موقف القانون العراقي من الإضراب عن العمل

لقد عرف ومارس العمال الإضراب منذ العصور القديمة لرفع الظلم الواقع عليهم والحصول على بعض حقوقهم فأضرب العمال في عهد الفراعنة وفي روما القديمة, ولكن ازدادت حركته وأهميته في العصور الحديثة حيث تطورت الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وزادت المشاكل والحاجات الفردية والجماعية والعامة, وقد كانت الإضرابات العمالية تقع في بدايتها من قبل تجمعات العمال الوقتية والعرضية بصورة غير منتظمة إذ لم تكن توجد نقابات عمالية لتنظم حركة هذه الإضرابات ولأنها كانت محرمة بنص القانون ويعاقب عليها بشدة وظلت كذلك لفترة طويلة ولقد مرت الإضرابات العمالية بأدوار متعددة مختلفة ,

حتى أصبحت وقائع اجتماعية يقر التشريع بوجودها وكان هذا من نتائج التطور الفكري والاقتصادي والاجتماعي في منتصف القرن التاسع عشر حيث تم الاعتراف بحق الطبقة العاملة في حرية العمل وفي التجمع والإضراب لمقاومة الظلم الواقع عليهم وتعسف أصحاب العمل ولحماية أنفسهم في العمل والعيش .
أقرت بريطانيا للعمال حقهم بالإضراب عن العمل عام 1871 وفرنسا عام 1864 وبلجيكا عام 1866 وهكذا أصبح الإضراب العمالي في الدول الرأسمالية حقا مشروعا معترفا به وأن كانت وضعت الكثير من القيود عليه وقد تضمنت الكثير من دساتير دول العالم الحق للطبقة العاملة بالإضراب عن العمل .

بدأت الحركة الصناعية في العراق متأخرة منذ أوائل الربع الأول من القرن العشرين حيث لا توجد في هذه الفترة إضرابات عمالية واسعة إلا إضراب عمال السكك الحديد في بغداد عام 1927 والإضراب العام سنة 1931 وكانت له صفة سياسية وقد صاحبته أعمال عنف وقسوة شديدة من جانب السلطات وكذلك الإضرابات العمالية في 1936 وسنة 1937 والتي من أهمها إضراب عمال السكك في بغداد والموانئ في البصرة ,ثم إضراب عمال النفط الواسع في كركوك صيف عام 1946 حيث أطلقت السلطات النار على العمال المضربين في مجزرة كار وباغي الشهيرة حيث قتل وجرح فيها عدد كبير من العمال ووقعت كثير من الإضرابات العمالية في العراق حتى آخر إضراب عمالي عام 1968 في شركة الزيوت النباتيةالذي أجهزت عليه السلطات البعثية بكل قسوة وحكمت بالإعدام على قادة العمال المضربين في حينه عبد جاسم وعدنان غضبان وأستشهد العامل جبار لفته وجرح عامل آخر و جرى توقيف أكثر من ثلاثين عاملا من المضربين عن العمل . وكان هذا أخر إضراب عمالي كبير في العراق , وكان لحركة الإضرابات العمالية أثر فعال في تقوية الحركة العمالية والنقابية .

الإضراب في تشريع العمل:-
يقصد به امتناع العمال جماعيا ,امتناعا مؤقتا ,عن العمل الواجب عليهم بمقتضى عقود العمل ,نتيجة منازعات العمل التي تحدث بينهم وبين أصحاب العمل وبنية الرجوع إلى العمل بعد حسمها ,وعليه يتصف الإضراب عن العمل بالصفة الجماعية والامتناع المؤقت عن العمل ,لذا لا يعتبر امتناع أحد العمال عن العمل إضرابا بالمعنى المقصود هنا وكما لايعتبر ترك العمل بصورة نهائية إضرابا ,والإضراب أنواع بحسب نوعيته وكيفيته ومداه وبواعثه ونتائجه .

فقد يكون ألإضراب اعتياديا وعلنيا بترك العمال محل العمل وعدم المجيء إليه في وقت العمل وعدم العودة أليه إلا بعد تنفيذ مطالبهم , وقد يكون إلأضراب باستمرار العمل مع التقاعس فيه والتباطؤ وعرقلة الإنتاج ويسمى إضراب التباطؤ أو الإضراب بالقطارة ,وقد يكون إضرابا مع الاعتصام وهذا يعني أن العمال يبقون في محلات عملهم وهم متوقفون عن العمل ولا يسمحون لغيرهم حتى أصحاب العمل بالدخول ,قد يكون الإضراب عاما ويشمل جميع العمال في جميع إنحاء البلد وتقوم به غالبا النقابات واتحاداتها والاتحاد العام وهو من أكثر الإضرابات تأثيرا وتترتب عليه أثار اقتصادية وسياسية واجتماعية كبيرة وحدث مثل هذا الإضراب فعلا في العراق عام 1931 وكانت الصفة السياسية هي الغالبة عليه ,وقد يكون الإضراب جزئيا وهو الذي يحدث في مشروع معين أو منطقة معينة دون الأخرى ويخص قسما من العمال والإعمال والإضراب قد يكون مؤقتا سواء لوقت طويل أو قصير وغالبا ما يكون هذا الإضراب إنذارا أو تحذيرا على أمر معين مهنيا أو سياسيا ,وقد يكون الإضراب غير مؤقت يستمر لحين الاستجابة لمطالب العمال ,والإضراب قد يكون مهنيا يقوم به العمال للمطالبة بحقوقهم المهنية كزيادة الأجور أو تخفيض ساعات العمل ,وربما يكون الإضراب اقتصاديا ويشمل جميع المواطنين بالإضافة للعمال للاحتجاج على إجراءات اقتصادية حكومية كفرض ضريبة أو أتباع سياسة التحول نحو اقتصاد السوق وخصخصة مشاريع القطاع العام أو الاحتجاج على السياسة الكمركية ,والإضراب السياسي يقوم به الإفراد والعمال للاحتجاج لأسباب سياسية للمطالبة بالحقوق العامة .

وللإضراب أثار اقتصادية مختلفة على المجتمع والعمال وأصحاب العمل فهو يؤخر ويقلل الإنتاج وتحصل تقلبات في عرض وطلب السلع والخدمات والأسعار ويقلص حجم الطلب الكلي على البضائع والسلع ,وللإضراب أيضا أثارا اجتماعية على العمال وأصحاب العمل وتترك أثار نفسية على الجميع ,كذلك للإضراب أثار قانونية كثيرة منها ما يتعلق بعقد العمل , والتزامات وحقوق الغير.

الإضراب عن العمل في التشريع العراقي:-
يطلق على الإضراب عن العمل في التشريع العراقي التوقف عن العمل وهو غير معاقب عليه قانونا أذا ما وقع لأسباب تتعلق بالمهنة أو الحرفة, والحق بالإضراب ورد في أغلب تشريعات العمل العراقية السابقة فقد عرف نظام المصالحة والتحكيم لحسم منازعات العمل المهنية لسنة 1954 الإضراب (( توقف جماعة من العمال تعمل بتضامن عن العمل )) وقانون العمل رقم 1 لسنة 1958 عرف الإضراب (( أتفاق مجموعة العمال أو المستخدمين أو أكثرهم في مشروع أو مشاريع على التوقف عن العمل بشأن أمور تتعلق بشروط العمل والاستخدام وأحوالهما)) وأشارت المادة 136- أولا من قانون العمل رقم 71 لسنة 1987 النافذ إلى هذا الحق (( أولا – أذا أمتنع صاحب العمل أو أصحاب العمل عن تنفيذ قرار هيئة قضايا العمل في محكمة التمييز ’بعد ثلاثة أيام من تاريخ تبلغهم به ,جاز للعمال أصحاب العلاقة أن يتوقفوا عن العمل وتحسب لهم مدة التوقف خدمة يستحقون عنها جميع حقوقهم المقررة قانونا ,ويعاقب أصحاب العمل عن عدم التنفيذ .
ثانيا- على العمال أن يبلغوا وزير العمل والشؤون الاجتماعية ورئيس الاتحاد العام لنقابات العمال معا ,بأجراء التوقف عن العمل الذي يتخذونه فور مباشرتهم له ,وإن يبينوا الأسباب التي حملتهم على ذلك والاحتياطات التي اتخذوها للمحافظة على الأمن والنظام وحماية وسائل الإنتاج ومقر العمل )) ,وأعطى المشرع في قانون أدارة الدولة الانتقالية للعمال الحق بالتظاهر والإضراب سلميا ولكن الدستور أغفل الإشارة إلى هذا الحق وننتظر صدور قانون عمل جديد استنادا للدستور لمعرفة رأي المشرع في حق الطبقة العاملة بالإضراب . حّرم القانون العراقي الإضراب عن العمل للموظفين والعمال في الدوائر الرسمية وشبه الرسمية والمصالح العامة في المادة330 – 331 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969, كما حرمته التشريعات السابقة وأعتبرته جريمة يعاقب عليها بالحبس والغرامة.
وقد رسم المشرع العراقي في قانون العمل النافذ طريقا طويلا أمام الطبقة العاملة لممارسة حقها بالإضراب لتسوية خلافات العمل ذات الأثر على المصلحة المشتركة للعمال التي تنشأ بينهم وبين أصحاب العمل في مشروع واحد أو أكثر في نطاق مهنة واحدة أو أكثر ولم يطلق على هذه الخلافات صفة منازعات الأ بعد أن تستعصى على الحل بالطريق الذي رسمه المشرع في المواد 131- 132-133 – 134-135 من قانون العمل باستخدام أسلوب التوفيق والتحكيم وأعطى للعمال الحق بالتوقف عن العمل وتعد مدة التوقف خدمة لهم لكل أغراض القانون وكما عاقب أرباب العمل لعدم تنفيذ قرارات محكمة التمييز هيئة قضايا العمل .

الحقيقة التي نسجلها أن الحكومات العراقية المتعاقبة تتطير من الإضراب وأنها تحاول منعه بكل الوسائل وقمع القائمين به بكل قسوة وشدة فالمشرع يجيز الإضراب ولكن السلطات التنفيذية تقف بالمرصاد بوجه الطبقة العاملة لممارسة حقها بالإضراب عن العمل لذا نرجو إن يضمن التشريع القادم لقانون العمل خصوصا وأنه يأتي في ظل اقتصاد السوق الذي رسمه الدستور طريقا للاقتصاد العراقي الحق للعمال في جميع قطاعات العمل بالإضراب بدون قائمة شروط طويلة تعيق العمال عن ممارسة حقهم وإلغاء كافة الفقرات القانونية أينما وردت التي تعتبر الإضراب عن العمل أخلالا ب((المصالح القومية )),و((الأوضاع الاستثنائية )),و((حالات الطوارئ)) ,((ومكافحة الإرهاب )) وإلغاء النصوص الواردة في قانون العقوبات التي تعتبر توقف العاملين في القطاع العام جريمة يعاقب عليها ,وأن يضمن القانون حق العمال بالاعتصام أمام المؤسسات, وإيقاف العمل بصورة مؤقتة احتجاجا على ممارسات أصحاب العمل, وأن يمنع القانون استخدام كاسري الإضراب أو قوات الجيش والأمن للحلول محل المضربين في المؤسسات الخاصة والعامة.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت