أبحاث قانونية في حصانة الدفاع وجرائم الجلسات ومسؤولية القاضي

مقال حول: أبحاث قانونية في حصانة الدفاع وجرائم الجلسات ومسؤولية القاضي

بقلم ذ خالد خالص

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

أستاذ باحث
أصدر قاض بالمحكمة الابتدائية بتطوان بتاريخ 3 مارس 2016 حكما “باسم جلالة الملك وطبقا للقانون ” بطرد محام من القاعة بعلة أن هذا الأخير

“رفع صوته محتجا على الأسئلة التي تطرح على الشاهد”.

وحسب تصريحات المحامي المدلى بها، بمناسبة وقفة احتجاجية نظمتها هيئة المحامين بتطوان، بناء على المادة 29 من الدستور المغربي، فإن الطرد تم بينما كان هذا الأخير يقوم بمهامه إلى جانب موكله وكان القاضي يكرر نفس السؤال الموجه إلى الشاهد ثلاث مرات ويرهب هذا الأخير ويهدده بإرساله للسجن، بهدف تغيير شهادته التي جاءت متناسقة، والكل محاباة للمدعي فطلب المحامي من المحكمة توضيح الأسباب التي جعلتها تعيد طرح نفس السؤال مرات متعددة الأمر الذي لم يستسغه القاضي الذي أصدر الحكم المشار إليه أعلاه بناء على المادة 43 من قانون المسطرة المدنية وعلله بأن المحامي رفع صوته على المحكمة

وبغض النظر على ما ستؤول إليه النازلة من اعتذار وصلح كما يطالب بذلك البعض أو من عرض القاضي على المجلس الأعلى للسلطة القضائية كمجلس تأديبي احتكاما للقانون، كما سنأتي على شرح ذلك في ما بعد، فإننا وجدنا في هذه الواقعة مناسبة للوقوف قليلا على حصانة الدفاع وربطها بجرائم الجلسات وبمسؤولية القاضي

وقبل تناول الموضوع بالدرس، أعتقد بأنه لا أحد ينازع في كون ترأس الجلسات وتسييرها وسلطة حفظ نظامها يرجع للقضاة. إلا أنه يتعين على من يترأس الجلسات ، تسييرها بكامل الرزانة والهدوء والتحلي بالصبر والأناة، محافظين على وقار الجلسة، ومفسحين المجال للأطراف للدفاع عن مصالحهم دون المساس بحرمة المحكمة

والمسؤولية بالنسبة لمن يمارس المهام القضائية ليست بالهينة باعتبارها مرتبطة بالمحاسبة إذ “يعد كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنيا جسيما بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة” طبقا للمادة 109 من الدستور. فهذا الفصل يجمع بين الخطأ المهني الجسيم الذي يحال مرتكبه على المجلس الأعلى للسلطة القضائية من أجل التأديب وبين الإمكانية المتاحة للمتضرر للجوء إلى القضاء الإداري للمطالبة بالتعويض أو حتى للقضاء الجنائي إذا كان الركن المعنوي أي القصد الجنائي متوفرا

وحتى يتمكن القاضي من القيام بمهامه بدون خوف، فإن الدستور المغربي وفر له حصانة قوية، لم يوفرها لغيره من أصحاب المهن القانونية الأخرى، وذلك بمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، وبمعاقبة كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة، وبمنع القاضي من تلقي أي أوامر أو تعليمات أو الخضوع لأي ضغط. كما أوجب على القاضي كلما أعتبر أن استقلاله مهدد إحالة الأمر على المجلس الأعلى للسلطة القضائية ولم يلزمه إلا بتطبيق القانون وبإصدار أحكام القضاء على أساس التطبيق العادل للقانون لا غير

ومن جهة أخرى فإن القاضي يقسم عند تعيينه لأول مرة في السلك القضائي وقبل شروعه في مهامه بأن يمارس مهامه بحياد وتجرد وإخلاص وتفان وأن يحافظ على صفات الوقار والكرامة وسر المداولات بما يحافظ على هيبة القضاء واستقلاله وعلى التزامه بتطبيق القانون وأن يسلك في ذلك مسلك القاضي النزيه. كما أكد المشرع على أن كل إخلال بالالتزامات الواردة في اليمين المذكورة يعتبر إخلال بالواجبات المهنية

والى جانب ما يفرضه عليه الدستور والقوانين التنظيمية وغيرها فإن القاضي يخضع إلى مدونة الأخلاق القضائية المتعارف عليها وطنيا ودوليا. وهكذا تنص المادة 44 من النظام الأساسي للقضاة على أن القاضي “يلتزم باحترام المبادئ والقواعد الواردة في مدونة الأخلاقيات القضائية كما يحرص على احترام تقاليد القضاء وأعرافه والمحافظة عليها”

وقد ألحت مدونة الأخلاق القضائية التي هيئها القضاة المغاربة سنة 2009 على وقار القاضي واعتبرته سمة ترفع من شأنه عليه التحلي بها لأنها تحث على الاتزان والتوازن

ولتحقيق ذلك أكدت المدونة أن على القاضي أن يكون ورعا، متزنا، يعطي الانطباع بالاطمئنان والركون إليه والثقة به كما أن عليه الحرص على تجنب اللوم والتجريح في سلوكه ويرسخ في هذا السلوك ثقة الناس في استقامة الجهاز القضائي ونزاهته. فسلوك القاضي صفة ملازمة له تقتضي منه الصبر والوقار وحسن الاستماع ودماثة الخلق

وأكدت مدونة القيم القضائية أيضا على مبدأ المساواة الذي يتجسد في حياد القاضي وحرصه على حسن سير الإجراءات المسطرية على أساس المساواة بين الأطراف المتنازعة بكل لباقة وصبر. كما ضمنت مبدأ ضرورة ابتعاد القاضي على أي قول أو فعل من شأنه التشكيك في حكمه

بل أكثر من ذلك فقد أوردت المدونة أن على القاضي تجنب الظهور بمظهر الانحياز أو المحاباة نحو أي طرف سواء في كلامه أو في سلوكه. وليصل إلى ذلك فان عليه الالتزام بمبدأ التجرد والحياد الذي يعد من أهم شروط المحاكمة العادلة. ولتحقيق ذلك دائما فإن على القاضي القيام بواجباته القضائية من غير مفاضلة ولا تحيز ولا تحامل ولا تعصب

ولا يمكن للقاضي أن يكون منصفا إن كان في حالة غضب تبعا لحديث رسول الله صلى الله عيه وسلم “لا يحكم الحاكم ولا يقضي القاضي وهو غضبان” بل وأدخل الفقهاء حالة الغضب ضمن المسائل المكروهة نظرا لما قد يؤثر ذلك على حسن سير المحاكمة

وحماية للمجتمع من القضاة الفاسدين أو المتجبرين أو المنحازين فقد أورد المشرع بالمادة 96 من النظام الأساسي للقضاة على أنه كل إخلال من القاضي بواجباته المهنية أو بالشرف أو الوقار أو الكرامة خطأ من شأنه أن يكون محل عقوبة تأديبية. ويمكن توقيف القاضي حالا عن مزاولة مهامه إذا توبع جنائيا أو ارتكب خطأ جسيما. وأعتبر المشرع بأنه يعد خطأ جسيما بصفة خاصة إخلال القاضي بواجب الاستقلال، والتجرد والنزاهة والاستقامة، والخرق الخطير لقاعدة مسطرية تشكل ضمانة أساسية لحقوق الإطراف وحرياتهم، والخرق الخطير لقانون الموضوع، والإهمال والتأخير الغير مبرر والمتكرر في بدء أو إنجاز مسطرة الحكم (….) ووقف أو عرقلة عقد الجلسات أو السير العادي للمحاكم

ويلاحظ الباحث أنه بقدر ما وضع المجتمع ثقته في الأشخاص الذين يزاولون المهام القضائية ووفر لهم حصانة دستورية لم توفر لغيرهم بقدر ما وضع ضمانات للمتقاضين لكي تكون المحاكمة عادلة

إلا أن المحاكمة لا يختص بها القاضي وحده، بل هي عمل جماعي يتدخل فيه إلى جانب القاضي العديد من الفاعلين، كل من موقعه حسب نوع القضية المعروضة على القضاء، انطلاقا من المتقاضي ودفاعه، وكاتب الضبط، والنيابة العامة، وقاضي التحقيق والشهود والترجمان والخبير وغيرهم. ولكل واحد من هؤلاء الفاعلين واجبات إن تقاعس عن القيام بها أحدهم أختلت المحاكمة

ومن الواجبات الملقاة على المحامي والتزاما بما يمليه عليه قسم المهنة المنصوص عليه بالمادة 12 من القانون المنظم لمهنة المحاماة وطبقا للمادة 41 من النظام الداخلي الموحد لهيئات المحامين بالمغرب التحلي بالاحترام الواجب للقضاء

إلا أن من واجباته أيضا أن يكون مستقلا داخل الجلسة وخارجها سواء عن القاضي أو عن غيره طبقا للمواثيق الدولية كما صادق عليها المغرب والتي جعلها الدستور المغربي في تصديره تسمو على التشريعات الوطنية وطبقا للمواد 1، 3، 4، ، 12، 58 الخ … من القانون المنظم للمهنة ومن الأنظمة الداخلية للهيئات ومن خلال أعراف وتقاليد مهنة المحاماة

والاستقلال يعني أن على المحامي إقامة مسافة كافية بينه وبين الآخرين حتى لا يتحكموا فيه سواء تعلق الأمر بحريته في التفكير وحريته في الكلمة وحريته في الحركة في إطار الهالة والوقار الذي يقتضيه المقام إذ لا يمكن للمحامي الدفاع عن مصالح الغير إن لم يكن هو أولا وقبل غيره حرا ومستقلا

فالهدف من تواجد المحامي بصفة عامة وتواجده بالجلسة بصفة خاصة تقتضيه مصلحة المجتمع الذي يسعى إلى إقامة نظام وتوازن بين أفراده إلى جانب الدفاع عن مصلحة الغير. ومصلحة هذا الأخير تفرض من تم على المحامي الحفاظ للمتقاضي على حرية دفاعه

ويبرز استقلال المحامي وحريته أيضا من خلال اختياره لطرق الدفاع، واختياره أيضا لطريقة ترافعه أمام المحاكم. ولا أحد يشك في أن المرافعة تجمع بين الفن والعلم أي بين الموهبة الطبيعية الذي منحها الله سبحانه وتعالى للمحامي وبين الإلمام والإحاطة بالأسس المنهجية والقواعد التي درسها المحامي بالجامعة وتمرن على ممارستها في مكتب الممرن وفي المحاكم وغيرها
والمرافعة أصلها شفوي أي أن على المترافع أن يخاطب المحكمة بصوت مسموع وله كامل الحرية في سلوك الطريقة التي يراها ناجعة للترافع عن موكله والقيام برسالته بما يمليه عليه ضميره. ومن بين ما يشترط في الإلقاء الجيد جهارة الصوت وقوته وحسن مخارج الحروف وتلوين الصوت بعلوه مرة عند إثارة المسائل الأساسية وبخفضه مرة في الأمور الثانوية

وكما كتب أحد المحامين فإن “الكثير من المترافعين يبذلون جهودا مضنية في تحضير مرافعاتهم ولكن طريقة إلقائهم وأدائهم تذهب الكثير من البريق عن الجهود المبذولة وتفقد المرافعة طابعها الحيوي والحماسي بشكل تبدو معه باهتة مملة. فصوت بعض المترافعين يكون خافتا بشكل يؤثر على أجزاء كثيرة من المرافعة ويعرضها للضياع”

والى جانب الصوت الجوهري وجودة الإلقاء التي تميز المرافعة فإن للمحامي أن يقوم أيضا بكامل الحرية بإشارات وحركات سواء بيده أو بغير يده بهدف توضيح المعنى لان “الإشارة واللفظ شريكان” كما قال الجاحظ

: والهدف من المرافعة يبقى هو إقناع المحكمة بطريقة شفوية تدنو لما قاله أحمد شوقي
فإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندى وللقلوب بكاء
وفي جميع الأحوال فعلى المحامي أن لا ينسى بأن قضية زبونه أمانة في عنقه عليه الحفاظ عليها طبقا لقوله عز وجل “والذين لأماناتهم وعهدهم راعون”. بل عليه أن يتذكر بأن التقصير في الدفاع عن الموكل من شأنه أن يشكل خطأ مهنيا يكون ربما محل متابعة تأديبية بل ومطالبة بالتعويض في أطار المسؤولية التقصيرية أو حتى مسائلة جنائية

وحتى يتمكن المحامي من القيام بمهامه بدون ضغط أو ترهيب فإن المجتمع أفرد له حصانة تعرف بحصانة الدفاع

وهكذا تنص المادة 58 من القانون المنظم للمهنة المؤرخ في 20 أكتوبر 2008 على أن “للمحامي أن يسلك الطريقة التي يراها ناجعة طبقا لأصول المهنة في الدفاع عن موكله

لا يسأل عما يرد في مرافعاته الشفوية أو في مذكراته مما يستلزم حق الدفاع
لا يمكن اعتقال المحامي بسبب ما قد ينسب له من قذف أو سب أو إهانة، من خلال أقوال أو كتابات صدرت عنه أثناء ممارسته المهنة أو بسببها

تحرر المحكمة محضرا بما قد يحدث من إخلال، وتحيله على النقيب، وعلى الوكيل العام للملك لاتخاذ ما قد يكون لازما. “
فالمشرع خص المرافعة بحصانة قوية إذ يستحيل على المحامي أن يجهر بالحق وأن يجهر به بحرية وبصراحة وبجرأة وبحماس إن لم يكن محصنا عن أية تهديد أو ضغط أو متابعة تستهدف إخراسه
وتعتبر المادة 58 التي ناضل من أجلها المحامون المستقلون من أهم التعديلات التي جاء بها قانون 2008 لتكريس وتعزيز استقلال المحامي عند أدائه لرسالته ولتعزيز استقلال مهنة المحاماة إذ أصبح مجلس الهيئة هو المختص الوحيد في تأديب المحامي تحت رقابة القضاء

فإذا كان الفصل 44 من قانون المسطرة المدنية ينص على أنه “إذا صدرت خطب تتضمن سبا أو إهانة أو قذفا من أحد الوكلاء الذين لهم بحكم مهنتهم حق التمثيل أمام القضاء حرر رئيس الجلسة محضرا وبعثه إلى النيابة. فإذا تعلق الأمر بمحام بعثه إلى نقيب الهيئة”، فإن الفصل 341 من نفس القانون كان ينص على أنه “إذا صدرت من محامين أقوال تتضمن سبا أو إهانة أو قذفا أمكن لمحكمة الاستئناف أن تطبق عليهم بقرار مستقل العقوبات التأديبية إما بالإنذار أو التوبيخ وحتى الحرمان من مزاولة المهنة لمدة لا تتجاوز شهرين أو ستة أشهر في حالة العود في نفس السنة”

ولم يكن المشرع في السابق يفرق بين سلطة الاتهام وبين سلطة الحكم في مجال التأديب أمام الهيئة القضائية بمحكمة الاستئناف دون غيرها حيث منحها الحق في إصدار عقوبات الإنذار والتوبيخ بل وقد تصل إلى الحرمان من مزاولة المهنة لمدة شهرين وهو الأمر الذي لم يكن مقبولا من قبل المهنيين والحقوقيين. فالقاضي كان خصما وحكما وكانت تنتفي فيه الصفات المتحدث عنها أعلاه ولا سيما صفة التجرد والحياد

بل إن قضاء المجلس الأعلى ( محكمة النقض حاليا ) ذهب في قرارات قليلة إلى أبعد من ذلك باعتباره خلص في احد قراراته على أنه “إذا كان الفصل 341 من قانون المسطرة المدنية قد اسند أمر المتابعة إلى الهيئة التي وقعت الجريمة أمامها فان ذلك يعتبر استثناء ويبقى للنيابة العامة ولو أمام هيئة أخرى أن تثير المتابعة إذا لم تتخذ الهيئة أي إجراء” مضيفا بأن “كيان المحاماة والقضاء لا يتغذى بالقانون فقط بل بالأعراف والتقاليد والتي هي بمثابة دستور غير مكتوب”

كما جاء في القرار 3501 الصادر عن المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا ) بتاريخ 14 أبريل 1989 في الملف الجنحي عدد 16814 “أن جريمة إهانة المحكمة التي توبع بها المحامي الطاعن نص عليها المشرع وعلى عقوبتها في الفصل 341 ق.م.م وهو نص خاص يقدم على النص العام الوارد في ق,م,ج. وقد أسند المشرع أمر المتابعة والحكم في هذه القضية إلى نفس الهيأة التي وقعت الجريمة أمامها وذلك استثناء من مبدأ الفصل بين سلطة الاتهام وسلطة الحكم ولا مجال للاحتجاج لا بقانون المحاماة ولا بقانون الصحافة

“إن الحق في الدفاع ليس بحق مطلق بل هو مقيد باحترام حقوق الغير وعدم الاعتداء والتجاوز في استعمال الحق وأن أمر تقدير هذا الحق وتجاوزه أوكله المشرع للسلطة التقديرية لقضاة الموضوع وأن رقابة قضاة النقض لا تمتد إلى حقيقة الوقائع التي شهد بثبوتها قضاة الزجر ولا إلى قيمة الحجج التي حضت بقبولهم

إلا إن القضاء المغربي في مجمله برهن ما مرة على رزانته اتجاه المحامين إذ نجد العديد من الاجتهادات قضت بعدم مؤاخذة هؤلاء المحامين. وهكذا نجد بأن المجلس الأعلى ( محكمة النقض حاليا ) قضى في نازلة جرائم الجلسات “بأنه ما دام قد أوضح ( المحامي ) عدم قصده إهانة القضاء وهو ما أكده دفاعه مقيدا أن القصد هو النصب على القضاء بدوره وذلك بتقديم أدلة واهية بكسب فوائد مادية بواسطة القضاء فان المحكمة تعتبر ما صدر عن الأستاذ ن.خ جاء في سياق مرافعته عن مصالح موكله وليس القصد منه إهانة السلطة القضائية”

كما جاء في القرار الصادر عن محكمة الاستئناف بالحسيمة ما يلي : “حيث انه بالرجوع إلى العبارات التي كانت أساسا للمتابعة التأديبية تبين للمحكمة أن صياغتها جاءت عامة وتحمل عدة تأويلات وما دام الأستاذ ع.ف قد فسر قصده من تلك العبارات ونفى أن تكون نيته قد انصرفت على المس بجهاز القضاء، وحيث إن المحكمة لما لها من سلطة تقديرية تبين لها أن ما صدر عن الأستاذ ع.ف لا يشكل أية إهانة في حق جهاز النيابة العامة”

بل إن القضاة الحكماء الشرفاء هم من كان يبحث أحيانا للمحامي عن ثغرات في المسطرة حتى لا تتم معاقبته كالقرار رقم 2290 الصادر عن محكمة الاستئناف بالدارالبيضاء بتاريخ 7 دجنبر 1990 في الملف عدد 858/89 الذي جاء فيه ” لا يمكن اعتبار الواقعة التي طرأت أثناء انعقاد الجلسة والتي لم يحرر بشأنها محضر يعتبر حجة بما حدث من جهة ويعتبر وسيلة إثبات الواقعة من جهة أخرى”

ولوضع حد لوضعية تتنافى وأبسط القواعد الحقوقية التي تتمثل في الفصل بين سلطة الاتهام وسلطة المتابعة فإن المشرع المغربي وتماشيا مع المواثيق الدولية والتوصيات الأممية التي تهدف إلى تعزيز الاستقلال الجماعي للمحاماة – وبفضل رجال خدموا المهنة – سن المادة 58 من قانون 2008 التي تفرض على المحكمة ولو ارتكبت إحدى الجرائم المعروفة بجرائم الجلسات أن يتم تحرير محضر بذلك ويحال على النقيب والنيابة العامة

:وهكذا أصبحت المادة 58 من القانون المنظم للمهنة تنص على أن
” للمحامي أن يسلك الطريقة التي يراها ناجعة طبقا لأصول المهنة في الدفاع عن موكله. لا يسأل عما يرد في مرافعاته الشفوية أو في مذكراته مما يستلزم حق الدفاع. لا يمكن اعتقال المحامي بسبب ما قد ينسب له من قذف أو سب أو إهانة، من خلال أقوال أو كتابات صدرت عنه أثناء ممارسته المهنة أو بسببها
وباعتبار أن الفصل 341 من ق.م.م والذي كان يضرب في الصميم بمبادئ شروط المحاكمة العادلة وبالاستقلال الجماعي للمحامين أصبح يتناقض مع المادة 58 من قانون مهنة المحاماة فإن تعديلا قد تم على هذا الفصل حيث أصبح ينص على أنه ” إذا صدرت من محامين أقوال تتضمن سبا أو إهانة أو قذفا تحرر المحكمة محضرا بذلك وتحيله على النقيب وعلى الوكيل العام للملك لاتخاذ ما قد يكون لازما”
وهو الأمر الذي أصبح ينسجم مع المادة 58 من القانون المنظم للمهنة
:والقضية المطروحة اليوم على القضاة وعلى المحامين وعلى الرأي العام تفرض ثلاثة أسئلة جوهرية
السؤال الأول : هل ارتكب المحامي جريمة من جرائم الجلسات ؟
السؤال الثاني : هل الحكم الصادر باسم الملك بطرد المحامي في محله ؟
السؤال الثالث : هل ارتكب القاضي خطأ يستلزم مسائلته ؟
في ما يخص السؤال الأول نعتقد بصدق أن المحامي “المطرود من القاعة” لم يرتكب أي خطأ فبالأحرى ارتكابه لجريمة من جرائم الجلسات. فالمحامي كان بصدد القيام بمهامه وهو ملزم قانونا بمراقبة سلامة المسطرة المتبعة وأن من واجبه إثارة انتباه المحكمة إلى أي عيب أو خرق للمسطرة. كما أن من شأن موكله أن يسائله غدا إذا لم يعمل على حماية حقوقه من الضياع بل من حقه تقديم شكاية ضده إلى الجهات المختصة بالتأديب وتسجيل دعوى التعويض عن الضرر في إطار المسؤولية المدنية وحتى شكاية جنحية في حالة توفر القصد الجنائي

وإذا ذكرنا بالإمكانات المتاحة للمتقاضي اتجاه دفاعه وبالمخاطر التي تحف بعمل المحامي فلكي يعلم الجميع بأن المسؤولية الملقاة على المحامين هي مسؤولية خطيرة عليه أن يقدرها حق قدرها لان بإمكانها أن تجعله موضوع تأديب أو أن تدفعه إلى التعويض أو تزج به في السجن أحيانا

فهل ارتكب المحامي جريمة من جرائم الجلسات من خلال استفسار القاضي عن طرح نفس السؤال ثلاث مرات ؟ هل أصبح الاستفسار سبا أو قذفا أو إهانة للمحكمة ؟ ومتى كان صوت المحامي العالي يعتبر جريمة حتى يطرد ظلما من القاعة وهل يراد من المحامي أن يترافع بالهمس و هل القصد هو إبادة أصحاب الأصوات التي تصدح بالحق مستقبلا ؟

ومن جهة أخرى فإنه بالرجوع إلى جرائم الجلسات المنصوص عليها وعلى عقوبتها بالفصل 357 من قانون المسطرة الجنائية فإننا نجد بأنه يتحدث عن الأشخاص الذين يعبرون عن مشاعرهم أو يحدثون اضطرابا أو يحرضون على الضوضاء بوسيلة ما بقاعة الجلسة حيث يأمر الرئيس بطردهم. ويقصد بالأشخاص الحاضرين المتقاضين والعموم ولا يقصد المشرع المحامي و إلا سيمكن تطبيق الطرد أيضا على ممثل النيابة العامة وهو أمر لا يستساغ

فالمشرع أعطى للمحامي حصانة لا تقل على حصانة القضاة وممثلي النيابة العامة وحماه من التعسف بمقتضى المادة 44 من قانون المسطرة المدنية الذي ينص انه حتى لو صدرت خطب تتضمن سبا أو إهانة أو قذفا من أحد الوكلاء الذين بحكم مهنتهم حق تمثيل أمام القضاء حرر رئيس الجلسة محضرا وبعثه إلى النيابة. فإذا تعلق الأمر بمحام بعثه إلى نقيب الهيئة. فالمشرع واع ويفرق إذن بين الوكلاء العاديين وبين المحامين

وهذا هو مربط الفرس بالنسبة للفصل 43 الذي يتحدث على إمكانية طرد الوكلاء العاديين ولا يتحدث عن المحامين. وما يعزز هذا الطرح ليس فقط الفصل 44 المذكور سابقا الذي يخص المحاكم الابتدائية بل الفصل 33 من قانون المسطرة المدنية وكذا المادة 58 من القانون المنظم للمهنة والفصل 341 من قانون المسطرة المدنية دائما

فالمادة 58 من قانون المحاماة تنص كما سبقت الإشارة إلى ذلك على أنه “لا يمكن اعتقال المحامي بسبب ما قد ينسب إليه من قذف وسب أو إهانة من خلال أقوال أو كتابات صدرت عنه أثناء ممارسته المهنة أو بسببها، تحرر المحكمة محضرا بما قد يحدث من إخلال وتحيله على النقيب وعلى الوكيل العام للملك لاتخاذ ما قد يكون لازما”

ومن جهة أخرى وزيادة في توضيح الواضح ما ورد بالفصل 341 من قانون المسطرة المدنية الذي يقرر أنه “إذا صدرت من محامين أقوال تتضمن سبا أو إهانة أو قذفا تحرر المحكمة محضرا بذلك وتحيله على النقيب وعلى الوكيل العام للملك لاتخاذ ما قد يكون لازما”

فكيف للبعض أن يعتقد بأن المشرع أعطى حق الطرد لرئيس الجلسة بالمحكمة الابتدائية ولم يمنحه لرئيس الجلسة بمحكمة الاستئناف؟

فطرد المحامي من القاعة بعد محاكمته من قبل القاضي يشكل خرقا للقانون باعتباره غير مختص في تأديب المحامين ولو ارتكبوا ما يعرف بجرائم الجلسات، وهو الأمر الغير قائم في النازلة، كما يعتبر الطرد إهانة للمحامي ” المطرود” ومسا بحق موكله في المؤازرة بواسطة محام، ومسا أيضا بمهنة المحاماة، و تطاولا على أسرة الدفاع

ولن أدخل في البحث الجاد عن طبيعة الحكم الصادر “باسم جلالة الملك” بطرد المحامي من القاعة، لمعرفة هل هو حكم قطعي أم تمهيدي، لأنه غير قابل للتصنيف ضمن الأحكام المتعارف عليها. ومن تم يمكن القول قياسا بالقرار المعدوم أن الحكم الصادر في النازلة حكما معدوما لانه مشوب بانعدام المشروعية ولا حصانة له وينحدر إلى درجة الانعدام

ومن جهة أخرى، فالشاهد في النازلة أدلى بشهادته التي أتت متجانسة مع أقوال موكل المحامي المطرود تعسفا وتكرار السؤال للشاهد ثلاث مرات وإرهابه وتهديده بالسجن أمر لا يشرف المحكمة ولا يشرف المحاكمة ويطرح أكثر من سؤال.

فهل احترم القاضي مبدأ التجرد والحياد وأدى واجبه من غير مفاضلة ولا تحيز ولا تحامل ولا تعصب؟

وهل احترم القاضي مبدأ المساواة و حرص على حسن سير الإجراءات المسطرية على أساس هذه المساواة بين الأطراف المتنازعة بكل لباقة وصبر ؟

وهل ابتعد عن قول أو فعل كل ما من شأنه التشكيك في حكمه ؟
وهل تجنب في كلامه وفي سلوكه الظهور بمظهر الانحياز أو المحاباة نحو أي طرف ؟
وهل حرص على تجنب اللوم والتجريح في سلوكه ؟
وهل نأى بتصرفاته ومظهره عن كل ما من شأنه أن يمس هيبته ووقاره ؟
وهل كان متزنا في كلامه حتى لا يعطى انطباعا بالاستخفاف والابتذال أو الكبرياء والتعالي ؟
وهل رسخ من خلال تصرفه وسلوكه ثقة الناس في استقامة الجهاز القضائي ونزاهته ؟
وهل كان صبورا وقورا محسنا للاستماع دمث الخلق ؟

وإذ نطرح كل هاته الأسئلة المستقاة والمستعارة من مدونة القيم الأخلاقية المذكورة آنفا ليجد فيها من يحقق في النازلة ضالته لا محالة ولنصل إلى الجواب عن السؤال المرتبط بخطأ القاضي في طرد المحامي من الجلسة لنجد بأن القاضي لم يحسن الصنع باستعمال اسم الملك في هذه المهزلة بل ولم يحسن الصنع في إصداره لحكم لم ينص عليه القانون ويعتبر أضحوكة سجلها التاريخ وارتكب خطأ جسيما لخرقه الخطير لقانون الموضوع ولخرقه الخطير للقواعد المسطرية التي تشكل الضمانة الأساسية لحقوق الأطراف إضافة إلى إخلاله بواجب الاستقلال والتجرد ويجب من تم تطبيق القانون في حقه طبقا للمادة 96 و97 من النظام الأساسي للقضاة

وعلى المحامي “المطرود” غصبا وعلى نقيبه وهيئته أن يلجئا إذن إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية وذلك بتقديم شكاية في الموضوع. أما إذا اعتبرنا بأن ما وقع يعد سبا وتهديدا للمحامي أثناء ممارسته لمهنته فإن عليهم تقديم شكاية طبقا المادة 60 من القانون المنظم للمهنة والتي تحيل على الفصل 263 من القانون الجنائي

ولن أختم هذه الدراسة دون أن أحيي المحامي الذي بسببه تم إنجاز هذا البحث وأشد بيده على موقفه وعلى عدم انبطاحه وأن أهنيء نقيبه وهيئته وجميع الزميلات والزملاء الذين ساندوه ودعموه في محنته إذ لا يحق للمحامي ولا لنقيبه ولا لهيئته أن يترك القاضي يعامله معاملة منحطة أو تقلل من هيبته ووقاره لان وقوف المحامي أمام القاضي ونظرة القاضي لهذا المحامي تكون على أساس رمزية البذلة التي يرتديها المحامي بغض النظر عمن يرتديها

بقلم ذ خالد خالص
أستاذ باحث

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.