أساس الإلزام في القانون الدولي

المؤلف : ماهر ملندي ، ماجد الحموي
الكتاب أو المصدر : القانون الدولي العام

استقر الرأي على أن قواعد القانون الدولي هي قواعد قانونية بالمعنى الصحيح مع مراعاة طبيعة المجال الذي تطبق فيه. ولا بد من البحث على أساس الإلزام في هذه القواعد. ومن المتعارف عليه هو عدم وجود جهاز دولي أعلى يفرض احترام القاعدة القانونية الدولية أو إعطاء الفعالية للقواعد الدولية حيث أن ذلك يستلزم وجود إرادة تملك جبر المخاطبين بأحكامها. وإذا نظرنا إلى الواقع الدولي، نجد ان حالات تجاوز وانتهاك أحكام القانون الدولي، بما في ذلك أحكام محكمة العدل الدولية، أكبر من معدل الامتثال لها، ومع ذلك يمكن القول أن هناك شعورًا عامًا بإلزامية القاعدة الدولية فما هو أساس هذا الشعور؟ و قد حاول الفقه الدولي إيجاد إجابة لهذا التساؤل وانعكس ذلك في إتجاهين إرادي وموضوعي.

وننبه هنا إلى أن المقصود هو الأساس الفلسفي أو التبرير النظري، أما الأساس القانوني فهو في المواثيق والمعاهدات والأعراف الدولية(1).
أولا-المذهب الإرادي:
ينطلق هذا المذهب من فكرة أساسية وهي أن إرادة الدولة هي الأساس الذي يستند إليه القانون الدولي فالإرادة هي خالقة القانون وهي خاضعة له). فالدول لا تلتزم إلا برضاها. وإن خير الجماعة الدولية يتطلب التضحية ببعض المصالح الشخصية للدول. وينقسم أنصار هذا المذهب إلى اتجاهين:

الفقرة الاولى القيد الذاتي أو الإرادة المنفردة : جاء بها العالم الألماني ايهرنج ، وتقضي بأن القاعدة القانونية الدولية تستمد قوتها الإلزامية من إرادة الدول منفردة . فالدولة سيدة في تصرفاتها ولا تقيد إرادتها أية سلطة خارجية وإنما الدولة ذاتها تقيد إرادتها من خلال الدخول في علاقات مع الدول الأخرى معاهدات وغيرها .و يؤخذ على هذا الاتجاه أنه يجعل القانون الدولي رهن إرادة الدولة وهذا لا يصلح كمصدر للإلزام.

الفقرة الثانية الإرادة المشتركة : دعا إليها الفقيه الألماني تريبل، ومؤداها أن إرادة الدولة منفردة لا يمكن أن تكون مصدر إلزام لغيرها من الدول . وإن الإرادة الجماعية المشتركة بين الدول هي أساس الإلزام في القانون الدولي. و أهم انتقاد يوجه إلى هذه النظرية هو اعتمادها على فرضية اجتماع إرادات الدول أولاً وكذلك إمكانية انتهاء الاتفاق بين الدول.

ثانيا: المذهب الموضوعي:
يبحث هذا المذهب عن أساس الإلزام خارج إرادة الدول ويرى أنصاره بأن التقيد بقاعدة ينتج عن عوامل خارجية مستقلة عن إرادة الأشخاص الخاضعين لها. وانقسموا إلى عدة نظريات:
الفقرة الاولى النظرية القاعدية : نادى بها الفقيه النمساوي “كلسن “ وتقضي بأن القواعد القانونية تستند وتخضع لقواعد تسمو عليها وهكذا حتى نصل في التسلسل إلى قمة القواعد وهي قاعدة (قدسية الوفاء بالعهد ) ” pacta sunt servand “ او العقد شريعة المتعاقدين. و هذه النظرية مبنية على الفرضية والخيال من حيث افتراض وجود قاعدة أساسية.كذلك يمكن التساؤل: من أين استمدت القاعدة الأساسية قوتها الإلزامية ؟

الفقرة الثانية النظرية الاجتماعية : جاء بها الفقيه الفرنسي دوركهايم وتبعه دوجي وتقضي بأن أساس كل قانون هو الحدث الإجتماعي الذي يفرض نفسه على كل جماعة ويتحول إلى قاعدة قانونية من ذاع الشعور بوجودها، وتكتسب القاعدة صفة الإلزام من ضرورة خضوع أعضاء الجماعة لها متى أجل المحافظة على بقائهم.

نبنى جورج سيل هذا الاتجاه عندما قال: أن تكوين كل جماعة يحتم أن يكون لها قواعد خاصة بها تحملها على تأمين التكامل بين أفرادها والعمل على إنمائها. و قد استخف هذا المذهب بمفهوم الدولة وسيادتها وأنكر دورها في وضع القوانين وكذلك افترض هذا المذهب تلقائية نشأة القاعدة القانونية وتجاهل أهمية الجزاء في القواعد القانونية في تقديرنا، ينبغي الرجوع إلى فلسفة القانون ذاته سواء على المستوى الداخلي أو الدولي.

فالقانون وليد الحاجة الاجتماعية والقانون الدولي لا يشّذ عن هذه القاعدة فالموافقة المشتركة التي أملتها ضرورة العيش في مجتمع منظم هي السبب الأول للانصياع للقانون، فلا يمكن تصور حياة اجتماعية بدون تنظيم فالرضا هو الذي يولد الإلزام.

كذلك هناك مصلحة مشتركة بين الدول في قبول حد أدنى من التنظيم للمحافظة على الذات. وهذا الإحساس هو الذي يوّلد الإلزام والدليل على ذلك أنه حتى الدول الكبرى )القوية( لا تجرؤ على التصريح بمخالفة أحكام القانون الدولي )وإن خالفته أحياناً( علماً أنها تعلم أنه ليس هناك من يهددها بتوقيع الجزاء.

وعليه يمكن القول أن الموافقة الجماعية أو القيد الذاتي لا زال يمثل الأساس الجوهري في الالتزام بأحكام القاعدة القانونية الدولية. ولا يعني هذا إهمال العوامل الأخرى التي تساهم بشكل كبير في حمل الدول على الامتثال للقانون الدولي مثل الرأي العام الدولي الذي يمكن أن يوجه سلوك الدول في المحافل الدولية كالجمعية العامة للأمم المتحدة والتكتلات الإقليمية بالإضافة إلى الصلاحيات الممنوحة لمجلس الأمن في مجال المحافظة على السلم الدولي.

هذا بالإضافة إلى الجزاء أو الردع الذي يمكن أن يكون فعالاً في مواجهة بعض الدول التي تنتهك قواعد القانون الدولي. ولا شك أن المرحلة الحالية تعرف تغيرات في المفاهيم التقليدية للقانون الدولي ومن المؤكد أن ذلك سيؤدي إلى تعديلات جوهرية في وظيفة المؤسسات الدولية وربما إيجاد آليات جديدة تعكس هذا التطور وتبرز أكثر خاصية الإلزام في القاعدة الدولية.
_______________
1- الدكتور أحمد إسكندر /الدكتور محمد ناصر بوغزالة: محاضرات في القانون الدولي العام – المدخل
والمعاهدات الدولية، دار الفجر للنشر والتوزيع القاهرة، سنة ١٩٩٨ ، ص65.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت