الطعن 2421 سنة 2 ق جلسة 5 / 12 / 1932 مج عمر ج 3 ق 46 ص 45 جلسة 5 ديسمبر سنة 1932

برياسة سعادة عبد العزيز فهمي باشا وحضور حضرات محمد لبيب عطية بك وزكي برزي بك ومحمد فهمي حسين بك وأحمد أمين بك.
—————-
(46)
الطعن رقم 2421 سنة 2 القضائية

(أ ) إعدام. طريقة الإعدام. عدم ذكرها بالحكم. لا عيب. (المادة 13 ع)
(ب) شروع في قتل. السبب الذي حال دون إتمام الجريمة. فهمه من سياق الحكم. عدم بيانه صراحة. لا أهمية له.
(جـ) ظرف سبق الإصرار. التروّي والتفكير المطمئن. شرط في توافره.
)د) ظرف الترصد. ظرف مستقل. حكمه حكم سبق الإصرار تماماً. توافره وحده مع قصور الحكم في بيان توافر ظرف سبق الإصرار. لا نقض.
)هـ) عقوبة ذات حدّ واحد. توقيعها. ذات حدّين، توقيع أقصاها. موجبات إيقاعها. لا ضرورة لذكرها. استعمال الرأفة. النزول عن درجة العقوبة المنصوص عليها. بيان موجب ذلك. لا ضرورة.
)و) عدم الخروج في تقدير العقوبة عن النصوص القانونية. ذكر موجبات الشدّة أو موجبات التخفيف. لا ضرورة. ذكر علل خاطئة للشدّة أو للتخفيف. لا نقض.

—————–
1 – لا يعيب الحكم القاضي بالإعدام عدم نصه على ذكر طريقة ذلك الإعدام. أما كون الإعدام يكون تنفيذه بالشنق، كما قضت به المادة 13 عقوبات، أو بأي طريقة أخرى، فهذا عمل من أعمال سلطة التنفيذ، ولا شأن فيه لسلطة الحكم.
2 – لا أهمية لعدم بيان السبب الذي حال دون إتمام الجريمة في تهمة الشروع في القتل، ما دام سياق الحكم يفهم منه هذا السبب.
3 – إن ظرف سبق الإصرار يستلزم أن يكون لدى الجاني من الفرصة ما يسمح له بالتروّي والتفكير المطمئن فيما هو مقدم عليه. فمن أوذي واهتيج ظلماً وطغياناً وأزعج من توقع تجديد إيقاع الأذى به، فاتجهت نفسه إلى قتل معذبه، فهو فيما اتجه إليه من هذا الغرض الإجرامي الذي يتخيله قاطعاً لشقائه يكون ثائراً مندفعاً لا سبيل له إلى التصبر والتروّي والأناة، فلا يعتبر ظرف سبق الإصرار متوفراً لديه إذا هو قارف القتل الذي اتجهت إليه إرادته.
4 – الترصد ظرف مستقل، حكمه في تشديد عقوبة القتل العمد حكم سبق الإصرار تماماً. فإذا أثبت حكم توافر ظرف الترصد، وقصر عن بيان توافر ظرف سبق الإصرار، فلا ينقض. وذلك لأن القانون، إذ نص في المادة 194 عقوبات على عقاب من يقتل نفساً عمداً مع سبق الإصرار أو الترصد، فقد غاير بين الظرفين وأفاد أنه لا يعلق أهمية على ضرورة وجود سبق الإصرار مع الظرف الثاني وهو الترصد، بل يكفي في نظره ثبوت مجرّد الترصد مادياً على من يقتل متعمداً، بقطع النظر عن كل اعتبار آخر.
5 – للمحكمة توقيع العقوبة إذا كانت ذات حدّ واحد كعقوبة الإعدام، أو أقصاها إذا كانت ذات حدّين، بدون أن تكون ملزمة ببيان موجب ذلك. وكل ما هي ملزمة به إنما هو مجرّد الإشارة إلى النص المبيح. ولها أيضاً، إذا هي أرادت استعمال الرأفة والنزول عن درجة العقوبة المنصوص عليها إلى درجة أخف منها، أن تفعل دون أن تكون ملزمة وجوباً ببيان موجب هذا العدول عن المنصوص عليه إلى ما هو أخف منه.
6 – محكمة الموضوع، ما لم تخرج في تقدير العقوبة عن النص القانوني، لا تسأل حساباً عن موجبات الشدّة ولا عن موجبات التخفيف.

الوقائع
اتهمت النيابة العامة هذين الطاعنين بأنهما في ليلة السبت 19 مارس سنة 1932 الموافق 12 ذي القعدة سنة 1350 ببندر البداري مركزها مديرية أسيوط: الأوّل قتل عمداً يوسف الشافعي أفندي مأمور البداري بأن أطلق عليه عياراً نارياً قاصداً قتله فأحدث به الإصابات المبينة بالكشف الطبي والتي أحدثت الوفاة وكان ذلك مع سبق الإصرار والترصد، وشرع في قتل فهيم أفندي نصيف مهندس الري عمداً بأن أحدث به الإصابات المبينة بالكشف الطبي وكان قاصداً قتله فلم يتم لأمر خارج عن إرادته. والثاني في الزمن والمكان المذكورين اشترك مع الأوّل في الجريمتين سالفتي الذكر وذلك بطريق الاتفاق والمساعدة بأن اتفق معه على ارتكاب الجريمة وساعده بالحضور في مكان الحادث فوقعت الجريمتان بناء على هذا الاتفاق والمساعدة. وطلبت من حضرة قاضي الإحالة إحالتهما إلى محكمة جنايات أسيوط لمحاكمة الأوّل بالمواد 194 و194 و45 و46 من قانون العقوبات والثاني بها وبالمادتين 40 و41 من القانون المذكور. فقرر حضرته في 10 إبريل سنة 1932 بإحالتهما إليها لمحاكمتهما بالمواد السالفة الذكر.
وادعى الشافعي حنفي أفندي بحق مدني وطلب الحكم له بمبلغ جنيه مصري تعويضاً قبل المتهمين بالتضامن.
وبعد أن سمعت المحكمة الدعوى حكمت حضورياً في 21 يونيه سنة 1932 عملاً بالمواد 194 و194 و45 و46 و32 من قانون العقوبات بالنسبة للأول وبالمواد 194 و40 فقرة ثانية وثالثة و41 و194 و45 و46 و199 و32 من القانون المذكور بالنسبة للثاني بإعدام أحمد جعيدي عبد الحق وبمعاقبة حسن أحمد أبي عاشور الشهير بحسونه بالأشغال الشاقة مؤبداً وإلزامهما متضامنين بأن يدفعا للمدعي بالحق المدني الشافعي أفندي حنفي جنيهاً واحداً تعويضاً مع المصاريف المدنية وألف قرش أتعاب محاماة.
فطعن المحكوم عليهما في هذا الحكم بطريق النقض في يوم صدوره وقدّم كل من حضرتي المحاميين مرقس فهمي أفندي وإبراهيم ممتاز أفندي عن الأوّل تقريراً بالأسباب في 9 يوليه سنة 1932 ولم يقدّم الثاني أسباباً لطعنه. وحضر الأستاذ مرقس فهمي جلسة المرافعة وترافع بما هو مدوّن بمحضرها.

المحكمة
بعد سماع المرافعة الشفوية والاطلاع على الأوراق والمداولة قانوناً.
بما أن الطاعن الثاني لم يقدم أسباباً لطعنه فهو غير مقبول شكلاً.
وبما أن الطاعن الأوّل أحمد جعيدي عبد الحق قدّم طعنه في الميعاد وكذلك أسبابه فهو مقبول شكلاً.
وبما أن مبنى الوجهين الأوّلين من التقرير الثاني نقد أدلة الثبوت التي أخذت بها المحكمة وموازنة قوّتها وانتقاص قيمتها وهذا مما يتعلق بموضوع الدعوى ولا شأن لمحكمة النقض والإبرام به.
وبما أن شطراً من الوجه الثالث من هذا التقرير يتضمن أمرين (الأوّل) أن الحكم إذ قضى بإعدام الطاعن لم يذكر طريقة ذلك الإعدام (والثاني) أنه في جريمة الشروع في قتل المهندس لم يبين السبب الخارج عن إرادة الجاني الذي حال دون إتمام الجريمة.
وبما أن المادة 194 من قانون العقوبات التي طبقتها المحكمة قد اقتصرت على النص بأن مرتكب الجريمة المشار إليها فيها يكون جزاؤه الإعدام بدون نص على طريقته، فالحكم من هذه الجهة قانوني لا شبهة فيه. أما كون الإعدام يكون تنفيذه بالشنق كما قضت به المادة (13) عقوبات أو بأي طريقة أخرى فهذا عمل من أعمال سلطة التنفيذ ولا شأن فيه لسلطة الحكم. كما أنه لا أهمية لعدم بيان الأمر الذي حال دون إتمام الجريمة في تهمة الشروع في قتل المهندس (أوّلاً) لأن هذه الجريمة قد جبت عقوبتها بعقوبة جريمة القتل التي اقترنت هي بها (وثانياً) لأن سياق الحكم يفهم منه هذا السبب وهو أن المجني عليه نجا من الموت بالعلاج وبأن الإصابة جاءته في غير مقتل. ولذلك يكون هذا الشطر من الوجه الثالث متعين الرفض.
وبما أن باقي الوجه الثالث من التقرير الثاني يتضمن في جوهره ما ذكر تفصيلاً في التقرير الأول. وهذا التقرير الذي شرحه وكيل الطاعن في المرافعة الشفهية مبناه أن الوقائع التي أثبتها الحكم المطعون فيه في معرض بيانه لتوافر ظرف سبق الإصرار والترصد إذا كانت تدل حقيقة على ما يحفظ الطاعن ويدعوه إلى قتل المجني عليه فإنها لا تدل على قيام ظرف سبق الإصرار بمعناه القانوني إذ تلك الوقائع تتضمن إثباتاً لغلظة المأمور المجني عليه ولشيء كثير من أفعال جنائية محرّمة كان يرتكبها كل مساء في معاملته للطاعن، وهذا من شأنه أن يجعل الطاعن في حالة اضطراب لا استقرار فيه وهياج مستمر لا فرصة معه للتفكير الهادئ الذي هو شرط ضروري لتحقق سبق الإصرار، وإذن فتكون المحكمة أخطأت في تطبيق القانون إذ اعتمدت وجود ذلك الظرف مع أنه منعدم. وكذلك هي أخطأت في اعتبار أفاعيل المأمور الإجرامية ضرباً من القيام بالواجب فشدّدت العقوبة مع أن تلك الأفاعيل من موجبات التخفيف، ولذلك فهو لا يطلب نقض الحكم وتطبيق القانون بل يطلب نقضه وإعادة المحاكمة من جديد.
وبما أنه تبين من مراجعة الحكم المطعون فيه أنه في معرض بيان ظرف سبق الإصرار والترصد ذكر ما يلي حرفياً: “وبما أن سبق الإصرار واضح من الوقائع السالف ذكرها وبما تبين من الضغينة التي يحملها المتهمان للقتيل بسبب إنذارهما مشبوهين والملابسات التي أحاطت بتوجيه هذا الإنذار إليهما وإمعان القتيل في تشديد المراقبة عليهما ومعاملتهما بالشدة التي قال بها أحمد جعيدي في عريضته المؤرّخة 2 يناير سنة 1932 المقدّمة لوكيل النيابة والتي ذكرها المتهم الثاني أيضاً في التحقيقات بأنه كان يربط من رجليه في محل الخيل ويضرب ويهان إهانة كثيرة والتي أيدها أيضاً ما ذكره محمد نصار بك بالجلسة وكانت هذه الشدّة في معاملتهما وإنذارهما مشبوهين مما أذكى حفيظتهما ضدّ القتيل فصمما على التربص له وقتله وأخذا يتحينان الفرص إلى أن كانت ليلة الحادثة وهما يعلمان من مراقبتهما للمأمور في غدواته وروحاته أنه اعتاد غالباً أن يتوجه لزيارة مهندس الري في عمله مساءً والعودة من نفس الطريق الذي كمنا بالقرب منه حتى إذا مر عليهما في ليلة الحادثة فاجأه أوّلهما بإطلاق النار عليه من البندقية التي أعدّها لهذا الغرض”.
وبما أن شهادة محمد نصار بك التي أشارت إليها المحكمة واعتمدتها ورد بها كما يؤخذ من محضر الجلسة: “أن المأمور المجني عليه كان يطلب نوم الطاعنين بالمركز وفي نومهم كانت تحصل لهم إهانة من العساكر لسيرتهم الرديئة فتألموا وتأثروا من هذا ومن الإهانة”. ولما سئل عن بيان هذه الإهانة قال: “الحاجات والإهانات اللي سمعناها جامدة”. ولما سئل عما سمعه من ذلك قال: “سمعت أن المأمور يأمر بقص أشنابهم واللبد يقصها ويجيب لهم رشمة ليف ويعملها لهم زي لجام الجحش”. ولما سئل عما كان يحصل بعد إلجامهم قال: “شوف الجحش يبرطع إزاي”. وقال أيضاً إجابة على سؤال المحكمة: “كان يكلفهم أن يقولوا أنا مره”. ولما سئل قال على سبيل التأكيد: “حصل إنه دق العصى في طيـ…….”. ولما سئل عن إهانات أخرى قال: “أي الشيء اللي يخليهم يرجعوا عن السرقات عمله وياهم”. ولما كرر عليه السؤال قال: “هو فيه أزيد من دق العصى في طيـ… وقص شنبه وقصته وإلجامه؟!”.
وبما أن هذه المعاملة التي أثبتت للمحكمة أن المجني عليه كان يعامل الطاعنين بها هي إجرام في إجرام، ومن وقائعها ما هو جناية هتك عرض يعاقب عليها القانون بالأشغال الشاقة، وكلها من أشدّ المخازي إثارة للنفس واهتياجاً لها ودفعاً بها إلى الانتقام. ولو صح أن المأمور كان يطلب نوم الطاعنين بمركز البوليس كما يقول الشاهد نصار بك الذي اعتمدت المحكمة شهادته، وكان هذان الطاعنان يتخوّفان من تكرار ارتكاب أمثال هذه المنكرات في حقهما كما يقول وكيل أحمد جعيدي في تقرير الأسباب وفي المرافعة الشفهية فلا شك أن مثلهما الذي أوذي واهتيج ظلماً وطغياناً والذي ينتظر أن يتجدّد إيقاع هذا الأذى الفظيع به – لا شك أنه إذا اتجهت نفسه إلى قتل معذبه فإنها تتجه إلى هذا الجرم موتورةً مما كان منزعجةً واجمةً مما سيكون، والنفس الموتورة المنزعجة هي نفس هائجة أبداً لا يدع انزعاجها سبيلاً لها إلى التصبر والسكون حتى يحكم العقل – هادئاً متزناً متروّياً – فيما تتجه إليه الإرادة من الأغراض الإجرامية التي تتخيلها قاطعة لشقائها. ولا شك بناء على هذا أن لا محل للقول بسبق الإصرار إذ هذا الظرف يستلزم أن يكون لدى الجاني من الفرصة ما يسمح له بالتروّي والتفكير المطمئن فيما هو مقدم عليه.
ولكن هل من الصحيح الثابت أن الطاعنين كانا منزعجين من أن يحصل لهما ما حصل من قبل أي هل كانا في كل ليلة أو كل بضع ليال يبيتان حتماً بمركز البوليس؟ إن نصار بك إذا كان قال “إن المأمور كان يطلب نومهما في المركز” فإنه قال أيضاً في شهادته ما يفيد أن الخفراء ورجال البوليس لم يستطيعوا أن يجعلوهما يبيتان في المركز مما قد يدل على أنهما لم يبيتا إلا ليلة أو ليالي محدودة بعدها لم يمتثلا للمبيت فيه.
وبما أنه لا يوجد في الحكم ولا فيما اعتمده وأشار إليه من شهادة الشاهد نصار بك ما يدل بوجه أكيد على أن الطاعنين كانا يبيتان كل ليلة أو كل بضع ليال في المركز، هذه الدلالة التي يتحقق معها أن لا سبق إصرار للعلة المتقدّمة فهذه المحكمة لا تستطيع أن تجزم بأن هذا الظرف غير متوافر في الدعوى؛ كما لا ترى محلاً لنقض الحكم بسبب قصوره عن هذا البيان لأن هذا البحث لا يكون منتجاً في الدعوى ما دام الحكم أثبت أيضاً توافر ظرف الترصد وما دام الترصد هو ظرف مستقل حكمه في تشديد عقوبة القتل العمد حكم سبق الإصرار تماماً.
وبما أنه لا يمكن الاعتراض بأن سبق الإصرار إذا انعدم قانوناً انعدم معه الترصد أيضاً لكون الترصد يستدعي بطبيعته وجود سبق الإصرار ولا يمكن تصوّره مستقلاً عنه، وأنه ما دام الأمر كذلك فمن الواجب نقض الحكم بصرف النظر عما قالته المحكمة من توافر ظرف الترصد – لا يمكن الاعتراض بذلك لأن الترصد وإن كان لا يتصوّر عادة إلا مع قيام سبق الإصرار بالمعنى القانوني عند المترصد غير أن من الممكن عقلاً تصوّره مع انعدام سبق الإصرار بهذا المعنى، كصورة الدعوى الحالية لو صح فيها أن الطاعن كان مهتاجاً منزعجاً يريد بجريمته ثأر أذى ماض واتقاء أذى وشيك وأنه تربص وهو على تلك الحال وقارف الجريمة متربصاً. على أن القانون إذ نص في المادة 194 على عقاب من يقتل نفساً عمداً مع سبق الإصرار أو الترصد فقد غاير بين الظرفين وأفاد أنه لا يعلق أهمية على ضرورة وجود سبق الإصرار مع الظرف الثاني وهو الترصد بل يكفي في نظره ثبوت مجرّد الترصد مادياً على من يقتل متعمداً بقطع النظر عن كل اعتبار آخر. ولو كان الأمر بخلاف ذلك لما كان من معنى للمغايرة بين الظرفين بل كان الاقتصار على أوّلهما وهو سبق الإصرار كافياً. والظاهر أن الشارع وجد أن الترصد وسيلة للفاتك يضمن بها تنفيذ جريمته غيلة وغدراً في غفلة من المجني عليه وعلى غير استعداد منه للدفاع عن نفسه فاعتبر تلك الوسيلة بذاتها من موجبات التشديد لما تدل عليه من نذالة الجاني وإمعانه في ضمان نجاح فعلته ولما تثيره من الاضطراب في الأنفس يأتيها الهلاك من حيث لا تشعر. وبما أن الحكم المطعون فيه أثبت وجود الترصد فقد صح تطبيق المادة 194 من قانون العقوبات التي عامل الطاعن بها وأصبح البحث في مسألة سبق الإصرار غير منتج.
وبما أن الطاعن يشير في هذا الوجه إلى أن محكمة الجنايات عند تقديرها العقاب قد جعلت من موجبات الشدّة ما هو في الحقيقة من دواعي الرأفة ويعيب عليها هذا الخطأ في التقدير.
وبما أنه بالاطلاع على الحكم المطعون فيه وجد أن المحكمة بعد أن بينت ما يقضي بإدانة الطاعنين واستحقاقهما العقاب بمقتضى المادة 194 من قانون العقوبات أتت في معرض تقدير الجزاء الذي يستحقانه في نظرها فقالت: “وبما أن القتيل” “كان يؤدّي واجباً بمطاردته هذين الشقيين اللذين عاثا في الأرض فساداً، فإقدام” “هذا الآثم على قتله مما يدعو المحكمة إلى أخذه بالشدّة بدون رحمة ولا شفقة وإن” “القصاص هو الجزاء الأوفى”. وبعد ذلك أحالت الأوراق للمفتي ثم حكمت على الطاعن بالإعدام وعلى زميله الطاعن الثاني بالأشغال الشاقة المؤبدة.
وبما أن ذلك التعليل الذي بنت عليه المحكمة استعمالها أقصى حدّ في الشدّة هو تعليل فاسد لقيامه على أساس مرتبك بل غير صحيح. إذ بينما هي في معرض بيان سبق الإصرار تشير إلى ما ثبت لديها من أن المأمور المجني عليه أتى في معاملة الطاعنين بضروب من المنكرات كربطهما في زرائب الخيل وقص شواربهما ووضع لجم من الليف في فيهما وإدخال العصى في دبرهما تلك المنكرات التي تدل على أن هذا المأمور كان قاسياً في معاملته لهما قسوة خارجة عن حدّ القانون بل شاذاً فيها شذوذاً إجرامياً فظيعاً – بينما تذكر ذلك إذا بها تعود في معرض تقدير العقوبة فتقرّر أن المأمور كان يطارد هذين الشقيين ويقوم بواجبه في هذا الصدد!! كأنما هي تعتبر أن شذوذه هذا الإجرامي الذي سلمت به من قبل هو من قبيل قيام الموظف مثله بواجبه مع أن البداهة تقضي بأنه شذوذ يحفظ كل إنسان ولو مجرماً ويدعو إلى معذرته والتخفيف من مسئوليته إذا هو سلك سبيل الانتقام.
ولكن بما أن الأصل أن للمحكمة توقيع العقوبة إذا كانت ذات حدّ واحد كعقوبة الإعدام أو أقصاها إذا كانت ذات حدّين بدون أن تكون ملزمة ببيان موجب ذلك ضرورة أن تلك العقوبة الفذة أو هذا الحدّ الأقصى كلاهما منصوص عليه في القانون عقاباً على ذات الجريمة التي ثبتت لديها، وكل ما هي ملزمة به إنما هو مجرّد الإشارة إلى النص المبيح. أما إذا أرادت استعمال الرأفة والنزول عن درجة العقوبة المنصوص عليها إلى درجة أخف فهنا فقط مظنة للتساؤل عما إذا كانت ملزمة ببيان موجب هذا العدول عن المنصوص عليه إلى ما هو أخف. ومع ذلك فمن المتفق عليه أن هذا البيان أيضاً غير واجب عليها إذ الرأفة شعور نفسي تثيره علل مختلفة لا يستطيع المرء غالباً أن يحدّدها حتى يصوّرها بالقلم أو اللسان، ولهذا لم يكلف القانون القاضي، وما كان ليستطيع تكليفه، ببيانها بل هو يقبل منه مجرّد قوله بقيام هذا الشعور في نفسه ولا يسأله عليه دليلاً.
وبما أنه ما دام الأصل أن محكمة الموضوع ما لم تخرج في تقدير العقوبة عن النص القانوني فلا تسأل حساباً عن موجبات الشدّة ولا عن موجبات التخفيف بل حكمها نافذ حتى ولو كانت تزيدت فذكرت للشدّة أو التخفيف عللاً خاطئة أو عكسية لا تنتج أيهما بل قد تنتج عكسه – ما دام الأصل كذلك فإن محكمة النقض في الدعوى الحالية، ولو أنها ترى أن محكمة الموضوع إذا أرادت أن تستعمل مع الطاعن منتهى الشدّة وأن تحكم عليه بالإعدام قد عللت هذه الشدّة تعليلاً معكوساً يقتضي بذاته الرأفة لا الشدّة، إلا أنها من الوجهة القانونية لا تستطيع إلا احترام هذا الحكم ولا تجرؤ على المساس به. لكنها من وجهة العدل والإنصاف تجد من الواجب عليها إراحة لضمائر أعضائها أن تلفت نظر أولي الأمر إلى وجوب تلافي هذا الخطأ القضائي الذي لا حيلة قانونية لها فيه. ولو كان الأمر بيدها وكانت هي التي تقدّر العقوبة لما وسعها أن تعاقب الطاعنين كليهما بمثل تلك الشدّة بل لعاملتهما بما توجبه ظروف الدعوى من الرأفة والتخفيف.
وحيث إنه لجميع ما تقدم لا ترى هذه المحكمة في احترامها لًلقانون سوى رفض الطعن على مضض.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .