المسؤولية الجنائية للمعقّب وعميله
ولأن الشيء بالشيء يذكر، وبحكم تخصصي وخبرتي، رأيتُ من المناسب تناول موضوع ٍ بالغ الأهمية، وله ارتباطٌ وثيق بمهنة التعقيب، ما تتكرر الحاجة ُ إليه دائماً، وتكثر الإشكالات المتعلقة به؛ ألا وهو : (المسؤولية الجنائية للمعقّب وعميله).

ولأن هذا الموضوع متشعب وطويل، فسأقصر الحديث هنا عن جانب منه، وهو ما يتعلق بجرائم التزوير والرشوة، وهي الأهم والأكثر وقوعاً وارتباطاً بمهنة التعقيب.

والحديث يتناول مسؤولية المعقّب عما يرتكبه عميله من جريمة تزوير ٍ في المستندات أو رشوة يدفعها لموظف عام، وكذلك مسؤولية العميل إذا كانت هذه الجرائم صادرة عن المعقّب .

ولأول وهلة قد يظن بعض القراء أن هذه المسألة واضحةٌ من الناحية الشرعية والقانونية، ولا تستدعي إضاعة الوقت في بحثها أو تناولها، لأن الأصل المتقرر هو : (أن كل شخص مسؤول عن أفعاله هو لا عن أفعال غيره) وأنه لا مسؤولية إلا على الشخص الذي باشر الجريمة لأن من أركان المسؤولية الجنائية عن أي جريمة (الركن المادي) الذي يعني إتيان الفعل المحظور. وبالتالي فإذا لم يحصل من الطرف الآخر (المعقّب) أو (العميل) أي اشتراك أو مساهمة في الجريمة فلا مسؤولية عليه.

وأقول إن هذه القاعدة صحيحة تماماً، ولا يجادل فيها أحد؛ إلا أن كثيراً من الجرائم لا تكون ملابساتها ووقائعها واضحة تماماً، بل يدخلها الكثير من الإشكالات واللبس الذي قد يجعل الطرف الآخر – غير الفاعل -موضع اتهام أو مسؤولية ولو لم يكن هو الذي باشر الجريمة بنفسه.

ولعل من أهم الجوانب التي تحكم هذه المسألة هو طبيعة العلاقة القانونية والشرعية بين المعقّب وعميله، ذلك أن العلاقة بينهما تعتبر (عقد وكالة) ويحكمها حدود مسؤولية الوكيل والموكل المقررة في الشرع والنظام .

ورغم وضوح أحكام هذه المسألة إلا أنه مرّ علي عدة أحكام قضائية انتهت إلى إدانة ومعاقبة المعقّب عن جرائم ارتكبها العميل أو غيره، وأحكام أخرى انتهت إلى إدانة ومعاقبة العميل عن جرائم ارتكبها المعقّب أو غيره.

وبالرجوع إلى هذه الأحكام نجدها استندت في أسبابها إلى القرائن التي قدّرت المحكمة أنها كافية لإدانة المتهم بما نُسب إليه. ولأن الأصل هو براءة الذمة، ولأن أحكام الإدانة يجب أن تبنى على اليقين لا على الشك والتخمين، فإنه لا يجوز اعتبار القرائن التي يتطرق إليها الشك، والتي تختلف قوة وضعفاً، دليلاً كافياً على الإدانة.

وحتى لا أطيل الحديث عن هذه القضية التي تحتاج إلى بحث طويل ليس هذا مكانه، فإني أوجز بالإشارة إلى أهم الملاحظات وهي :

أولاً : أنه ما لم يتوفر دليل صحيح على إثبات ارتكاب المتهم للجريمة التي اتُهِمَ بها، أو مشاركته في ارتكابها، فلا يجوز إدانته استناداً إلى الظنون والقرائن الضعيفة، وقد سبق أن مرّ بي حكم قضائي دان المعقّب بجريمة تزوير مستند تم تقديمه للجهة الحكومية، دون وجود أدلة كافية على الإدانة، استناداً إلى قرائن كان من بينهما : (وجود اتفاق بين المعقّب وبين عميله على استخراج الترخيص الذي بُني على مستند مزور، ولأن المعقّب له مصلحة في استخراج الترخيص تتمثل في حصوله على أتعابه)! وهذه القرينة واضحة الضعف والخطأ لأن وجود اتفاق بين المعقب وعميله على تقديم خدمة التعقيب لمعاملة الأصل فيها أنها نظامية – لولا تزوير المستند – وحصول المعقب على أتعاب مقابل ذلك، كل هذا من الأعمال المشروعة التي لا يلام عليها المعقب، والقاعدة الشرعية تقضي أن (الإذن ينافي الضمان) ما لم يثبت مشاركة المعقب في تزوير المستند أو علمه بذلك. ولهذا فقد حكمت محكمة الاستئناف بنقض هذا الحكم وقررّت خطأه في الاستدلال بمثل هذه القرينة.

كما اطلعت ُعلى أحكام أخرى انتهت إلى إدانة العميل بجريمة الرشوة رغم أن الذي قام بدفع الرشوة هو المعقّب، بناء على قرينة مفادها : (أنه من البعيد أن يقوم المعقب بدفع الرشوة من ماله الخاص ودون علم صاحب المصلحة – العميل -) وهذه قرينة أيضاً غير صحيحة، بل قد يقوم المعقب بدفع الرشوة من ماله الخاص حرصاً منه على إنجاز العمل والحصول على الأتعاب، خاصة إذا كان مبلغ الرشوة أقل كثيراً من مبلغ الأتعاب .

ثانياً : من أهم إشكالات هذا الموضوع اختلاف المعقّب مع عميله عندما يُكتشف وجود مستندات مزورة من بين الأوراق المقدمة للجهة الحكومية، فيدعي كل منهما أن الآخر هو الذي قدم المستند المزور، ولهذا فيجب أن يتم تنظيم أعمال التعقيب بأن يكون ذلك من خلال عقود واضحة يوقعها العميل مع مكتب التعقيب، ويتم توثيق أي مستندات يقدمها العميل للمعقب وذلك بأخذ توقيع كل منهما على المستندات التي قدمها العميل للمعقب، ويحتفظ كل طرف بتوقيع الآخر، وهنا يتم ضبط المسألة ويصبح من السهل جداً الكشف عن الطرف الذي قدّم المستند المزور للآخر.

ثالثاً : يجب أن يكون هناك جهة تتولى تأديب ومحاسبة المعقبين فيما يتعلق بمخالفات المهنة، أسوة بغيرهم من أصحاب المهن الأخرى كالأطباء والمحامين والمحاسبين القانونيين.

هذه أبرز المسائل المتعلقة بهذا الموضوع، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.

الكاتب:
د. محمد بن سعود الجذلاني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت