يجب ابتداء أن نتذكر حقيقة ارتباط الغبن بالإرادة وسلطانها على مر العصور. الأمر الذي أدى إلى الاهتمام بهذا الموضوع أو زيادة الاهتمام به أحياناً وانحسار ذلك الاهتمام أو انكماشه أحياناً أخرى. وذلك تبعاً لاهتمام المشرع نفسه بالفلسفة السائدة في مجتمعه عند وضعه القواعد القانونية التي تنظم سلوك الأشخاص فيه. وعلى ذلك نجد أنه كلما كانت النزعة الفردية هي السائدة كلما قلت مساحة الاهتمام بالغبن وانحسر في حالات معينه على سبيل الاستثناء لأن تلك النزعة تقوم على احترام بل تقديس مبدأ سلطان الإرادة وهذا هو الاتجاه المادي الذي ينظر إلى الغبن على أنه عيب في ذات العقد يحدث نتيجة اختلال القيم المادية لالتزامات . أطرافه اختلالاً يتجاوز الحدود المسموح بها(1)

أما إذا سادت النزعة الاجتماعية توسعت دائرة اهتمام القانون بالغبن وكنا أمام الاتجاه الشخصي الذي لا ينظر إلى الالتزامات المتبادلة من خلال قيمتها المادية بل من خلال قيمتها الشخصية لدى المتعاقد وعليه فإن الغبن بموجب هذا الاتجاه هو عيب من عيوب الرضا( 2).أو بعبارة أدق هو مظهر من مظاهر تلك العيوب(3).إذ أنه لا يحدث إلاَ إذا كان المتعاقد المغبون قد وقع في غلط أو أكراه أو تغرير(تدليس)مارسه عليه العاقد الأخر أو أن هذا الأخير قد أستغل حاجة للأول أو طيشاً أو رعونة أو هوى في نفسه أدى إلى هذا الإخلال غير المسموح به في العقد.

والقوانين المدنية عموماً بين هذا وذاك. فالقانون الفرنسي مثلاً جاء متأثراً بعاملين مهمين مشبعين بالروح الفردية هما القانون الروماني و مبادئ الثورة الفرنسية. فالرومان أهملوا الغبن فترة طويلة ولم يهتموا به إلاَ بعد أن تأثروا بآراء الكنيسة الداعية إلى العدالة وحماية الضعيف في مواجهة القوي. فحددوا بناء على ذلك أثمان السلع وحرموا الربا في عقود القرض. ثم جاءت الثورة الفرنسية لتقوض محاولات التوسع في تحريم الغبن. فألغت الغبن في بيع العقار ومنعت تعيين حد أقصى للفائدة نتيجة للروح الفردية التي قامت عليها ومن أجلها.

وبذلك تبنى القانون المدني الفرنسي الاتجاه المادي في الغبن فقد جاء نص المادة( ١١١٨ )منه مؤكدا أن[الغبن لا يعيب الاتفاقات إلاَ في عقود معينة وبالنسبة إلى أشخاص معينين]وعلى الرغم من أن هذه المادة قد وردت في باب عيوب الرضا مما قد يوحي بأن المشرع الفرنسي قد أعتبر الغبن عيباً من تلك العيوب. إلاَ أن نصها المشار إليه لا يدع مجالاً للشك في أن القانون المدني الفرنسي يقيم بطلان العقد للغبن على عدم التعادل بين العوضين يضاف إلى ذلك أن المادة( ١٦٧٤ )من ذلك القانون قد أجازت أبطال بيع العقار بسبب الغبن إذا تجاوزت نسبته سبعة أجزاء من أثنى عشر جزء من قيمته الحقيقية على أن يكون المغبون هو البائع وليس المشتري. وهذا دليل أخر على تبني الاتجاه المادي في الغبن باعتباره عيباً في العقد لا في الرضا. إذ لو كان عيباً في الرضا لكان بإمكان المشتري أن يطلب إبطال العقد أسوة بالبائع إذا تحقق الغبن في جانبه بأن أشترى العقار بأكثر من قيمته الحقيقية وقت العقد(4). ويتحقق الغبن في القسمة أيضا بموجب المادة( ١٠٧٨ )من القانون ذاته أن زادت نسبته عن الربع وهكذا فإن الغبن لا يعتد به إلاَ في عقود معينة ولأشخاص معينين وهذا هو الاتجاه المادي بعينه.

__________________

1- د .سليمان مرقص و د .محمد علي أمام عقد البيع مطبعة النهضة مصر ١٩٥٥ م ص ١٦٦ .

2- د .محمد وحید الدین سوار النظریة العامة للالتزامات ج ١ مصادر الالتزام ط ٧ جامعة دمشق ١٩٩٢ ،ص ١١٤ وما بعدھا.

3- د .عبد الرزاق السنهوري الوسیط في شرح القانون المدني ج ١ مصادر الالتزام دار احیاء التراث العربي بیروت بدون سنة طبع ص ٣٥٨

4- د .سلیمان مرقص ومحمد علي أمام عقد البیع مصدر سابق ص ١٦٩

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .