هلْ المُسْتَشارُ القَانُونيُّ مُحامٍّ؟
يُعَرَّف العمل بأنه المجهود الإرادي الواعي الذي يستهدف منه الإنسان نشاطاً انتاجياً أو خدمياً في وظيفةٍ أو مهنةٍ أو حرفةٍ؛ لإشباع حاجاته. تهتم دول العالم والمنظمات الدولية بوضع تصنيف للمهن، بحيث توصف بها حالة الشخص في وثيقة هويته «Occupational»، لأهمية أن يُفرق بين طبيعة أداء العمل كوظيفةٍ وبين أدائه كجزءٍ من منظومة احترافية مهنية.

فمفهومُ الاحتراف المهني أوسع بكثير، ويخضع أفرادهُ لمسئوليات ذاتية تجاه المجتمع، والعميل أو صاحب العمل، وأعضاء المهنة الآخرين، وتجاه أنفسهم. وضعت منظمة العمل الدولية تصنيفاً دولياً موحداً للمهن «”ISCO”International Standard Occupation Classification »؛ لتنظيم معلومات سوق العمل كجزء من الأسرة الدولية للتصنيفات الاقتصادية والاجتماعية للأمم المتحدة والمعروفة باسم «ISCO-08»، وقد سايرت منظمة العمل العربية، والأمانة العامة لمجلس القوى العاملة السعودي تصنيفَ المهن وفقاً لمجموعاته بتعديلٍ يتلاءمُ مع طبيعة العمل بالمنطقة، وانعكس ذلك على «الدليل الخليجي الموحد للتصنيف والتوصيف المهنيين» الذي يمُثل أساساً فاعلاً لبناء لغة تفاهم مشتركة لدول مجلس التعاون.

وكل تلك التصانيف تتوافقُ على تصنيف أعمال المحاماة: من ضمن البيئة الاجتماعية ذات القدرة على فهم الناس، والميل للاتصال بالآخرين، عبر قدرات لغوية ومهارات أكاديمية على معالجة وفهم النصوص. جاء في المادة الأولى من نظام المحاماة «يقصد بمهنة المحاماة في هذا النظام: (أ) الترافع عن الغير أمام المحاكم وديوان المظالم، واللجان المشكلة بموجب الأنظمة والأوامر والقرارات لنظر القضايا الداخلة في اختصاصها، (ب) ومزاولة الاستشارات الشرعية والنظامية، ويسمى من يزاولُ هذه المهنة محامياً» وبمقارنة بين نطاق ممارسة أعمال المحاماة هذا وبين التوصيف الوراد في «دليل تصنيف الوظائف في الخدمة المدنية» نجد أن بينهما تداخلٌ، حيث ورد ضمن مسمى الوظائف الإدارية والمالية والمجموعة العامة للوظائف التخصصية، وظائف بمسمى: باحث قضايا، ومحامي مساعد، ومحامي، وكبير محامين، وباحث قانوني مساعد، وباحث قانوني، ومستشار قانوني مساعد، ومستشار قانوني، ومستشار شرعي، وكبير مستشارين شرعيين.

ويتداخل كذلك مع «دليل التصنيف والتوصيف المهني الموحد» الصادر من وزارة العمل السعودية الذي أورد وظائف بمسمى: محام، وكاتب محامي، ومستشار قانوني – النظم العامة، ومستشار قانوني – النظم الخاصة، وكاتب شئون قانونية، ومدير الادارة العامة للشئون القانونية. علاوةً على أنَّ قرار وزارة العمل بموجب قرار مجلس الوزراء قَرَّر قصر «19» مهنة على السعوديين، ليس من بينها مهنة محام أو مستشار قانوني، كما أنها لم تخصص لوزارة العدل جزءاً من الإجراءات كما في المادة «41» من نظام المحاماة. كلُّ تلك المسميات الوظيفية سواء في القطاع العام أو الخاص تنصب على ممارسة أعمال المحاماة المشار إليها المادة الأولى من نظام المحاماة التي لم تُحدد معالم الممارسة بحيث تمُيّز بين وجه التبعية الوظيفية أو الاحتراف المهني، ذلك أن قوانين المحاماة دولياً تُضيف قيداً يصف الممارسة بأنها مهنةٌ حرةٌ.

لذا استدركت وزارة التجارة والصناعة ذلك واستَظهَرتُه في «مشروع نظام المهن الحرة» حيث عرَّفت المهنة الحرة بأنها التي يزاول من خلالها شخص طبيعي – على سبيل الاحتراف، واستناداً إلى خبرة أو تأهيل أو ملكة أو مهارة – تقديم خدمات إلى الغير لحسابه الخاص، ودون ارتباط بعقد عمل مع المستفيد من الخدمة يخضعه لتبعيته ومسؤوليته وإدارته. مستوحيةً ذلك من دلائل مفهوم كلمة «Freelance» المرادف للمستقل؛ للتأكيد على انتفاء علاقة العمل بين ممارس المهنة الحرة والمستفيد منها. لا يتصور استغناء منشأة عن الخدمات القانونية المقدمة من المؤسسة القانونية سواء داخل المنشأة «In-house» أو خارجها عبر مكاتب المحاماة «Law Firms». ونظراً لاختلاف التزامات أفراد تلك المؤسستين القانونيتين فقد اهتمت الدول بتنظيم تلك العلاقة على نحو تتميز في الممارسة الحرة عن التبعية الوظيفية.

ففي بريطانيا فإن المحامين ينقسمون إلى محامي الترافع «Barrister»، وإلى محامي الاستشارات «Solicitor» وهو الذي يقدم الاستشارة للعملاء ولا يحق له الترافع المطلق. أما النظام الفرنسي فسار في بداية الأمر على منهج النظام الروماني بالتفريق بين الوكيل وهو من يُعد المذكرات ولا يترافع، وبين الخطيب أو المحامي أو وكيل الدعوى الذي يملك موهبةً في الترافع، حتى صَهَرَ قانون المحاماة لعام 1920 الفروقات في مسمى مُحامٍّ/أَفُوكَاتُو «Avocat» الذي يُلزم بالانتماء إلى النقابة، وبهذا حُلَّت إشكالية تعدد مسؤولية تقديم المهنيِّ المستقلِ للأعمال القانونية. أمَّا النظام الأمريكي فإنه أطلق وصف المحامي على من اجتاز امتحان المهنة من نقابة المحامين «American Bar Association».

إنَّ فلسفة التمييز بين المحامي الممارس للترافع، والمحامي الداخلي «In-House Lawyer» تَنطَلقُ من ثوابت طبيعة المسؤولية تجاه المهنةِ المنظّمةِ بقانونٍ يحددُ التزامات ممارسيها، ويخلقُ فئةً مهنيةً مستقلةً تُقدم الرأي القانوني بدون تبعيةٍ وظيفيةٍ، ويحمي أفراد تلك المهنة الحرة من الدخلاء عليها لتزدهر كصناعة وطنية قادرة على استقطاب أعداد الخريجين القانونيين، والمساهمة في زيادة حصة سوق العمل. وبصورةٍ عامةٍ يمكن أن يقال إنَّ التشريع السعودي فرَّق بين المحامي الممارس، وغير الممارس الذي يعمل في المؤسسات القانونية الداخلية للمنشآت كما هو جليٌّ في تصنيف وزارة الخدمة المدنية ووزارة العمل. وتتوافق نصوص نظام المحاماة السعودي مع تلك الفلسفة من حيث أنه سَمَّى من يعمل لدى «الشركات، والجمعيات، والمؤسسات الخاصة، والأشخاص ذوو الشخصية المعنوية» محامياً لِمَا نصَّت المادة «15» من النظام من أنه «لا يجوز للمحامي بنفسه أو بوساطة محام آخر – أو بصفة جزئية بموجب عقد- أن يقبل أي دعوى أو يعطي أي استشاره ضد جهة يعمل لديها، أو ضد جهة انتهت علاقته بها إلا بعد مضي مدة …»، إلا أنَّ النظام قَصَر في المادة «18» حق الترافع عن الغير للمحامين المقيدين في جدول الممارسين دون غيرهم أمام الجهات القضائية وشِبهها. وأكدَّت الاستثناءات هذا المعنى إذْ استثنت «المحامي» الذي يمثل الأجهزة الحكومية كرئيس الجهاز، أو رئيس فرع الجهاز، أو من يفوضه من موظفي الجهاز بأن يترافع بمذكرة رسمية للجهة المترافع أمامها. واستثنى النظام كذلك الممثل النظامي للشخص المعنوي كناظر الوقف والوصي والقيم ومأمور بيت المال، والمفوض بموجب عقد تأسيس المنشأة «كرئيس مجلس الإدارة».

أمَّا عدا أولئك فيلزهم إبرام عقد وكالة لمن يترافع عنهم، ونظراً لحداثة إقرار نظام المحاماة، وتواضع عدد المحامين المرخصين وقتها، فقد سَمحَ النظام للحاجة استثناء الأزواج أو الأصهار أو الأشخاص من ذوي القربى حتى الدرجة الرابعة بالوكالة عن ذويهم، وفَتحَ مجالاً لأي وكيل الترافع بما لا يتجاوز ثلاثة قضايا، فكانت ثغرةً تَسَّلسلَ منها أدعياء المهنة. استثنى قانون المحاماة الكويتي «قبول المرافعة أمام المحاكم عن البنوك أو الشركات أو المؤسسات التي لا يقل رأس مال كل منها عن مائة ألف دينار-بعد موافقة لجنة القبول- محامو أقلام قضايا هذه الجهات من الكويتيين، ويكون ذلك بتوكيل من الممثل القانوني لهذه الجهات مصدقاً على توقيعه وصفته رسمياً على أن لا يمثلوا أكثر من جهة واحدة». إنَّ فلسفة «محام قلم القضية» في الكويت تأتي لتكمل صورة كاملة عن طبيعة الممارسة القانونية فيها.

فكثير من المنشآت الكبيرة لديها كادر قانوني مؤهل يعمل لصالحها، ومن غير المعتاد أن تجد الأفراد غير المؤهلين يترافعون أمام المحاكم؛ لأن للقانون شفرةٌ لا يقرأها إلا المحامي المتمكن، بخلاف ما عليه الحال في السعودية، حيث إنِّ منافسة غير المختصين بالترافع أمام المحاكم تعادل ترافع أهل الاختصاص، كما أن مرافعة أهل الاختصاص المرخصين أقل من غير المرخصين؛ مما يثبت خرقاً صريحاً لنظام المحاماة يُمارس علناً في أروقة المحاكم واللجان القضائية. إنَّ قبول الترافع من «وكيل» ممثل الشخص المعنوي تجاوزٌ صريح لنظام المحاماة، وتحايلٌ على تطبيقه، وإخلالٌ بالتزامات المهنة التي تُطَوَّق عنق المحامي ولا تنطبق على غيره، كما أنها جعلت المهنة تعيشُ على هامش الأعمال بدلاً أن تكون أَحَدَ مكوناته. وهذا يُفسر تزايد مخالفة من يجمع بين المهنة وعمل حكومي أو خاص.

إنَّ أروقة المحاكم واللجان القضائية مُثخنةٌ علناً بهذه المخالفة، حيث عَدَّت المادة «37» تلكَ المخالفةَ ضمن حالات ممارسة مهنة المحاماة خلافًا لأحكام هذا النظام، وتوجبُ فرضَ العقوبة بالسجن مدة لا تزيد على سنة أو بغرامة لا تقل عن ثلاثين ألف ريال أو بهما معاً من قِبَل القضاء المختص. إنَّ اعتزازنا بتجاوز المحامين المرخصين ألفاً وخمسمائة محامٍّ، يجب أن يقرأ في إجمالي عدد الممارسين للمهنة الذي يتجاوز هذا العدد بما لا يقل عن ثلاثة أضعاف، وبالتالي فإنَّ نظام المحاماة لا يُطبق إلا على 35% من إجمالي المترافعين بمعنى أن 60% من حصة سوق المحاماة مُهدرةٌ بسبب عدم تطبيق النظام بحزم!.

إنَّ الترخيص للمحامين لا يقل أهميةً عن حمايتهم، وحماية الأجيال القانونية القادمة التي تُؤَّمل أن تكون سوق المحاماة حاضنةً للأعمال كما هو حال دول العالم، الأمر الذي يُلقي بالمسؤولية على وزارة العدل ممثلةً في الإدارة العامة للمحاماة بالاضطلاع بتطبيق أحكام النظام بحزمٍ على المخالفين، ريثما تباشر الهيئة السعودية للمحامين مهامها على نحو يرتقي بآمال وتطلعات المحامين ببيتٍ مهنيٍّ يحميهم من الدخلاء، ويعزّز دورها كشريكٍ للسلطةِ القضائيةِ في تحقيق العدالةِ وسيادةِ القانون.

الهبوب
مستشار قانوني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت