بحث قانوني كبير نظرية الظروف الطارئة و أثر اختلال التوازن الاقتصادي في تنفيذ العقود

بحث مقدم من قبل
إحسان ستار خضير
رئيس محكمة استئناف ذي قار

جزء من متطلبات الترقية إلى الصنف الأول
من صنوف القضاة
بإشراف
الأستاذ مدحت المحمود
عضو محكمة التمييز
1418 هـ 1997 م

المـقـدمـة :

إن العقد, أي عقد, ينعقد إذا أرتبط الإيجاب بالقبول على نحو يثبت أثره في المعقود عليه, وعلى أن يتم ذلك الارتباط وفقاً للصيغ والأوضاع التي ينص عليها أو يتطلبها القانون, وبعبارة أخرى فأنه إذا توافرت للعقد أركانه مستوفية شروط صحتها وذلك بأن صدر من أهله مضافاً إلى محل قابل لحكمه ولم يشب إرادة العاقدين عيب يفسدها فقد انعقد العقد صحيحاً نافذاً وترتبت عليه آثاره.
والأصل في العقد الصحيح واللازم عدم استطاعة احد العاقدين الرجوع عنه بإرادته المنفردة, حيث يكون ملزماً لطرفيه ويجب عليهما الوفاء بالالتزامات المترتبة عليه. ولا يستطيع أي منهما أن ينفرد بنقضه أو تعديله إلا باتفاقهما على ذلك أو استناداً إلى نص في القانون فالالتزام الذي ينشئه العقد يساوي الالتزام الذي يفرضه القانون, وحيث لا يجوز الخلاص من التزام مفروض بقوة أو بحكم القانون, لذا لا يجوز للمتعاقد أن يتحلل من التزام نشأ عن عقد هو طرف فيه, فالعقد كما هو معروف شريعة المتعاقدين بمعنى أنه قانونهما الخاص الذي يتضمن التزامات كل من طرفيه, وعليهما تنفيذه بكل ما أشتمل عليه من بالإضافة إلى كل ما يعتبر من مستلزماته وبما يتماشى مع القانون أو العرف أو العدالة وطبقاً لطبيعة الالتزام موضوع ذلك العقد.
ومن المفروض أن تتوازن التزامات طرفي العقد من الناحية الاقتصادية في مرحلة تكوين العقد. فإذا ثبت حصول اختلال في تلك الالتزامات ضمن المرحلة المذكورة فإن معالجة مثل هذا الاختلال والآثار الناجمة أو الناشئة عنه أو بسببه وصولاً إلى إزالة الضرر الذي لحق بأحد المتعاقدين, تتم استناداً إلى الأحكام الخاصة بعقود الإذعان أو نظرية الاستغلال وبالقدر الذي يتصل بموضوع العقد وطبيعة الاختلال الناشيء.

أما إذا حصل اختلال في التوازن الاقتصادي في مرحلة لاحقة على تكوين العقد ونقصد بها مرحلة تنفيذ العقد وذلك بسبب حوادث استثنائية عامة وغير متوقعة, فأن معالجة مثل هذا الاختلال وبالتالي إزالة الضرر الناشيء عنه تتم استناداً إلى الأحكام الخاصة بنظرية الظروف الطارئة.
ونظرية الظروف الطارئة تفترض وجود عقد يتراخى وقت تنفيذه إلى أجل وعندما يحل أجل التنفيذ تتغير الظروف الاقتصادية التي كان توازن العقد يقوم عليها وقت تكوينه, تغيراً فجائياً لحادث لم يكن في الحسبان فيختل التوازن الاقتصادي للعقد اختلالاً خطيراً بحيث يصبح تنفيذ المدين للعقد يهدده بخسارة فادحة تخرج عن الحد المألوف. وطبقاً لهذه النظرية فإن التزام المدين لا ينقضي, لأن الحادث الطاريء ليس قوة قاهرة بل يتوجب إزالة الإرهاق الذي نشأ بسبب الحادث الطاريء أو تخفيفه إلى حد معقول.
ولأن أثر نظرية الظروف الطارئة يظهر في معظم العقود فقد حظيت باهتمام الفقهاء وشراح القانون ووجدت لها تطبيقات واسعة في أحكام القضاء.
وتبرز أهمية النظرية ومعالجاتها العادلة في المرحلة الراهنة على صعيد العراق, بشكل خاص, حيث أن العديد من العقود ذات الصلة بالأنشطة الاقتصادية المختلفة قد تأثرت أو تتأثر بالظروف التي نشأت بسبب الحصار الاقتصادي متعدد الأشكال المفروض عليه بموجب القرارات الجائرة والظالمة التي أصدرها مجلس الأمن الدولي اعتباراً من آب 1990 وحتى الوقت الحاضر. وقد أدت هذه الظروف وما نجم عنها من أوضاع إلى اختلال واضح في التوازن الاقتصادي لأطراف هذه العقود مما يهدد بالخسارة المادية الجسيمة لبعض من أطرافها, وتشهد ساحات القضاء العراقي تطبيقات لأحكام النظرية من المؤمل أن تتوسع مستقبلاً بفعل الظروف التي ذكرناها وبما يوفر إمكانية إعادة التوازن الاقتصادي بين حقوق والتزامات الطرفين المتعاقدين. وبسبب هذه الأهمية التي تحظى بها نظرية الظروف الطارئة وآفاق تطبيقها حالياً ومستقبلاً في العراق فقد أخترتها موضوعاً للبحث وعلى أساس الخطة الآتية :

الفصل الأول: وتناولت فيه نظرية الظروف الطارئة في العصور القديمة ويتكون من المباحث الآتية :
المبحث الأول : النظرية في القانون الروماني.
المبحث الثاني : النظرية في القانون الكنسي.
المبحث الثالث : النظرية في الفقه الإسلامي.

الفصل الثاني: وتضمن نظرية الظروف الطارئة في العصر الحديث ويتكون من المباحث الآتية:
المبحث الأول : النظرية في الفقه والقضاء.
المبحث الثاني : النظرية في القانون الإداري.
المبحث الثالث : النظرية في القانون المدني.

الفصل الثالث: وخصصته لنظرية الظروف الطارئة في القانون والقضاء العراقي وهو بثلاثة مباحث:
المبحث الأول : شروط تطبيق النظرية.
المبحث الثاني : آثار النظرية في تنفيذ الالتزامات.
المبحث الثالث : إزالة اختلال التوازن الاقتصادي في التزامات طرفي العقد.

خاتمة:

وقد انتهيت فيها إلى استعراض ما كتبت وما توصلت إليه من آراء ومقترحات نتيجة لذلك أرجو أن أكون قد وفقت في تسليط الضوء على موضوع من مواضيع القانون الحيوية, والله من وراء القصد.

الباحث

الفصـل الأول
نشأة نظرية الظروف الطارئة فـي العصور القديمة

المبحث الأول
النظرية في القانون الرومانـي

إبتداءاً لا بد أن نحدد ماهية القانون الروماني وما هي بداياته فأية نظرية أو قاعدة قانونية لابد لفهمها من مراجعة ودراسة أصلها التاريخي وصولاً إلى معرفة بدايات نشوءها ومراحل تطورها فمن المعروف أن (القانون الروماني) يطلق على مجموعة القواعد والأحكام والنظم القانونية التي كانت مرعية في الدولة الرومانية وفي البلاد الخاضعة لها منذ تأسيس روما سنة 754 ق.م إلى وفاة الملك جوستنيان سنة 565 ب.م وبذلك يكون القانون الروماني قد وجد حظه في التطبيق خلال مدة بلغت ثلاثة عشر قرناً وفي مدينة صغيرة أولاً هي روما ثم أصبح بعد ذلك معمولاً به في أوسع إمبراطورية عرفها التاريخ (1).
والقانون الروماني برغم تعدد عهوده وتطوره بفعل التغيرات التي طرأت على المجتمع الروماني وما أفرزته من تنوع المعاملات فيه, فإنه بشكل عام لم يقر بنشوء الالتزامات إلا إذا أفرغت العقود في قالب شكلي كالكتابة أو القيام بعمل أو التفوه بألفاظ مقررة.
فالاتفاق المجرد لم يكن كافياً لترتيب آثار قانونية عليه وإنما كان يجب إفراغ مثل هذا الاتفاق في قالب معين يحدده القانون نفسه, فالقانون الروماني كان يرتب الآثار القانونية على مجرد إتمام التصرفات القانونية بالشكل الظاهري الذي يتطلبه(2).
وبناءاً على ذلك فأن الشكلية لا الإرادة هي التي كانت تولد الالتزام في أغلب مراحل تطور القانون الروماني.
والدعوى لكي تحمي اتفاقاً يجب أن يكون مثل هذا الاتفاق محاطاً بالأشكال الرسمية التي قررها القانون(3).
وقد أدى ذلك إلى أن تكون أحكام القانون الروماني في الجانب المدني واضحة وأكيدة ولا تدع مجالاً لمشيئة القاضي في تحديد مضمون القانون ولم تكن للقاضي سلطة على العقد أو المتعاقدين وليس أمامه إلا أن يقضي بما يطلبه الدائن حتى لو طلب شد وثاق المدين في المحراث ليحرث به الأرض وله في بعض الحالات حق طلب قتل مدينه وتقطيعه إرباً (4).
فكان يكفي للروماني أن يقيم الدليل الذي يسهل التأكد منه والخالي من اللبس والغموض ليمارس حقه أو يسترده فلكي يكون له الحق في مبلغ معين وعده به مدينه فيجب أن تكون مراسيم (الاشتراط الشفوي) العلنية والواضحة قد أجريت, ولكي يكون مالكاً للأرض من بيعت إليه فيجب أن تكون قد أجريت أمام الشهود المراسيم العلنية المسماة بعملية الأشهاد(5).
وكان من النتائج الطبيعية لسيادة الشكلية إن لا يعترف القانون الروماني بفكرة الغبن وهو الإجحاف المالي الذي يلحق المتعاقد بسبب عدم التعادل بين ما يعطيه وما يأخذه. فالقاعدة في القانون الروماني أن الغبن لا يعيب الرضا ولا يؤثر في صحة العقد وانعقاده ما دام هذا العقد هذا العقد قد أستوفى الشروط والأوضاع الشكلية التي قررها القانون, وحيث أن قيام العاقد بذلك دليل على انصراف إرادته الحرة إلى الالتزام بما عقده وهو عالم بالآثار التي تنجم عنه وبالتالي لا مجال للاحتجاج بالغبن الذي أصابه بسبب العقد وما على المتعاقد إلا أن ينفذ التزامه, ولذلك وحيث أن القانون الروماني لم يعترف بالغبن أثناء تكوين العقد فإنه من أولى أن لا يعترف بالغبن أثناء مرحلة تنفيذ العقد. وهكذا لم تجد نظرية الظروف الطارئة طريقها إلى القانون الروماني لكن الفلاسفة الرومان المتأثرين بالفلسفة اليونانية القديمة القائمة على فكرة الحق الطبيعي والعدالة دعوا إلى الأخذ بنظرية الظروف الطارئة في كتاباتهم ومنهم (شيشرون) و (سبيدنيك) فمن أقوال شيشرون: عندما يتغير الزمن يتغير الواجب. ومن أقوال سبيدنيك: ( أنا لا أعتبر حانثاً لعهدي, ولا يمكن اتهامي بعدم الوفاء إلا إذا بقيت الأمور على ما هي عليه وقت التزامي ثم لم أنفذه والتغير الذي يطرأ على أمر واحد يجعلني حراً في أن أناقش التزامي من جديد ويخلصني من كلامي الذي أعطيته ويجب أن يبقى كل شيء على حالته التي كان عليها في الوقت الذي تعهدت فيه لكي أستطيع المحافظة على كلامي).(6)
ويتضح من هذا القول أن العاقدين لا يسألان عن تنفيذ إلتزامهما إلا في مثل الظروف التي أبرم فيها العقد أما إذا تغيرت هذه الظروف فلهما أن يناقشا إلتزامهما ويعدلانه تبعاً للظروف الجديدة. وقد انتشرت هذه الأفكار في الفترة التي أطلق عليها أسم (الفترة العلمية)(7) والتي تزامنت مع الفتوحات الرومانية الواسعة التي أدت إلى نشوء ظروف أخلاقية وثقافية جديدة كانت عظيمة الأثر على تطور الأفكار الفقهية الرومانية وانعكاساتها الإيجابية على القانون الروماني نفسه, فالفقهاء الرومان, في تلك الفترة لم يعودوا يعتقدون بصبغة القدسية التي كانت تسبغ على شكليات القانون وذهبوا إلى أن الغاية النهائية للقانون هي منفعة الناس وإسعادهم وتوفير الرخاء لهم والمودة بينهم ولا حرج من أن تؤدي هذه الغاية إلى الخروج عن التقاليد القديمة وتحطيم سلسلة الشكليات المفروضة ولذلك دعوا إلى أن لا يسأل العاقدان عن تنفيذ التزامهما إلا في مثل الظروف التي أبرم فيها العقد وإذا حصل وأن تغيرت هذه الظروف فلهما عندئذ أن يعدلاه على ضوء وتبعاً للظروف المستجدة. وقد دفعت مفاهيم العدالة هذه الرومان إلى البحث عن الحقيقة والجوهر وسمحوا للإرادة أن تبرم عقوداً لم يكن القانون قد نص عليها ومن ثم أباح القاضي لنفسه أن يطبق نصوص القانون بشيء من الحرية والمرونة.(8)

المبحث الثاني
النظرية في القانون الكنسي

بعد أن انتشرت الديانة المسيحية في أوروبا في العصور الوسطى, فقد أدى هذا الانتشار إلى نتائج مهمة كان من أبرزها استتباب سلطة الكنيسة ليس على المستوى الديني فحسب ولكن على المستوى السياسي والقانوني أيضاً, وتعمق بناءاً على ذلك نفوذ الكنيسة في مجرى الأحداث, وظهرت الدعوة آنذاك إلى تحرير العقود من المراسيم والقوالب الشكلية إلى جانب الاتجاه جدياً إلى إزالة كل ما شأنه إلحاق الأذى بالمدين مثل القسوة والتعسف والظلم وصولاً إلى رفع الغبن عن كاهله بسبب التزامه التعاقدي.
ويعتبر فقهاء القانون الكنسي هم الذين رسموا النطاق المناسب لمشكلة الغبن وذلك لأنهم فهموا هذه المشكلة على حقيقتها منطلقين من مبادئ الدين المسيحي نفسه والذي من أساسياته أن العقد وقبل كل شيء التزام أخلاقي مصدره نية المتعاقدين وإرادتهما الحرة(9). فكل عقد اتفقت فيه إرادة المتعاقدين وتحققت فيه العدالة, يصبح شريعة لهما وملزماً وأن سبب الإلزام يقوم على أساس وجوب البر بالوعد والوفاء به.
والعقد كذلك رابطة أخوية تخضع لقانون الرحمة والعدل ومن موجباتها أن يكون الدائن رحيماً متسامحاً مع مدينه ولا يرهقه بما يزيد على طاقته ولا يستغل حاجته أو جهله لينال منه ما لا يستحق(10).
وحيث أن نظرية الظروف الطارئة تقوم على المبادئ التي أشرنا إليها لكونها تستند بالأساس على فكرة العدالة وإنصاف المتعاقد ورفع الغبن عنه بالعمل على إنقاذه من الخسارة المادية الجسيمة التي تلحق به من جراء الحادث الطارئ الذي لم يكن في حسبانه وتقديره, فأنه من الطبيعي أن تجد هذه النظرية صدى واسعاً ومكاناً رحباً في التشريعات ذات الأصل أو الصبغة الدينية في هذه الحقبة من الزمن. ومن ضمنها القانون الكنسي, والذي من بين مفاهيمه أن يكون في العقد تعادل بين التزامات المتعاقدين. وكان رجال الكنيسة يرتبون على الحوادث الطارئة أثراً قانونياً فهناك غبن يقع على المدين المرهق, والغبن لا يجوز سواء كان أثناء تكوين العقد أو استجد عند تنفيذه. إذ هو نوع من الربا المحرم(11). كما أنه إثراء دون حق على حساب المدين المرهق وعبر أحد فقهاء القانون الكنسي عن الروح التي يجب أن تسود معاملات الناس بقوله ((ضع نفسك دائماً في مكان من تعامله وضع من تعامله في مكانك وبذلك تستطيع أن تحكم في الأمر حكماً عادلاً فاجعل نفسك بائعاً إذا اشتريت ومشترياً إذا بعت وبذلك تبيع وتشتري بالعدل))(12).
وقامت الصياغة الفنية لنظرية الظروف الطارئة في القانون الكنسي على أساس تغير الظروف. والتي صاغها أصحاب مدرسة (بار تول) في القرن الثاني عشر(13), ومؤداها أن العقد يفترض فيه شرط ضمني وهو أن الظروف الاقتصادية التي عقد في ظلها تبقى عند تنفيذه ولا تتغير تغيراً جوهرياً فإذا ما تغيرت هذه الظروف وترتب على التغيير إرهاق أحد المتعاقدين وجب تعديل العقد لإزالة الإرهاق(14).
وقد أخذ الفقهاء الإيطاليون والألمان بهذه القاعدة حتى القرن الثامن عشر, وقد قضي عليها نهائياً في القرن التاسع عشر واختفت أمام مبدأ سلطان الإرادة, ثم ما لبث أن ظهرت من جديد في أوائل هذا القرن(15).

المبحث الثالث
النظرية في الفقه الإسلامي

من المعروف عن الشريعة الإسلامية أن النصوص الشرعية فيها لم تعالج المسائل التفصيلية للأحكام الشرعية العملية باستثناء الأمور التي تتصف بالثبات والدوام كبعض قضايا الأسرة وأحكام الحدود(16).
لذلك وبغية رفع الضرر عن أحد المتعاقدين الناشئ بسبب تغير ظروف تنفيذ العقد بحيث أصبحت تختلف عن ظروف تكوينه فقد انطلق علماء الشريعة وفقهاء الإسلام صوب كل ناحية من كتاب الله تعالى وأحاديث النبي (ص) ينشدون منها طريقاً للحكم أو يلتمسون قاعدة شرعية ولذلك فإن الفقهاء المسلمين أوردوا بعض القيود على مبدأ العقد شريعة المتعاقدين مسترشدين ومستندين بما أقره الشرع الإسلامي في القرآن الكريم والسنة النبوية بضرورة المساواة بين المتعاقدين في الحقوق والالتزامات ورفع الضرر.
فقد جاء في سورة البقرة, بسم الله الرحمن الرحيم (… لا يكلف الله نفساً إلا وسعها…) و (… يريد الله بكم اليسر ولا يريد العسر…) وجاء في سورة الحج (… وما جعل عليكم في الدين من حرج…) صدق الله العلي العظيم, ومؤدى هذه الآيات الكريمة إن الله سبحانه وتعالى لا يرضى لعباده الضيق والإرهاق والضرر
كما جاء في الأحاديث الشريفة (لا ضرر ولا ضرار) و(إن بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً بم تأخذ مال أخيك بغير حق).
ولما كان الثابت في مصادر التشريع الإسلامي كافة الإجماع على إزالة الضرر ورفع الضيق والحرج عن المتعاقد, وحيث أن الظروف الطارئة قد تؤدي إلى إرهاق المدين, فقد وجدت نظرية الظروف الطارئة تطبيقات لها في الفقه الإسلامي كحلول عملية لمسائل مختلفة وإن سميت بأسماء متنوعة كالفسخ والأعذار أو وضع الجوائح في بيع الثمار أو تعديل العقد في حالة تقلب قيمة النقود(17). وإن هذه التطبيقات بحثت في أبواب مختلفة من أبواب الفقه بحثاً دقيقاً استند فيه الفقهاء المسلمون إلى تطبيق مبادئ العدالة بأسمى معانيها مسترشدين بما أقره الشرع الإسلامي من المساواة بين العاقدين في الحقوق والالتزامات طوال مدة العقد وما أمر به الشرع من إزالة الضرر عن المدين إذا ما عجز عن المضي في موجب العقد بسبب الحادث الطارئ الذي لم يتوقعه عند إبرامه.
وقد استنبط الفقهاء المسلمون ضمن سعيهم هذا العديد من القواعد الفقهية وعملوا على تطبيقها لمعالجة الظروف الطارئة والأضرار الناجمة عنها ومن الأمثلة على هذه القواعد نذكر ما يلي:-

1. الضرورات تبيح المحضورات

وتتمثل الضرورة في إزالة الضرر عن المدين وأباحت هذه الضرورة المحظور الذي هو عدم تنفيذ الالتزام بسبب الظرف الطارئ(18).

2. درء المفاسد أولى من جلب المنافع

وتتمثل هذه القاعدة في دفع المفسدة عند تعارضها مع منفعة فإذا تعارضت منفعة دائن في إلزام المدين بتنفيذ التزامه مع مفسدة الضرر الذي يصيب المدين إذا نفذ التزامه مع حدوث الظرف الطارئ وجب دفع المفسدة وبالتالي دفع الضرر الناشئ عنها بالفسخ للغدر في عقد الإيجار مثلاً أو بالحط من الثمن بقدر التلف الذي سببته الجائمة في بيع الثمار(19).

3. الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف

وبمقتضى هذه القاعدة يختار أهون الضررين(20). ويلاحظ أن الفقه الإسلامي لم يضع نظرية عامة للظروف الطارئة, ذلك أن الفقه الإسلامي لم يكن معنياً بصياغة النظريات بقدر ما كان يتلمس الحلول العلمية والعملية لكل ما كان يطرح على بساط الوقائع من مسائل(21).
و لهذا السبب عالج الفقه الإسلامي نظرية الظروف الطارئة من خلال مسائلها المختلفة والجزئيات المتفرعة عنها ووضع الحلول العملية المناسبة لها ولكل حالة منها على وجه التحديد. وبعبارة أخرى يمكن القول أن الفقه الإسلامي قد سلك الأسلوب الموضوعي في المعالجة للمسائل الناجمة عن الظروف الطارئة مسألة مستلهماً مقتضيات العدالة ومبادئ الأخلاق ولذلك كان طابع الرفق بالناس هو الغالب, عند تنفيذ العقود.

الفصل الثاني
تطور نظرية الظروف الطارئة وتطبيقاتها في العصر الحديث

المبحث الأول
في الفقه والقضاء

من أجل متابعة دراسة مراحل تطور نظرية الظروف الطارئة وتبيان الأفكار المختلفة بشأنها بغية تحديد الاتجاهات المتعارضة بشأنها بين مؤيد ومعارض سواء في الفقه أو القضاء في العصر الحديث وسنتناول هذا الموضوع كما يلي:-

أولاً: تطور النظرية في الفقه والقضاء الفرنسي

بعد ضعف نفوذ الكنيسة على كافة الأصعدة ومن ثم انتصار الثورة الفرنسية بدأت النزعة الفردية أو ما يطلق عليه المذهب الفردي بالانتعاش والتوسع, وكان من نتيجة ذلك سيادة مبدأ سلطان الإرادة الذي يدعو إلى منح الحرية التامة لإرادة الأفراد في تحديد الآثار التي تراها مناسبة وبعدم وجود حدود تحدها إلا حدود المصلحة العامة(22). فطبقاً لهذا المبدأ تعتبر الإرادة وحدها مصدراً للالتزامات التعاقدية حيث لا يلتزم أحد في عقد أو يكتسب منه حقاً إلا بإرادته الحرة, وعلى هذا فإن المتعاقد يلتزم بأي دين ينشأ من العقد مهما كان مرهقاً له. وينشأ عن هذا المفهوم نتيجة مهمة وهي أن التعادل أو التوازن المقصود في العقد ليس بين الشيئين المتبادلين وإنما بين الإرادتين الحرتين لكل من المتعاقدين(23). فإذا نشأ العقد نتيجة للتعبير عن هاتين الإرادتين, أصبح مثل هذا العقد شريعة للمتعاقدين لا يمكن نقضه أو تعديله إلا باتفاق إرادتيهما الحرتين أيضاً.
وقد عكست هذه المفاهيم ظلالها على التشريعات التي كانت قد صدرت في تلك المرحلة التاريخية ومن بينها القانون الفرنسي حيث أطلق هذا القانون حرية التعاقد واعتبرها رابطة لا تقبل الفسخ والتعديل إلا باتفاق المتعاقدين أو بمقتضى نص في القانون.
وأمام هذه القوة الملزمة للعقد التي أضفاها عليه القانون ذاته, لم يتمكن القضاء الفرنسي من أن يعدل في العقود أو يضيف إليها ما ليس فيها عندما تعرض عليه منازعات بشأنها, فليس أمامه إلا أن يقضي بما تضمنته العقود من التزامات وواجبات وما اشتملت من حقوق, وقد أدى هذا الوضع إلى تراجع واضح لنظرية الظروف الطارئة, حيث أن سلطان الإرادة و نظرية الظروف الطارئة لا يلتقيان على صعيد واحد. فانتعاش أحدهما لابد أن يكون على حساب الآخر. والعكس صحيح. بحكم التعارض إلى حد التناقض بين أهداف ومرامي كل من نظرية الظروف الطارئة ومبدأ سلطان الإرادة.
أما بالنسبة للفقه الفرنسي فلم يتفق على رأي أو اتجاه موحد بشأن نظرية الظروف الطارئة ومدى الأخذ بها من عدمه, حيث حاول قسم من الفقهاء أيجاد السند القانوني للنظرية ضمن المبادئ العامة للتشريع الفرنسي ليمهدوا الطريق أمام القضاء للأخذ بها من خلال الأفكار التي أثارها ومنها إن النظرية تقوم على أساس المبدأ القاضي بأن العقود يجب تنفيذها بحسن نية وليس من حسن النية أن يتعسف الدائن بالمدين إذا كان التزام هذا المدين مرهقاً له لظروف طارئة لم تكن في حسبانه, كما ليس من العدل أن يحاسب المدين عن ظروف طارئة سببت ضرراً جسيماً لم يكن متوقعاً وقت العقد. وإن النظرية تستند إلى مبدأ عدم التعسف في استعمال الحق ومبدأ الإثراء بلا سبب وقد رد خصوم النظرية على ذلك بقولهم إن حسن النية يقضي بأن ينفذ المتعاقدان ما اتفقا عليه وإن الدائن لم يثر بلا سبب بل إن هناك سبباً لإثرائه وهو العقد. بالإضافة إلى أن الدائن حين يطالب بحقه الذي تعاقد على أساسه ومن أجله لا يعتبر متعسفاً في طلبه هذا رغم الاختلاف في ظروف تنفيذ المدين لالتزامه(24).

ثانياً: موقف القضاء المصري من النظرية

لم يكن يأخذ القضاء المصري بنظرية الظروف الطارئة قبل النص عليها في القانون المدني النافذ حالياً. فقد كان القضاء المصري في ظل القانون القديم قد استقر على مبدأ يقضي بأن الالتزام لا ينقضي إلا إذا صار تنفيذه مستحيلاً أما إذا كان التنفيذ ممكن فإنه يجب القيام به حتى لو كان مرهقاً للمدين(25).

وقد اتجهت محكمة استئناف مصر إلى الأخذ بنظرية الظروف الطارئة في قضية عرضت عليها حيث قضت (… إنه وإن كان من المقرر احترام العقود باعتبارها قانون المتعاقدين وما دام لم يصبح تنفيذها مستحيلاً استحالة مطلقة لحادث قهري, إلا إنه يجب أن يكون ذلك مقيداً بروح الإنصاف ومقتضيات العدالة, فإذا طرأت عند التنفيذ ظروف لم تكن في حسبان المتعاقدين وقت التعاقد وكان من شأنها أن يؤثر على حقوق الطرفين وواجباتهما بحيث يختل توازنهما في العقد اختلالاً خطيراً, تجعل التنفيذ مرهقاً لدرجة لم يكن يتوقعها بحال من الأحوال فإنه يكون من الظلم احترام العقد في مثل هذه الظروف ومن العدل العمل على مساعدة المدين وإنقاذه من الخراب…)(26).
لكن هذا القرار لم يحظى بتصديق محكمة النقض المصرية التي كانت لا تقر تطبيق نظرية الظروف الطارئة بدون نص في القانون. وفي قرار آخر قضت محكمة استئناف أسيوط (… ليس للمحاكم في مصر أن تأخذ بنظرية الظروف الطارئة بل عليها أن تحكم بتنفيذ العقود كما هي, لا إدخال أي تعديل في شروط المتفق عليها بين الطرفين…)(27).
وقد استمر القضاء المصري على نهجه هذا حتى تم الأخذ بنظرية الظروف الطارئة في القانون المدني النافذ حيث نص عليها في المادة 147/2 منه. وذلك في عام 1948. حيث ورد في المادة المذكورة (( 1.العقد شريعة المتعاقدين فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين أو للأسباب التي يقرها القانون. 2. ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي وإن لم يصبح مستحيلاً صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة, جاز للقاضي تبعاً للظروف بعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول ويقع باطلاً كل اتفاق بخلاف ذلك)).

المبحث الثاني
في القانون الإداري

من المعروف أن القانون الإداري متعلق ومرتبط بالمصلحة العامة, ذلك أن الغاية منه ومن خلال العقود الناشئة بموجبه كعقود التوريد والأشغال العامة والنقل هي إسداء الخدمات العامة لأكبر عدد من الناس.
ولهذا فالقانون الإداري يوصف دائماً بأنه قانون قضائي وإن الطابع القضائي يلازم قاعدة القانون الإداري منذ ولادتها وحتى نهايتها. فالقضاء هو الذي يخلق القاعدة القانونية وهو الذي يفسرها وهو الذي يستبدل بها غيرها. والقضاء الإداري يختلف اختلافاً جوهرياً عن القضاء العادي فبينما تنحصر مهمة القضاء العادي في تطبيق القانون وتلمس نية المشرع وبالتالي تأمين مصلحة خاصة أو منفعة للطرفين المتعاقدين فإن القضاء الإداري ليس مجرد قضاء تطبيقي بل هو في الغالب قضاء إنشائي يبتدع الحلول المناسبة للروابط القانونية التي تنشأ بين الإدارة في تسييرها للمرافق العامة وبين الأفراد وهي روابط تختلف بطبيعتها عن روابط القانون الخاص ومن ثم ابتدع القضاء الإداري نظرياته التي استقل بها في هذا الشأن(28).
وبناءاً على ذلك وفي ضوء هذا الفهم لطبيعة القانون الإداري وجدت نظرية الظروف الطارئة أرضاً خصبة لنموها في ظل القانون وبالتالي القضاء.

وكان القضاء الإداري في فرنسا سباقاً في الأخذ بنظرية الظروف الطارئة وطبقها أثناء الحرب العالمية الأولى عندما تغيرت الظروف الاقتصادية بسبب الحرب وكان لهذه الظروف المتغيرة تأثيراً بالغاً في تنفيذ عقود إلتزام المرافق العامة. وعلى سبيل المثال فقد كان من بين المواد التي تأثرت بالحرب وإرتفع سعرها ارتفاعاً فاحشاً مادة الفحم بحيث وجدت شركة الإضاءة لمدينة بوردو الفرنسية عام 1916 أن الأسعار التي تتقاضاها أصبحت قليلة جداً ولا تغطي نفقات التشغيل. فتقدمت الشركة للسلطة مانحة الالتزام طالبة رفع تلك الأسعار لكن السلطة رفضت الطلب الذي تقدمت به الشركة, مبررة الرفض بالتمسك بالقوة الملزمة للعقد وأنه أي العقد شريعة المتعاقدين ولدى عرض النزاع على مجلس الدولة الفرنسي فقد أقر المجلس مبدءاً جديداً مستمداً من قاعدة دوام سير المرافق العامة. مقتضاه أنه إذا وجدت ظروف لم تكن في الحسبان من شأنها أن تزيد الأعباء الملقاة على عاتق الملتزم إلى حد الإخلال بالتوازن عند تنفيذ العقد, فللملتزم الحق في أن يطلب من الإدارة المساهمة ولو إلى حد ما في الخسائر التي تلحق به, وأصبح هذا المبدأ أساساً لنظرية الظروف الطارئة في القانون الإداري(29).

ثم توالت بعد ذلك أحكام مجلس الدولة الفرنسي التي استقرت على الأخذ بالنظرية المذكورة عند تصديه للمنازعات في القضايا المعروضة عليه مراعياً في أحكامه مبادئ العدالة وتوسع المرافق العامة وضرورة المحافظة على استمراريتها في تأديتها لخدماتها للمواطنين.
أما في مصر فقد رفض ( القضاء الوطني ) الأخذ بنظرية الظروف الطارئة إلى أن صدر القانون رقم 29 لسنة 1947 بشأن المرافق العامة التي تدار عن طريق الامتياز حيث نص في مادته السادسة على الأخذ بالنظرية(30).
وطبق القضاء الإداري المصري الذي عاصر في إنشاءه إقرار النظرية تشريعياً نظرية الظروف الطارئة في العديد من أحكامه ومنها الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية العليا بتاريخ 30/حزيران/1957 حيث ورد فيه (… لا شبهة في أن قيام الحرب يعتبر من الحوادث الاستثنائية العامة الخارجية التي لم يكن في الوسع توقعها والتي ترتب عليها أنه إذا أصبح تنفيذ الالتزام أشد إرهاقاً وأكبر كلفة كان للمتعاقد مع الإدارة مطالبتها بالمساهمة معه في تحمل النتائج المترتبة على ازدياد الأعباء الناشئة عن تلك الظروف …)(31).

المبحث الثالث
في القانون المدني

طبقاً للمفاهيم والأفكار التي أفرزها المذهب الفردي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر فإن الغرض من القانون يتمثل في احترام حرية الفرد وصيانة حقوقه.
وقد أدى ذلك إلى عدة آثار في مجال القانون منها انكماش أو تضاؤل تدخل الدولة وضيق مفهوم المصلحة العامة إضافة إلى تغليب المصلحة الفردية على مصلحة المجتمع وظهر ذلك واضحاً في التأكيد على مبدأ سلطان الإرادة في مجال الروابط العقدية واحترام الحقوق الفردية وإقامة المسؤولية المدنية على فكرة الخطأ الشخصي لا على مبدأ تحمل التبعة أو فكرة الضمان(32).
لكن المذهب الفردي هذا أخذ يضعف وتضيق دائرته تحت تأثير الوعي الاجتماعي ونمو وانتشار الأفكار الاشتراكية في العصر الحديث وبسبب هذه التطورات فقد ظهرت النظرة الجماعية للقانون وأهم مبادئها الإيمان بأن المجتمع هو الأساس في الحياة وإن القانون أداة للخدمة العامة.

وكان من نتائج هذه النظرة في دائرة القانون انكماش دور الإرادة في إنشاء الروابط العقدية وانتفاء تحكمها في إبرام العقد ووضع شروطه وترتيب أحكامه وكذلك إقامة المسؤولية المدنية على فكرة الضمان لا على أساس الخطأ الشخصي(33).

وحسب هذه النظرة الجماعية فأن القانون هو قبل كل شيء وسيلة من وسائل تطوير المجتمع وتوجيهه نحو القيم والمثل العليا والتي بدونها لا توجد حرية حقيقية أو مساواة حقيقية(34).

وعلى ضوء هذه المبادئ والأفكار الجديدة تحت تأثير مفاهيمها بدأ المشرعون في بعض الدول بإصدار التشريعات المدنية التي من شأنها التدخل في تنظيم العقود وعموم العلاقات المدنية وإعطاء الأولوية لمصلحة المجتمع على مصلحة الأفراد والتركيز في العقود على التوازن بين الحقوق والالتزامات المتولدة عنها وإبطال ما يخالف ذلك, وجواز تعديل العقد من قبل القضاء وبالشكل الذي يكفل تحقيق هذا التوازن. وتغليب صفة العلاقة القانونية على صفة العلاقة العقدية. والتوسع في إقرار المسؤولية الناشئة عن حكم القانون في دائرة العقود حماية للطرف الضعيف في الرابطة العقدية. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن هذه المبادئ قد نص عليها قانون إصلاح النظام القانوني في العراق رقم 35 لسنة 1977 وأكد على اعتمادها والأخذ بها عند إعداد التشريعات الجديدة في العراق وفقاً للأسس والمبادئ والأفكار التي حدد نطاقها بكل دقة القانون المذكور.

ومن هذا المنطلق بدأت نظرية الظروف الطارئة تظهر كنص عام في التشريعات المدنية لعدد من الدول فقد أخذ بها قانون الالتزامات البولوني في المادة 269 منه حيث نصت المادة المذكورة على ما يلي ( إذا وجدت حوادث استثنائية كحرب أو وباء أو هلاك المحصول هلاكاً كلياً أو غير ذلك من النوازل الطبيعية فأصبح تنفيذ الالتزام محوطاً بصعوبات شديدة أو صار يهدد أحد المتعاقدين بخسارة فادحة لم يكن المتعاقدان يستطيعان توقعها وقت إبرام العقد جاز للمحكمة إذا رأت ضرورة لذلك تطبيقاً لمبادئ حسن النية وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن تعين طريقة لتنفيذ الالتزام أو أن تحدد مقداره أو أن تقضي بفسخ العقد)(35).
ونص القانون المدني الإيطالي في المادة (1467) على ما يلي (.. في العقود ذات التطبيق المستمر أو التنفيذ الدوري المؤجل إذا أصبح التزام أحد المتعاقدين مرهقاً أثر ظروف استثنائية جاز للمتعاقد المدني بهذا الالتزام أن يطلب فسخ العقد وللمتعاقد الآخر أن يدرأ الفسخ بأن يعرف تعديلاً لشروط العقد بما يتفق مع العدالة)(36).

أما القانون الإنكليزي فإنه كقاعدة عامة لا يعترف بالقوة القاهرة أو الحادث الفجائي كسبب لانقضاء الالتزام لكن القضاء الإنكليزي أوجد ثغرة في هذه القاعدة بافتراض قيام الشرط الضمني بتبدل ظروف العقد وقضى بإعفاء المدين عن تنفيذ التزامه إذا أصبح التنفيذ متعذراً أو صعباً لسبب خارج عن إرادته لوقوع حوادث أثناء تنفيذ العقد وقد أطلق على هذه الحالة تعبير (تعذر التنفيذ) وهي حالة قريبة من نظرية الظروف الطارئة(37).

كما سبق وأن أشرنا إلى أن القانون المدني المصري الصادر عام 1948 قد أخذ بنظرية الظروف الطارئة في المادة 147 منه.
كذلك فإن القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 قد أخذ بنظرية الظروف الطارئة بنص عام ورد في الفقرة الثانية من المادة 146 منه.
ومن النصوص المتقدمة يبدوا واضحاً أن نظرية الظروف الطارئة قد وجدت مكانها في القانون المدني في العصر الحديث بسبب أن مبادئ العدالة والإنصاف قد سادت فيه بشكل واسع, وأنها توجب توزيع العبء الزائد أو الخارج عما يقتضيه العقد بين الطرفين المتعاقدين, فضلاً عن تحقيق التوازن في أحكام القانون المدني ذاته حيث أن القانون المذكور لا يقبل (بالغبن) حين إبرام العقد فحري به إذن أن لا يقبله في مرحلة تنفيذ العقد.
هذا بالإضافة إلى أن نظرية الظروف الطارئة تستند إلى مبدأ حسن النية الذي يتصل بمبدأي الإثراء بلا سبب وعدم التعسف في استعمال الحق, التي هي من المبادئ الأساسية التي تقوم عليها أحكام القانون المدني.

الفصل الثاني
أحكام وتطبيقات نظرية الظروف الطارئة في القانون والقضاء العراقي

قبل نفاذ القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 كان القانون المدني السائد يتمثل في مجلة الأحكام العدلية التي أخذت بنظرية الفسخ للعذر في عقد الإيجار التي تقترب في مفهومها العام من نظرية الظروف الطارئة حيث أنها تهدف إلى دفع الضرر عن أحد المتعاقدين أو تؤدي إلى فسخ العقد. وتنفسخ الإجارة بالأعذار كمن استأجر دكاناً في السوق ليتجر فيه فذهب ماله, وكمن أجر داراً أو دكاناً ثم أفلس ولزمته ديون لا يقدر على قضائها إلا من ثم ما أجر(38).
بعدها صدر القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 وتم العمل به في 8/9/1953. حيث نصت الفقرة الثانية من المادة 146 منه على ما يلي:( على أنه إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي وإن لم يصبح مستحيلاً صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة, جاز للمحكمة بعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن تنقص الالتزام المرهق إلى الحد المعقول إن اقتضت العدالة ذلك ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك).
وبمقتضى هذا النص تعتبر نظرية الظروف الطارئة في القانون العراقي من النظام العام وبالتالي لا يجوز الاتفاق على ما يخالفها. وقد حال ذلك دون فرض المتعاقد القوي شروطه على المتعاقد الضعيف بإعفاء نفسه من تحمل تبعات الظرف الطارئ.
وسنتناول ذلك كله بالتفصيل من خلال ثلاثة مباحث وهي:
خصص المبحث الأول : شروط تطبيق نظرية الظروف الطارئة.
أما المبحث الثاني فقد تناول آثار النظرية في تنفيذ الالتزامات.
أما المبحث الثالث فتناول إزالة اختلال التوازن الاقتصادي في التزامات طرفي العقد.

المبحث الأول
شروط تطبيق نظرية الظروف الطارئة

إن اختلاف التوازن الاقتصادي في العقد بسبب الظروف الطارئة يرجع إلى وقوع حوادث استثنائية عامة غير متوقعة لا يمكن دفعها, تجعل تنفيذ الالتزام مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة, وحتى يمكن إعادة التوازن الاقتصادي المختل عن طريق تطبيق النظرية لا بد من توفر شروط وهي:-

أولاً : أن يكون العقد متراخي التنفيذ :

تنطبق نظرية الظروف الطارئة على العقود التي يفصل بين إبرامها وبين تنفيذها فترة من الزمن يطرأ خلالها حادث استثنائي غير متوقع يؤدي إلى جعل تنفيذ الالتزام مرهقاً للمدين, فتنطبق النظرية على عقود المدة ذات التنفيذ المستمر أو الدوري كما تنطبق على العقود الفورية التي يتفق فيها على أجل لاحق لتنفيذ بعض التزامات المتعاقدين. لتحقق حكمة التشريع في الحالتين وهي إصلاح ما أختل من التوازن الاقتصادي للعقد في الفترة ما بين إبرامه وتنفيذه نتيجة للظروف الاستثنائية التي طرأت خلال هذه الفترة وذلك برفع الإرهاق عن المدين تمكيناً له من تنفيذ التزامه وهذا الإرهاق كما يحدث في الالتزامات التي تنفذ بصورة دورية أو مستمرة يحدث كذلك في الالتزامات المؤجلة التنفيذ(39). ولكن لا يجوز إعمال أحكام نظرية الظروف الطارئة إذا كان تراخي تنفيذ الالتزام إلى ما بعد وقوع الظرف الطارئ راجعاً إلى خطأ المدين(40). أما إذا كان العقد فوري التنفيذ فلا يمكن الاستناد إلى نظرية الظروف الطارئة بدعوى اختلال التوازن الاقتصادي بل يمكن الاستناد إلى نظرية الاستغلال إذا توافرت شروط الغبن مع التقرير(41). وقد قضت محكمة التمييز: (… وقد تراخى الطرفان المتعاقدان في تنفيذ العقد لعدم تسديد بقية الثمن حتى أدركهما قانون الإصلاح الزراعي وهو من قوانين النظام العام… كما أنه يعتبر حادثاً طارئاً أخل بالتوازن الاقتصادي المتعلق بالعقارات الزراعية وأدى إلى هبوط أقيامها مما يتحتم معه تدخل القضاء للموازنة بين مصلحة الطرفين وأنقاض الالتزام المرهق إلى الحد المعقول إن إقتضت الحاجة ذلك …)(42).

ثانياً : أن يكون الحادث طارئاً :

والمقصود بهذا الشرط أن تطرأ بعد إبرام العقد وقبل إكمال تنفيذه حوادث استثنائية عامة وغير متوقعة. وحتى يوصف الحادث بأنه طارئ لابد من أن تتوفر فيه الصفات التالية:

1. أن يكون الحادث استثنائياً : ويراد بالحادث الاستثنائي أن كون الحادث مما لا يتفق مع السير الطبيعي للأمور بمعنى أنه بعيد عما ألفه الناس واعتادوه في حياتهم ومعاملاتهم اليومية العادية, ومن الحوادث التي تعتبر استثنائية وقوع زلزال أو نشوب حرب أو فرض تسعيرة أو إلغاء تسعيرة كانت مفروضة وقت إبرام العقد أو ارتفاع باهض في الأسعار بسبب حصار اقتصادي مثلاً كما يحدث الآن بالنسبة لقطرنا العراقي نتيجة الحصار الاقتصادي المفروض عليه بقرارات مجلس الأمن الدولي, حيث نرى ونلمس العديد من صور الحوادث الاستثنائية غير المألوفة. ومن قرارات محكمة التمييز حول الاستثنائية في الحادث نذكر ما يلي (… بما أن المميز عليه قد أعفى عدد من السيارات من الرسوم المقررة التي تدفع إلى المميز… فهذا الإعفاء من الحوادث الاستثنائية التي طرأت بعد تنفيذ الالتزام, فكان على المحكمة والحالة هذه تطبيق أحكام المادة 146/2 من القانون المدني…)(43).

ومن القرارات الأخرى التي أصدرتها محكمة التمييز والمتعلقة بذات الموضوع نذكر القرار الآتي (… إن المميز يستند في دعواه بطلب الفسخ إلى حكم المادة (878) مدني وحيث أن الحكم الذي جاءت به المادة المذكورة هو تطبيق لنظرية الظروف الطارئة التي تقرر مبدأها في المادة 146/2 من القانون المدني, ولما كان من شروط تطبيق نظرية الظروف الطارئة في عقد المقاولة أن يحدث أثناء تنفيذ عقد المقاولة حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وقت التعاقد يترتب عليها زيادة تكاليف العمل زيادة فاحشة تجعل تنفيذ المقاول التزامه مرهقاً وعسيراً وحيث أن الثابت في أوراق الدعوى… أن فيضان سنة 1968 كان غير اعتيادي بمقارنته بالفيضانات للسنوات السابقة وإنه لم يكن متوقعاً… لذا كان على المحكمة أن تتحقق عما إذا كان الفيضان… يعتبر من الحوادث الاستثنائية العامة غير المتوقعة. وهل ترتبت عليها زيادة فاحشة جعلت تنفيذ المقاول التزامه بإكمال العمل مرهقاً وعسيراً أم لا ؟..)(44).

أما إذا وقع الحادث عند التعاقد فلا يعتبر من الحادث الاستثنائية العامة ولا مجال عندئذ للمطالبة بتطبيق نظرية الظروف الطارئة وبهذا قضت محكمة التمييز (… إن الاعتراضات التمييزية غير واردة لأن المميز قد استند على الفقرة (2) من المادة (146) من القانون المدني ولما كانت هذه الفقرة تشترط أولاً أن تكون الحوادث الاستثنائية عامة وقعت بعد التعاقد… ولأن ابتداء تنفيذ التعهد كان بتاريخ 1/2/1954 وكان الظرف الاستثنائي العام وهو الفيضان واقع قبل ذلك التاريخ وعند التعاقد فلا يكون الفيضان من الحوادث الاستثنائية التي لم يكن من الممكن توقعها …)(45).

ولكن من الجائز أن تترتب آثار أخرى غير متوقعة على الظرف الطارئ الذي كان واقعاً عند التعاقد وتسبب إرهاقاً للمدين, وفي مثل هذه الحالة يكون من حق المدين المرهق المطالبة بتطبيق النظرية للاستفادة من أحكامها والحلول التي تتضمنها وفي قرار لها بهذا الشأن قضت محكمة التمييز (… وجد أن محكمة الاستئناف ذهبت إلى أن الحادث الاستثنائي هو الفيضان وإنه كان في تاريخ الضم قائماً … وقد فاتها أن قبول مبدأ الحوادث الاستثنائية مبني على أساس اختلال التوازن الاقتصادي للعقد … وقد تأيد بأن المميز عليه أثرى على حساب المميز واختل بينهما التوازن الاقتصادي للعقد, …. وعلينا أن نبحث الأسباب التي دعت المميز أن لا يتوقع تلك الحوادث فنجد أن مجرد وجود الفيضان في شهر أيار لا يوحي له بأنه سيستمر المدة التي بقيت المياه راكدة فيها على المزارع, إذ عادةً إن الفيضانات تنحسر بعد أن تغمر مياهها الأراضي الزراعية مدة وجيزة وتترك على الأراضي المذكورة طبقة غرينية تزيد من قابليتها الإنباتية … لهذا فإن مجرد حدوث الفيضان لا يوحي للمميز استمراره المدة الطويلة التي سببت إضراره, فالحادث الاستثنائي في هذا الموضوع هو استمرار مدة الغرق وعدم هبوط مستوى المياه وبقاء مياه الفيضان غامرة للأراضي مدة طويلة, بحيث إنتهى الموسم الزراعي وأوشكت مدة العقد على الانتهاء, فكان على المحكمة أن تدقق هذه الجهة فإذا تأيد لها أن المياه في تلك السنة بقيت غامرة للأراضي مدة طويلة, بحيث انتهى الموسم الزراعي وأوشكت مدة العقد على الانتهاء, فكان على المحكمة أن تدقق هذه الجهة فإذا تأيد لها أن المياه في تلك السنة بقيت غامرةً الأراضي الزراعية على الشكل المذكور فتكون الحالة استثنائية غير متوقعة ويستحق المميز التعويض استناداً للفقرة (2) من المادة (146) من القانون المدني …)(46).
2. أن يكون الحادث عاماً : يقصد بالحادث العام أن لا يكون خاصاً بالمدين فقط كإفلاسه أو موته أو مرضه بل يجب أن يكون عاماً شاملاً لطائفة من الناس, بمعنى أنه يشمل بآثاره طائفة من الناس أو أكثر كأهل البلد أو سكان إقليم معين من بلد ما أو مجموعة من الناس يؤلفون طبقة في المجتمع أو فئة منها. كالحرب والثورة والفيضان والحرارة أو البرودة الشديدة غير المتوقعة وتساقط الثلوج بشكل غير عادي. وهذا الحادث في عموميته تسبب في إلحاق الضرر الجسيم بالمدين. وفي قرار لها قضت محكمة التمييز (… أن نظرية الحوادث الطارئة التي تمسك بها المميز وفقاً للمادة 146 من القانون المدني يشترط لتطبيقها شروط ثلاثة هي:
أولاً: أن توجد بعد إبرام العقد وقبل تنفيذه حوادث استثنائية عامة, فالحوادث الاستثنائية الخاصة بالمدين وحده لا تكفي لتطبيق نظرية الحوادث الطارئة …)(47). هذا وينتقد اشتراط صفة العمومية في الحادث الاستثنائي من ناحيتين:

الأولى : إن هذا الشريط يجافي المنطق القانوني من حيث طبيعة الحادث والأثر الذي يترتب عليه, ذلك أن القوة القاهرة قد تكون أمراً عاماً وقد تكون حادثاً فردياً خاصاً بالمدين وربما تكون أشد وطأة من الحادث الطارئ العام بالنسبة إلى المدين فهي تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلاً وهذه الاستحالة تؤدي إلى انقضاء الالتزام في حين أن الحادث الاستثنائي العام يجعل تنفيذ الالتزام مرهقاً فقط فكيف يجوز بعد ذلك أن يشترط في الحادث الاستثنائي مالا يشترط في القوة القاهرة.

الثانية : إن اشتراط الوصف المذكور يخالف الاتجاه الجديد في نظرية الحوادث الطارئة الذي أخذت به تشريعات عديدة وفي دول مختلفة. بالإضافة إلى أن الوصف المذكور يضيق من نطاق هذه النظرية(48). 3. أن يكون الحادث غير متوقع ولا يمكن دفعه : ويراد بهذا الشرط أن لا يكون في الوسع توقع الحادث وقت إبرام العقد. فالحادث غير المتوقع هو الحادث الذي يجاوز تقدير الطرفين عند إبرام العقد. والعبرة في الوقع بمعيار موضوعي وهو معيار الشخص المعتاد(49) وقوامه أن لا يكون في وسع الرجل المعتاد توقع وقوع الظرف الطارئ عند إبرام العقد. وكان مجلس الدولة الفرنسي أول من أخذ بهذا المعيار وصولاً إلى معرفة هل الحادث الطارئ متوقع الحصول أو غير متوقع(50).

وبذلك فإن الحدث المتوقع لا يترتب عليه تطبيق نظرية الحوادث الطارئة ففي قرار لها قضت محكمة التمييز (… إن مناط تطبيق نظرية الظروف الطارئة هو أن يكون الحادث غير متوقع وكانت محكمة الاستئناف حسب سلطتها الموضوعية قد قررت بأن برودة الجو أمر متوقع وقد جرى بذلك قضاء هذه المحكمة لذا فلها مجال لتطبيق نظرية الظروف الطارئة…)(51).

وتعتبر الحوادث التي ترافق إعلان الحرب وبدء عملياتها من قبيل الحوادث غير المتوقعة حيث قضت محكمة التمييز (… إن الحكم المميز غير صحيح لأن المميزة كانت قد قامت من جهتها بكل ما يترتب عليها من الواجبات فطلبت الأدوات الاحتياطية برقياً, على أن تشحن بالطائرة لتأمين سرعة وصولها وحيث قد طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وهي الحوادث التي رافقت الاعتداء الإسرائيلي في الخامس من شهر حزيران 1967 وتوقف الشحن الجوي بين إنكلترا والعراق لذا لا تكون المميزة مسئولة عما نشأ من هذا الظرف الاستثنائي الذي لا دخل لها فيه …)(52).

كما إنه إذا تم إبرام عقد معين في ظروف استثنائية فلا يحق للمدين في مثل هذه الحالة أن يطالب بتطبيق نظرية الظروف الطارئة بدعوى الظروف الاستثنائية ما دام بالإمكان توقع الآثار المترتبة عليها أو كانت معلومة لديه, وفي قرار لها قضت محكمة التمييز بما يلي (… إن حصول ارتفاع في أسعار المواد وفي الأيدي العاملة لم يكن من قبيل الحوادث الاستثنائية غير المتوقعة … لأن هذا الارتفاع كان قائماً ومعلوماً لدى الطرفين حتى التعاقد …)(53).

هذا وينبغي أن يكون عدم التوقع نسبياً لا مطلقاً فالحادث الطارئ الذي لا يمكن توقعه هو الحادث غير الممكن توقعه اعتيادياً ومما يدل على (اعتيادية الحادث) كثرة وقوعه, أما الحوادث النادرة فلا تعتبر متوقعة. وإذا كان العقد مبرماً لمدة طويلة فإن احتمال وقوع الظروف الطارئة خلال مدة تنفيذه أكبر من احتمال وقوع الظروف الطارئة في حالة كون العقد مبرماً لمدة قصيرة. وتتأثر درجة توقع الظرف الطارئ بحالة المتعاقد فيما إذا كان شخصاً أم شركة, فمهما أوتي المقاول الشخص من إمكانات وقدرات فإن إمكانية توقعه للظرف الطارئ تكون محدودة بخلاف الشركة وبما تملكه من إمكانيات وخبرات في توقع الظرف الطارئ (فالشركة المتخصصة بالتجارة مثلاً تكون على دراية بالأزمات والاختناقات التي تحصل في الموانئ). وبمثل هذا قضت محكمة التمييز في قرارها المرقم 137/84/85 في 9/2/1986 (54).

ويترتب على أن الحادث لا يمكن توقعه أن يكون نصاً مما لا يستطاع دفعه فالحادث الذي بالإمكان وقعه يستوي في شأنه أن يكون متوقعاً أو غير متوقع ذلك أن الحادث الذي لا يمكن دفعه هو الذي ليس بإمكان المتعاقد أن يتفاداه وأن يتوقى آثاره فإذا كان بإمكانه دفع هذا الحادث وتوقي آثاره ولم يفعل كان مخطئاً وعليه أن يتحمل نتيجة خطأه وليس له المطالبة بتطبيق نظرية الظروف الطارئة للاستفادة من حمايتها. ومن أبرز الأمثلة على الحوادث التي لا يمكن دفعها الحرب والتمرد والزلازل وثورات البراكين.

ثالثاً : إرهاق المدين :
أن إرهاق المدين يعتبر من أهم الشروط التي يجب الاعتماد عليها للقول بأن هناك إختلالاً في التوازن الاقتصادي في العقد ومن ثم تطبيق نظرية الظروف الطارئة على الواقعة محل النزاع وعلى أن تتوافر الشروط الأخرى المقتضية لذلك. والملاحظ على المشرع العراقي أنه تجنب تحديد معنى الإرهاق, وبذلك فإنه ترك أمر تحديده إلى القضاء لكنه على العموم ينطوي على الخسارة الجسيمة المؤكدة والثابتة التي تصيب المدين جراء تنفيذه لالتزاماته المترتبة عليه بموجب العقد الذي هو طرف فيه(55). ويؤدي إلى اختلال التوازن الاقتصادي.

وهذا الأمر هو الذي يميز نظرية الظروف الطارئة عن القوة القاهرة, حيث أن القوة القاهرة في حال تحققها تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلاً وبها ينقضي العقد, بينما الظرف الطارئ يجعل تنفيذ الالتزام مرهقاً دون أن يبلغ حد الاستحالة والإرهاق هو الشرط الوحيد الذي ينتج أو ينشأ من العقد نفسه وينقل نظرية الظروف الطارئة من الميدان النظري إلى ميدان العمل. وإذا لم يحصل شرط الإرهاق امتنع تطبيق نظرية الظروف الطارئة حيث قضت محكمة التمييز في قرار لها حول هذا الموضوع بما يلي (… وجد أن الحكم المميز بالنظر لما أستند إليه من أسباب موافق للقانون … إذ أن تنفيذ الالتزام لم يصبح مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة…)(56). وهنا يطرح سؤال مهم نفسه على بساط البحث وهو كيف يتم تحديد الإرهاق أو الخسارة الفادحة؟ وما هي الأسس والمعايير التي تعتمد في ذلك؟ الإرهاق كما تقول محكمة التمييز (… حالة متغيرة تتغير بتغير الظروف فما يكون مرهقاً لمدين لا يكون مرهقاً لمدين آخر وما يكون مرهقاً لمدين في ظروف معينة لا يكون مرهقاً لنفس المدين في ظروف أخرى …)(57).

ولغرض الوصول إلى تقدير الإرهاق يتم الاعتماد على معيارين:
الأول : موضوعي وهو يتعلق بالعقد ذاته وعلى أساسه يتم تحديد الفرق في القيمة بين كل من قيمة الالتزام أثناء التعاقد وقيمته أثناء التنفيذ ووقوع الظرف الطارئ. ومن ثم البحث حول ما إذا كان الفرق المذكور يصل إلى مستوى الخسارة الفادحة للمدين.
أما المعيار الثاني فهو معيار شخصي يتعلق بحالة المتعاقد ذاته حيث نبحث امكاناته وظروفه وصولاً إلى تحديد ما إذا كان تنفيذ المدين لالتزامه مرهقاً له أم لا؟ هذا وعلى المحكمة أن تستعين بالخبراء والجهات ذات الاختصاص للوصول إلى الغرض المذكور وليس لها الانفراد في الرأي في تقدير تحقق الإرهاق من عدمه وبهذا قضت محكمة التمييز (… ليس للمحكمة أن تنفرد برأيها في تقدير عدم تأثير زيادة الرسوم الكمركية على التوازن الاقتصادي بين الطرفين بل عليها أن تستطلع رأي الخبراء في ذلك …)(58). وحول نفس الموضوع وفي قرار آخر لها أكدت محكمة التمييز أهمية الخبرة في تحديد الإرهاق حيث قضت (… حتى إذا قدر الخبراء ذلك وازنت المحكمة بين مصلحة الطرفين فإن أتضح لها أن الالتزام أصبح مرهقاً أنقصته إلى الحد المعقول …)(59).

ولا تعتبر الخسارة المادية المألوفة في التعامل من قبيل الإرهاق, فكما يحتمل التعامل التجاري الربح فإنه يحتمل الخسارة أيضاً ما دامت مألوفة ومتوقعة وذلك تطبيقاً لقاعدة (الغرم بالغنم) وبهذا قضت محكمة التمييز (… وجد أن الارتفاع الذي طرأ على المادة التي وقع التعهد عنها لا يعتبر غير اعتيادي إذ أن ارتفاع الثمن وانخفاضه لمادة استهلاكية يعتبر نتيجة محتملة لثمن تلك المادة وفق العرض والطلب فالزيادة أو النقص لا يخلان بمنطوق التعهد أو يجعلانه مرهقاً …)(60).

وبالإضافة إلى ما تقدم توجد بعض الأسس التي يجب مراعاتها في تحديد الإرهاق منها الأخذ بنظر الاعتبار جميع أوجه النشاط الاقتصادي التي يمارسها المتعاقد والتي يقوم بينها اتصال وثيق بحيث يمكن اعتبارها فرعاً من الالتزام الأصلي, أو ما إذا كان المتعاقد يمارس أنشطة متعددة ومختلفة بمقتضى عقد واحد حيث تؤخذ جميع هذه الأنشطة ومردوداتها المالية عند تقدير الإرهاق الذي يتعرض له المتعاقد بسبب الظرف الطارئ, كما لا يدخل في حساب الخسائر ما قد تحمله المتعاقد منها قبل وقوع الظرف الطارئ إذ تقع هذه الخسائر على المتعاقد وحده باعتبارها ضرباً من ضروب المخاطرة التي يتعرض لها المتعاقد عادةً(61).
هذا وإنه من المتفق عليه فقهاً وقضاءاً أنه يمكن للمحكمة الاستعانة بجميع وسائل الإثبات ومنها القرائن لتحديد درجة الإرهاق أو الخسارة.

المبحث الثاني
آثار النظرية في تنفيذ الالتزامات

إذا توافرت الشروط القانونية لتطبيق نظرية الظروف الطارئة, فما مدى ذلك على استمرارية المدين في تنفيذ التزامه المرهق له؟ وإذا نفذ التزامه رغم إرهاقه وتعرضه إلى خسائر مادية فادحة فهل يستطيع المطالبة بتطبيق النظرية ومن ثم الاستفادة من أحكامها؟ إن الإجابة على هذه التساؤلات وغيرها سوف نتولاها في هذا المبحث وكما يلي:

أولاً : حالة استمرار المدين في تنفيذ الالتزام :

على المتعاقد الذي يطالب بتطبيق نظرية الظروف الطارئة ويتمسك بها أن يستمر في تنفيذ التزامه بالرغم من الظرف الطارئ الواقع وتأثيراته الضارة على المتعاقد وإذا توقف عن تنفيذ التزاماته العقدية كما هي واردة في العقد, فيكون عندئذ غير جدير بالحماية التي تقررها فكرة (نظرية الظروف الطارئة) في مساعدة المدين والأخذ بيده لغرض تمكينه من تنفيذ ما كان قد التزم به, وبهذا المعنى قضت محكمة التمييز (… يتبين من أوراق الدعوى أن المدعين (المميز عليهم) قد حصروا دعواهم بالأضرار التي أصابتهم جراء تنفيذ العقد المبرم بين الطرفين استناداً إلى نظرية الظروف الطارئة وقد أقر المدعون في عريضة الدعوى أنهم توقفوا عن تنفيذ العقد, بينما كان عليهم أن يستمروا بتنفيذ العقد إلى نهايته … ولما كانت المادة 146/2 من القانون المدني تجيز للقضاء إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب عليها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي صار مرهقاً للمدين ويهدده بخسارة فادحة أن ينقص الالتزام المرهق إلى الحد المعقول إن اقتضت العدالة ذلك ومفهوم هذا أن يستمر المتعاقد الذي يشكو الإرهاق في تنفيذ التزامه, لكي يستفيد من تدخل القضاء لتخفيف حدة الإرهاق, فإذا امتنع من جانبه وتوقف عن تنفيذ التزامه كله أو بعضه فلا يستفيد من نظرية الظروف الطارئة ولا يحق له المطالبة بالتعويض لأن الهدف الرئيسي للنظرية هو مساعدة المتعاقد على تنفيذ التزامه التعاقدي وتخفيض الأضرار التي أنزلتها به الظروف الطارئة بسبب تنفيذ التزامه التعاقدي وذلك بشرط استمراره على تنفيذ هذا الالتزام, لأنه يجب تنفيذ العقد طبقاً لما أشتمل عليه وبطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية فكان على المميز عليهم (المدين) الاستمرار في تنفيذ العقد ثم المطالبة بالتعويض…)(62). وليس للمدين أن يطلب فسخ العقد عند تعرضه للظرف الطارئ بالاستناد إلى نص المادة 146/2 من القانون المدني وبهذا قضت محكمة التمييز في قرار لها حيث جاء فيه (… إن المادة 146 من القانون المدني لم تجز للملتزم الفسخ إنما أجازت تنقيص الالتزام إذ لا يجوز فسخ العقد إلا إذا أصبح الالتزام مستحيلاً فينقضي حينذاك الالتزام أما الحالة الواردة في المادة 146 فتعالج ما إذا أصبح الالتزام مرهقاً بحيث يهدد المتعهد بخسارة فادحة وللمحكمة أن تعدل التوازن الذي أختل نتيجة الحادثة الطارئة …)(63).

وهذا الحكم هو تطبيق للقاعدة العامة في تطبيق نظرية الظروف الطارئة المنصوص عليها في الفقرة (2) من المادة (146) من القانون المدني العراقي التي لا تجيز فسخ العقد وإنما تجيز للمحكمة أن تعدل العقد بإنقاص الالتزام المرهق إلى الحد المعقول إن اقتضت العدالة ذلك, وإن رفض الفسخ يعني الإبقاء على العقد كما هو بالرغم من عدم التوازن الاقتصادي الذي حدث فيه.

لكن المشرع العراقي نفسه خرج على هذه القاعدة وذلك في المادة 787 من القانون المدني حيث عالج فيها فسخ عقد المقاولة إذا انهار التوازن الاقتصادي بين التزامات رب العمل والمقاول انهياراً تاماً بسبب حوادث لم تكن في الحسبان وقت إبرام العقد أدت إلى انعدام الأساس الذي قام عليه التقدير المالي لعقد المقاولة.

ثانياً : حالة تنفيذ الالتزام والمطالبة بتطبيق النظرية :

الثابت فقهاً وقضاءاً أن للمدين الحق في المطالبة بتطبيق نظرية الظروف الطارئة إذا تمسك أثناء تنفيذ العقد.
وهنا يثور السؤال التالي:
إذا نفذ المدين التزامه المترتب عليه جراء العقد بصورة تامة ووفقاً لما كان قد التزم به عند التعاقد بالرغم من آثار ونتائج الظرف الطارئ الذي تعرض له أثناء التنفيذ, فهل يستطيع مثل هذا المدين أن يطالب بتطبيق نظرية الظروف الطارئة بعد تنفيذ التزامه؟.
الملاحظ أن القضاء العراقي ومن خلال ما أطلعنا عليه من أحكام قضائية ذات صلة بالموضوع, إنه قد اتجه إلى عدم جواز المطالبة لتطبيق نظرية الظروف الطارئة في حالة تنفيذ المدين لالتزامه. إذ أن تنفيذ العقد تماماً يعني إنه انقضى بالوفاء وبالتالي لم يعد هذا العقد قائماً حتى يكون من الممكن المطالبة بتعديله وفق أحكام النظرية وإنقاص الالتزام المرهق إلى الحد المعقول لأن الالتزام قد نفذ, وانقضى بالتنفيذ ولأن تدخل المحكمة لإعادة التوازن الاقتصادي المختل بين الدائن والمدين نتيجة الظرف الطارئ يفترض أن هناك عقداً قائماً بين الطرفين لتتمكن من تعديله بقوة القانون. أما وإن العقد قد أنقضى بالتنفيذ فكيف إذن يتم تعديل عقد غير قائم.

هذا إضافة إلى أن نظرية الظروف الطارئة تشترط تحقق إرهاق المدين وتنفيذ العقد دليل على انتفاء الإرهاق, وبهذا المعنى قضت محكمة التمييز في قرار لها حيث جاء فيه (… إن المدعية أقامت دعواها مستندة إلى حكم الفقرة (الثانية) من المادة (146) من القانون المدني, بعد أن نفذت التزامها كاملاً.

ولما كانت الفقرة المشار إليها لا تجد مجالاً للتطبيق إلا إذا كان الحادث الاستثنائي الذي يتسبب عنه الإرهاق قد طرأ في الفترة بعد إبرام العقد وتنفيذ الالتزام الناشئ عنه, فإذا كان الالتزام قد نفذ فإنه ينقضي ويمنع انطباق نظرية الظروف الطارئة لأن تطبيقها لا يكون إلا على التزام لم ينفذ بعد, بالإضافة إلى أن تنفيذ الالتزام فيه الدلالة الكافية على انتفاء شرط الإرهاق …)(64).
وفي قرار آخر قضت محكمة التمييز (… وجد أن المميز عليه كان قد أبرم عقد مقاولة مع المميز وبعد تنفيذ العقد أقام المميز عليه الدعوى بطلب الحكم بإلزام المميز بمبلغ … تعويضاً عما أصابه من خسارة بسبب زيادة أسعار الحديد زيادة فاحشة أثناء تنفيذ العقد, فأصدرت محكمة البداءة حكماً بإلزام المدعى عليه بالمبلغ المدعى به, فاستأنف المدعى عليه الحكم البدائي فأيدت محكمة الاستئناف الحكم … وحيث أن الذي تراه الهيئة العامة هو أن ما قررته المادة 878/مدني هو تطبيق في عقد المقاولة لنظرية الظروف الطارئة التي تقرر مبدأها في المادة 146/2 من القانون المدني, فشروط تطبيق نظرية الظروف الطارئة في عقد المقاولة هي نفس شروط تطبيقها في مبدأها العام… ولما كان مفهوم الشرط الأول فيها هو أن تفصل فترة من الزمن بين إبرام عقد المقاولة وتنفيذه, وينبني على هذا أن انطباق نظرية الظروف الطارئة يمتنع إذا كان المقاول قد نفذ التزامه لأن النظرية ترد على التزام لم يتم تنفيذه فيستند إليها المقاول لرفع الإرهاق الذي حل به من جراء الحادث الطارئ وتنفيذ المقاول التزامه خير دليل على أن ما ترتب على الحادث الطارئ من ارتفاع الأسعار لم يكن مرهقاً له, ولما كان ذلك وكان عقد المقاولة المبرم بين الطرفين قد تم تنفيذه فليس للمميز عليه أن يستند إلى حكم المادة 878/مدني للمطالبة بتعويض عن زيادة الأسعار لمادة الحديد … وحيث أن شروط تطبيق المادة 878/مدني لم تتوفر في دعوى المميز عليه إذ أنه أقام دعواه بعد أن نفذ التزامه التعاقدي …)(65).
ومن ذلك يتضح ويتأكد من التطبيقات القضائية لمحكمة التمييز عدم أحقية المدين في المطالبة أو التمسك بنظرية الظروف الطارئة في حالة تنفيذه التزامه التعاقدي بالكامل.

المبحث الثالث
إزالة اختلال التوازن الاقتصادي في التزامات طرفي العقد

إذا توافرت شروط النظرية وبعد الموازنة بين الموازنة وبين مصلحة كل طرف من طرفي العقد, جاز للمحكمة معالجة أو إزالة الاختلال في التوازن وبما يؤدي إلى رفع الإرهاق الواقع على أي من الطرفين وسنتناول في هذا البحث كيفية قيام المحكمة بذلك وما هي الأساليب التي تتبعها لتحقيق هذا الهدف.

أولاً : زيادة التزامات الدائن :

بعد الموازنة بين مصلحتي الطرفين المتعاقدين قد ترى المحكمة إن مقتضيات العدالة, توجب إزالة الإرهاق عن المدين وذلك بزيادة التزامات الدائن فمثلاً إذا كان شخص ما قد تعاقد مع آخر على توريد كمية معينة من مادة معينة وبسعر محدد ومتفق عليه بين الجانبين وقت التعاقد, ولظروف طارئة غير متوقعة حصلت أثناء التنفيذ أرتفع ذلك السعر ارتفاعاً كبيراً بحيث أدى إلى أن تكون عملية توريده من قبل الطرف الآخر مرهقة له. ولغرض إزالة الإرهاق عن المدين, على المحكمة أن تتبع أسلوباً بمقتضاه يتم الوقوف على مقدار الزيادة المتوقعة أو المألوفة في الظروف الاعتيادية في أسعار نفس المادة. وخلال نفس الفترة التي يتم بها تنفيذ الالتزام معاصرة مع الظرف الطارئ, أي أن يتم احتساب الزيادة في الأسعار ضمن نموها الطبيعي وكأن الظرف الطارئ لم يقع أو ليس له وجود, وبعد تحديد هذه الزيادة بمعرفة أهل الخبرة والاختصاص يتم طرحها من المستوى الذي بلغته الأسعار لنفس المادة بسبب الظرف الطارئ. وبذلك يتم التوصل إلى معرفة مقدار الزيادة غير المتوقعة في الأسعار وبعدها تقرر المحكمة زيادة التزامات الدائن برفع السعر المتفق عليه أثناء التعاقد إلى حد معقول بحيث لا يتحمل أحد طرفي العقد بمفرده الزيادة غير المتوقعة بل توزع على كلا طرفي العقد. وبهذا المآل قضت محكمة التمييز حيث جاء في قرار لها ما يلي: (… إن نظرية الظروف الطارئة قد توفرت أركانها في الدعوى المقامة, وإن المادة 146/مدني التي بحثت في ذلك قد توفرت في ادعاء المدعي لذلك من حق المحكمة الموازنة بين مصلحة الطرفين وتنزيل الخسارة المألوفة من المبلغ العام لمجموع الضرر ثم توزيع ما بقي على طرفي الالتزام …)(66).
وفي قرار آخر قضت محكمة التمييز (… كان عل المحكمة الخوض في أساس الدعوى والمتثبت من انهيار التوازن الاقتصادي بين التزامات المقاول ورب العمل فإذا ثبت لديها ذلك فعليها الحكم بزيادة الأجرة بنسبة ما أنجزه المدعي من العمل تطبيقاً لنظرية الظروف الطارئة وما استقر عليه قضاء محكمة التمييز في مثل هذه الدعاوى …)(67). وفي قرار حديث لها قضت محكمة التمييز (… ولكن المحكمين وإن كانوا قد أخذوا بنظرية الظروف الطارئة وكان قرارهم مسبباً وواضحاً إلا إنهم أخطأوا في حساب ما يتحمله كل من الطرفين حيث أنهم حملوا الطرفين مناصفة جميع الزيادات الحاصلة في المواد الإنشائية وأجور العمل وإن الحساب الصحيح هو احتساب الخسارة المألوفة من هذه الزيادة وهي خسارة متوقعة في حساب كل مقاول حيث أن المقول هو الذي يتحمل الخسارة المألوفة دائماً ثم ما زاد عن الخسارة المألوفة يقسم مناصفة بين رب العمل والمقاول … )(68).
على أن الدائن, في مثل هذه الحالة لا يجبر على قبول السعر الجديد فله أن يقبل أو يطلب فسخ العقد (69).

ثانياً : إنقاض التزامات المدين :

وقد ترى المحكمة أن إزالة الإرهاق وإعادة التوازن الاقتصادي بين طرفي العقد يتم بأنقاض الالتزامات المترتبة على المدين, وبمثل هذا قضت محكمة التمييز في قرار لها (… ثبت منع الحكومة للذبح خلال المدة المطالب بها … وهو يعتبر من الحوادث الاستثنائية التي لم يكن للمستأجر أو المؤجر يد فيها, وحيث أن المنع جعل المأجور أثناء الفترة المذكورة في حالة لا يصلح معها للانتفاع الذي أجر من أجله وهو الذبح فيكون من حق المستأجر أن يطالب بإنقاص الأجرة عن الفترة المشار أليها …)(70).
وفي قرار آخر قضت محكمة التمييز (… إن المميزين رفعا بأن عدم تنفيذ الالتزام كان لسبب شحة مياه نهر الفرات … فكان على المحكمة ملاحظة ما تقدم وإنقاص الالتزام المرهق إلى الحد المعقول …)(71) وحول ذات الموضوع وفي قرار آخر أكدت محكمة التمييز (… إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي صار مرهقاً للمدين فللمحكمة بعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن تنقص الالتزام المرهق إلى الحد المعقول …)(72).
هذا ويدور حكم المحكمة بإنقاص الالتزام المرهق إلى الحد المعقول مع الظرف الطارئ وجوداً وعدماً فإذا زال الظرف الطارئ زال معه الإنقاص ورجع العقد إلى ما كان عليه والعكس صحيح في حالة اشتداد وتفاقم آثار الظرف الطارئ.

ثالثاً : إمهال المدين : 

إذا وجدت المحكمة أنه من المؤمل قرب زوال الظرف الطارئ, جاز لها أن تقرر ولغرض إزالة الإرهاق عن المدين بوقف تنفيذ العقد لحين زوال الظرف الطارئ(73). وإذا جاز للمحكمة ذلك فإنه لا يجوز لها فسخ العقد باستثناء ما ورد في المادة 878 من القانون المدني ذلك أن نص المادة 146/2 من القانون المدني لا يجعل لها إلا (إنقاص) الالتزام المرهق إلى الحد المعقول, فالالتزام المرهق يبقى ولا ينقضي ولكن ينقص إلى الحد المعقول.
وقد أجازت الفسخ في مثل هذه الحالة بعض القوانين كالقانون البولوني حيث أجاز للمحكمة فسخ العقد إذا رأت ضرورة لذلك والقانون الإيطالي الذي ينص على فسخ العقد لمصلحة المدين المرهق ولكن يجعل للمتعاقد الآخر الحق في أن يدرأ طلب الفسخ بأن يعرف تعديلاً لشروط العقد بما يتفق مع العدالة وقد أراد القانون الإيطالي بالطريقة التي ذكرناها أن يجعل تعديل العقد من عمل المتعاقد لا من عمل المحكمة ولكنه يفرض عليه هذا التعديل عن طريق تهديده بالفسخ(74).

الـخــاتـمـة

تبين من البحث في نظرية الظروف الطارئة إنها قد شقت طريقها وبدأت في الظهور في عدد من التشريعات المدنية الحديثة لعدد من الدول. بعد أن تردد صداها في آراء وبحوث الفقهاء عبر مراحل تاريخية متعاقبة كما وجدت نصيباً لها في التطبيقات القضائية.
وتتأكد أهمية هذه النظرية وتزداد كلما تقدم الزمن وتبعاً للتطورات التي تحصل في المجتمعات البشرية والتي تترافق معها ظروف طارئة غير متوقعة تؤثر بشكل مباشر على التوازن الاقتصادي للمتعاقدين إلى حد اختلاله وبما يؤدي إلى إلحاق الغدر المادي الجسيم بأحد أطراف العملية التعاقدية.

وهنا تظهر أهمية نظرية الظروف الطارئة ومعالجاتها العادلة في إعادة التوازن الاقتصادي بين طرفي العقد بما ينعكس إيجابياً على المعاملات الاقتصادية والتجارية حيث يشعر المتعاقد بالطمأنينة أثناء التعاقد أو خلال تنفيذ العقود.

وقد ظهر لنا من خلال البحث أن القانون المدني العراقي من بين القوانين المدنية التي أخذت بالنظرية وبنص عام فيه وهو نص المادة 146/2 منه. وهذا النص من النظام العام وكل اتفاق يخالف أحكامه هذه يعد باطلاً بطلاناً مطلقاً. فإذا اتفق المتعاقدان عند إبرام العقد على إنه إذا أصبح تنفيذ الالتزام مرهقاً للمدين بسبب ظروف طارئة غير متوقعة فلا يجوز لأي منهما أن يلجأ إلى القضاء طالباً حمايته كان الاتفاق باطلاً لمخالفته للنظام العام.

ولكن يلاحظ على النص المذكور أنه أشترط بتطبيق النظرية أو التمسك بها أن يكون الحادث الطارئ عاماً بالإضافة إلى الشروط الأخرى, وحيث تقع في الحياة العملية حوادث استثنائية لكنها لا تتصف بالعمومية إذ إنها قاصرة على المدين فقط أي على أحد طرفي العقد وتسبب له إرهاقاً مادياً جسيماً, وفي مثل هذه الحالة لا يستطيع هذا المتعاقد أن يطالب بتطبيق النظرية والاستفادة من أحكامها, ونرى من الضروري إعادة النظر في هذا الشرط واستبعاده وصولاً إلى تحقيق الغايات والأهداف العادلة التي تسعى إليها وتنشدها النظرية.

كما ظهر من البحث أن القاعدة العامة في تطبيق نظرية الظروف الطارئة المنصوص عليها في الفقرة في الفقرة الثانية من المادة 146 من القانون المدني لا تجيز فسخ العقد وإنما تجيز تعديل العقد بإنقاص الالتزام المرهق إلى الحد المعقول.
وإننا نرى إن رفض الفسخ يعني الإبقاء على العقد كما هو بالرغم من عدم التوازن الاقتصادي الذي حدث فيه. لذا نرى إعادة النظر في النص المذكور حتى يمكن الفسخ إذا تطلب الأمر ذلك وحسب تقدير محكمة الموضوع.

وبما يتفق مع العدل والإنصاف الذي تقوم عليه نظرية الظروف الطارئة. ولا سيما وإن المشرع العراقي ذاته أخذ بمثل هذا الحكم في المادة 878 منه وكذلك في المادة 792 أيضاً بالإضافة إلى أن عدداً من القوانين المدنية الحديثة لعدد من البلدان قد أخذ بمبدأ الفسخ عند تحقق الظرف الطارئ. كما رأينا ومنها القانون الإيطالي.

وقد ظهرت من خلال البحث أيضاً أن التطبيقات القضائية لمحكمة التمييز تميل إلى عدم نظرية الظروف الطارئة بها ومطالبته بعد إكمال تنفيذ المدين لالتزامه بالرغم من الإرهاق الذي أصابه بسبب الظرف الطارئ. ونرى أنه من الضروري وجوب المداخلة التشريعية في النصوص النافذة ليصبح بالإمكان طلب المدين تطبيق نظرية الظروف الطارئة حتى وإن نفذ التزامه بالكامل وذلك استجابة لمتطلبات العدالة وما تهدف إليه النظرية في حماية المدين أو الطرف الضعيف في العلاقة العقدية. فلا نرى موجباً لحجب الحماية المقررة بموجب النظرية عن المدين (المرهق) إذا نفذ التزامه ولمجرد إنه نفذ التزامه, فالظرف الطارئ ليس إلا واقعة مادية يترتب عليها إرهاق المدين نتيجة الخسارة المادية الفادحة وغير المألوفة. وإن تمسك المدين بالظرف الطارئ بعد أن يكون قد نفذ التزامه التعاقدي لا يغير في حقيقة هذه الواقعة وأثرها شيئاً فالخسارة الفادحة غير المألوفة تهدده أثناء التنفيذ وقد لحقته فعلاً بعد إكمال التنفيذ. فلماذا يحرم مثل هذا المدين من حق طلب معالجة اختلال التوازن الاقتصادي بعد إكمال تنفيذه التزامه التعاقدي. وهو الذي تحمل الإرهاق امتثالاً لعقده واحتراماً لالتزاماته. ومن العدل أن تقدم الحماية التي قصدتها النظرية لمن لحقته الخسارة الجسيمة فعلاً بسبب تنفيذ التزامه.

وربما نشترط عليه استئذان القضاء في الاستمرار في تنفيذ الالتزام الذي أصبح مرهقاً أو إعذار الطرف الآخر في العقد بما طرأ لأنه يحتفظ بحقه بالمطالبة تخفيض التزامه للظرف الطارئ وبذا نوفق بين مصلحة رب العمل في أن يستمر تنفيذ بنود العقد وبين مصلحة المقاول في الحفاظ على حقوقه وآمل من القضاء العراقي أن يتلافى بتطبيقاته هذا النقض فليس هناك ما يمنع من اتخاذه الموقف المتقدم.

ومن الله التوفيق