عند الفقهاء – هو: مقتضى خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييرًا أو وضعًا. ففي قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ﴾ [المائدة: 33]: الحكم هو مقتضى خطاب الشرع من الوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة، وكون الشيء سببًا أو شرطًا أو مانعًا لشيء آخر.

أما خطاب الشرع نفسه – الذي قررته الآية – فهو دليل الحكم، والدليل الذي أثبته.

والحكم الشرعي عام ومجرد: فعموم الحكم يعني أنه موضوع لكل الأشخاص والأزمان والوقائع التي تندرج تحته. وتجريد الحكم يعني افتراض الحكم عند تقريره منزلاً في الأذهان مجردًا عن الأشخاص والأعيان بذواتهم، ولهذا قيل: إن المجرد يوجد خارج نطاق الزمن ويكون في مجال الممكن، حتى إذا أدخل في النطاق الزمني انتقل من مجال الممكن الوقوع إلى مجال الواقع المحقق، فالزمن هو الذي يجد المجرد ويحققه في الواقع.

وأحكام الشرع التكليفية – إثباتًا أو نفيًا – تعرف بالسبب والشرط والمانع، وقد نصبها الشارع علامات للدلالة على حكمه وبيان هذا الحكم والإعلام بوجوده.

الركن الثاني: الواقعة الجنائية:

هي الحدث النازل الذي يستدعي حكمًا فقهيًا كليًا، سواء كان هذا الحدث قولاً أو فعلاً، كالزنى والقذف والحرابة، وسواء أكان حقًا لله تعالى كحد الزنى والحرابة، أم كان حقًا للعبد كبدل المتلفات، أم كان مشتركًا بين حق الله وحق العبد كحد القذف.

والواقعة الجنائية هي المحل الذي يعمل فيه الحكم الكلي، فهي التي تحرك الحكم الكلي الفقهي من عمومه وتجريده لينزل على الواقعة فيشخصها.. ويوصفها.

ولا يتحقق تأثير الواقعة الجنائية في الحكم القضائي إلا إذا توافرت فيها الشروط الآتية:

1- أن تتحقق فيها الأوصاف الشرعية المقررة فقهًا في الحكم (السبب – الشرط – عدم المانع).

2- أن تكون معتدًا بها شرعًا، فلا يجوز المطالبة بمبلغ من المال في مقابل عدم التبليغ عن واقعة الزنى أو القذف.

3- أن تكون الواقعة محررة وغير مجهولة، بأن تكون محددة وموصوفة ومعرفًا بها تعريفًا ينافي الجهالة والشك والاحتمال.

4- أن تكون الواقعة ممكنة الوقوع، منفكة عما يكذبها حسًّا وشرعًا وعرفًا وعقلاً، فلا تكون الواقعة الجنائية مؤثرة إذا اتُهم شخص بالزنى في حين أنه مجبوب.

5- التحقق من وجود الواقعة الجنائية المؤثرة بوسائل الإثبات المقررة شرعًا من إقرار أو شهادة أو قرائن.

الركن الثالث: أصول التوصيف الجنائي:

يُراد بها القواعد والضوابط التي تعين المحقق أو القاضي على تعيين الحكم الشرعي وتأصيله وتفسيره وتوصيف النازلة الجنائية به، مراعيًا خصوصية كل واقعة وما يخف بها من أحوال ومقتضيات قد تؤثر في ضبط التوصيف وتقريره. وقد حصرها معالي الشيخ عبدالله آل خنين في خمسة أصول:

1- مراعاة مآلات الوقائع عند التوصيف: فالمحقق أو القاضي – وهو يوصف الواقعة الجنائية – عليه أن يقدر عواقب ما يقرره بالنظر إلى الآثار التي تترتب عليه في حدود ما شهد له الشرع طلبًا أو منعًا بإعمال سد الذرائع ومنع الحيل وإجراء الاستحسان والاستصلاح.

2- مراعاة مقصد الشرع وحكمة التشريع عند التوصيف: فهي تعين المحقق أو القاضي على تحديد التوصيف ابتداء، كما ترجح بعضها على بعض في ضوء خصوصية الواقعة الجنائية بأحوالها وظروفها وملابساتها، ذلك أن المنافع والمضار أمور إضافية في حال دون حال، ولشخص دون شخص، وفي وقت دون وقت، فمراعاة مقاصد الشرع وحكمته في الواقعة الجنائية تعين على تحديد التوصيف الصحيح الملاقي لها.

3- مراعاة الفروق بين الوقائع والأشخاص عند التوصيف: فينظر المحقق أو القاضي عند التوصيف إلى خصوصيات الوقائع والأشخاص وما فيهما من فروق مؤثرة وأوصاف مقررة. روى سعيد بن سعد بن عبادة قال: «كان في أبياتنا رويجل ضعيف فخبث بأمة من إمائهم، فذكر ذلك سعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: اضربوه حده، فقالوا: يا رسول الله إنه أضعف من ذلك، فقال: خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ ثم اضربوه به ضربة واحدة، ففعلوا». لكن مراعاة هذه الفروق إنما تكون إذا انضبطت بأمر ظاهر يذكره القاضي في تسبيب حكمه.

4- مراعاة الضرورات والحاجات عند التوصيف: فقد اهتم الفقهاء بالضرورة والحاجة عند تنزيل الأحكام الكلية على الوقائع الجزئية، وأجازوا العدول عن القول الراجح إلى القول المرجوح في مواجهة الحاجة أو الضرورة – بشروط وضوابط -، فعلى القاضي أو المحقق أن يبين في أسباب توصيفه مستنده الشرعي ومسوغات مراعاته للضرورات والحاجات.

5- مراعاة درء الحدود بالشبهات عند التوصيف: وهذا أمر مجمع عليه بين الفقهاء، وينبغي أن يأخذ به المحقق أو القاضي وهو في سبيل توصيف الواقعة الجنائية بشرط أن تكون الشبهة ناشئة عن حكم شرعي، كسرقة الأب من مال ابنه، وكمن وطئ امرأة أجنبية يظنها زوجته، ونحو ذلك.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت