الأثر الكاشف والأثر المنشئ للحكم بعدم الدستورية :

أختلف الفقه في تحديد الأثر المترتب على الحكم بعدم الدستورية إلى اتجاهين :

الاتجاه الأول: الحكم بعدم الدستورية له أثر كاشف بإلغاء النص التشريعي المطعون عليه.

القاعدة العامة بالنسبة للأحكام القضائية بصفة عامة انها كاشفة وليست منشئة ، فهي لا تنشئ الحق وانما تكشف عن وجوده ، وعلى ذلك ، فإن المحكمة حين تقضي بعدم دستورية تشريع معين مع ما يترتب على ذلك من إلغاءه وبطلانه ، فإنها لا تنشئ هذا البطلان ، وإنما تقرر شيئاً قائماً بالفعل بحكم الدستور القائم ، فالتشريع الباطل لمخالفته للدستور باطل منذ وجوده لأنه ولد مخالفا للدستور والنص التشريعي لا ينشأ صحيحا إلا باتفاقه مع الدستور ، والحكم بعدم دستورية هذا النص يعني تعارضه مع الدستور ، ومن ثم سقوط الأساس الذي انبنى عليه. وهذا يعني أن النص المطعون عليه قد ولد ومعه العوار الدستوري، والحكم بعدم الدستورية يعد كاشفاً لهذا العيب لا منشأ له ، الأمر الذي يمس صحة هذا النص منذ تاريخ العمل به . فهذا الحكم يقرر حقيقة واقعة قبله الا وهي نشأة النص القانوني وبه العيب الدستوري (1). ومن هنا ، فإن المنطق القانوني المجرد يحتم أن يكون للحكم الذي يصدر مقرراً عدم الدستورية أثر رجعي يمتد إلى تأريخ صدور النص التشريعي غير الدستوري، وليس تاريخ صدور الحكم بعدم دستوريته ، بما يعني عدم جواز تطبيق هذا النص ليس في المستقبل فحسب ، وإنما ايضاً بالنسبة للعلاقات والأوضاع السابقة على صدوره ، بما مفاده بطلان هذه العلاقات والأوضاع التي تمت في الماضي استناداً إلى هذا النص المقضي بعدم دستوريته (2). ويعتمد الأثر الكاشف للحكم بعدم الدستورية على أساس أن عيب مخالفة القاعدة القانونية للشرعية الدستورية يولد مع القاعدة ذاتها. وان تقرير هذا الأثر من شأنه ان يدعم الفائدة العملية التي يرجوها الخصم في دعواه الدستورية ، فالمنازعات الموضوعية التي أثير فيها الدفع الدستوري هي منازعات تدور حول علاقات وأوضاع سابقة بالضرورة على الحكم بعدم الدستورية . فإذا لم يكن لهذا الحكم أثر رجعي ، لأصبح لزاماً على قاضي الموضوع – الذي أرجأ تطبيق القانون حين ساوره الشك في عدم دستوريته – أن يطبق ذلك القانون بعد القضاء بعدم دستوريته مما يأباه المنطق القانوني السليم ويتنافى مع الغرض المرتجى من الدفع بعدم الدستورية ولا يحقق لمبدي الدفع أي فائدة عملية ، مما يجعل الحق في التقاضي وهو من الحقوق العامة التي كفلتها معظم الدساتير – بالنسبة للمسألة الدستورية غير مجد ومجرداً من مضمونه . وهذا يؤكد أن الطبيعة القانونية للأحكام هي اعتبارها كاشفة للحقوق وليست منشئة لها ، إذ هي لا تستحدث جديداً ولا تنشئ مراكز قانونية لم تكن موجودة من قبل ، بل انها تكشف عن حكم الدستور وهو مقرر سلفاً منذ ان تم العمل به (3). ويستند مبدأ الأثر الكاشف للحكم بعدم الدستورية على مبدأ المساواة امام القانون . فلا يجوز التمييز بين مراكز قانونية تكونت قبل هذا الحكم واخرى تكونت بعده . كما أن هذا الأثر الكاشف يضمن فعالية الرقابة على دستورية القوانين وتأكيد لسيادة القانون. وبذلك تعلو الحقوق والحريات، ولا تنتكس قيمتها مهما تعرضت للانتكاس في فترة مؤقتة ، لأن الأثر الكاشف بعدم الدستورية ضمان هام لإزالة كل ما أصابها من انتكاس في الماضي . هذا هو منطق دولة القانون التي لا تترك الحقوق والحريات التي يحميها الدستور عرضة للمساس بها ، وإنما تكفل حمايتها من خلال هيئة قضائية تعتبر جزءاً من نظام الدولة ، وهي المحكمة الدستورية ، ومع ذلك فإنه إذا كان الأثر الكاشف في حد ذاته يعكس قيمة دستورية معينة إلا أن إقرار هذه القيمة لا يجوز أن يكون على حساب قيم دستورية أخرى ، وفقاً لنظام حماية الحقوق المكتسبة والمراكز القانونية المستقرة (4). ومن الدول التي اعتنقت قاعدة الأثر الكاشف للحكم بعدم الدستورية الولايات المتحدة الأمريكية ، وايطاليا ، والمانيا ، والبرتغال ، والكويت (5).

الاتجاه الثاني: الحكم بعدم الدستورية له أثر منشئ بإلغاء النص التشريعي المطعون عليه.

مؤدى هذا الاتجاه ان الحكم بعدم الدستورية يعني إلغاء النص التشريعي المطعون عليه اعتباراً من تأريخ نشر الحكم بعدم دستوريته . ويترتب على ذلك أن جميع الآثار التي رتبها النص التشريعي قبل الحكم عليه بعدم الدستورية تبقى صحيحة وقائمة ، فكل ما هنالك ان هذا النص لا ينتج اثاره القانونية بالنسبة للمستقبل ، لأنه خرج من النظام القانوني للدولة . ومن الدول التي أعتنقت قاعدة الأثر المنشئ للحكم بعدم الدستورية أسبانيا، واليونان ، وتركيا ، ورومانيا، وسلوفاكيا، والتشيك(6). كما أخذت بهذا الاتجاه النمسا في دستورها الصادر عام 1920 إذ نصت المادة (140/5) منه على أن ” القرار الذي تبطل به المحكمة الدستورية قانوناً أو جزء من قانون لعدم دستوريته يلزم المستشار الاتحادي أو حاكم الإقليم المعني بنشر هذا البطلان فوراً ، ويسري هذا البطلان من يوم نشره ، إلا اذا حددت المحكمة مهلة لسريان هذا القانون أو الجزء من القانون الملغي لا يجوز أن تزيد هذه المهلة عن 18 شهراً ” . ووفقاً لهذا النص ، فان القاعدة في سريان حكم المحكمة الدستورية النمساوية بعدم الدستورية بأثر فوري ، وليس بأثر رجعي ، فالقانون وان كان غير دستوري ، الا أنه يظل سارياً حتى تاريخ نشر الحكم بعدم دستوريته.

وهذا المنطق في تحديد آثار الحكم بعدم الدستورية يعتمد على أفكار الفقيه Kelsen، فالنظام القانوني من وجهة نظره – هو نظام اختصاصات مستمدة جميعاً من مصدر واحد ، والذي تقوم على أساسه صحة كل القواعد وسلامتها ووحدتها المنطقية، والقواعد التي تشكل جزء من هذا النظام لا يمكن ان تكون باطلة منذ قيامها ووجودها ، وانما تكون فقط قابلة للالغاء ، وحتى الحكم بالإلغاء ، فإن القانون كان سارياً ، ولم يكن باطلاً منذ البداية ، وبالتالي ليس صحيحاً أن يكون الحكم الذي يقرر عدم الدستورية هو حكم تقريري ، إنه على العكس حكم إنشائي يحدث أثراً إنشائياً عندما يلغي قانوناً قائماً (7). وهذا التصور لطبيعة الحكم الصادر بعدم الدستورية من حسناته انه يحافظ على فكرة الأمن القانوني أي يحقق قدر من الثبات النسبي للعلاقات القانونية وحد أدنى من الاستقرار للمراكز القانونية المختلفة مما يساعد على إشاعته الأمن والطمأنينة بين أطراف العلاقات القانونية من أشخاص قانونية عامة وخاصة . إلا أن القول بأن الحكم له أثر منشئ سيضعنا امام وضع تناقضي إذ سنواجه تمييزاً بين مراكز قانونية تكونت قبل الحكم بعدم الدستورية واخرى تكونت بعده . فالمراكز الأولى لا يمسها الحكم الصادر بعدم الدستورية ، بينما المراكز القانونية الثانية – التي تكونت بعد صدور الحكم بعدم الدستورية – عليها أن تعمل أثر هذا الحكم . فضلاً عن ذلك فان الأثر المنشأ للحكم الصادر بعدم الدستورية من شأنه أن يضعف فعالية الرقابة على دستورية القوانين ، فهذه الرقابة تهدف إلى حماية الدستور من خروج القانون عليه، وهذا الهدف يقلل من إمكانية إصدار قوانين غير دستورية. وحتى تثبت الطبيعة المنشئة للأحكام الصادرة بعدم الدستورية ، فان ذلك معناه بقاء تطبيقات تلك القوانين غير الدستورية سارية في الماضي ، بل ومحصنة من المساس بها ، وفي ذلك إهدار واضح لمبدأ الشرعية الدستورية (8). لذا تلجأ دساتير الدول التي أخذت بالأثر المنشئ للحكم بعدم الدستورية ، إلى الحد من السلبيات الناتجة عن تنفيذ الحكم بعدم الدستورية بأثر فوري ومباشر، من خلال:

1-سريان الحكم بعدم الدستورية في الحالة المعروضة على محكمة الموضوع والتي أثير بشأنها الدفع بعدم الدستورية الذي أحيل إلى المحكمة الدستورية ، وأصدرت هذه المحكمة الاخيرة حكمها بعدم الدستورية ، بغرض استفادة المدعي في الدعوى الدستورية ، وفي ذلك كفالة لحق التقاضي.

2-كما يجوز للمحكمة الدستورية أن تحدد تاريخاً اخر لنفاذ حكمها غير الأثر المباشر ، بأن تشمل حكمها ، وفي حدود سلطتها التقديرية – بالأثر الرجعي . وفي هذه الحالة ، فإن النص المحكوم بعدم دستوريته لا ينتج أثره وتزول قوته القانونية منذ مولده (9).

_________________

1- انظر د. عبد العزيز محمد سالمان ، نظم الرقابة على دستورية القوانين ، مرجع سابق ، ص95 ، د. رفعت عيد سيد، الوجيز في الدعوى الدستورية ، مرجع سابق ، ص426

2- انظر د. محمد صلاح عبد البديع السيد ، الحكم بعدم الدستورية بين الأثر الرجعي والأثر المباشر ، مرجع سابق، ص ص9-10

3- انظر د. رفعت عيد سيد ، الوجيز في الدعوى الدستورية ، مرجع سابق ، ص426 ، د. عبد العزيز محمد سالمان ، نظم الرقابة على دستورية القوانين ، مرجع سابق ، ص97

4- انظر د. أحمد فتحي سرور ، الحماية الدستورية للحقوق والحريات ، مرجع سابق ، ص332

5- راجع في تفصيل ذلك : د. محمد صلاح عبد البديع السيد ، الحكم بعدم الدستورية بين الأثر الرجعي والأثر المباشر ، مرجع سابق ، ص17 وما بعدها ، د. صبري محمد السنوسي محمد ، اثار الحكم بعدم الدستورية ، مرجع سابق ، ص94 وما بعدها

6- أنظر د. احمد فتحي سرور ، الحماية الدستورية للحقوق والحريات ، مرجع سابق ، ص336

7-J-C. Beguin، Le Controle de la costitutionnalite de lois en Republique Federale d’ Allemagne ، Economica ، Paris ،1982 ، P.219 et.suiv.

نقلاً عن د. رمزي الشاعر ، القضاء الدستوري في مملكة البحرين ، مرجع سابق ، ص430 ، د. محمد صلاح عبد البديع السيد ، الحكم بعدم الدستورية بين الاثر الرجعي والاثر المباشر ، مرجع سابق ، ص33

8- د. رفعت عيد سيد ، الوجيز في الدعوى الدستورية ، مرجع سابق ، ص ص425 – 426

9- انظر د. احمد فتحي سرور ، الحماية الدستورية للحقوق والحريات ، مرجع سابق ، ص337

الأثر القانوني المترتب على الحكم بعدم الدستورية في قضاء المحكمة الدستورية العليا في مصر :

يثار التساؤل عما إذا كان الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية نص في قانون او لائحة يؤدي إلى إلغاء قوة هذا النص ، فيغدو معدوماً من الناحية القانونية ويسقط التشريع من تشريعات الدولة ، ام ان الحكم بعدم الدستورية يؤدي فقط إلى الامتناع عن تطبيق هذا النص الذي تبين عدم دستوريته على النزاع المعروض على المحكمة ؟ للاجابة عن هذا التساؤل ينبغي التعرف على موقف الفقه والقضاء الدستوريين في مصر في هذا الشأن ، ويتم ذلك على النحو الأتي:

أولاً: موقف الفقه الدستوري في مصر :

يلاحظ أن الفقه الدستوري في مصر قد انقسم إلى ثلاثة اتجاهات بصدد اجابته على هذا التساؤل: الاتجاه الأول من الفقه ذهب إلى ان الحكم بعدم الدستورية يؤدي إلى الامتناع عن تطبيق النص من دون إلغائه . ومن انصار هذا الاتجاه الدكتور رمزي الشاعر ، وقد ذهب إلى أنه لا يستفاد مما ورد في المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا ، وفي المذكرة الإيضاحية له أن المشرع قد رتب على الحكم بعدم الدستورية إلغاء القانون او اللائحة ، وإنما يقتصر أثر هذا الحكم على عدم جواز تطبيق النص على الوقائع والمراكز القانونية التي يحكمها ، فالمحكمة الدستورية العليا ليست لها سلطة إلغاء القانون (أو اللائحة ) المخالف للدستور وإنما لها مجرد تقرير ما شابه من عيب عدم الدستورية فقط (1). ويضيف الدكتور رمزي الشاعر إلى أن حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر بتقرير عدم دستورية قانون أو لائحة معينة يلزم محكمة الموضوع بالامتناع عن تطبيق هذا القانون أو تلك اللائحة . وإذا كان القانون أو القرار بقانون يبقى من الناحية النظرية المجردة قائماً حتى يلغيه المشرع ، وتبقى اللائحة حتى تلغيها جهة الإدارة ، فإن النص غير الدستوري يفقد قيمته من الناحية التطبيقية ، لأن جميع المحاكم سوف تمتنع عن تطبيقه إذا ما دفع امامها بعدم دستوريته في قضية أخرى ، إعمالاً للحجية المطلقة للحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية القانون أو اللائحة (2). كما ذهب الدكتور طعيمة الجرف إلى أن النص الذي تقرر عدم دستوريته سوف يبقى قائماً من الناحية النظرية ، لأن المحكمة الدستورية العليا لا تملك ولاية النطق بإلغائه ، إلا أنه بسبب الحجية المطلقة التي يتمتع بها الحكم ، فإن هذا النص سوف يفقد كل قيمته القانونية ، إذ يلزم جميع جهات القضاء بالامتناع عن تطبيقه (3). هذا وقد ذهب الدكتور محمد حسنين عبد العال (4). في الاتجاه نفسه إذ يقول : ان أثر الحكم الصادر بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة ، ينحصر بصريح نص المادة 49 من قانون تلك المحكمة في عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم، ومن ثم فان النص يفقد قوته العملية في التطبيق، ولكن ذلك لا يعني بحال ، ما ذهبت إليه المحكمة الدستورية العليا في أحد أحكامها – الحكم الصادر في 19 مايو 1990 – (5)، الذي أثار جدلاً واسعاً من أن الحكم بعدم دستورية نص ” يترتب عليه انعدام هذا النص” ، فهذا الرأي الذي ضمنته المحكمة حيثيات حكمها ، لا يجد له أي سند من الدستور أو القانون ، بل ويخالف صراحة أحكام القانون رقم 48 لسنة 1979 بانشاء المحكمة الدستورية العليا ، فضلاً عن أن مسايرة هذا المنطق من شأنه أن يؤدي إلى الاخلال بأحكام الدستور.ومن ناحية أولى ، وطبقاً لصريح نص المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا، يقتصر أثر الحكم بعدم دستورية نص على عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشره ، ولو اراد المشرع ترتيب الانعدام ، وهي نتيجة قانونية خطيرة ، لنص على ذلك صراحة . ومما يعزز الرأي في عدم صحة ما ذهبت اليه المحكمة الدستورية العليا ، أن المشرع ذاته في المادة 49 من قانون المحكمة بعد أن قرر الأثر العام المترتب على الحكم بعدم دستورية النص ، عالج في الفقرة الاخيرة من تلك المادة الأثر المترتب على الحكم بعدم دستورية نص جنائي ، فقرر صراحة أن الأحكام التي صدرت بالادانة استناداً إلى ذلك النص تعد كانها لم تكن ، فهذا الحكم الصريح انما يجد تبريره في أن المشرع قد قصر أثر الحكم بعدم دستورية النص على عدم جواز تطبيقه ، ولكنه لم يقرر انعدامه ، بحيث يصبح قانوناً كأنه لم يكن ويفقد كل آثاره القانونية.ومن ناحية اخرى ، فان وصف العمل التشريعي بالانعدام أمر ينبغي التحوط في شأنه . فاذا كانت فكرة الانعدام يطبقها القضاء الاداري بحذر شديد في مجال رقابته على قرارات الإدارة ، فان وصف التشريع الذي يصدر عن السلطة التشريعية بالانعدام يمثل افتئاتاً من المحكمة الدستورية العليا على السلطة التشريعية ، يخرج المحكمة الدستورية العليا عن نطاق الصلاحيات التي حددها لها القانون الصادر بشانها من هذه السلطة التشريعية ذاتها (6). في حين ذهب الاتجاه الثاني من الفقه إلى أن الحكم بعدم الدستورية يلغي النص التشريعي ويبطله . ومن أنصار هذا الاتجاه الدكتورة عزيزة الشريف إذ ترى أن الحكم بعدم دستورية النص التشريعي يبطله ويلغيه ويفقد النص قوته التشريعية ، وبالتالي لا يمكن للمحاكم أن تطبقه ، فالحكم يهدر القاعدة القانونية في كل ما نشأ عن تطبيقها من آثار (7) ، ومن انصار هذا الاتجاه ايضاً الدكتور محسن خليل الذي يرى أن الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية قانون معين هو في حقيقته إلغاء لهذا القانون استناداً إلى الحجية المطلقة لحكم المحكمة ، والتزام السلطات العامة والكافة بهذا الحكم ، وعدم جواز تطبيق نص القانون غير الدستوري من اليوم الثاني لنشر الحكم (8). اما الاتجاه الثالث من الفقه فيذهب إلى أن الحكم بعدم الدستورية يلغي قوة نفاذ النص التشريعي . ومن انصار هذا الاتجاه الدكتورة نبيلة عبد الحليم كامل إذ ترى أن الحكم الصادر بعدم الدستورية لا يؤدي بذاته إلى إلغاء النص ، وإنما يقتصر أثره على إلغاء قوة نفاذ النص المقضي بعدم دستوريته (9). كما يرى الدكتور عادل عمر شريف أن ما يترتب على الحكم الصادر بعدم الدستورية ، ونشره طبقاً لما أوجبه الدستور في المادة 178 منه ، وبينته المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا ، وما استقر عليه قضاء المحكمة هو الغاء قوة نفاذ النص المقضى بعدم دستوريته ، وهذا الأثر يتساوى عملاً مع الالغاء بعد أن سقط هذا النص من مجال التطبيق وفقاً للتحديد الذي رسمه المشرع ، بحيث لا يكون بوسع أية جهة تطبيقه خلافاً لحكم المحكمة الدستورية العليا الصادر بعدم دستوريته (10). ويؤكد ذلك الدكتور يحيى الجمل إذ يذهب إلى أن إلغاء قوة نفاذ النص يعني من الناحية العملية إلغاء النص نفسه ذلك ان النص المحكوم بعدم دستوريته سيفقد كل قيمة عملية تطبيقية مما يبرر أنه يصبح وكأنه غير موجود (11). ونعتقد رجحان رأي الاتجاه الثالث من الفقه في أن الحكم بعدم دستورية نص تشريعي لا يلغي النص ، وانما يلغي قوة نفاذه . وذلك حتى لا نصطدم بمبدأ الفصل بين السلطات ولأن القول بخلاف ذلك يعد اعتداءً واضحاً من المحكمة الدستورية العليا على السلطة التشريعية ، كما أن التشريع لا يلغى إلا بتشريع من درجته نفسها إعمالاً للقاعدة الخاصة بتقابل الاجراءات. ومن الناحية العملية فانه لا فارق بين إلغاء النص أو إلغاء قوة نفاذه ، ذلك ان انهاء قوة نفاذ النص تعني فقدان النص لقيمته القانونية وصفته الإلزامية وبالتالي يغدو من الناحية التطبيقية أو العملية ملغياً أو معدوماً ذلك أن على جميع السلطات العامة بما فيها المحاكم الامتناع عن تطبيقه مما يعني ان الأمر واحد في النهاية . وهو ما يفسر استخدام العديد من الفقهاء المصريين والمحكمة الدستورية العليا ذاتها تعبير ” إنهاء قوة نفاذ النص” و ” إلغاء او انعدام النص” كمترادفات للدلالة على ما يرتبه حكم عدم الدستورية من أثر . وإن كان الامر يقتضي تدخل السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية – بحسب نوع التشريع – لإلغاء أو تعديل النص القانوني او اللائحي المحكوم بعدم دستوريته إعمالاً للحجية المطلقة لحكم المحكمة الدستورية العليا . ولأن ذلك هو من صميم عملها وفقا لأحكام الدستور.

ثانياً: موقف المحكمة الدستورية العليا.

نصت المادة (49/3) من قانون المحكمة الدستورية العليا على انه “ويترتب على الحكم بعدم الدستورية عدم جواز تطبيق النص من اليوم التالي لتاريخ نشر الحكم”. وكما هو واضح من صياغة النص فان حكم المحكمة الدستورية العليا لا يلغي نص القانون او اللائحة المقضي بعدم دستوريته وإنما يوقف نفاذه أو يفقده قوته الإلزامية. وتطبيقاً لحكم نص المادة (49) ، جرى قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن الأثر المترتب على الحكم بعدم الدستورية هو الغاء قوة نفاذ النص المقضي بعدم دستوريته (12)، مما يعني أن النص المحكوم بعدم دستوريته وإن كان يمتنع على الكافة تطبيقه لمخالفته للدستور إلا أنه ومع ذلك يظل من الناحية النظرية قائماً إلى أن تلغيه السلطة المختصة بذلك ، فإعدام النص او الغائه ليس من سلطة المحكمة الدستورية العليا ، وفي هذا تقول المحكمة في حكمها الصادر في 30 نوفمبر 1996 “.. أن كل ما قصد إليه هذا القانون بنص المادة 49 ،لا يعدو تجريد النصوص القانونية التي قضي بعدم دستوريتها من قوة نفاذها ، لتفقد بالتالي خاصية الإلزام التي تتسم بها القواعد القانونية جميعاً فلا يقوم من بعد ثمة مجال لتطبيقها” (13). وبما ان إلغاء قوة نفاذ النص يتساوى حكمه من الناحية العملية مع إلغاء النص ذاته ، لذا فان المحكمة الدستورية العليا دأبت على استخدام هذه التعابير ” إنهاء قوة نفاذ النص” و ” إلغاء او انعدام النص ” كمترادفات للدلالة على ما يرتبه حكم عدم الدستورية من اثر ، بل واحياناً تستخدم المحكمة هذه التعبيرات في العبارة الواحدة نفسها، من ذلك حكمها الصادر في 19 مايو 1990 حيث تقول فيه : ” لما كان ذلك وكان القضاء بعدم دستورية نص المادة الخامسة مكرراً من القانون رقم 38 لسنة 1972 … يترتب عليه إنعدام هذا النص وإبطال العمل به فيما قرره من أن… ، ومن ثم يكون النعي على نص الفقرة الأولى من المادة الثالثة من القانون المشار إليه قد أضحى غير مجد وبالتالي غير مقبول ، إذ لم يعد له مجال في التطبيق بعد أن ألغى نفاذ النص على كيفية توزيع المقاعد النيابية..” (14). كما قضت في حكمها الصادر في 3 مايو 1995 بان ” إبطال المحكمة الدستورية العليا لنص الفقرة الثانية من المادة 15 من قانون الأحزاب السياسية الصادر بالقانون رقم 40 لسنة 1977 ، مؤداه تجريدها من قوة نفاذها ، وزوال الآثار القانونية المترتبة عليها منذ إقرارها وإمتناع متابعة الإتهام الجنائي بمناسبة تطبيقها ” (15). وفي حكم اخر تقرر ” أن إبطال هذه المحكمة للنصوص القانونية المخالفة للدستور ، يعتبر تقريراً لزوالها نافياً وجودها منذ ميلادها ” (16). بل ان المحكمة الدستورية العليا قد ذهبت في أحد أحكامها إلى أبعد من ذلك مقررة “أن الحكم بعدم دستورية نص يترتب عليه انعدام هذا النص ، وزوال الاثار القانونية لهذا النص لتؤول عدماً ، فلا تولد حقاً ولا يقوم بها مركز قانوني لا للمدعي ولا لغيره ” (17). إلا أن لجوء المحكمة إلى مثل هذه التعبيرات المترادفة قد يثير مشكلة في حالة ما إذا كان النص او النصوص المحكوم بعدم دستوريتها كانت معدلة او أعادت تنظيم ما كانت تنظمه النصوص السابقة على صدورها ، ذلك أن القول بانعدام النص المقضي بعدم دستوريته أو زواله قد يفهم منه أن ذلك يعني إحياء النص القديم بحيث يصبح حكمه هو الواجب التطبيق وهو بالفعل ما اتجهت إليه بعض المحاكم من ذلك محكمة القضاء الاداري في حكمها الصادر في 7 سبتمبر 2000 (18)، على إثر قيام المحكمة الدستورية العليا بالحكم بعدم دستورية قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية الصادر بالقانون رقم 153 لسنة 1999 (19) ، والذي كان قد حل محل القانون رقم 32 لسنة 1964 بشأن الجمعيات والمؤسسات الخاصة حيث نجدها تقرر صراحة بأن “مؤدى ذلك الحكم هو إعمال أحكام قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة رقم 32 لسنة 1964 على النزاع الماثل بحسبان أن الحكم بعدم دستورية قانون الجمعيات والمؤسسات الاهلية الصادر بالقانون رقم 153 لسنة 1999 قد بعث الروح من جديد في قانون الجمعيات والمؤسسات الصادر بالقانون رقم 32 لسنة 1964 وهو القانون الواجب التطبيق على النزاع المعروض”. ويرى الدكتور محمد عبد الواحد الجميلي ان اتجاه محكمة القضاء الإداري كان يمكن قبوله وبأثر رجعي لو أن المشرع كان قد رتب على الحكم بعدم الدستورية إلغاء أو إعدام التشريع المخالف ولكنه لم يرتب هذا الإلغاء أو الإعدام وكل ما رتبه على نشر الحكم في الجريدة الرسمية “عدم جواز تطبيقه” أي الامتناع عن تطبيق النص ، مما يعني أن التشريع أو النص المخالف يظل باقياً إلى أن تلغيه أو تعدله السلطة التشريعية أو التنفيذية حسب طبيعة النص وهي ملزمة بذلك لما يتمتع به حكم الدستورية من حجية مطلقة. إن بقاء النص على الرغم من فقدانه لقوة نفاذه يقف حائلاً يمنع من إعادة النص القديم إلى الحياة مرة اخرى . باعتباره هو القانون الواجب التطبيق (20). ونحن نعتقد – وبتواضع – ان اتجاه محكمة القضاء الإداري لا يمكن قبوله باي حال من الاحوال سواء أكان المشرع قد رتب على الحكم بعدم الدستورية إلغاء القانون المخالف للدستور أم مجرد إلغاء قوة نفاذه أم الامتناع عن تطبيقه . ففي كل الاحوال لا يمكن ترتيب إعادة النص القانوني القديم إلى الحياة مرة اخرى باعتباره هو الواجب التطبيق بعد الحكم بعدم دستورية القانون الذي طبق بعده ، الا اذا تدخلت السلطة التشريعية في إعادة إحياء هذا القانون وذلك اذا ارتأت صحته ومطابقته للدستور، ويكون ذلك عن طريق سن قانون جديد يعمل على احياء العمل بالقانون القديم، اما القول بان هذا القانون القديم يعود من تلقاء نفسه إلى الحياة ويطبق من جديد بمجرد إصدار المحكمة الدستورية لحكمها بعدم دستورية القانون الذي طبق بعده ، فهذا قول منافٍ للمنطق القانوني ولا أساس له من الصحة. ومن جانب اخر نحن لا نؤيد مسلك المحكمة الدستورية العليا في استعمالها لتعابير مثل إلغاء قوة نفاذ النص وإلغاء أو إبطال النص أو انعدامه كتعابير مترادفة ، لأن ذلك يثير نوعاً من الالتباس والغموض ويوقعها في مثل القضية السابقة الشائكة. هذا ومما يمكن اثارته بصدد موضوع الأثر القانوني المترتب على الحكم الصادر بعدم دستورية نص تشريعي ، فرض خاص يتعلق بحالة إذا ما انتهت المحكمة الدستورية العليا إلى أن نصاً واحداً فقط من نصوص التشريع المطعون بعدم دستوريته هو المشوب بهذا العيب من دون بقية النصوص الاخرى ، أو أن جزءاً فقط من النص هو المعيب من دون بقية الاجزاء . فما هو قضاء المحكمة الدستورية العليا في مثل هذه الحالة ؟ القاعدة التي أرستها المحكمة الدستورية العليا بهذا الصدد هي أن الحكم الصادر بعدم الدستورية يقتصر أثره على إبطال أثر النص الذي قضي بعدم دستوريته من دون بقية النصوص الاخرى للقانون أو اللائحة الذي اشتمل على هذا النص غير الدستوري ، والتي تبقى صحيحة ونافذة قانوناً (21)، ومع ذلك يرد على هذه النتيجة استثناءان هما :

أ. اذا كانت نصوص القانون او اللائحة يرتبط بعضها ببعض ارتباطاً لا يقبل الفصل أو التجزئة، فإن عدم دستورية أحد هذه النصوص او إبطال أثره يستتبع بحكم هذا الارتباط إبطال باقي نصوص هذا القانون أو اللائحة ولو لم تتضمنها صحيفة الدعوى الدستورية مما يستوجب الحكم بعدم دستورية القانون برمته. وتطبيقاً لذلك قضت المحكمة الدستورية العليا في حكمها الصادر في 2 يناير 1999 بانه “وحيث ان العوار الدستوري الذي يضم الفقرة الاولى من المادة الاولى من القانون الطعين، يهدم بنيان هذه الضريبة من أساسه ، ذلك أن تصحيح نطاقها ليشمل كل من يتوافر فيه مناط استحقاقها ، ينعكس تأثيره حتماً على سائر نصوصه ، وعلى الأخص تلك المتضمنة تعيين وعائها وتحديد سعرها وشرائحها وحدود وأحوال الاعفاء منها وبيان طرائق وإجراءات تحصيلها. وحيث ان القضاء بعدم دستورية الفقرة الأولى المشار إليها ، يؤدي – بحكم اللزوم العقلي – إلى سقوط نصوص القانون رقم 208 لسنة 1994 برمتها ، ودون حاجة إلى بيان المثالب الدستورية الأخرى التي اعتورتها – وذلك لارتباط هذه النصوص بالفقرة الاولى ارتباطاً لا يقبل التجزئة بحيث تكون معها كلاً واحداً لا يتجزأ مما لا يتصور معه أن تقوم لهذه النصوص قائمة بغير تلك الفقرة ، أو إمكان إعمال أحكامها في غيبتها ” (22). وترتيباً على ما تقدم ، اذا كان النص الذي قضي بعدم دستوريته يرتبط ارتباطاً وثيقاً لا يقبل التجزئة بنصوص اخرى ، فإنه يترتب لزوماً على القضاء بعدم دستورية هذا النص سقوط النصوص الاخرى المرتبطة به. وبذلك قضت المحكمة الدستورية العليا في حكمها الصادر في 2 أغسطس 1997 ” فلهذه الأسباب حكمت المحكمة أولاً : بعدم دستورية ما تضمنته المواد 37 و 38 و 117 من قانون الكمارك الصادر بقانون رقم 66 لسنة 1963 .. ، ثانياً : بعدم دستورية ما تضمنته المادة 119 من ذلك القانون ، من تخويل مدير الكمارك الاختصاص بفرض الغرامة .. ، ثالثا : بسقوط الأحكام الاخرى التي تضمنتها النصوص المطعون عليها ، والتي ترتبط باجزائها المحكوم بعدم دستوريتها ارتباطاً لا يقبل التجزئة ” (23).

ب. إذا كان متعذراً بعد إبطال المحكمة الدستورية العليا للنصوص المخالفة للدستور ، أن تكفل النصوص المتبقية الوفاء بمقاصد التشريع وغاياته ، فانه يترتب على ذلك بطلان التشريع برمته قانوناً كان ام لائحة. وبذلك قضت المحكمة الدستورية العليا في حكمها الصادر في 2 يناير 1993 والذي تقول فيه ” النصوص التي ينتظمها العمل التشريعي لا تعتبر من زاوية العيوب الموضوعية – مهدرة بتمامها إلا في احدى حالتين:-

اولهما: إذا كان فصل النصوص التي أبطلتها المحكمة عما سواها متعذراً ، وكان ملحوظاً عند إقرار المشرع للنصوص جميعها ما بينها من صلة حتمية تجعل ترابطها معاً واتصال أجزائها ببعض ، حقيقة قانونية لامراء فيها.

ثانيهما: إذا كان متعذراً بعد إبطال المحكمة للنصوص المخالفة للدستور أن تكفل النصوص المتبقية الوفاء بمقاصد التشريع ، وغاياته ” (24).

_________________________

1- انظر د. رمزي الشاعر ، النظرية العامة للقانون الدستوري ، مرجع سابق ، ص613

2- انظر د. رمزي الشاعر ، القضاء الدستوري في مملكة البحرين ، مرجع سابق ، ص ص 192-193

3- انظر د. طعيمة الجرف ، القضاء الدستوري ، مرجع سابق ، ص271

4- انظر د. محمد حسنين عبد العال ، القانون الدستوري ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1992 ، ص161

5- القضية رقم 37 لسنة 9 قضائية “دستورية” ، جلسة 19 مايو 1990 ، مجموعة أحكام م.د.ع، الجزء الرابع، ص256 وما بعدها ، راجع ما ورد في هذا الحكم ص ص 66-67 من الأطروحة .

6- انظر د. محمد حسنين عبد العال ، القانون الدستوري ، مرجع سابق ، ص ص162-163

7- انظر د. عزيزة الشريف ، القضاء الدستوري المصري ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1990، ص117 نقلاً عن د. شعبان احمد رمضان ، ضوابط واثار الرقابة على دستورية القوانين ، مرجع سابق ، ص61

8- انظر د. محسن خليل ، النظم السياسية والقانون الدستوري ، الجزء الاول ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، سنة النشر (بدون) ، ص477

9- انظر د. نبيلة عبد الحليم كامل ، الرقابة القضائية على دستورية القوانين – القضاء الدستوري – ، دار النهضة العربية، القاهرة ، 1993 ، ص240

10- انظر د. عادل عمر شريف ، قضاء الدستورية ، مرجع سابق ، ص470

11- انظر د. يحيى الجمل ، القضاء الدستوري في مصر ، مرجع سابق ، ص217، وبنفس المعنى انظر د. محمد جمال عثمان جبريل ، أثر الأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية العليا ، مرجع سابق ، ص21

12- انظر د. إبراهيم محمد حسنين ، اثر الحكم بعدم دستورية قانون الجمعيات الأهلية ، مرجع سابق ، ص219

13- القضية رقم 22 لسنة 18 ق “دستورية” ، جلسة 30 نوفمبر 1996، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء الثامن ، ص195 وما بعدها وبنفس المعنى القضية رقم 19 لسنة 14 ق “دستورية” ، جلسة 8 ابريل 1995 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء السادس،ص597 وما بعدها ، القضية رقم 10 لسنة 8 ق “دستورية” ، جلسة 5 أكتوبر 1991 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء الخامس – المجلد الأول – ، ص15 وما بعدها

14- القضية رقم 37 لسنة 9 ق “دستورية” ، جلسة 19 مايو 1990 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء الرابع ، ص256 وما بعدها

15- القضية رقم 25 لسنة 16 ق “دستورية” ، جلسة 3 يوليو 1995 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء السابع ، ص45 وما بعدها

16- القضية رقم 22 لسنة 18 ق “دستورية” ، جلسة 30 نوفمبر 1996 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء الثامن ، ص195 وما بعدها

17- القضية رقم 37 لسنة 9 ق “دستورية ” ، جلسة 19 مايو 1990 ، مجموعة أحكام م.د.ع، الجزء الرابع ، ص256 وما بعدها ، وبنفس المعنى القضية رقم 19 لسنة 14 ق “دستورية” ، جلسة 8 أبريل 1995 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء السادس ،ص 597 وما بعدها

18- “دائرة المنوفية” الدعوى رقم 10447 لسنة 1 قضائية ، نقلاً عن د. محمد عبد الواحد الجميلي ، اثار الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا ، مرجع سابق ، ص50 هامش رقم (2)

19-حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 153 لسنة 21 ق “دستورية” ، جلسة 3 يونيو 2000 ، مجموعة أحكام م.د.ع، الجزء التاسع ، ص582 وما بعدها ، حيث عدت المحكمة هذا القانون من القوانين المكملة للدستور ومن ثم كان يتعين عرضه على مجلس شورى الدولة لاخذ رأيه فيه عملاً بنص المادة 195 من الدستور.

20- انظر د. محمد عبد الواحد الجميلي ، آثار الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا، مرجع سابق ، ص ص50-51

21- انظر د. محمد صلاح عبد البديع السيد ، قضاء الدستورية في مصر ، مرجع سابق ، ص ص374-375 ، د. صبري محمد السنوسي محمد ، آثار الحكم بعدم الدستورية ، مرجع سابق ، ص68

22- القضية رقم 43 لسنة 17 ق “دستورية” ، جلسة 2 يناير 1999 ، أحكام م.د.ع ، الجزء التاسع ، ص147 وما بعدها ، وفي المعنى نفسه انظر القضية رقم 16 لسنة 15 ق “دستورية” ، جلسة 14 يناير 1995 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء السادس ، ص494 وما بعدها

23- القضية رقم 72 لسنة 18 ق “دستورية” ، جلسة 2 أغسطس 1997 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء الثامن ، ص749 وما بعدها ، وانظر بنفس المعنى القضية رقم 3 لسنة 10 ق “دستورية” ، جلسة 2 يناير 1993 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء الخامس – المجلد الثاني – ، ص114 وما بعدها ، القضية رقم 6 لسنة 15 ق “دستورية” جلسة 15 ابريل 1995 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء السادس ، ص637 وما بعدها

24- القضية رقم 3 لسنة 10 ق “دستورية” ، جلسة 2 يناير 1993 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء الخامس ، المجلد الثاني، ص114 وما بعدها

الأثر القانوني المترتب على الحكم بعدم الدستورية في القضاء الدستوري العراقي :

أولاً: الأثر القانوني المترتب على الحكم بعدم الدستورية في قضاء المحكمة العليا – وفقاً للقانون الأساسي العراقي لسنة 1925 – .

كانت المادة (86) من القانون الأساسي – قبل تعديلها – تنص على أن ” كل قرار يصدر من المحكمة العليا مبيناً مخالفة احد القوانين او بعض أحكامه لأحكام هذا القانون الأساسي يجب أن يصدر بأكثرية ثلثي اراء المحكمة. واذا صدر قرار من هذا القبيل يكون ذلك القانون او القسم المخالف منه لهذا القانون الأساسي ملغياً من الأصل “. لقد اختلف الفقه العراقي بشأن تحديد معنى عبارة ” ملغياً من الاصل ” فيما يتعلق بموضوع تحديد النطاق الزمني لتنفيذ الحكم بعدم الدستورية وهل يكون بأثر رجعي ام مباشر … الا ان خلافاً لم ينشأ بصدد تحديد الأثر القانوني المترتب على الحكم بعدم الدستورية بموجب المادة (86) ، إذ ورد نص المادة (86) صريحاً في هذا الخصوص إذ اعطى المحكمة العليا سلطة إلغاء القانون اذا اتضح لها مخالفته لأحكام القانون الأساسي العراقي ، ومما يعزز رأينا هذا ، هو ما تم النص عليه في المادتين (113) و (114) من القانون الأساسي نفسه ، على اعتبار القوانين المرعية في العراق قبل نشر القانون الأساسي تبقى نافذة وتعد صحيحة من تاريخ تنفيذها إلى ان تبدلها أو تلغيها السلطة التشريعية أو إلى ان يصدر من المحكمة العليا قرار بجعلها ملغاة بموجب أحكام المادة (86). بموجب هاتين المادتين أكد المشرع الدستوري سلطة المحكمة العليا في إلغاء القوانين غير الدستورية وليس مجرد تقرير دستورية أو عدم دستورية مثل هذه القوانين. ولكن السؤال الذي يثار بهذا الصدد هو مدى صحة ما ذهب إليه المشرع في المادتين 113 و 114 عندما ساوى بين سلطة السلطة التشريعية في تعديل أو إلغاء القوانين النافذة ، وبين سلطة المحكمة العليا في إصدار أحكام بإلغاء تشريع نافذ لعدم دستوريته ، ألا يمثل ذلك إخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطات وتعدياً من جانب المحكمة العليا على السلطة التشريعية في ممارسة اختصاصها ؟ كما نستفيد من نص المادة (86) أنه ليس من الضروري أن يصدر الحكم بإلغاء القانون كله، فقد يقتصر الإلغاء على بعض النصوص الواردة فيه ، وذلك متى كانت هذه النصوص لا تمس جوهر القانون . اما اذا كانت هذه النصوص جوهرية فيه ، وهي التي صدر القانون من أجل تقريرها ، أو كانت هذه النصوص مترابطة فيما بينها ترابطاً لا يقبل التجزئة . فعندئذ يجب أن يصدر الإلغاء شاملاً للقانون كله وليس لجزء منه.

وتطبيقاً لما سبق صدر حكم المحكمة العليا بموجب الإرادة الملكية المرقمة (367) لسنة 1939، الذي قررت فيه “عند ملاحظة القانون المشار إليه رأت أكثرية المحكمة ، بأن المادة الرابعة منه قد أناطت بمجلس الوزراء حق منع أي شخص من الإقامة في مكان او أمكنة داخل العراق ، وجعل الشخص تحت مراقبة الشرطة ، … ، وحيث أن تكليف الشخص بأن يكون تحت مراقبة الشرطة أو تكليفه بالإقامة في أماكن دون غيرها يدخل ضمن سلطة القضاء ، فبهذا الاعتبار وجدت أكثرية المحكمة أن المادة الرابعة من قانون منع الدعايات المضرة رقم (20) لسنة (1938) قد خولت مجلس الوزراء صلاحيات هي مناطة – بحكم القانون الأساسي – بالسلطة القضائية ، ولما كانت المادة الخامسة من القانون موضوع البحث مرتبطة بالمادة الرابعة آنفة الذكر ، ترى المحكمة أن المادتين مخالفتين للدستور ، وبالنظر للمادة (86) فقد أصبحتا ملغيتين من الأصل” (1).

إن حكم المحكمة العليا أعلاه نستفيد منه أمرين:-

أولهما: ان عبارة “ملغيتين من الأصل” الواردة في الحكم ، هو تأكيد لحكم المادة (86) من القانون الأساسي العراقي ، وما أراده المشرع الدستوري من ترتيب حكم الالغاء على الحكم الصادر من المحكمة العليا بعدم دستورية قانون.

ثانيهما: ان عبارة “ولما كانت المادة الخامسة من القانون موضوع البحث مرتبطة بالمادة الرابعة آنفة الذكر ، ترى المحكمة أن المادتين المذكورتين مخالفتين للدستور ، وبالنظر للمادة (86) فقد أصبحتا ملغيتين من الأصل” . وهذا يعني ان المحكمة العليا قد طبقت حكم المادة (86) في ان حكم الإلغاء قد يشمل القانون كله وقد يقتصر على الاجزاء المخالفة منه فقط لأحكام الدستور.

هذا وقد عدلت المادة (86) بموجب قانون التعديل الثاني رقم 69 لسنة 1943 وأصبحت الفقرة الأولى منها تنص على أن “كل قرار يصدر من المحكمة العليا ينص على مخالفة احد القوانين او بعض أحكامه لأحكام هذا القانون يجب ان يصدر بأكثرية ثلثي اراء المحكمة . واذا صدر قرار من هذا القبيل يكون ذلك القانون او القسم المخالف منه ملغى من تاريخ صدور قرار المحكمة على أن تقوم الحكومة بتشريع يكفل إزالة الاضرار المتولدة من تطبيق الأحكام الملغاة “.

ونستفيد من نص المادة أعلاه، ان المشرع الدستوري رتب حكم الإلغاء على القانون او القسم المخالف منه للدستور . وهو ذات الحكم الذي قرره في المادة 86 قبل تعديلها ، الا انه جعل النطاق الزمني لتنفيذ حكم الإلغاء لا يمتد بأثر رجعي وانما يسري بأثر فوري ومباشر .

ثانياً: الأثر القانوني المترتب على الحكم بعدم الدستورية في قضاء المحكمة الدستورية العليا – وفقاً لدستور 1968 المؤقت – .

نصت المادة (87) من دستور 1968 المؤقت على ان ” تشكل بقانون محكمة دستورية عليا.. ويكون قراراها ملزماً” ونصت المادة السادسة في فقرتها الاولى من قانون المحكمة الدستورية العليا رقم 159 لسنة 1968 على أن “تتخذ المحكمة الدستورية العليا القرار اللازم حول الموضوع المعروض عليها واذا قررت بمخالفة القانون أو بعض مواده لأحكام الدستور أو مخالفة النظام أو المرسوم لسندهما القانوني اصبح القانون أو الجزء المخالف منه وكذلك النظام أو المرسوم ملغى اعتباراً من تاريخ صدور القرار”.

يتضح من النص أعلاه (م6/1) ان حكم الإلغاء هو الأثر القانوني المترتب على القانون او الجزء المخالف منه لأحكام الدستور . والنص ورد صريحاً في تحديد هذا الأثر مما يزيل أي لبس او غموض حول هذا الموضوع. ولم يصدر عن المحكمة الدستورية العليا أي قرار يمكن ان نستوضح منه عن اتجاهها في تحديد الأثر القانوني المترتب على الحكم بعدم دستورية قانون لمخالفته لأحكام الدستور.

ثالثاً: الأثر القانوني المترتب على الحكم بعدم الدستورية في قضاء المحكمة الاتحادية العليا – وفقاً لقانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لسنة 2004 – .

نصت الفقرة ج من المادة الرابعة والأربعين من قانون إدارة الدولة العراقية على انه ” إذا قررت المحكمة الاتحادية أن قانوناً أو نظاماً أو تعليمات او اجراء جرى الطعن به انه غير متفق مع هذا القانون يعد ملغياً “. كما نصت الفقرة ثانياً من المادة -4- من قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم 30 لسنة 2005 على ان ” تتولى المحكمة الاتحادية الفصل في المنازعات المتعلقة بشرعية القوانين والانظمة والتعليمات والأوامر الصادرة من أية جهة تملك حق اصدارها والغاء التي تتعارض منها مع أحكام قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية”. ان النص ورد صريحاً سواء في قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية ام في قانون المحكمة الاتحادية العليا ، بشأن ترتيب حكم الالغاء على القوانين والانظمة والتعليمات والأوامر المقضي بعدم دستوريتها لمخالفتها لاحكام الدستور. وجدير بالذكر انه لم يصدر أي قرار عن المحكمة الاتحادية العليا يمكن ان نستوضح منه اتجاهها في هذا المجال.

رابعاً: الأثر القانوني المترتب على الحكم بعدم الدستورية في قضاء المحكمة الاتحادية العليا – وفقاً لدستور جمهورية العراق لسنة 2005 – .

على الرغم من خلو دستور جمهورية العراق لسنة 2005 من نص يحدد الأثر القانوني المترتب على الحكم بعدم دستورية قانون أو نظام لمخالفته لأحكام الدستور ، إلا أن حكم الإلغاء للقوانين والأنظمة المخالفة للدستور ، ثابت بحكم المادة (4/ثانياً) من قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم 30 لسنة 2005 – هذا القانون بقي ساري المفعول في ظل دستور جمهورية العراق لسنة 2005 – (2) إذ تنص هذه المادة : ” تتولى المحكمة الاتحادية العليا المهام التالية : … ثانياً: الفصل في المنازعات المتعلقة بشرعية القوانين والقرارات والأنظمة والتعليمات والأوامر الصادرة من أية جهة تملك حق إصدارها وإلغاء التي تتعارض منها مع أحكام قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، ..” وبناء على هذا النص يترتب على الحكم الصادر من المحكمة الاتحادية العليا بعدم دستورية قانون أو نظام في ظل دستور جمهورية العراق لسنة 2005 ، إلغاء هذا القانون أو النظام لمخالفته لأحكام الدستور ، مع ما يرتبه حكم الإلغاء من انعدام النص التشريعي وزوال آثاره المادية والقانونية.

_________________

1- القانون الأساسي مع تعديلاته ، مرجع سابق ، ص ص106 – 107

2- هذا القانون يبقى – بشكل مؤقت – ساري المفعول لحين صدور قانون جديد للمحكمة الاتحادية العليا تنفيذاً لنص الفقرة – ثانيا – من المادة (92) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 ، والتي نصت على أن “تتكون المحكمة الاتحادية العليا ، من عدد من القضاة ، وخبراء في الفقه الإسلامي ، وفقهاء القانون ، يحدد عددهم ، وتنظم طريقة اختيارهم ، وعمل المحكمة ، بقانون يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب”.

الأثر القانوني المترتب على الحكم بعدم الدستورية في قضاء المحكمة الاتحادية العليا الأمريكية :

ان القضاء الأمريكي حرص منذ بداية عهده على تأكيد موقفه السلبي من القوانين التي يقرر تعارضها مع نصوص الدستور ، فبين انه لا يقضي ببطلانها ولا بإلغائها ، بل هو لا يرتب على مخالفتها للدستور أي جزاء عام يمسها في كيانها ، وإنما كل ما يفعله إذا أكتشف تعارضها مع الدستور أن يمتنع عن تطبيقها في خصوص النزاع المعروض أمامه (1). وقد رددت المحكمة الاتحادية العليا هذا المعنى في أحكامها ، منها حكمها الصادر سنة 1936 في القضية المعروفة بـ United States v. Butler ، حيث أوضحت فيه أنه يجب الا يساء فهم مهمة المحكمة في الرقابة على دستورية القوانين ، فكثيراً ما يقال أن المحكمة تبطل القوانين المخالفة للدستور وهو قول غير صحيح ، إذ كل ما تفعله المحكمة أنها تضع النص الدستوري إلى جوار النص القانوني المطعون فيه لتحدد حقيقة ما بينهما من توافق أو تعارض ، فإذا فصلت في هذه المشكلة ورتبت عليها نتيجتها في خصوص الدعوى المعروضة أمامها فقد انتهت مهمتها بالنسبة للقانون (2). ويتضح من مسلك القضاء الأمريكي أن سلطته تتوقف عند حد الامتناع عن تطبيق القانون المخالف للدستور . ويكاد يجمع الفقه على ان الأثر القانوني المترتب على صدور حكم بعدم الدستورية في أمريكا يتمثل في الامتناع عن تطبيق القانون المخالف للدستور حيث لا تملك المحاكم الأمريكية إبطال مثل هذا القانون او إلغائه ، وانما يقف سلطانها عند حد إهمال القاضي لحكم القانون غير الدستوري والامتناع عن تطبيقه في القضية المعروضة عليه . غير أنه لما كان القضاء الأمريكي يأخذ بنظام السوابق القضائية ، فإن الحكم الذي يصدر من المحكمة الاتحادية العليا – باعتبارها تمثل قمة الجهاز القضائي وصاحبة القول الفصل في دستورية القوانين – بعدم دستورية قانون معين والامتناع عن تطبيقه يكون ملزماً عملاً وقانوناً للمحاكم الأخرى كافة، الأمر الذي من شأنه ان يجعل الامتناع عن تطبيق القانون من الناحية العملية وكأنه بمثابة إلغاء له(3). ويرتبط بالأثر القانوني المترتب على الحكم الصادر بعدم الدستورية في النظام الأمريكي حالة ما إذا وجدت المحكمة بعد فحصها للتشريع الطعين أن جزءاً من أجزائه أو بعضا منها يتعارض مع نصوص الدستور ، بينما تتفق باقي أجزائه مع الدستور ، فكيف يكون قضاؤها حينئذ؟ جرت المحكمة الاتحادية العليا منذ أول عهدها بالرقابة على تقرير قاعدة بديهية في هذا الشأن ، وهي انها لا تملك إلا القضاء بعدم دستورية الأجزاء المتعارضة مع الدستور وحدها ، من دون ان يمس حكمها سائر أجزاء القانون أو يتعرض لها . والواقع أن هذا المسلك هو وحده المتصور في أمثال هذه الحالات إذ ليس امام المحكمة وسيلة قانونية مقبولة يمكن أن تستند إليها لابطال الأجزاء المتفقة مع الدستور . على أن المحكمة تشترط لإعمال هذه القاعدة أن تكون الأجزاء المتفقة مع الدستور مستقلة عن الأجزاء المخالفة له بحيث يمكن الإبقاء عليها وحدها ، وأن يتصور بعد ذلك تنفيذها على نحو يحقق الغرض الأساسي من التشريع ولو تحقيقاً جزئياً ناقصاً (4).

ويدل استقراء الأحكام الكثيرة التي تعرضت لهذه المشكلة (5) ، على أن المحكمة تعتمد في بحثها عن إمكان الفصل بين أجزاء التشريع على معيار مزدوج ذي شقين : أحدهما موضوعي يتصل بنصوص القانون نفسها ، والآخر ذاتي متعلق بنية واضعي هذا القانون. ومن أوضح الأحكام التي عبرت فيها المحكمة عن هذا المعيار المزدوج حكمها الصادر في عام 1924 في قضية Dorchy v. Kansas حيث قالت : ” إن الجزء السليم من القانون لا يعتبر ممكن الانفصال عن الأجزاء المخالفة للدستور إلا إذا تحقق فيه شرطان : أولهما : أن يتضح انه يستطيع وحده إنتاج أثر قانوني . ثانيهما: أن يظهر ان المشرع لو علم بسقوط الأجزاء المخالفة للدستور لاختار مع ذلك بقاء هذا الجزء” (6) . بيد أن المحكمة لم تلتزم في كثير من المناسبات هذا المعيار الذي وضعته لنفسها ، فأغفلت في كثير من الاحيان نية المشرع الحقيقية مستغلة في ذلك ، السلطة التقديرية الواسعة التي منحتها لنفسها بهذا المعيار المرن ، بحيث تتوصل إلى إبطال ما ترى إبطاله من نصوص القانون التي لا تتفق مع اتجاهها السياسي أو الاقتصادي ، إذ يكفيها لذلك أن تتصيد تعارض جزء صغير من اجزاء القانون مع الدستور لتقضي عليه كله بالبطلان. وقد شعر الكونكرس بالخطر الذي يتهدد قوانينه من جراء سلطة المحكمة الواسعة في تقدير مدى الارتباط بين أجزاء التشريع فلجأ إلى تضمين تشريعاته المهمة بما يسمى بشرط التجزئة (Clause of separability or severability) وهو ما يعني أن اجزاء القانون منفصل بعضها عن بعض بحيث لا يؤثر الحكم بعدم دستورية بعضاً منها على باقي أجزاء القانون الأخرى (7). وقد كان المنطق يقتضي – طبقاً للمعيار الذي وضعته المحكمة بصدد تحري حقيقة نية المشرع – في ظل وجود شرط التجزئة أن تلتزم حكم هذا الشرط ، وأن تبقى على الاجزاء السليمة من القانون ، بيد أنها لم تفعل وأخضعت هذا الشرط بدوره للفحص والتقدير . ومن المناسبات الهامة التي أهدرت فيها المحكمة قيمة ” نص التجزئة ” حكمها الصادر في عام 1936 في قضية Carter Coal ، وهو الحكم الذي قررت فيه عدم دستورية قانون الفحم المسمى بقانون جوفي The Guffy Act”” ، وذلك أن هذا القانون يتضمن طائفتين من النصوص : تتصل الأولى منها بتحديد حد أدنى وحد أقصى لاسعار الفحم ، وتتضمن إنشاء لجنة خاصة لتنظيم تحديد هذه المستويات ، اما المجموعة الثانية من النصوص فتتعرض لمشكلة العلاقات العمالية المتصلة بصناعة الفحم ، إضافة إلى حماية العمال وتحسين شروط العمل كتحديد حد أدنى للأجور ، وحد أقصى لساعات العمل ، وقد حرص الكونكرس على الفصل بين طائفتي النصوص في صياغة القانون ، ولم يكتف بذلك فصرح بان القضاء بعدم دستورية أحد اجزاء القانون لا يؤثر في قيام الأجزاء الاخرى المتبقية . ولما عرض القانون على المحكمة انتهت من فحصها إلى عدم دستورية النصوص الخاصة بالعلاقات العمالية ثم همت بمناقشة النصوص الخاصة بتحديد الاسعار ، غير أنها اكتفت بتقرير ارتباطها بالنصوص الأولى ذاهبة إلى أن في هذا الارتباط ما يكفي لإسقاطها جميعا ويغني المحكمة عن الدخول تفصيلاً في مناقشة دستوريتها ، ولم تستند المحكمة في تقريرها لقيام الارتباط بين جزئي القانون إلى استحالة الفصل بينهما ، وإنما إلى اعتقادها بان الكونكرس ما كان يقصد إبقاء النصوص السليمة مع سقوط الاجزاء المخالفة للدستور ، بحجة أن جزئي التشريع ليسا سوى دعامتين متكافئتي القيمة لبرنامج تشريعي واحد ، وبغيرهما معاً لا يمكن أن تقوم لذلك البرنامج قائمة (8). وانتهت المحكمة إلى القضاء بعدم دستورية القانون في مجمله على الرغم من وجود شرط التجزئة، وهو الأمر الذي دفع رئيسها القاضي هيوز إلى كتابة رأي مستقل يستنكر فيه مسلك المحكمة بشأن إبطال باقي أجزاء القانون (9).

ويلاحظ أن المحكمة الاتحادية العليا قد عدلت عن هذا المسلك الغريب فيما بعد في حكم لها أصدرته في عام 1941 في قضية Watson v. Buch (10) ، وفي هذه الدعوى قضت المحكمة الاتحادية الدنيا بعدم دستورية تشريع صادر في ولاية فلوريدا بعد ان انتهت إلى عدم دستورية جزء منه فحسب ، واستندت في قضائها إلى قيام الارتباط بين الاجزاء السليمة والاجزاء المخالفة للدستور ، على الرغم من أن القانون قد تضمن نصاً على تجزئة نصوصه عند سقوط بعضها. وقد نقضت المحكمة الاتحادية العليا هذا الحكم مستعملة عبارات قريبة الشبه بعبارات القاضي هيوز التي ضمنها رأيه المخالف في قضية كارتر التي سبق ذكرها ، ومضيفة إلى ذلك أن الأصل الا تحاول المحكمة الاتحادية أن تنحل للهيئة التشريعية في الولاية قصداً مخالفاً للقصد الذي عبر عنه القانون صراحة بنصه على التجزئة ، وذلك ما لم تحدد المحكمة العليا في الولاية هذا القصد على نحو مخالف (11). الا ان المحكمة الاتحادية العليا لم تستقر على هذا العدول عن النهج السابق حيث أعادت هذا النهج في عام 1973 في قضية Tilton v. Richardson ، حيث حكمت بعدم دستورية قانون صلاحيات الحرب لعام 1973 مع ان القانون ينص على ان ” اذا حكم بعدم دستورية أي جزء من هذا القانون تجاه أي شخص أو في ظل أي ظرف معين فان المتبقي من هذا القانون المركب لا يتأثر باي حال بالجزء المحكوم بعدم دستوريته ” . فعلى الرغم من وجود هذا النص الخاص بالتجزئة حكمت محكمة Burger بعدم دستورية القانون بأكمله (12).

_____________________

1- قضية Shephard v.Wheeling، 30 W.V.A. 479

نقلاً عن د. احمد كمال ابو المجد ، الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية والاقليم المصري، مرجع سابق ، ص221 ، د. عزيزة الشريف ، دراسة في الرقابة على دستورية التشريع ، مرجع سابق ، ص234

2-قضية United States v. Butler 297 U.S. 1 (1956)

نقلا عن د. احمد كمال ابو المجد ، التاريخ الدستوري للولايات المتحدة الأمريكية ، مرجع سابق ، ص17 ، د. رمزي الشاعر ، النظرية العامة للقانون الدستوري والنظام الدستوري للجمهورية العربية المتحدة ، مرجع سابق ، ص265

3- انظر د. رمزي الشاعر ، القضاء الدستوري في مملكة البحرين ، مرجع سابق ، ص146 ، د. صبري محمد السنوسي محمد ، آثار الحكم بعدم الدستورية ، مرجع سابق ، ص15 ، د. عبد الحميد متولي ، و د. سعد عصفور، و د. محسن خليل ، القانون الدستوري والنظم السياسية ، القسم الثاني ، مرجع سابق ، ص54

4- انظر د. عزيزة الشريف ، دراسة في الرقابة على دستورية التشريع ، مرجع سابق ، ص238 ، د. إبراهيم حسنين، الرقابة القضائية على دستورية القوانين في الفقه والقضاء ، مرجع سابق ، ص280

5- انظر حكم المحكمة العليا الأمريكية في قضية Allen v. Louisiana، 103 U.S.80 (1880)

وفيه تقول المحكمة :

“..if the parts are wholly independent of each others، that which is constitutional may stand while that which is unconstitutional will be neglected.”

وفي نفس المعنى انظر أحكام المحكمة الاتحادية العليا التالية:

Packet Co. v. Keokuk ، 59 U.S. 80 (1877).

Penniman case ، 103 U.S. 715 (1880).

Poindexter v. Green how ، 114 U.S. 270 (1885)

Presser v. Illinois،116 U.S. 252 (1880)

Berea College v. Kentucky ، 211 U.S. 45 (1908)

Brezee v. Michigan ، 241 U.S. 340 (1916)

Hill v. Wallce ، 259 U.S. 44 (1922)

نقلاً عن د. أحمد كمال ابو المجد ، الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية والاقليم المصري، مرجع سابق ، ص225 هامش (1)

6- حكم المحكمة العليا في قضية Dorchy v. Kansas 264 U.S. 288 (1924)

نقلاً عن د. أحمد كمال أبو المجد ، المرجع السابق نفسه ، ص 226

7- انظر د. شعبان احمد رمضان ، ضوابط واثار الرقابة على دستورية القوانين ، مرجع سابق ، ص206

8- انظر د. عزيز الشريف ، دراسة في الرقابة على دستورية التشريع ، مرجع سابق ، ص ص240-241 ، د. شعبان أحمد رمضان ، ضوابط واثار الرقابة على دستورية القوانين ، مرجع سابق ، ص ص606 – 607 ، وانظر

Cushman (Robert E.); Cases in Constitutional Law، Ibid.، P. 52

9- كتب القاضي هيوز رأياً مستقلاً يقرر فيه أنه مع موافقته على النتيجة التي انتهت اليها المحكمة بشأن النصوص “العمالية” إلا أنه لا يقرها مطلقاً على مسلكها في معاملة الأجزاء الباقية من التشريع ، كما أنه يرى في النص التشريعي الصريح على استقلال أجزاء القانون ما يجب أن يمنع المحكمة من كل محاولة اخرى للكشف عن نية واضعي القانون . على أن هيوز مع تسليمه بالقيمة المطلقة للنص على التجزئة في الكشف عن نية المشرع ، فإنه لا يرى مع ذلك أن هذه النية هي العنصر الذي يجب ان تعول عليه المحكمة في تقديرها لقيام الارتباط بين أجزاء القانون ، إذ يجب أن تصان النصوص القانونية عن مثل هذه المعايير المطاطة التي تعتمد مجرد التخمين والرجم بالظنون . وانما الواجب ان تفحص المحكمة نصوص القانون فحصاً موضوعياً لترى ان كانت – بطبيعتها – تحتمل الفصل بين اجزائها او لا تحتمله .

نقلاً عن د. أحمد كمال ابو المجد ، الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية والاقليم المصري ، مرجع سابق ، ص ص228-229

10- حكم المحكمة العليا الأمريكية في قضية ( 313 U.S. 387 (1941 ، Waston v. Buch،

نقلاً عن المرجع السابق نفسه ، ص229

11- ويقصد الحكم بهذه العبارة الاخيرة ان يؤكد القاعدة المقررة من ان المحاكم الاتحادية تلتزم بالتفسير الذي تعطيه المحكمة العليا في الولاية لقوانين تلك الولاية . نقلاً عن د. عزيزه الشريف ، دراسة في الرقابة على دستورية التشريع، مرجع سابق ، ص 242 ، د. ابراهيم حسنين ، الرقابة القضائية على دستورية القوانين في الفقه والقضاء ، مرجع سابق ، ص ص281-285

12- انظر Abraham (Henry) ; The Judicial process، 3ed Ed.، Oxford University Press ، 1975، P. 374.

المؤلف : مها بهجت يونس الصالحي
الكتاب أو المصدر : الحكم بعدم دستورية نص تشريعي ودورة في تعزيز دولة القانون

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .