ملاحظات حول القانون الوضعي

لاشك ان القانون الوضعي هو الذي يحكم اليوم معظم مناطق العالم بدساتيره ومدوناته،ولاشك أيضا ان أوضاع العالم هي انعكاس طبيعي لتشريعات هذا القانون وتطبيقاته ولو جزئيا ان لم نفرض انعكاسها كليا باعتبار ان تحقيق قيم العدالة ورفع الظلم يمر عبر البوابة الرئيسية وهي القانون.لذلك يمكن القول ان هناك مجموعة من الملاحظات والمشاهدات حول القانون الوضعي وخصائصه ونتائجه تمثل العينة على تأثيراته الكبيرة في الاختلال والقلق والظلم الذي يشهده العالم اليوم.

ان أول من استخدم كلمة الوضعية هو الفرنسي كونت الذي يعتبر مؤسس المدرسة الوضعية وهي تعني:ان المعرفة الوافية لا تتحقق الا باستخدام الاسلوب العلمي في البحث عن الحقيقة من خلال الملاحظة وإخضاع النظريات للتجربة،وهكذا نبذت الوضعية فكرة المعرفة الفلسفية أو المسائل الميتافيزيقية الواقعة فيما وراء مملكة الملاحظة.(26) والوضعية لاتمثل بمنهجها تاريخيا الا ارتدادا متطرفا عن المبادئ الكنسية التي كانت حاكمة في القرون الوسطى،لذلك فهي تمثل رد فعل قوي نتيجة للممارسات السلبية للكنيسة في تلك العصور.

ولكن بوادر وملامح الوضعية كقانون بدأت تظهر على يد جيرمي بنتام صاحب المدرسة النفعية الذي يرى:ان السلوك البشري يقاس بمقدار اللذة والألم وسعادة الانسان تزداد بازدياد الألم وسعادة كل إنسان مساوية لقيمة سعادة إنسان آخر،والنفعية حينئذ لاتعني فعلا الا ما يخدم الانسان لزيادة سعادته.وإذا كان المقياس الوحيد لبنتام هو نفع الانسان وسعادته فانه رفض ارتباط القانون بأي مبدأ آخر بحيث احتقر القانون الطبيعي ورفض ارتباط القانون بالدين والأخلاق،إذ يرى(ان فهم القانون لا يكون الا بمعاملته كدراسة مستقلة متحررة من قضايا الأخلاق والدين وما شابههما،وينتج عن ذلك ان مسالة تقرير شرعية أو عدم شرعية قاعدة قانونية ما لا يكون باعتبارها صحيحة أو خطا عادلة أو غير عادلة،ذلك ان هذه المسائل مناطها لزوم القاعدة القانونية التي لا يؤثر على شرعيتها كونها جيدة أو رديئة).(27)

وعلى هذا المبنى النفعي المستقل عن الدين والأخلاق والقيم والقانون الطبيعي شيد القانون الوضعي بناءه وكانت جل مشاكل العصر المعقدة تنبع من تموجات هذا المبنى والبناء.لنأخذ مثالا على ذلك (الوضع في جنوب أفريقيا حيث القوانين العرفية القمعية بشان التمييز العنصري التي هي منافية للأخلاق حيث يقول المؤمن بالمدرسة الوضعية انه يقبل صلاحيتها ولكنه يدينها على أسس أخلاقية وفقا لأي معيار أخلاقي يقبله وذلك شريطة ان تكون هذه القوانين سارية بشكل رسمي ضمن الاطار الدستوري للبلد) ذلك ان(شرعية أي حكم لا يطعن بها كالتزام قانوني حين تتعارض مع بعض القيم التي أرساها الدين أو الأخلاق أو أي مصدر آخر غير قانوني).(28)
وعلى هذا المبنى الذي أرسى القانون الوضعي مبادئه ظهرت الكثير من الثغرات والعيوب التي جعلت منه قانونا خادما لمصالح القوى النافذة اكثر من كونه خادما للعدالة،فالقانون في هذه الحالة لا يستمد شرعيته-حسب زعمهم-الا من القوة المالكة للسلطة حيث يرى اوستن:ان القانون امر ممن له السلطة السياسية العليا في الجماعة يقترن بجزاء دنيوي فالقانون في أساسه امر وليس بنصيحة وهو امر من حاكم سياسي سواء كان فردا أو جماعة يصدره إلى أفراد الجماعة ثم يحملهم عليه عن طريق توقيع الجزاء على من يخالف الأمر كذلك يجب ان يتجه تفسير نصوص القانون إلى الكشف عن إرادة الحاكم مصدر الأمر.وهذا الرأي من اوستن يؤدي إلى استبداد الحاكم طالما ان القانون هو مشيئة الحاكم وحدها دون غيره.(29) وكون ان التشريع الوضعي هو بيد الحاكم والسلطة هو الذي جعل البعض يعتقد ان طبيعة القانون الوضعي تقود نحو الاستبداد والدكتاتورية إذ ان(الوضعية القانونية برفضها الاعتراف بنظام أخلاقي يضبط الشرعية القانونية أفسح المجال أمام الدكتاتورية الاستبدادية لكي توجه القوانين والذين ينفذونها لاقتراف ابشع المظالم تحت ستار السلطة القانونية).(30)

وبما ان القانون الوضعي قد فصل نفسه عن الأخلاق والدين وقيم القانون الطبيعي فانه يجد صعوبة كبيرة في إقناع المحكومين بضرورة الالتزام الطوعي والإرادي بالقانون لذلك فانه يعتمد على الإكراه المادي:أما القانون فيعتمد في ضبط سلوك الأفراد على القوة المادية التي تظهر ممثلة بالإكراه البدني بشتى الأشكال،ومن المؤكد ان القوة المادية وحدها لا تستطيع حفظ النظام الاجتماعي وذلك لطبيعتها الغريبة فهي تستبدل بالعلاقات الاجتماعية علاقات آلية،والحقيقة ان المغالاة في استعمالها معناه ان النظام الاجتماعي قد تصدع.(31) ومن هنا نرى ان القانون الوضعي لم يستطع حل المشاكل وإحلال الأمن بل على العكس من ذلك ازدادت الجرائم والانتهاكات وخاصة في المجتمعات الغربية التي تعتبر متطورة من الناحية القانونية.

أما الإمام الشيرازي في كتابه الفقه القانون فانه يرى:ان المادية فشلت مع كل بريقها الخلاب إذ لم يكن لقوانينه تلك الاحترامات بل بالعكس فكلما تقدمت المادية كثر الإجرام والفوضى والتمرد على القانون وانتهاك الحقوق وذلك لانه لم يقترن القانون الوضعي مع السمو الروحي والملكات الأخلاقية والخوف من الله سبحانه والحب له تعالى-فان المحب لمن يحب مطيع-.(32) فالإنسان لا يتفاعل مع القانون الوضعي لانه لا يعبر عن القيم المترسخة في فطرته لذلك فانه لا يطيعه ولا يهابه وخوفه منه مؤقت يزول بزوال القوة المكرهة.وهنا يرى سماحته ان قوة قانون الإسلام تنبع من توافقها الفطري وترسخ مبادئه في كيانه لذلك يقبلها في سهولة واقتناع:أما في الإسلام فان قوة القانون فيه ناشئة من الوازع الديني الذي يغرس في النفس من جهة رجاء ثواب الله وخوف عقابه الثواب والعقاب الدنيوي والأخروي إذ قوانين الله سبحانه لابد لها من ان تثمر في الدنيا والآخرة ان إيجابا أو سلبا وبذلك يستقر القانون ويهنأ المجتمع بفوائده من الرخاء والرفاه والحرية والأمن وما أشبه ذلك.(33)

والقانون لا يبقى عند حدوده التطبيقية بل تتموج آثاره الإيجابية والسلبية على كافة الأصعدة، وقد كان استيراد القوانين الوضعية الجاهزة من الغرب أحد أهم الأسباب في تفاقم المشاكل وتعقيدها في بلاد المسلمين إذ يعتقد الإمام الشيرازي انSadمن أهم أسباب إرباك كل مرافق الحياة في كافة بلاد الإسلام القوانين المستوردة التي أراد الاستعمار زرعها عوض قوانين الإسلام،فان الناس كانوا يعتقدون بالإسلام شريعة وقانونا ،وإذا بهم يفاجأون بحلية كل المحرمات قانونا ولذا صاروا غير مبالين بل اخذوا حالة التحدي بمقابلة الدولة في كل قوانينها.ومن الطبيعي ان تختل كل الموازين إذا فقد المجتمع الموازين الدينية والدنيوية،فالدين الذي كان يعتقد به شطب القانون المستورد عليه والموازين الدنيوية التي لا يعتقد بها وضعها القانون المستورد عليه.فالقانون إذا لم يكن نابعا من المجتمع لا يلتزم المجتمع به ولا يتحقق الهدف الذي قد وضع القانون من اجله).ويرى سماحته ان القانون الوضعي المستورد لم يأت الا بتقييدات كثيرة وموانع عديدة حالت عن تقدم المسلمين وهي بنفسها اليوم حرب إبادة على المسلمين في أنفسهم واموالهم وأعراضهم،فقد ادى القانون الوضعي إلى(إباحة الزنا والخمر..تقييد الحريات وحرمان الشعب من ان يوفر لنفسه ضروريات الحياة..منعه من الزواج..منعه من العمل..كما ان القانون وقف أمام العمل والاكتساب وهو مبعث تفشي البطالة وارتفاع نسبة الجرائم والمفاسد..).(34)

ويرى سماحته إشكالية أخرى مهمة على القانون الوضعي في معرض دفاعه عن القانون الإسلامي وهو ان(إشكال جمود القانون إنما يرد على القوانين الوضعية فقط وذلك لان القانون الوضعي لأجل محدودية الواضع يحد بطبيعته من التطور المواكب للزمان فيلزم تعديله أو تبديله ولكن الواضعين يحرصون على بقائها كي لا تزيف آراءهم ولا يفقدون ثقة الناس بهم

اعادة نشر بواسطة محاماة نت