هُوِيَّتُنَا القَضَائِيَّةُ

أَصَاْلَةُ المَنْهَجِ ،،، وَسُمُوُّ المَقْصَدِ

د. محمد العيسى

الحمدُ للهِ وَحْدَهُ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على منْ لا نبيَّ بعدَهُ نبينا مُحمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، أمَّا بَعْدُ:
فإنَّ القَضَاءَ العَادِلَ مَطْلبٌ مُلِحٌ تنشدُهُ الأُمَمُ، عَلَى اخْتِلافِ مَشَاربها وَنِحَلِهَا، والعَدْلُِ ــ عُرْفَاً ــ وَصْفٌ نِسْبيٌ؛ فَلِكُلِّ أُمَّةٍ هُويَّةٌ وَرُؤْيَةٌ، وإنْ ضَلَّتْ بها السُّبُلُ.
وَقَدْ مَثَّلت القَوانينُ الوَضْعيَّة أسَاسَاً للأقضيَّة في سَوَادِ الدُّول، وبتأمُّلِهَا نجدُ منها ما هُو حقٌّ لَهُ أصلٌ في شَرْعِنَا، ومنها مَاْ هُو بَاطلٌ، لا نحْكُمُ ببطلانه وَحْدَنا، فهُنَاكَ مَنْ يشاطرنا الرَّأي حَوْلَهُ، وَهُوَ ما نجدُهُ في العَدِيْدِ مِن النَّظَريَّات القانونية بكافة اتجاهاتها؛ فالقانونُ لا يعني مُسَطَّرَةً وَاحِدَةً، تَسِيْرُ عليها الدُّوَلُ، بَلْ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ تَنْطَوي تحتها نظرياتٌ عِدَّةٌ، ولهُ مَبَادئُ لمْ تَسْلمْ من الجَدَلِ العِلْمِيّ.
وشَرْعنا المُطَهَّر لا يقفُ ضدَّ هذه الأنظمة، ما لم تُخالفْ هَدْيَهُ، وَنَسْعَدُ بالحِكْمَةِ أياً حَطَّت ركابُها، فهي ضَالة المؤمن أنَّى وَجَدَهَا فَهُو أحق بها، ولذلك أصدرت الدَّولةُ العديدَ من الأنظمة؛ لتسيير مرافق إداراتها ، في مشمول المَصَالح المُرْسَلة، وهي عند التحقيق:” كلُّ منفعةٍ مُلائمةٍ لتَصَرُّفَاتِ الشَّارع ، دُوْنَ أنْ يَشْهَدَ لها بالاعْتِبَارِ أَوْ الإلغاءِ أَصْلٌ مُعَيَّن، لَكِنْ شَهِدَ لهَا أَصْلٌ كُلِّيٌّ كَقَاعِدَةِ: رَفْع الحَرَج ، وَنَفْي
الضَّرَر “، وَتُسَمَّى:( المناسب، المرسل، الملائم، الاستصلاح).
ولا يُتَصَورُ تَعَارضُ أَدِلَّةِ الشَّرْع مَعَ المَصَالحِ الرَّاجحة، إِذْ لا يتأتى نهيُ الشَّارع عَمَّا مَصْلَحَتُهُ راجحةٌ أو خَالِصَةٌ، ولا أَنْ يَأْمُرَ بما مَفْسَدَتُهُ كَذَلكَ، وَقَدْ أدَّى الأخذُ بالمَصَالح المُرْسَلَةِ إلى انتظام أَحْوَال النَّاسِ في مَعَاشِهِمْ، وفي هذا يقولُ الشَّاطبي ـ رحمه الله ـ :”والشَّريْعَةُ مَاْ وُضِعَتْ إلاَّ لِتَحْقِيْقِ مَصَالح العِبَادِ في العَاجِلِ والآجِلِ وَدَرْءِ المَفَاسِدِ “.
وَقَدْ عَمل الصَّحَابة ـ رضي الله عنهم ـ بالمَصَالح المُرْسَلَةِ في وَاقِعَاتٍ عدة، منها: جمعُ أبي بكر مُتفرقَ الصُّحُف التي كُتب فيها القرآنُ في مصحَف واحد، واستخلافه عُمَرَ بن الخطاب، ومصادرة عُمَرَ شَطْرَ أَمْوَالِ الوُلاة لما ظهرتْ لهم أموالٌ لم تكُنْ لهم قَبْلَ الوِلايةِ، هَذَا مَعَ عَدَم البَيِّنَةِ أنهم جَمَعُوهَا مِنْ غَيْر وجهها، لكنَّها قَرينةٌ قَويَّةٌ يُطْمَئنُّ إليها، وَيَتَوَجُّهُ التَّعْويُلُ عَلَيْهَا ـ عَمَلاً بغلبة الظن ـ.

ويُشترطُ لصحة العَمَل بالمَصَالح المُرْسَلَةِ، ألا تخالف نصاً، وألا تتضمن ابتداعَ عبادة، ولا زيادة ركن أو شرط لها، ولا زيادة أو نقصاً في مُقَدَّرَات الشَّريْعَةِ، وأن تثبت المصلحة في حُكْمها بالقَطَع أو غَلَبَةِ الظَّنِّ، ولا عِبْرَةِ بمُجَرَّدِ الظَّنِّ، وَأَنْ يُرَادَ بحُكْمِهَا عُموم المَصْلَحَةِ، وألا يترتبَ عليه مفسدةٌ أكبرُ منه، أو مساوية ٌله.

أما ما يتعلقُ بشَرْط عُموم المَصْلَحة فإن كثيراً من نَظَر القَضَاءِ الإدَاريّ في مُرَاقَبَةِ مَشْرُوعيَّةِ قَرَارَاتِ الإدَارَة ـ تطبيقاً لأنظمتها ـ ينصبُّ عَلَيْهَا، وَيَصِمُ ما يخالفها بعَيْبِ: الانحراف بالسُّلْطَةِ (إساءة استعمال السلطة)، وهو من العُيُوب القَصْديّة ـ الاحتياطية ـ في القَرَارات الإداريّة، سواء أكان باعثه غرضاً مُنبتَ الصِّلة عن المَصْلَحة العامة، أم مخالفة قاعدة تخصيص الأهداف، أم الانحراف بالإجراء.
والعملُ بالمصالح المرسلة من مؤيدات هذا الدين الذي استوعب الزمان والمكان، فكان رحمة للعالمين، ومؤهلاً لأن يختم الله به الأديان، وقد قيض الله له علماء ربانيين، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهم حُرَّاسُ الشَّريعة، وبركةُ كل عَصْرٍ وَمِصْرٍ، بما آتاهم الله من بسطة العلم والفهم، فإليهِمْ ـ عِنْدَ الاسْتِحْكَام الرَّدُ ـ، وَعَلَيْهُمْ التَّلَقيْ والصَّدَّ، لَكِنْ بالبيِّنَاتِ والزُّبُر.
والعالمُ الرباني الراسخ في علوم الشريعة كالنجم الدري في غياهب الظلمة، وما أحسن ما قاله الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ في مقدمة كتابه: (الرد على الجهمية والزنادقة): ” الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنوره أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم ضالٍ تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مجمعون على مخالفة الكتاب “.
ويعلو الكعب في ركب أهل العلم والإيمان عندما تتوسع مدارك الفقيه في علم:” المقاصد” المشمول بالعديد من نصوص الكتاب والسنة، وفتاوى الفقهاء، دون أن يدونه الرعيل الأول في كتاب يحمل اسم هذا العلم، إلى أن جاءت النوبة للاتباع فدونوا العُلوم كافة؛ وصار بذلك علمُ: ” مقاصد الشريعة “، وهو كما قيل: ” أصولها الكبرى، وأسسها العظمى، وأركانها التي لا تبلى، وفروعها المتغيرة حسب الزمان والمكان؛ مراعاة لحالة الإنسان”.

وهو من أشق العلوم، ولا ينال إلا برسوخ علم، وتوقد فهم، واستقراء وتتبع، وسبر وتقسيم، وجمع وفرق، ومن قبل وبعد سلامة مقصد، فما أكثر ما صُرفت النصوص عن مقاصدها بحجة مقاصد الشريعة، وإنما هي مقاصدُ التَّشَهِّيّ والأَهْوَاءِ، تختلُ النَّاسَ وتُدَلِّسُ عَلَيْهم، وَهَؤُلاءِ لا يخفون، مَعْرُوفون في لحن القول، والله طليبهم وحسيبهم، فمنهم من يتتبع الرُّخَص في الأقوال، والتلفيق بينها، ومنهم من يميلُ ويُرَجِّحُ قَبْلَ أن يبحث، فتجده يطفف في الأدلة، ويتأول معانيها على مراده المسبق، ومنهم من يشطح حتى إنك لتتهمه في عقله قبل دينه، والسِّجَالُ مَعَ هَؤلاءِ لا يَكَادُ يَنْتَهي، ولا أعظمُ من فتنةِ التَّشَهِّي والهَوَى إلا فتنةُ الشُّبهة والغي، فالأولى: اعتمال الشهوة في النفس، والأخرى: مخالفة الرشاد، وعند الاستحكام نتلو قول الحق تعالى: ” قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ “.

وفي مقابل هؤلاء: أهلُ العِلْمِ والإيمانِ، بعُلوم تطمئن إليها النفوس، وتسكن لها الأرواح، فيها الاستقراء والتتبع، والجمع والفرق، على جادة سواء، تنشد الحق بدليله، لا وكس ولا شطط، على هدي من كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، “وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا “، ودينُ الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، يمشي إليه العبد بين الخوف والرجاء، وما خابَ عبدٌ خاف ربَّه ورجاه.
وفي منظومتنا القضائية أَعْمِدَةٌ في العِلْم والعَمَلِ ، قَادَ مَرْحَلةَ تَأسيسها وقعَّد لها بنصُوص الكِتَابِ والسُّنَّةِ وفهُوم أهل العلم سَمَاحَة الشيخ العلامة: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن
حسن بن شيخ الإسلام محـمد بن عبد الوهاب ـ رحم الله الجميع ـ.

وَصَدَرَتْ أَنْظِمَةُ القَضَاء وإجراءاته مفيدةً من تجارب الآخرين، فيما لا يخالف نصاً شرعياً، أخذاً بالحكمة أنى وجدت، ولاسيما أن الإجراءات لا علاقة لها بمحل الدعوى الذي تحكمه نصوص الشريعة في أصولها وفروعها، فإن لم يكن كانت البراءة الأصلية، ومن ثم كانت السلطة التقديرية للقاضي، ما لم تخالف مبدءاً قضائياً قررته المحكمة العليا، والأخير مستفاد من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : ( بم تحكم ؟ ) قال : بكتاب اللّه . قال : ( فإن لم تجد ؟ ) قال : بسنة رسول اللّه . قال : ( فإن لم تجد ؟ ) قال : أجتهد رأيي، فَضَرَبَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم في صدره وقال : ( الحمدُ لله الذي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِِ اللّهِ لما يُرْضِى رسولَ اللّه ) ، وهو في المسانيد والسنن بإسناد جيد، ومن هنا ندرك الفرق بين: ” الثَّابِتُ ” و ” المُتَغَيِّرُ ” في منهجنا القضائي.

وتعظمُ الجنايةُ على الشَّريعة وَعَدْلها، عِنْدَما يحصلُ الخَلْطُ، فتُدخلُ المُتَغَيِّرَاتِ في الثَّوَابتِ، فتُحَمَّل النُّصُوصُ ما لا تحتمل، لتضطرب ـ في ثاني الحال ـ موازينُ العدل، بلْه النيل من قوة الثوابت والتقليل من هيبتها في النفوس بإدخال المتغيرات والفروع في قطعياتها .
وفي هذا السياق لا تفوتنا الإشارة إلى السجال العلمي في شأن تدوين أو تقنين الأحكام الشرعية على هيئة مواد؛ منعاً لتناقض الأحكام وتضاربها في الواقعة الواحدة، وجمعا لها على صعيد واحد ليسهل تناولها والرجوع إليها وهو ما لا يمكن تسويغه ألبتة؛ إذ كلٌّ منسوب لحكم الشرع، وحكم الشرع لا يختلف، ولذلك حرصت محكمة التمييز والهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى في السابق على أن لا تخالف المحاكم الابتدائية ما استقرت عليه أحكامها، أو ما قضت به أنظمة الدولة، ومن يخالف ويصر ينقض حكمه، ويعهد بالقضية إلى غيره.

كما لا يفوت التنويه بالعديد من الأنظمة التي قننت بعض الأحكام القضائية بعقوبات محددة لا يسوغ للقاضي مخالفتها، ويعتقد منظرو: “السياسة العقابية” أن هذا جزءٌ من منظومة نظام العقوبات الذي ينشده الكثير، ولأن كان توحيد الفتوى ملحاً فتوحيد الأحكام ضمن وحدة موضوعية ـ مبادئ أو تقنينات ـ أكثر إلحاحاً؛ حيث يجادل في الأولى الكثير خشيةَ قفل باب الاجتهاد، ومنع أهل العلم من بيان الحق بدليله بالحجر على أقوالهم بقول واحد ـ ما لم يرفع الحاكمُ الخلافَ في الشَّأن العَامّ ـ.

وأمامَ القَضَاءِ في هذا المعنى خياراتٌ عدة تؤدي إلى غاية واحدة، من بينها: المبادئ القضائية التي يتعين جمعها على صَعِيْدٍ وَاحِدٍ، وَهِيَ مِنْ مهمات المَحَكْمَةِ العُلْيَا، وأدقُّ وَصْفَاً وأقوى حُجَّةً من مجرد السابقة القضائية على خلاف بين الحقوقين، بعضهم يرى أن السابقة تمثل مبدأ، في حين يرى آخرون أن المبدأ لا بد أن يُشمل بنص عليه، في: “حكم” أو “منشور” صادر من محكمة المبادئ.
ومن بينها: التدوين أو التقنين وهو ما يطالبُ به الأكثرون، وله نظائر، منها ما سبقت الإشارة إليه من وجود بعض المواد ـ في عدد من الأنظمة ـ مشمولة بأحكام مقدرة ، يلزم القاضي التقيد بها، وإلا كان حكمُهُ متعينَ النَّقْضِ، وهذا الذي جعل من بعض المختصين يطالب بتطوير الفكرة التي ثبت نجاحها في الحد من تفاوت الأحكام في الواقعة الواحدة، ليشمل نظام العقوبات، ويتبعه في السياق نفسه بقية الأنظمة كنظام: “الأحوال الشخصية” ، و” النظام المدني ” ، و” النظام التجاري “، (وتسمى باصطلاح آخر قوانين)، وقد ارتضى المنظم السعودي اختيار مصطلح: “نظام ” عوضاً عن مصطلح: ” قانون “؛ لاعتبارات معلومة ـ لها ما يسوغها ـ على أنَّ المعنى السائد في الدراسات القانونية لمصطلح: ” النظام ” لا يعدو مفهوم السياسة العامة، فـ:” نظام القضاء” هو السياسة القضائية، على خلاف مصطلح: ” قانون القضاء “، وكثيراً ما تخطئ الترجمة والنقل في ظل عدم الإلمام بالفروق المصطلحية.

وَيَلْحَظُ الكثيرُ أنَّ النِّظَام القَضَائيَّ في المَمْلَكَةِ العَرَبيّة السعودية خطا في السنوات الأخيرة خطوات تطويرية نوه بها الجميع، فقد حُدثت أنظمته، وأصبحت قواعد مرافعاته وإجراءاته متميزة عند الموازنة، وتبع هذا التحديث العديد من حلقات النقاش والإثراء العلمي، وتبادل الخبرات، واستطلاع التجارب، بلْه الإفادة من التقنية الحديثة، وما تعمل عليه وزارة العدل من مسوحات ودراسات لشؤون القطاع العَدْليّ بين يَدَيْهَا تحديدُ الرُّؤْية والهدف، آملين أن نصل قريباً إلى تحقيق جميع الأهداف المرجوة، وما أسعد الجميع ـ مثالاً ـ لو استقطبت تجربة الوساطة والتوفيق، وانتشر الوعي الحقوقي بين أفراد المجتمع، ومنها إشاعة ثقافة التحكيم، وقصر الترافع على المحامي المرخص له، وحكم بأتعابه، وهيئ المكتب القضائي بالمستشارين الأكفاء في الشَّريعة والأنظمة، وعهد لأعوان القضاة بالإشراف على تبادل المذكرات ودراستها وتدوين وقائعها، وربط ما يحكمها من سوابق، ومباحث، وأنظمة، ومقترحات، وفُعِّلَ من حَزْم المرافعة بضرب الآجال، وبالأحكام الغيابية، وتخويل قاضي التنفيذ صلاحيات أوسع ـ كما يعد به مشروع نظامه الجديد ـ، وفُرِّغَ القاضي من كافَّة الأعباء الإدِارِيَّةِ والتَّوثيقيَّة، أو أية مناشط أخرى لا صلة لها بعمله القضائي، وتواصل دوماً مع التدريب والملتقيات الحقوقية، والبحثية، وتعاطى إيجاباً مع الزيارات الاستطلاعية، ووظفت جميع إمكانات التقنية الحديثة لخدمة العملية العدلية، ومن ذلك إيجاد قاعدة معلومات شاملة، وربط معلوماتي، وَهُوَ ما نسعى جاهدين لتحقيقه، مستصحبين في هذا أنه مهما رصد للمؤسسات القضائية من مال وكوادر بشرية فإنه لا بُدَّ مِنْ بَدَائلَ تُسْهمُ في تَرْشِيْدِ الاعتمادُ الكُلّي على القَضَاءِ في جميع المنازعات، بإيجادِ بدائلَ شَرْعِيَّةٍ للتَّسْوية، غير ملزمة للأطراف إلا عند القناعة بها، وإلا فمرد الجميع القضاء.

إن تطوير مرفق القضاء ليس بحاجة إلى التعقيدات الإدارية، وبناء مؤسساتها التي تجاوزت الإدارة الحديثة كثيراً منها، وبخاصة ما يهدف منها إلى تعزيز سلبية الفكر المركزي، ورهاب المتابعة والمساءلة، وفرض الهيمنة بالصلاحيات، وتوسيع قاعدة التدخل الإجرائي والإداري، بقدر ما نحتاج إلى تسهيل الإجراءات وتعميق الثقة، والإيحاء بمبدأ الرقابة الذاتية ـ بضوابطها الإيجابية وفق الأنظمة المرعية ـ ، وتحديث أساليب الإدارة القضائية، والفهم الصحيح لمبدأ الفصل بين السلطات، والتأكيد على استقلال القضاء المنصب على أحكامه، فلا يسوغ تحت أي ذريعة التدخل في الأحكام من أي جهة، ولا يناط ذلك إلا بالجهة الإشرافية على الأحكام وفق النظام وهي المحكمة العليا، بل إن بعض النظم القضائية عهدت إلى القضاء بسن إجراءاته وقواعد مرافعاته، وَقَلَّصَت ـ قدر الإمكان ـ من كثرة النظم واللوائح، وأوكلت ذلك للسوابق والمبادئ.

ومن كان يعتقدُ أنَّ في الوسع تنفيذَ تطلعات القطاع العدلي، على عجل فقد أخطأ التقدير، لكننا ـ بعون الله ـ نسارعُ الخُطَا؛ لتحقيق هَذَا الطُّمُوح الكَبير وِفْقَ دِرَاسَاتٍ مُسْتَفيضة ومقاييسَ زمنيةٍ محددة؛ لئلا نختزلَ الجَوْدَةَ بإنجاز مُبْتَسر، أو كَسْب رِضَا المُتَرَقّب المُتَعَجِّل بطَرْح إِعْلاميٍّ لا رَصِيْدَ لَهُ، وجميعُ هذا لا يمنعُ اعتمادَ خُطَطٍ: “قصيرة” و”متوسطة” و”بعيدة” المدى، ولدى الوزارة العَديد من الخيارات الاستراتيجية، تمت دراسة بعضها، ومنها ما هو على وشك الانتهاء، وسيتمُّ ـ بمشيئةِ الله ـ الإفصاح عن خيارها المعتمد في افتتاح أعمال المرحلة العلمية الأولى لمشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لتطوير مرفق القضاء، ثَمَّ يبدأ العَمَل بها فَوْرَاً، هذا فيما يخص التَّخْطِيْطِ الاسْتَرَاتيجيّ في الجوانب العِلْمِيَّةِ. أمَّا ما يتعلقُ بالتقنيَّة والمُنْشَآت والتَّجهيزات، فالعملُ عَلَيْهَا جَار، وَسَتَرى النُّوْرَ قَريباً ـ إن شَاءَ الله ـ في حَلَقَاتٍ مُتَّصِلَةٍ ضِمَنَ أجندة الوزارة التطويرية، ولها في هذا خُطَّةٌ تعتمدُ الشراكة الفاعلة مع بيوت الخبرة في القطاعين: العَامّ والخَاْصّ، وما توفيقنا إلا بالله.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ،،،.