ضرورة تأسيس قضاء متخصص في المنازعات التي تكون الدولة طرفاً فيها في العراق

الدكتور رياض الزهيري
كان النظام العراقي السابق يستمد قوته السياسية من مبدأ وحدة السلطة الذي كرسه في دستوره المؤقت و في ممارساته اليومية . لذلك اعتبر التشريع و التنفيذ والقضاء مجرد وظائف متنوعة تمارسها السلطة السياسية الواحدة التي تحكم في العراق ومن هذا المنطلق يجب على جميع الأجهزة التي تمارس هذه الوظائف الثلاث أن تخضع إلى إرادة السلطة السياسية الحاكمة و لهذا لا يعتد بمبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية كما لا يعتد بمبدأ المشروعية وبمبدأ الرقابة الدستورية ومن باب أولى أن لا تخضع أعمال السلطة التنفيذية إلى رقابة القضاء .

لقد كان مثل هذا الوضع الدستوري و القانوني أساسا ً و سبيلا ً إلى نمو و تزايد الاستبداد السياسي وانتهاك حقوق الإنسان و الحريات العامة في عهد النظام السابق . لذلك فان التغيير الذي حدث في العراق وإزالة النظام الديكتاتوري بقصد أقامة و تأسيس دولة القانون استوجب من الدستور العراقي الجديد – رغم نواقصه – النص في عدة مواد منه على مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث و مبدأ سيادة القانون و خضوع جميع الحكام و المحكومين و جميع تصرفات الدولة إلى القانون .

وبناء على هذه المبادئ يقتضي من سلطة القضاء مراقبة أعمال السلطة التشريعية و مراقبة دستورية القوانين التي تصدرها هذه السلطة , كما يمكن للقضاء مراقبة أعمال السلطة التنفيذية ولا يجوز تحصين أي عمل من أعمال السلطة التنفيذية من رقابة القضاء كما قرر الدستور العراقي .

من المفيد أن نشير إلى عدة أنواع من الرقابة على السلطة التنفيذية فهناك رقابة إدارية تمارسها الإدارة بنفسها كما توجد رقابة سياسية و رقابة الرأي العام الوطني و الصحافة , ولكن تعتبر الرقابة القضائية من أهم أنواع الرقابة كما أنها الرقابة الوحيدة التي يمكن أن تضمن تطبيق مبدأ المشروعية و سيادة القانون . ولكن ما هو نوع القضاء الذي باستطاعته مراقبة أعمال السلطة التنفيذية و مراقبة مشروعية هذه الأعمال وفرض حكم القانون ؟.

التجارب الدولية :

في النظام الانكلوسكسوني تخضع الإدارة إلى رقابة السلطة القضائية العادية التي هي ذات السلطة التي تنظر بمنازعات الأفراد كما يطبق ذات القانون على الإدارة والأفراد معا دون أن يكون للإدارة أية امتيازات استثنائية , و مع ذلك وبسبب تطور وظيفة الدولة نشأت في بريطانيا محاكم إدارية متخصصة تنظر في بعض المنازعات الخاصة التي تكون الإدارة طرفا ً فيها كما تأسس مجلس استشاري يقدم المشورة القانونية للحكومة وللمحاكم دون أن يعد هذا الاتجاه خروجاً على مبدأ وحدة القضاء والقانون .

في فرنسا فان التجربة التاريخية القضائية أدت إلى ازدواجية القضاء الفرنسي ومن ثم تمخضت عنها ازدواجية النظام القانوني , حيث أصبح القضاء العادي متخصصا في النظر بجميع منازعات الأفراد والشركات الخاصة ووجد إلى جانبه قضاء إداري مستقل يتخصص بالنظر بمنازعات الإدارة و يطبق أحكام القانون الإداري عليها و يمنح الإدارة امتيازات استثنائية غير مألوفة في القانون المدني و القانون التجاري الذي يقتصر تطبيقها على الأفراد و الشركات الخاصة على تفصيل من الأمر . وقد أخذت بعض البلدان العربية بهذا الاتجاه كمصر والمغرب .

أن الفرق الجوهري بين النظامين أعلاه يتمثل في أن النظام الفرنسي يمنح القاضي الإداري سلطة إنشاء القانون و لا يقتصر عمله على تطبيق القانون فقط وهنا تبرز خطورة مثل هذا القضاء و خطورة نظرية القاضي المشرع . أما النظام الانكلو سكسوني فهو بقي محافظ على طبيعة ووظيفة القاضي وان أسس محاكم أدارية متخصصة فالقاضي في هذا النظام لا يتجاوز سلطته في تطبيق القانون إلى حد التشريع . ولكل من هذين النظامين أنصار ومؤيدين .

وبسبب بعض الانتقادات الموجهة إلى كلا النظامين فان بعض الدول اتجهت إلى طريق ثالث يتمثل بإنشاء غرف قضائية أو دوائر قضائية تتخصص في النظر بمنازعات تكون الدولة احد أطرافها وترتبط هذه الغرف أو الدوائر بالغرف الإدارية أو الدوائر الإدارية الأعلى ولكن في ظل تنظيم قضائي موحد لا يسمح لها بأي دور تشريعي تمارسه من خلال الفصل في المنازعات الإدارية . وقد تبنت الجزائر وقطر مثل هذا الاتجاه . ونحن نؤيد مثل هذا الاتجاه في العراق.

مبررات وجود قضاء متخصص بمنازعات الدولة في العراق

تبرز أهمية ومبررات وجود قضاء متخصص في مجال المنازعات التي تكون الدولة طرفاً فيها بما يلي:

1- مبررات دستورية تتصل بحماية مبدأ المشروعية ومبدأ سيادة القانون .

2- مبررات تتصل بحماية حقوق الإنسان والحريات العامة من تعسف وانتهاك الإدارة في استعمال سلطاتها.

3- مبررات تتصل بتفعيل عمل الإدارة وتحفيزها على الالتزام بتطبيق القانون .

4- ترشيد عمل الإدارة بشكل يجبرها على أداء الخدمات العامة طبقاً لمبدأ المساواة بين المواطنين وإلا فان عمله سيصبح محلاً للطعن أمام القضاء وسيكوم عرضة للإلغاء بموجب حكم قضائي .

5- مبررات تتصل بتسريع حل المنازعات بأقل فترة زمنية ممكنة بسبب سهولة الإجراءات أمام القضاء المتخصص على عكس القضاء العادي الذي تبقى القضايا أمامه لفترة طويلة قد تمتد إلى سنوات الأمر الذي ينعكس سلباً على عمل الإدارة وأداءها.

6- مبررات تتصل بالخبرة القضائية حيث ان المحاكم العادية لا تعرف التخصص وان القاضي فيها ينظر بجميع أنواع القضايا الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى التأخر في صدور الأحكام القضائية كما يصبح حكمه عرضة للاستئناف والتمييز بينما القاضي المتخصص بنوع من المنازعات يمكن ان يجد الحل القضائي المناسب للقضية محل النزاع وبأسرع وقت ممكن دون ان يتعرض حكمه إلى الطعن .

7- وجود قضاء متخصص سيساعد في تخفيف العبء على المحاكم العادية .

8- مبررات تتصل بسرعة تنفيذ الأحكام القضائية وضمان حقوق الأفراد والإدارة على حد سواء.

الاختصاصات

نعتقد ان هذه المحاكم الإدارية يمكن ان يحكم اختصاصها مبدأ عام يتمثل في الفصل في جميع المنازعات التي يكون احد أطرافها الدولة ومؤسساتها ما عدا تلك التي يرد بها نص خاص بخلاف ذلك . ويمكن إجمال هذه الاختصاصات على سبيل المثال لا الحصر وهي :

1- الطعون الخاصة بالانتخابات.

2- المنازعات المتعلقة بالقرارات الإدارية ومراقبة مشروعيتها سواء من الناحية الشكلية أو الموضوعية.

3- المنازعات المتعلقة بقضايا الجنسية ووثائق السفر.

4- منازعات الضرائب والرسوم.

5- المنازعات الخاصة بالتقاعد.

6- المنازعات المتعلقة بالوظيفة العامة كالتعيين والترفيع والترقية والتأديب.

7- المنازعات المتعلقة بالمسؤولية المدنية للدولة ومؤسساتها

8- المنازعات المتعلقة بعقود الإدارة.

9- المنازعات المتعلقة بأملاك الدولة.

10-المنازعات المتعلقة بقوانين الأحزاب والمنظمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني.

الهيكل التنظيمي

يمكن أن يتم تأسيس غرفة إدارية في كل من المجالس القضائية في كل محافظة من المحافظات كدرجة أولى من التقاضي و يمكن تمييز أحكامها أمام الغرفة الإدارية في محكمة التمييز كدرجة نهائية في التقاضي , و هذا يعني أن مرحلة التقاضي ستكون على درجتين فقط , مرحلة البداءة ومرحلة التمييز دون حاجة إلى درجة الاستئناف.

أما من حيث قضاة هذه الغرفة فيجب أن يكون القاضي متخرجا من المعهد القضائي العراقي وان يمر بفترة تدريب خاصة في المنازعات الإدارية لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر .

الخلاصة

ان موضوع تأسيس قضاء متخصص بمنازعات الإدارة في العراق يتلائم مع حاجة العراق إلى المؤسسات القانونية و القضائية التي تحرس المبادئ الجديدة التي وردت في الدستور العراقي كمبدأ المشروعية وسيادة القانون وحقوق و حريات المواطن . و هو أمر يختلف عن فكرة النظام السابق الذي أسس لمحكمة إدارية وحيدة وغير فعالة في بغداد في عام 1976 . كما ان مثل هذا النوع من القضاء المتخصص سيساعد الدولة والمواطن على حد سواء في تعزيز سيادة القانون و التحول إلى دولة القانون كما انه سيساهم في تطوير الفكر القانوني العراقي وتجد يده على الدوام .

وبناء على ذلك فان مثل هذا المشروع يتطلب التعاون بين جميع السلطات الدولية المختصة بهدف تطوير الأفكار المطروحة و الاستماع إلى رأي المتخصصين في القانون الدستوري و القانون الإداري و خبراء القضاء العراقي في هذا الشأن .

إعادة نشر بواسطة محاماة نت