عن قانـــون التــبرع بالأعضـــاء في سوريا

وســــد الثـــغرات بالثـــغرات !!!!

رشــا فـائق

بين زحمة أوراق النعي وإعلانات الشقق المفروشة المخصصة “للإناث حصراً” نصادف يومياً على جدران شوارعنا إعلاناً أو اثنين يناشدان الإنسانية فينا، طالبين التبرع بكلية لشاب مريض أو طفلة صغيرة…إعلانات لا تستوقفنا بقدر ما تستوقفنا نعوة باسم صغيرة لاقت وجه ربها بعد مرض عضال فنترحم عليها ونتابع المسير… ولكن هل فكرنا يوماً باحتمال أن يكون اسم الصغيرة قد انتقل من إعلان مناشدة الإنسانية إلى ورقة النعي، فقط لأننا لم نفكر سابقاً بالتوقف للحظة عند الورقة الأولى !!!!

في سورية حوالي /2800/ مواطن يعانون من القصور الكلوي وبحاجة إلى غسيل الكلى بمعدل مرتين إلى 3 مرات كل أسبوع، يضاف إليهم سنوياً 1200 مريض…في سورية أكثر من خمسة ألاف مواطن مصابون بالعمى أو مهددون به في المستقبل، وينتظرون دورهم لإجراء عملية زرع القرنية؛ فضلاً عن 1000 مريض ينضم سنوياً تقريباً لقائمة الانتظار، هنالك أيضاً حوالي 1000 مريض مصابون بقصور الكبد، وحوالي 50 حالة تحتاج زراعة قلب…
في عام 1979 تمت أول عملية زرع في سوريا على يد الدكتور ماهر الحسامي وزير الصحة ، وفي عام 1985 بدأت عمليات الزرع في مشفى المواساة التابع لوزارة التعليم العالي ومشفى تشرين العسكري، وفي عام 1996 ازدادت الخبرة وازداد الطلب على العمليات، وفي عام 2000 افتتحت وزارة الصحة مشفى الكلية بابن النفيس وأجرى 20 عملية زرع في السنة الأولى ثم 96 عملية في السنة التالية ثم وصل الرقم إلى 125 عملية في السنة الثالثة 2003.
وبعد السماح للمشافي الخاصة بإجراء مثل هذه العمليات بدءاً من تاريخ 7/11/2004، بلغ عدد عمليات زرع الكلى الناجحة في القطر اليوم نحو 1400، بحيث بلغ معدل زرع الكلى إلى عدد السكان حتى نهاية 2005، 14 زرعاً لكل مليون نسمة…ولكن إذا كان معدل حدوث القصور الكلوي المزمن في بلدنا يبلغ 65-70 مريضاً لكل مليون نسمة سنوياً فإن معدلات الزرع الحاصلة تبدو سريعاً وبصورة بديهية غير مقبولة وأيضاً غير إنسانية.
في سورية تجري أيضاً عمليات لزراعة القرنية، بلغ عددها بحسب أخر إحصائية نشرتها صحف رسمية عام 2008 حوالي 1200 عملية زرع قرنية. علماً بأن جميع القرنيات مقدمة كهبة من بنك الأنسجة الدولي TBI وبعضها من منظمة أوربيس ORBIS.
ولكن إذا كانت عمليات زراعة الكلى والقرنيات متاحة – ولو بشكل محدود- في سورية، فإن عمليات أخرى مثل زراعة الكبد والقلب والرئتين والعظام والغضاريف والبنكرياس وبقية الأنسجة الأخرى تبقى غير متوفرة في ظل عدم توفر الإمكانات البشرية (غياب ثقافة التبرع) ومن قبلها غياب التشريع القانوني اللازم.

التشريع لسد الثغرات :
في الوقت الذي ارتفع فيه عدد المرضى السوريين المسافرين للخارج بحثاً عن كلية أو قرنية مصرية أو باكستانية وربما هندية (كان يخرج بذلك الوقت بين 80 إلى 100 مريض سنوياً) ، صدر القانون رقم 30 الخاص بزراعة الأعضاء والتبرع بها للعام 2003 بهدف ضبط وسد ثغرات القانون رقم 31 للعام 1972 المتعلق بذات القضية والذي سبق وأن تم تعديله عام 1986 . إلا أن وجود الكثير من الثغرات القانونية فيه دفعت المشرع (بعد 17 عاماً) للتنبه ووضع أحكام جديدة لإعادة تفعيله بالصورة الأمثل.
اليوم، وبعد مرور أكثر من خمس سنوات على صدور هذا القانون يصبح التساؤل منطقياً عن النتائج التي حققها التشريع الجديد. فهل تمكن حقاً من سد كل الثغرات أم أنه سد بعضها وفتح أخرى؟؟؟
يوضح د.فواز صالح الأستاذ في كلية الحقوق بجامعة دمشق أهم مميزات القانون 30 لنقل الأعضاء وزرعها والذي جاء بحسب قوله “بأحكام جديدة سدت النقص الذي كان يعتري أحكام القانون القديم، وأهم هذه الأحكام:‏ أولاً معاقبة كل من يخالف أحكام القانون الجديد المتعلق بنقل الأعضاء وزرعها، بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين، وبالغرامة من 5000 إلى 10000ل.س، بموجب نص المادة 7/أ-منه. ويشمل هذا المنع بشكل خاص أعضاء الفريق الصحي الذي له علاقة بعملية نقل الأعضاء وزرعها.‏في الحقيقة عبارة هذا النص جاءت مطلقة وبالتالي فهي لاتشمل فقط أعضاء الفريق الصحي، وإنما كل شخص يثبت أنه خالف أحكام هذا القانون.‏

ثانياً: تحريم الاتجار بالأعضاء، إذ أن هذا الجرم لم يكن معاقبا عليه سابقا، وقد تبين للمشرع أن هذا الأمر يشكل نقصا في القانون، وبالتالي جاء القانون الجديد ليسد هذا النقص.‏ ويعاقب القانون الجديد على الاتجار بالأعضاء بالأشغال الشاقة المؤقتة (وتتراوح مدتها بين 3سنوات وخمس عشرة سنة)، وبالغرامة من 50000 إلى 100000 ل.س.‏وبالتالي تجريم الاتجار بالأعضاء هي جنائية الوصف، وفقا لما جاء في المادة 7/ب من هذا القانون.‏

ثالثاً: حدد القانون الجديد الأشخاص الذين لهم الحق في الموافقة على التبرع بأعضاء من جثة شخص متوفى.‏إذ أن المادة 3/3 من القانون القديم لنقل الأعضاء وزرعها تجيز نقل الأعضاء من جثة ميت في حالة سماح عائلة المتوفى بذلك ولكن لم يكن واضحاً من المقصود من العائلة،وبالتالي هذا النقص كان يشكل خللا يعيق تطبيق القانون.‏ وجاء تدخل المشرع، بموجب أحكام القانون الجديد، وعدل أحكام تلك المادة، بحيث أصبحت المادة 3 من القانون الجديد تحدد الأشخاص الذين يحق لهم الموافقة على التبرع بأعضاء من جثة قريب لهم, وهذه الموافقة تكون على النحو الآتي:‏ آ- قرابة الدرجة الأولى.‏
ب- قرابة الدرجة الثانية في حال عدم توافر قرابة من الدرجة الأولى‏. وأخيراً فقد أجاز التشريع إمكانية حفظ الأعضاء، بحسب المادتان 1و3 منه اللتين تنصان على حفظ الأعضاء المتبرع بها أصولا”.‏

النفخ في قربة مقطوعة:

إلى هنا، يبدو واضحاً وبقوة القانون أن الأمور تسير على ما يرام في تشريع يعد من أكثر التشريعات السورية إنسانية..ولكن لماذا ما زالت نسبة عمليات الزرع في القطر لا تتجاوز 23% (بحسب تصريحات منشورة ومنسوبة لمديرة مشفى الكلية الجراحي بدمشق د. رانيا ديراني)؟؟؟
يقول د.صالح “في الواقع لا يعد القانون الجديد لنقل الأعضاء كاملا مكملا، وإنما فيه الكثير من الثغرات، أهمها:‏الخلل في صياغة المادة 2منه.إذ تنص هذه المادة على أنه يمكن نقل الأعضاء وغرسها من شخص حي إلى شخص حي آخر، في حالة كون النسيج أو العضو منقولا من وإلى نفس الجسم الذي يتلقاه..‏ولكن في هذه الحالة لا يتم النقل من شخص حي إلى شخص حي آخر، كما جاء في بداية نص المادة 2 المذكور أعلاه، وإنما النقل يتم هنا إلى الشخص نفسه.‏ فضلاً عن البقاء على تشتت الأحكام المتعلقة بزرع الأعضاء والتبرع بها في نصوص قانونية عدة، أهمها: أ- المرسوم التشريعي رقم 204 تاريخ 15/10/1963 المتعلق بإنشاء بنوك للعيون.‏
ب- المرسوم التشريعي رقم 99 تاريخ 7/4/1970 المتضمن نظام التبرع بالدم.‏
ج- القانون رقم 30 تاريخ 20/11/2003 المتعلق بنقل الأعضاء.‏
وكان الأجدر بالمشرع أن يجمع كل هذه النصوص في نص واحد يسهل الرجوع إليه”.
من جهة أخرى، فإن القانون الجديد وبحسب د.صالح لم يكرس التزام الطبيب بإعلام المتبرع بالنتائج المترتبة على التبرع، كما لم يبين فيما إذا كان يحق للمتبرع الرجوع عن رضاه قبل إجراء العملية.‏ففي الواقع تكرس القوانين المعاصرة المتعلقة بنقل الأعضاء والتبرع بها مثل هذا الالتزام على عاتق الطبيب أو الفريق الطبي.‏والهدف من هذا الالتزام هو تنبيه المتبرع إلى خطورة العملية ونتائجها المحتملة على صحته.‏ لذا يجب على الطبيب، قبل أن يبدي المتبرع موافقته على التبرع، أن ينبهه إلى مثل تلك المخاطر، بعد ذلك يعبر المتبرع عن رضاه أو عدم رضاه بعد الاطلاع على كافة النتائج التي يمكن أن تترتب على عملية الاقتطاع وعلى خطورة العملية.‏ ومن هنا اشتراط هذه القوانين توافر الرضا المستنير للمتبرع، أي الرضا الذي يقوم على معلومات صحيحة يقدمها الطبيب للمتبرع قبل صدور الرضا.‏ ويستدرك د.صالح بقوله ” يمكن أن يعد مثل هذا الالتزام واجبا مسلكيا بالنسبة للطبيب، فإذا أخل به، فهذا الإخلال يستوجب مساءلته مسلكيا عن تلك المخالفة”.‏

أما فيما يتعلق بالبند المتعلق بعدم تحديد صلة القربى بين المتبرع والمتبرع له، فإن د.صالح يرى أن هذا الأمر يفتح المجال أمام التحايل على أحكام هذا القانون، وبالتالي دفع مقابل مادي لقاء العضو المتنازل عنه، خاصة مع غياب ثقافة التبرع في مجتمعنا، إذ من النادر جدا مثلا أن يتبرع شخص لشخص آخر بكليته وهو لا يعرفه؟؟؟!!!! من جهة أخرى، يثبت الواقع أن معظم عمليات التبرع، بين أشخاص لا تربطهم أي صلة قرابة، قد تمت بمقابل وفي بعض الأحيان كان الأطباء على علم بذلك.‏من هنا يعتقد د.صالح أنه كان من الأجدر بالمشرع أن يشترط مثل هذا الشرط في حالة التبرع بين الأحياء، ولاسيما أن نسبة التبرع بين الأحياء لا تشكل أكثر من 10% في أحسن الحالات أما 90% من الحالات يتم التبرع فيها من جثث الأموات.‏خاصة وإن معظم القوانين في العالم تشترط مثل هذه الشرط في حالة التبرع بين الأحياء، أي صلة القرابة بين المتبرع والمستفيد.‏

“جاء ليكحلها فعماها”:
لا يمكننا نكران أن القانون الجديد عالج جملة من الثغرات القانونية التي شابت سابقه لعام 1986، وأن التعديلات التي تضمنها كانت ضرورية و واجبة لتفعيل زراعة الأعضاء ونقلها في سورية وفق أطر قانوني يقوم أولاً على احترام إنسانية كلا الطرفين، المتبرع والمتبرع له. إلا أننا لا يمكننا التغاضي عن ثغرات القانون الجديد والتي استعرضنا مجملها أعلاه ولنصل الآن لأخطرها والمتمثل في تغاضى القانون 30 عن تحديد معيار الموت في حالة التبرع من جثث الموتى، إذ اشترطت المادة 5 من القانون الجديد لنقل الأعضاء من المتوفى التأكد من الوفاة وفقاً للتعليمات التي تصدرها وزارة الصحة وبموجب تقرير من لجنة طبية مؤلفة من ثلاثة أطباء.

فحتى أواخر الخمسينيات من القرن الماضي كان توقف القلب هو المعيار المتبع عالمياً لتحديد الوفاة ، ولكن بعد العام 1959 أصبح المعيار هو موت جذع الدماغ (أو الموت الدماغي)‏. وتكرس معظم التشريعات الغربية معيار الموت الدماغي، بل حتى بعض الدول الإسلامية تكرس هذا المعيار مثل المملكة العربية السعودية.‏ كما تجدر الإشارة إلى أن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي كرّس هذا المعيار في دورته الثالثة المنعقدة في الأردن عام 1986. إلا أن مشرعنا فضل عدم الفصل في الموضوع وتركه معمماً دون إيراد نص قانوني صريح يحدد معيار الموت بحيث بات يشكل اليوم واحداً من أهم العقبات التي تقف في وجه الحصول على الأعضاء من جثث الموتى، فما الحال لو عرفنا أنه وفي عام 2006 تم رصد 46000 حادث مروري نتج عنها 3700 وفاة كان يمكن الاستفادة من ربع هذا الرقم لإنقاذ حياة مئات من المرضى.
يعتقد د. فواز صالح أن الحل الأمثل يكمن في التبرع من الأموات، وتحديداً من المتوفين دماغياً، خاصة أن الأديان السماوية قد أجازت هذا الشكل من التبرع، إلا أن العائق أمام هذا الأمر هو ضعف ثقافة التبرع، بل وغيابها، ففي بعض البلدان مثلا كل شخص في البلد متبرع ما لم يخبر بأنه لا يريد التبرع، إضافة للعاطفة، حيث أن العائلة والتي منحها القانون حق التبرع بأعضاء المتوفى ترفض الفكرة. لتبرز مشكلة أخرى أمام التبرع من المتوفين، تكمن في غياب آليات لتسجيل أسماء الراغبين بالتبرع بعد وفاتهم، ووضع سجل وطني لهم، إذ كان من المفروض بحسب د.صالح أن ينص التشريع الجديد على إنشاء مركز وطني لزرع الأعضاء والتبرع بها، من مهامه الإشراف على هذه العمليات، أما مشروع بنك العيون فهو قديم في سورية ولكن لا وجود فعلي له حتى الآن سوى الأجهزة والبناء، وقد صدر مؤخراً مرسوم التنظيم وتأمين الكادر وتنظيم آلية القطف.‏
وماذا بعد……
في فرنسا اليوم قانون ينص على اعتبار كل مواطن حال وفاته متبرعاً إلا في حال امتلاكه لوثيقة تثبت بأنه غير راغب بالتبرع…
في سورية اليوم، قانون يشرعن التبرع ولكنه يترك الحبل على الغارب فلا يشترط صلة قربى ولا حتى الوفاة!!! ليبقى التبرع بالأعضاء في بلدنا مرهون بثقافة مؤجلة وتعديل قانوني جديد ينظر بعين المنطق قبل الإنسانية لأوضاع ما يقارب العشرة ألاف مواطن مازالوا محكمون بالأمل ومحتكمون للقانون…فهل ينصفهم؟؟

مجلة تجارة وأعمال- حزيران2009