لا شك في أن حالات المخاصمة نصت عليها التشريعات المختلفة على سبيل التحديد وهذا يعني أنه لا يجوز مخاصمة القضاة إلاّ إذا توافرت حالة من هذه الحالات التي نص عليها المشرع . وطبقاً للقواعد العامة فإنه يلزم أن يكون هناك خطأ صدر عن القاضي وضرر لحق المخاصم جراء هذا الخطأ ، وعلى كل حال فإن القاضي يسأل عن أخطائه التعاقدية أو التقصيرية التي تقع منه خارج نطاق وظيفته(1). وفي القانون الإنجليزي يحظى القضاة في المحاكم العليا بحصانة مطلقة عن أعمالهم التي يؤدونها في حدود وظيفتهم بغض النظر عن درجة الخطأ الذي ينسب إليهم ، وبغض النظر عن سوء نيتهم ، تجاه خصم معين ، في إلحاق الأذى به عدواناً ، اذ تقوم قرينة على أن قرارات قضاة المحاكم العليا صادرة في حدود اختصاصهم ومن يدعي خلاف ذلك فيجيب عليه الإثبات ، في حين تكون حصانة قضاة المحاكم الصغرى بدرجة أقل اذ لا توجد هذه القرينة في أعمالهم ، كما أنهم يسألون عن أخطائهم العمدية حتى لو دخلت في حدود اختصاصهم(2).

وحالات المخاصمة(3). هي :

أولاً . حالة الغش أو التدليس(4). أو الغدر

وقد تناولت التشريعات هذه الحالة مع اختلاف بسيط في التسميات ، مع بقاء المقصود واحداً ، التي يجمعها جامع واحد ، وهو أن هذه الأفعال تصدر من القاضي بسوء نية لظروف خاصة لا تتفق مع العدالة(5). ويرى بعض الشراح أنه كان يجدر بالمشرع أن يقتصر على التدليس كونه يشمل الغش ومن ثم فالاصطلاحات الثلاثة لا لزوم لها(6). ويمكن تعريف هذه الحالة بانها [انحراف القاضي في عمله عما يقتضيه القانون قاصداً هذا الانحراف ، وذلك أما إيثاراً لأحد الخصوم أو نكاية في خصم أو تحقيقاً لمصلحة خاصة للقاضي ] ومن الأهمية أن يثبت قصد الانحراف لدى القاضي ، أي سوء النية ، سواء في مرحلة التحقيق كأن يعمد إلى تغيير شهادة شاهد ، أو في مرحلة الحكم ، كأن يعمد رئيس الدائرة إلى التغيير في مسودة الحكم(7). ويرى بعض الشراح أن الغدر هو تعمد القاضي أن يحصل على فائدة مادية لغيره على حساب الخزانة العامة وإضراراً بأحد الخصوم عن طريق استغلاله سلطته ونفوذه(8). وفي حال عدم ثبوت أي من ذلك فلا يمكن مساءلة القاضي .

ثانياً . حالة الخطأ المهني الجسيم

لقد كان القضاء يتطلب ثبوت الغش أو التدليس من جانب القاضي لإمكان قبول مخاصمته ، وهو أمر صعب ، لذلك كانت ترفض دعوى المخاصمة ولو ثبت أن القاضي أخطأ خطأً جسيماً ، فتنبه المشرع الفرنسي إلى ذلك فعمد إلى إضافة هذا السبب في عام 1933 وذلك لكي ييسر للمتقاضين أمر المخاصمة . كما أن المشرع المصري أضافها في سنة 1949 إلى الأسباب الأخرى للمخاصمة (9). ولفقهاء القانون في تحديد الخطأ المهني الجسيم آراء متعددة يمكن أن نبينها في ما يأتي :

الرأي الأول : الخطأ المهني الجسيم هو [ الخطأ الفاحش الذي ينبه عليه القاضي ، والذي ينطوي على جهل لا يغتفر بالوقائع الثابتة بملف الدعوى ، وكذلك الإهمال وعدم الاحتياط البالغ الخطورة] كأن يغفل القاضي تسبيب حكم أصدره ، أو أن يتسبب في ضياع أحد مستندات الدعوى عن قصد ، أو جهله بالمبادئ الأولية الأساسية في القانون(10).

الرأي الثاني: يرى أن الخطأ المهني الجسيم هو [الخطأ الذي يرتكبه القاضي لوقوعه في غلط فاضح ما كان ليساق إليه لو اهتم بواجباته الاهتمام العادي ، أو لإهماله في عمله إهمالاً مفرطاً] ولا يهم بعد ذلك أن يكون الغلط الفاضح متعلقاً بالمبادئ القانونية أو بوقائع القضية الثابتة في ملف الدعوى(11).

الرأي الثالث: يرى أن الفارق بين الخطأ الجسيم وبين الغش هو فارق ذهني في معظم الأحوال(12). وأن هذا الخطأ تبلغ فيه جسامة المخالفة مبلغ الغش ولكن يتخلف فيه ، كونه غشاً ، سوء النية ، فهو في سلم الخطأ في أعلى درجاته ، أما الخطأ غير الجسيم فلا يجوز مخاصمة القاضي عليه لكي يطمئن في عمله ولا يتردد في التصرف أو الحكم في الدعوى ، لذا فإنه لا يمكن عد القاضي مسؤولاً إذا أخطأ في تقدير الوقائع أو استخلاصها أو في تفسير القانون ، وأن تقدير في ما إذا كان الخطأ جسيماً أم غير جسيم يُعد مسألة قانونية تخضع لرقابة محكمة النقض(13). (التمييز) .

ثالثاً . الامتناع عن إحقاق الحق

ويقصد به [ أن يرفض القاضي صراحة أو ضمناً الفصل في طلب قدم إليه دون أن يتوافر لديه عذر مقبول سواء كان هذا العذر مادياً أو قانونياً ] . ومثال العذر مرضِ القاضي أو إذا كانت الدعوى لم يتم تحقيقها بعد(14). أو هو [ رفض القاضي صراحة أو ضمناً الفصل في الدعوى أو تأخيره الفصل فيها رغم صلاحيته للفصل فيها أو رفضه أو تأخيره البت في إصدار الأمر المطلوب على عريضته ] والمهم هو ثبوت واقعة الامتناع بغض النظر عن إرادة القاضي إنكار العدالة(15). وقد أورد المشرع العراقي صوراً للامتناع عن إحقاق الحق هي رفض القاضي بغير عذر الإجابة على عريضة قدمت له أو تأخيره ما يقتضيه بشأنها دون مسوغ أو امتناعه عن رؤية دعوى مهيأة للمرافعة ، أو امتناعه عن إصدار القرار فيها بعد أن جاء دورها دون عذر مقبول(16). ونصت على أن ليس للقاضي أن يحتج بغموض القانون أو فقدان النص أو نقصه وإلاّ عد ممتنعاً عن إحقاق الحق(17). كما نص قانون أصول المحاكمات اللبناني على أنه لا يجوز لأية محكمة أن تمتنع عن الحكم بحجة غموض القانون أو نقصانه وإلاّ عدت متخلفة عن إحقاق الحق(18). ويمكن أن يعد أيضاً التأخير غير المشروع عن إصدار الحكم تخلفاً عن إحقاق الحق(19). ويجب عدم الخلط بين الامتناع عن الفصل في الدعوى (إنكار العدالة) ، وبين الحكم بعدم الاختصاص أو بعدم قبول الدعوى أو برفض الدعوى ، ففي كل هذه الحالات الاخيرة ، يتم إصدار حكم فيها ولا تكون أمام إنكار العدالة . ومسألة إثبات امتناع القاضي أو تأخره لم يتركها المشرع للقواعد العامة بل رسم في سبيل ذلك طريقاً محدداً يجب أن يُسلك وإلاّ لم يعد القاضي منكراً للعدالة(20). ففي القانون المصري أوجب المشرع إعذار القاضي مرتين على يد محضر يتخللهما ميعاد أربع وعشرين ساعة في الأحكام في الدعاوى الجزئية والمستعجلة والتجارية ، وثمانية أيام في الدعاوى الأخرى . ولا يجوز رفع دعوى المخاصمة قبل مضي ثمانية أيام على آخر إعذار(21). وفي القانون العراقي ترفع دعوى المخاصمة بعد إعذار القاضي أو هيئة المحكمة بعريضة ، بوساطة الكاتب العدل تتضمن دعوته إلى إحقاق الحق في مدة أربع وعشرين ساعة في ما يتعلق بالعرائض وسبعة أيام في الدعاوى(22). وينص القانون اللبناني على أن الامتناع لا يثبت إلاّ بعد تقديم عريضتين متواليتين إلى القاضي أو المحكمة ، وأن يكون بين الأولى والثانية ، ثمانية أيام ، وإذا لم يُجب طلب المستدعي في خلال الأيام الأربعة التي تلي إيداع العريضة الثانية لدى قلم المحكمة أصبحت دعوى المخاصمة مقبولة(23). أما في القانون الليبي فإنه يستلزم إعذار القاضي على يد محضر بطلب الإجابة أو الفصل في الدعوى وأن يمضي على إيداع العريضة بقلم كتاب المحكمة التي يعمل بها القاضي عشرين يوماً دون نتيجة(24). ونرى أن هذه الإجراءات التي اشترطتها التشريعات المختلفة من أعذار القاضي على يد محضر أو أن يتم ذلك عن طريق الكاتب العدل ، قد تلحق بالقاضي الأذى المعنوي ، من خلال الإساءة إلى مركزه عن طريق هذا الإعذار العلني وإذا قيل أن اشتراط ذلك كان لمصلحة ، هي ضمان حق الأشخاص في الحالات التي يمتنع فيها القاضي عن إحقاق الحق ، فإن جوابه أن هذا الضمان يمكن توفيره من خلال اعتماد إجراءات يُحرص فيها على المحافظة على هيبة القضاء وسمعته وعدم المساس بها ، لذا نرى أن تكون هذه الإجراءات في أضيق نطاق ممكن ، من خلال اشتراط تقديم الأعذار عن طريق القاضي الأول أو ما يسمى رئيس الدائرة التي يباشر القاضي عمله فيها ، وإذا كان المشكو منه هو رئيس الدائرة نفسه (القاضي الأول) فإن الأعذار يقدم إلى المحكمة الاستئنافية ، ويمكن للمستدعي أن يوثق تقديم أعذاره عن طريق الاحتفاظ بنسخة من الأعذار مهمشة من القاضي الذي قدمت إليه لتقوم مقام المُحضِر أو الكاتب العدل وتعطي الحق للمستدعي في المخاصمة ، وبذلك تحفظ للقاضي هيبته وسمعته ولاسيما إذا كان المستدعي غير صاحب حق أو جاهل بأحكام القانون ، مما يتوجب معه توفير الضمانات اللازمة للقاضي وحمايته من هؤلاء الأشخاص من أن يشهروا به أو يسيئوا إلى سمعته .

رابعاً . إذا قبل القاضي منفعة مادية لمحاباة أحد الخصوم

أي إذا ارتشى من أحد الخصوم لكي يصدر حكماً لصالحه وفي هذه الحالة يمكن مساءلة القاضي جزائياً وإنما قبل ذلك يجب رفع دعوى المخاصمة وقبولها(25). ولا يشترط أن يحصل القاضي على تلك المنفعة لنفسه بل يكفي أن يحصل عليها أفراد عائلته إذا ثبت علمه بذلك ، وسواء حصل عليها قبل صدور الحكم ، أو اتفق على حصوله عليها بعد صدور الحكم ، ويُعد قبول القاضي لتلك المنفعة قرينة على المحاباة ولا يكلف المشتكي بإثباتها(26). ولا نرى تلازماً بين قبول دعوى المخاصمة ، وإمكانية مساءلة القاضي جزائياً ، خلافاً لما جاء في الرأي السابق ، بسبب من انه يمكن مساءلة القاضي جزائياً ، في حال ثبوت الواقعة بمعزل عن دعوى المخاصمة ، بمعنى إمكانية رفع الدعوى الجزائية ، حتى لو لم يتقدم المتقاضي للشكوى من القاضي مدنياً (مخاصمة القاضي) ، ولا يمكن القول بخلاف ذلك مع عدم وجود نص بهذا المضمون .

خامساً. الأحوال الأخرى التي ينص فيها القانون صراحة على مسؤولية القاضي المدنية وإلزامه بالتضمينات

هناك حالات نص عليها القانون في مسؤولية القاضي المدنية غير الحالات السابقة التي تم ذكرها ففي مثل هذه الحالات التي تثبت فيها مسؤولية القاضي فانه يجوز فيها مخاصمته ، ومن ذلك إذا أبطل الحكم لعدم إيداع مسودته المشتملة على أسبابه الموقعة من الرئيس ومن القضاة عند النطق به ، في هذه الحالة يكون المتسبب في البطلان ملزماً بالتعويضات(27). ولا يلزم في هذه الأحوال إثبات سوء النية(28).

________________________

– د. فتحي والي ، المصدر السابق ، ص167-168 .

2- د. عبد الخالق عمر ، المصدر السابق ، ص41-42 .

3- وردت حالات المخاصمة في المادة 286 من قانون المرافعات العراقي ، والمادة 494 من قانون المرافعات المصري ، والمادة 720 من قانون المرافعات الليبي والمادة 88 من قانون تنظيم القضاء العدلي اللبناني .

4- حيث نصت المادة 286/1 مرافعات مدنية عراقي على [ 1- إذا وقع من المشكو منه غش أو تدليس أو خطأ مهني جسيم عند قيامه بأداء وظيفته بما يخالف أحكام القانون أو بدافع التحيز أو بقصد الإضرار بأحد الخصوم . ويعد من هذا القبيل بوجه خاص تغيير أقوال الخصوم أو الشهود أو إخفاء السندات أو الأوراق الصالحة للإستناد إليها في الحكم] .

5- د. إبراهيم نجيب سعد ، المصدر السابق ، ص293-294 .

6- د. محمود محمد هاشم ، المصدر السابق ، ص257 .

7- د. فتحي والي ، المصدر السابق ، ص168 .

8- د. عبد العزيز عامر ، المصدر السابق ، ص77 . عن د. فتحي والي ، مبادئ التنظيم القضائي ، ص175-176 .

9- د. إبراهيم نجيب سعد ، المصدر السابق ، ص294 . و د. أحمد أبو الوفا ، المصدر السابق ، ص107-108 .

0- د. عبد العزيز عامر ، المصر السابق ، ص77 .

1- د. فتحي والي ، المصدر السابق ، ص168-169 .

2- د. أحمد أبو الوفا ، المصدر السابق ، ص108 . و د. إبراهيم نجيب سعد ، المصدر السابق ، ص294

3- د. فتحي والي ، المصدر السـابق ، ص169 . و د. إبراهيم نجيب سعد ، المصدر السابق ، ص294-205 . و د. أحمد أبو الوفا ، المصدر السابق ، ص108-109 .

4- د. إبراهيم نجيب سعد ، المصدر السابق ، ص295-296 .

5- د . صلاح الدين الناهي ، النظرية العامة في الدعوى في المرافعات والاصول المدنية ، دار الجيل ، بيروت ، دار عمار ، عمان ، ط 1 ، 1988 ، ص 113 . و د. فتحي والي ، المصدر السابق ، ص170

6- المادة 286/3 من قانون المرافعات المدنية العراقي .

7- المادة 30 من القانون نفسه .

8- المادة 3 من قانون أصول المحاكمات اللبناني .

9- د. أحمد أبو الوفا ، المصدر السابق ، ص 107 .

20- د. فتحي والي ، المصدر السابق ، ص170 .

2- المادة 294/2 من قانون المرافعات المصري .

22- المادة 286/3 من قانون المرافعات العراقي .

23- المادة 56 و 568 من قانون أصول المحاكمات اللبناني .

24- د. عبد العزيز عامر ، المصدر السابق ، ص78 .

25- د. أحمد أبو الوفا ، المصدر السابق ، ص107 .

26- المادة 286 من قانون المرافعات المدنية العراقي .

27- المادة 175 من قانون المرافعات المصري .

28- د. محمود محمد هاشم ، المصدر السابق ، ص261 . و د. إبراهيم نجيب سعد ، المصدر السـابق ، ص296 . و ديروليد ، رسالة ، ص60 . عن د. فتحي والي ، المصدر السابق ، ص171 .

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .