موقف التشريعات والاتفاقيات الدولية من شرط الإقامة والتي تُعدّ أساساً لقيام الاختصاص العالمي

تكتفي كثير من التشريعات والاتفاقيات الدولية بالتواجد المادي، ولا تشترط الإقامة كشرط لقيام الاختصاص العالمي، ما يؤيد ذلك نص المادة (134) قانون العدالة الجنائية البريطاني لعام 1988،والمادتين (6 و 7\2\2) قانون العقوبات الألماني. والمادة (13) قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969، والمادة (17) قانون العقوبات القطري رقم (11) لسنة 2004 وغيرها من التشريعات المقارنة، فالمطالع لهذه التشريعات يجد بأنها تكتفي بالتواجد المادي لقيام الاختصاص العالمي، ولا تشترط الإقامة كما فعل المشرِّع الأردني.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، ما هو الوضع القانوني للتشريع البلجيكي الذي عاد بموجب المادة (7) قانون الإجراءات الجنائية المعدل عام 2003 عن شرط التواجد المادي آخذا بشرط الإقامة الذي كان يشترطه ابتداءً؟ كذلك الأمر ما هو الوضع القانوني للتشريع الفرنسي الذي أخذ مرة، سندا للمادة (689-11) قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي، بشرط الإقامة كشرط لقيام الاختصاص العالمي، ومرة أخرى بالتواجد المادي سندا للمادة (689-1) من القانون نفسه؟

على الرغم من أن القانون البلجيكي من القوانين المتقدمة في موضوع الاختصاص العالمي، إلا أنه لا يصلح، برأينا، أن يكون منهجا يُحتذى به، على الأقل في هذه الحالة، لتقليل قيمة الانتقاد السالف الذكر، وذلك لأن عدول المشرِّع البلجيكي عن شرط التواجد المادي راجعا لشرط الإقامة، ولم يكن بسبب قناعة شخصية، بل نتيجة ضغوطات خارجية أمريكية تم ممارستها عندما حاولت بلجيكا ملاحقة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، وبعض القيادات الأمريكية والإسرائيلية عن جرائم الحرب التي ارتكبت في العراق وأفعانستان، وعن مذبحة صبرا وشاتيلا 1982، فعندما أرادت بلجيكا ملاحقة هؤلاء الأشخاص على أساس الاختصاص العالمي هددتها أمريكا بنقل مقر حلف شمال الأطلسي منها بحجة أنها لم تعد مكانا آمنا لتواجد القادة العسكريين. على إثر ذلك قامت بلجيكا بتعديل قانونها عائدة لشرط الإقامة، وذلك حتى تتهرب من ملاحقة هؤلاء الأشخاص بصورة قانونية. بسبب ذلك استطاعت بلجيكا رد الشكاوى السالفة الذكر، بحجة أن هذه القيادات لم تكن مقيمة في بلجيكا عند اقترفوا أفعالهم الجرمية.

كذلك الأمر بالنسبة للتشريع الفرنسي، الذي يشترط الإقامة في المادة (689-11) كشرط لقيام الاختصاص العالمي، فلا يمكن الإقتداء به وذلك لأن هذه المادة جاءت لمعالجة الجرائم التي من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية وليس كل الجنايات والجنح، أما بالنسبة للمادة (689-1) والتي تقابل المادة (10\4) لدينا فلا تشترط الإقامة، بل تكتفي بالتواجد المادي لقيام الاختصاص العالمي. بتعبير آخر يمكن القول: بأن منهج المشرِّع الفرنسي في المادة (689-11) لا تنتقص من قيمة ذلك الانتقاد، وذلك لأن هذه المادة ليست هي المادة التي تعادل الاختصاص العالمي لدينا.

ولا تقتصر المرجعيات القانونية الآخذة بشرط التواجد المادي على التشريعات المقارنة السالفة الذكر، بل تجاوز هذا الأمر إلى كثير من الاتفاقيات الدولية التي تكتفي بالتواجد المادي، ما يؤيد ذلك المادة (146) اتفاقية جنيف لعام 1949 التي تلزم الدول الأطراف باتخاذ كل الإمكانات اللازمة لملاحقة الجرائم الدولية الجسيمة، فمن خلال كلمة كل الإمكانات يمكن القول: بأن هذه الاتفافية تكتفي بالتواجد المادي لقيام الاختصاص العالمي كذلك الأمر بالنسبة للمبدأ الأول من مبادئ برنستون، وللمادة (2) مشروع القانون النموذجي العربي للجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وللمادة (5\2) اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984، فالمطالع لهذه المواد يجد بأن جميعها تكتفي بالتواجد المادي لقيام الاختصاص العالمي.

وفي حال اقتناع المشرِّع الأردني بشرط التواجد المادي والأخذ به فلا يمكن القول بأن هذا الشرط، نتيجة لتوسيع دائرة الملاحقة، سيؤدي إلى زيادة خرق مبدأ سيادة الدول على إقليمها المقرر بموجب المادة (2\1) من ميثاق الأمم المتحدة، وسيحد من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وسيكلف الدولة مبالغ مالية كبيرة، وذلك لأن الاختصاص العالمي أقر من أجل حماية مصالح المجتمع الدولي الذي يجب ألا يقف مبدأ سيادة الدول على إقليمها حائل بينه وبين هذه المصالح، هذا من جهة، ولأن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية واعتمادا على مبدأ التكاملية لا ينعقد سندا للمادة (17\1\أ، 2، 3) من النظام الأساسي إلا إذا امتنعت الدول المختصة تقليديا وعالميا عن الملاحقة، ولأن الدول التي ستأخذ بهذا الشرط غير ملزمة بتطبيق الإختصاص العالمي، في حال ما إذا شعرت بأن هذا الأمر سيسبب لها خسائر مادية، بل يمكن لها تسليم الفاعل للدولة المختصة تقليديا، أو إحالة الأمر إلى المحكمة الجنائية الدولية وإغناء نفسها عن النظر في تلك القضية.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت