سوف استعرض بحث هذه القاعدة في مجال الشريعة والقانون.

اولا: الاصل براءة الذمة في الفقه الاسلامي :

الذمة في اللغة: العهد؛ لان نقضه يوجب الذم، ومنه سمي المعاهد ذمياً، نسبة الى الذمة بمعنى العهد، كما تفسر بالضمان تقول في ذمتي كذا أي في ضماني، والجمع ذمم(1). اما في الاصطلاح الفقهي في (اصطلاح علم الاصول) فمن الفقهاء من جعلها وصفا فعرفها بانها: صفة يصير بها الأنسان اهلا للالتزام، فهي وصف يجعل الشخص اهلا لماله وما عليه، ومثال ذلك: اذا اشترى شخص شيئا كان اهلا لتملك منفعة ذلك الشيء، كما يكون اهلا لتحمل اللالتزام بدفع ثمن ذلك الشيء(2). ومن الفقهاء من جعلها ذاتا، فعرفها بانها نفس لها عهد، فان الأنسان يولد وله ذمة صالحة للوجوب له وعليه، بخلاف سائر الحيوانات(3)، والذمة وان لم تكن هي نفس عقل الانسان؛ الا ان العقل له دخل فيها، ومن ثم لا توصف الحيوانات بالذمة، وعن طريق قراءة ومعاينة الرؤية الفكرية الفقهية للفقهاء يتضح ان الاصل ان تكون ذمة كل شخص برئيه اي غير مشغوله بحق اخر، واساس هذا التصور هو كل شخص يولد وذمته بريئة خالية من أي التزام بل تترتب لها الحقوق، واساس شغلها يحصل بالمعاملات الحياتية التي يجريها فيما بعد الولادة وبعد اكتساب الاهلية اللازمة لذلك. ومن يدعي شغل ذمة الغير بشيء معين فهو مكلف باثبات ذلك باقامة الدليل، لانه يدعي خلاف الاصل وهو براءة الذمة واقامة الحجة او البينة او البرهان هي على من يدعي خلاف الظاهر(4).والذمة التي تنشأ عن العهد تعتبر كسبب لصلاحية الأنسان لان تترتب عليه الحقوق وان تثبت له اهلية الوجوب الكاملة، فالاهلية والذمة لا تثبتان الا للانسان. ومصدر حكم البراءة الاصلية للانسان يستند في اصله الى ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والقواعد الكلية الفقهية والعقل السليم(5).

1- القرآن الكريم: في القرآن الكريم ايات كريمة على براءة ذمة الأنسان من المسؤولية ما لم يكن قد وصل علمه الشخصي القواعد الشرعية او القانونية الواجبة التطبيق او براءة ذمته من المسؤولية الجنائية حتى بعد ارتكاب الجريمة ما لم يكن مبلغا بنصوص التجريم والعقاب. وسند ذلك الايات القرانية. قال تعالى: (ولو انا اهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا ارسلت الينا رسولا فنتبع آياتك من قبل ان نذل ونخزي) (6). وقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (7).

2- السنة النبوية: التي استنبط منها فقهاء الامة الاسلامية حكم البراءة الاصلية للانسان والتي تعتبر من القواعد الاساسية في الاثبات ومنها قوله (ص): (البينة على من ادعى واليمين على من انكر) و(ادرؤا الحدود بالشبهات).

3- القواعد الفقهية الكلية: مثل (الاصل بقاء ما كان على ما كان).

4- العقل السليم: يتطلب الامر هنا في ضوء ما ادركته العقول بان كل حادث مسبوق بالعدم؛ لان الحادث يعني الوجود بعد العدم، وان مطالبة الأنسان بالالتزامات واسبابها ومصادرها كلها امور مستحدثة وجدت بعد ان لم تكن. ومن هذا المنطلق او الاساس في التصور يتضح بان ذمة الأنسان لا تكون مشغولة باي التزام وعلى من يدعي عكس ذلك يتطلب الامر منه اثبات ذلك بالبينة الواضحة وعلى من ينكرها اليمين لانه مع الاصل(8). واذا تعارضت هذه القاعدة بقاعدة (الاصل اضافة الحادث الى اقرب اوقاته) فيجب العمل بهذه القاعدة لان هذه اقوى من تلك وتطبيقا لذلك اذا اتلف رجل مال اخر واختلف في مقداره يكون القول للمتلف والبينة على صاحب المال المتلف لاثبات الزيادة(9). ولو دفع شخص لاخر مبلغا من المال ثم اختلفا، فقال المعطي هو قرض، وقال الاخذ بل هو هبة، فالقول قول الاخذ ؛ لان الاصل براءة ذمته(10). ولو غصب شخص شيئا فهلك المغصوب في يده، ثم اختلف الغاصب وصاحب المال في قيمة المغصوب، فالقول للغاصب ؛ لان الاصل براءة ذمتة مما زاد(11). ولو ادعى شخص انه دائن لاخر بمبلغ معين، وانكر الطرف الاخر، او ادعى انه اقرضه مبلغاً معيناً وانكر الخصم، فانه يتحتم على من يطالب بذلك الدين اثبات وجود سند الدين، أي اثبات شغل ذمة خصمه، الطرف الثاني في الدعوى، ولا يقبل قوله من دون وجود هذا السند؛ لان الاصل ان ذمة المدعي عليه بريئة من ذلك الدين، فاذا اقام المدعي البينة ففي هذه الحالة يكون قد ثبت حقه. وصفوة القول فمن ادعى على غيره التزاما بدين او بعمل ما. مهما كان سببه، من عقد او اتلاف او أي سبب اخر من اسباب الضمان، فعليه هو الاثبات اذا انكر الخصم؛ لان هذا الخصم يتمسك بحالة اصلية هي براءة الذمة، فيكون ظاهر الحال شاهداً له ما لم يثبت خلافه(12). والاعتراض المقدم على هذه القاعدة في صورة ان المدين اذا ادعى ان الدائن ابرءه او انه اوفى الدين فالقول للدائن مع اليمين مع ان الدائن يدعي شغل ذمة المدين والمدين يدعي براءة ذمته فكان الواجب حسب هذه القاعدة ان يكون القول للمدين، لكن الجواب عن ذلك ان الدائن والمدين اصبحا هنا متفقين على ثبوت الدين مما يعكس ذلك شغل ذمة المدين اصلا والبراءة خلاف الاصل فالمدين يدعي الايفاء والابراء الذي هو خلاف الاصل والدائن ينكر ذلك فعلى هذا اصبح القول للدائن ولا مجال للاعتراض على ذلك(13).

ثانيا- الاصل براءة الذمة في الفقه القانوني:

هنالك توافق بين الفقه الاسلامي والقانوني على تقرير قاعدة الاصل براءة الذمة(14)، فيقرر ان الاصل هو براءة الذمة في نطاق الحقوق الشخصية (الالتزامات)، فاذا ادعى احد على اخر دينا وجب عليه اثباته، لانه قد ادعى شيئا خلاف الثابت وهو مشغولية ذمة خصمه اذ الاصل براءة الذمة(15). فمن ادعى انه اقرض غيره مبلغا من المال يستلزم الامر منه اثبات عقد القرض ومن طالب اخر بقيمة مبيع عليه ان يثبت مقدار ما اصابه من خسارة(16) ويتفرع ايضا عن ذلك حالات عدة يختار القانون وضعا يعتبره هو الاصل، فمن تمسك به لا يكلف باثبات شيء، ومن ادعى خلافه فعليه يقع عبء الاثبات(17). مثل ذلك الاهلية، فالاصل في كل شخص صلاحيته للتعاقد لكمال اهليته ببلوغ السن القانوني، ما لم يقرر القانون عدم اهليته او يحد منها(18). ومثل ذلك ايضا عيوب الارادة، الاصل ان تكون ارادة كل شخص سليمة خالية من عيوب الارادة وان على من يدعي ان ارادته كانت معيبة بالاكراه او الغلط او التغرير مع الغبن او الاستغلال ان يثبت ادعاءه(19). ومثل ذلك ايضا، الاصل في الأنسان حسن النية اذا يفترض فيه عدم ادراكه وعلمه بظروف معينة من شأن الاحاطة بها ان تصبح سيء النية وحسن النية يفترض دائما، ما لم يقم الدليل عكس ذلك(20). اما اذا كان الالتزام الذي اقام الدائن الدليل على قيامه التزاما بتحقيق نتيجة، فانه يستلزم الامر منه اثبات هذا الالتزام، وينتقل عبء الاثبات الى المدين في اثبات تحقق نتيجة هذا الالتزام(21). بعد دراسة اصل هذه القاعدة في كل من الفقه الاسلامي والقانوني تتوضح الرؤية الفكرية الفقهية في مدى التطابق والتوافق بينهما. فكلاهما لايختلف عن الاخر في تقرير هذا الاصل؛ وذلك لان الاصل يعد من القواعد الكلية الاساسية التي تتصل بواقع الناس وعلاقاتهم، مما يتطلب الامر النص على هذا الاصل وتقريره حتى يكون المرء في طمأنينة وامان من ادعاءات الغير عليه شيئا في ذمته من دون دليل او بينة واضحة.

_____________

1- المصباح المنير في قريب الشرح الكبير، لاحمد بن محمد بن علي الفيومي، المتوفي سنة (770هـ) مطبعة مكتبة البيان، بيروت ، ص80.

2- درر الحكام، شرح مجلة الاحكام العدلية، علي حيدر، مطبعة غزه، 1352هـ/1033م ، ج1، ص25.

3- التعريفات: السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني (816هـ) مطبعة مكتبة صبيح، القاهرة، 1382هـ ، ص143.

4- د. محمد فتح الله النشار، احكام و قواعد عبء الاثبات، دار الجامعة الجديدة للنشر، مصر، 2000، ص135.

5- د. عصمت عبد المجيد بكر، الوجيز في شرح قانون الاثبات العراقي رقم 107 لسنة 1979، ط1، مطبعة الزمان، بغداد، 1997، ص73.

6- سورة طه آية 134.

7- سورة الاسراء آية 15.

8- د. مصطفى ابراهيم الزلمي، اصول الفقه الاسلامي في نسيجة الجديد، ج1، بغداد، دار الحكمة للطباعة والنشر 1991، ص218.

9- الاشباه و النظائر في قواعد و فروع فقة الشافعية، للامام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، المتوفي سنة (911هـ) مطبعة دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411هـ- 1990.

، ص53؛ الاشباه و النظائر: زين الدين بن ابراهيم بن نجيم (970هـ) مط الجمالية بالقاهرة 1328هـ/ 1910م ، ص58؛ شرح مجلة الاقسام العدلية- سليم رستم باز، ط3، المطبعة الادبية، بيروت 1923، ج1،ص22، درر الحكام، شرح مجلة الاحكام العدلية، علي حيدر، مطبعة غزه، 1352هـ/1033 درر الحكام، شرح مجلة الاحكام العدلية، علي حيدر، مطبعة غزه، 1352هـ/1033م، ج1، ص35.

10- سليم رستم باز، شرح المجلة ، ج1، ص22.

11- السيوطي، الاشباه والنظائر، ص53.

12- د. مصطفى احمد الزرقا، المدخل الفقهي العام، ط1، مطبعة الجامعة السورية، 1952م ، ص648.

13- علي حيدر، شرح مجلة الاحكام (درر الحكام)، ج1، ص25،26؛ م(77) من مجلة الاحكام العدلية.

14- يراجع السنهوري، الوسيط، ج2، طبعة نادي القضاة، 1983، ص71؛ د. سليمان مرقس، اصول الاثبات في المواد المدنية، ط2، المطبعة العالمية، مصر، 1953، ج1، ص60؛ حسين المؤمن، نظرية الاثبات القواعد العامة، الاقرار و اليمين، ج1، طبع بدار الكتاب العربي، مصر، 1948، ص44؛ د. عبد السلام الذهني، المداينات، ج1، مطبعة المعارف، مصر، 1933، ص98؛ د. عصمت عبد المجيد بكر، الوجيز في شرح قانون الاثبات العراقي رقم 107 لسنة 1979، ط1، مطبعة الزمان، بغداد، 1997، ص72؛ محمد علي الصوري، التعليق على مواد قانون الاثبات العراقي، ص38.

15- حسين المؤمن، نظرية الاثبات والقواعد العامة، ص44.

16- السنهوري، الوسيط، ج2، ص71

17- السنهوري، الوسيط، ج2،ص72.

18- م 93 مدني عراقي (كل شخص اهل للتعاقد ما لم يقرر القانون عدم اهليته او يحد منها).

19- م (112-125) مدني عراقي.

20- م (1148/1) مدني عراقي؛ (حسن النية مفترض، وعلى من يدعي العكس اثبات ما يدعيه) نقض مصري رقم 55 س34 ق في 22/6/1967 انور طلبة ص267.

21- نقض مصري رقم 287 س35 في 12/6/1969، انور طلبة ص261؛ د.عصمت عبد المجيد بكر، المصدر السابق، ص74.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .