ما مصير الحقوق التي لا تقبل فيها الدعوى شكلاً ؟
والمقصود – كما هو واضح في العنوان – أن هناك آلاف الدعاوى التي يقيمها أصحابها للمطالبة بحقوق ضد جهات الإدارة، من الدعاوى التي يختص بها القضاء الإداري ممثلاً في ديوان المظالم، وتصطدم هذه الدعاوى منذ بدايتها بعائق يحول دون سماع الدعوى والدخول في بحث الموضوع والتحقق من مدى عدالة المطالبة، ألا وهو العائق الشكلي المتمثل في تجاوز المدد المنصوص عليها في نظام المرافعات أمام ديوان المظالم (المادة الثامنة)، إذ مقتضى تطبيق ما نصت عليه هذه المادة، عدم قبول أي دعوى تتجاوز المدة الواجب المطالبة أو التظلم قبل انقضائها، وعدم القبول الشكلي هذا ليس له أي تأثير على موضوع الحق الذي لم يتدخل القضاء أصلاً لبحثه والتحقق من ثبوته أو عدمه.

ونظراً لكثرة الدعاوى التي تصدر أحكام من المحاكم الإدارية بعدم قبولها شكلاً لهذا السبب، والتي تُشكّل نسبة كبيرة جدا من الدعاوى المنظورة أمام القضاء الإداري، فقد شغل هذا الموضوع تفكيري منذ مدة طويلة، ويتجدد هذا الهم ّ كلما رأيتُ أو سمعتُ أو عُرض علي مطالبة أظنها عادلة، إلا أن تجاوز صاحبها لهذه المدد جعل القضاء ممنوعاً من سماع دعواه، ما يعني أن هذا الحق صار بمثابة الضائع.

ولستُ هنا بصدد مناقشة الأسباب الكثيرة التي تجعل بعض أصحاب الحقوق يتأخرون في المطالبة بها حتى تمضي هذه المدة، وذلك إما جهلاً منهم، أو لأعذار قد لا يقبلها القضاء؛ ولكني أردت طرح هذه القضية – الشائكة – للنقاش وكلي أمل أن يجد مقالي هذا صدى أو مبادرة من أي جهة أو مسؤول حريص على إحقاق الحق وبسط العدل وبراءة الذمة، والانتصار لشريحة كبيرة من المظلومين الذين قد تسبب في ظلمهم في كثير من الأحيان أخطاء ومخالفات من بعض الجهات الحكومية.

ثم إني أؤكد أيضاً على أنه ليس الغاية من كلامي السابق الاعتراض على ما تضمنه نظام المرافعات أمام ديوان المظالم من الإلزام برفع الدعاوى خلال مدد محددة، أو المطالبة بإلغاء هذه المدد، لأنها لم توضع عبثاً، وليست خلواً من المصلحة، وهذا ما سأوضحه في هذا المقال؛ إنما قصدتُ بتناول هذا الموضوع التأكيد على مسألة شرعية غاية في الأهمية، لها مساس بقضية الظلم الذي حرّمه الله على نفسه وجعله بين عباده محرماً، وبقيمة العدل الذي هو أساس الملك، بل وأساس صلاح الحياة واستقرار الأمم والمجتمعات .

فالمملكة العربية السعودية هي الدولة الوحيدة في العالم التي جعلت أحكام الكتاب والسنة حاكمة على نظامها الأساسي وعلى جميع أنظمتها، والشريعة الإسلامية عظّمت أمر حقوق الخلق، وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع أن دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم حرام كحرمة ذلك الزمن العظيم في البلد المقدس.

وإنه ما من شكّ أن بعض أو كثيراً من الحقوق المدعى بها أمام القضاء الإداري التي يتجاوز أصحابها المدد المقررة للمطالبة بها، أنها حقوق ومطالبات عادلة، وأنه قد وقع عليهم أخطاء أو إجحاف من بعض الجهات الحكومية، ولم يحُلْ بينهم وبين التظلم، واستعادة هذه الحقوق، إلا تأخرهم في المطالبة .

وإذا كان الأمر كذلك فإن مما هو معلوم من أحكام الشريعة، ومتقرر عند كل المسلمين، أن حكم القضاء لا يُحلّ حق المسلم لأخيه، وأن من استولى على مال أخيه بغير حق، حتى ولو كان بحكم القضاء – الذي ليس له إلا الظاهر – فإن ذلك لا يجعل هذا الحق مباحاً لمن غصبه، وتبقى المحاكمة العادلة أمام ملك الملوك سبحانه الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، حين يُقتصّ حتى للبهائم من بعضها، فكيف بالحقوق التي لم يدخل القضاء في بحث موضوعها أصلا؟!.

وهذا الحكم الشرعي الخطير ليست جهات الإدارة مستثناة منه، بل يجري عليها ممثلة بالمسؤولين فيها ما يجري على الناس فيما بين بعضهم، من أحكام الشريعة.

ويكون الحساب يوم القيامة على من تسبب بأكل حق مسلم أو معصوم ظلماً، سواء أكان مسؤولاً أم موظفاً أم أياً كان مركزه في الجهة الحكومية، وأنه يُسأل عن هذا الظلم كلّ من كان له سلطة وقدرة على رفعه فلم يرفعه.

والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه : ما هو الإجراء المناسب الذي تقتضي براءة الذمة العمل به لحفظ هذه الحقوق ؟

وهذا ما سأحاول تلخيصه فيما يلي :

أولاً : أنه يجب على الجهات الحكومية كافة الوفاء بالتزاماتها، وتطبيق الأنظمة على وجهها الصحيح، واحترام الحقوق والمراكز القانونية، وهذا واجبها المناط بها شرعاً ونظاما. ولا يجوز لأي مسؤول أن يحاول الالتفاف على هذا الواجب والأمانة العظيمة أياً كانت المبررات .

ثانياً : ليعلم كلّ مسؤول أن عدم سماع القضاء لهذه الدعاوى لفوات مواعيد المطالبة لا يعني تحلل الجهة الحكومية من التزامها الثابت شرعاً ونظاما، فالنظام إنما قصد بوضع هذه المدد في الدعوى الإدارية، الوصول لاستقرار المراكز القانونية أمام الكافة، وجاء تحديد هذه المدد أيضاً مراعاة لما تحتاجه الإدارة من وقت لبحث التظلمات المعروضة أمامها، قبل اللجوء للقضاء، وحتى لا يتعمد بعض الأفراد التربص بحقوقهم مدداً طويلة ثم مفاجأة الإدارة بها بعد ذلك.

وليست الغاية من هذه المدد قطع الطريق على صاحب الحق، ومنعه منه وتصيير هذا الحق كلًأ مباحاً لجهة الإدارة يجوز لها الاستيلاء عليه، فالحق باق على أحقيته، وله تعظيمه واحترامه وصيانته، إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة عند الحكم العدل سبحانه.

ثم إن هذه المدد وإن قيّدت نظر القضاء عن سماع الدعوى، إلا أنها لا تمنع جهة الإدارة عن بحث التظلم، والوصول للحق، سيما في دعاوى الحقوق الوظيفية والتعويض والعقود.

ثالثاً : إن عدم قبول الدعوى لتخلف الميعاد، ولئن كان محققاً لغاية مهمة تتمثل في حسن تسيير المرافق العامة وعدم إرباكها أو تعطيلها؛ إلا أنه يلقي على عاتق الجهات العليا في الدولة مسؤولية تنظيم جهات رقابية قانونية لبحث تلك التظلمات التي لم يقبلها القضاء، وصولاً إلى تحقيق غايتين مهمتين هما :

إعادة الحقوق الثابتة لأصحابها وإنصاف المظلوم منهم.

محاسبة من يثبت ارتكابه لأي مخالفة للنظام أدت لإلحاق الضرر بالمتضرر.

وذلك إبراء ً للذمة وتحقيقاً للعدل وصيانة للحقوق الواجب صيانتها. وإن دولتنا التي تقوم على أساس تحكيم الشريعة، وولاة أمرنا الذين لا يألون جهداً في سبيل إحقاق الحق والحكم بالعدل، لا يستكثر ولا يُستغرب أن يحظى هذا المقترح عندهم بالقبول والاهتمام.

رابعاً : أتمنى على القضاء الإداري خاصة أن يراعي مثل هذه القضية في نظره للدعاوى، وفي حال توجه الحكم بعدم القبول شكلاً، ألا يخلو من لفت النظر إلى هذه المسألة وهي أهمية الحقوق وتعظيمها عند الله، وأن هذا الحكم لا يجعل من حق المدعي – المحتمل – مباحاً للإدارة .

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.

الكاتب:
د. محمد بن سعود الجذلاني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت