من المسلم به في فقه القانون العام ان كل سلطة من السلطات الثلاث في الدولة تقوم بوظيفتها الرئيسة ، فالسلطة التشريعية تختص بسن القوانين عامة فضلاً عن القيام بدروها الرقابي، والسلطة التنفيذية تعمل على تنفيذ هذه القوانين وحفظ الامن والنظام في البلاد ، اما السلطة القضائية فتختص بتطبيق القانون وتعمل على وجوب احترامه من قبل الاشخاص الطبيعية والمعنوية بفرض الجزاء على من يخرج على احكامه ،واعمالا لمبدأ الفصل بين السلطات فلا بد من قيام كل منها بالمهام المسندة اليها في الدستور والا تتدخل في مهام السلطة الاخرى(1) ، وعلى ذلك فأن البرلمان– يعد عضو التشريع الاصيل فهو وحده المختص بعملية سن القوانين اللازمة في الدولة ،غير ان بعض الدساتير قد اقرت لرئيس الدولة دورا مستقلا في ممارسة الوظيفة التشريعية وذلك في الظروف العادية ، وتصبح المراسيم أو الأوامر الصادرة عن رئيس الدولة في هكذا صورة قوانين تشريعية بالمعنى الفني لهذا المصطلح، سواء نص الدستور على هذه النتيجة أم لم ينص على ذلك ،فاذا تراءى للسلطة التشريعية ان تعد لها فلابد لها من اتباع الطريقة التي تعدل بها القوانين وفقا لما يقتضيه الدستور(2) .

ومن الدساتير –محل البحث- التي نحت هذا النحو دستور تونس لعام 1959 وكذلك دستور العـراق لعام 1970 ، حيث نـص الدستور التونسي في المادة (31) على ان ((لرئيس الجمهورية ان يتخذ خلال عطلة مجلس النواب ومجلس المستشارين مراسيم يقع عرضها حسب الحالة على مصادقة مجلس النواب أو المجلسين وذلك في الدورة العادية الموالية للعطلة))(3). فرئيس الجمهورية وفقا للنص يتمتع باختصاص مطلق في ممارسة الو ظيفة التشريعية بصورة منفردة ، وذلك عن طريق المراسيم الجمهورية ، دون ان يخضع النص هذه السلطة الهامة لأية قيود أو ضوابط محددة ،فلم يحدد النص موضوعات تلك المراسيم وماهية الاسس التي تقوم عليها ، وكذلك لم يفصح عندما اوجب عرضها على مصادقة مجلس النواب او-المجلسين – حالة عدم العرض والاثار التي قد تترتب على ذلك(4) ، فيتضح من ذلك سلطة رئيس الدولة المطلقة في سن القوانين عن طريق هذه المراسيم وبصورة منفردة ،ويكون بذلك رئيس الدولة سلطة تشريعية ثانية إلى جانب السلطة الاصلية في هذا المجال وهذه السلطة كما هو واضح جاءت مطلقة وغير مقيدة بأي قيد سوى ما يتعلق بممارسة هذه السلطة عند عطلة المجلس لذا فرئيس الدولة يستطيع تأخير تقديم مشروعات بعض القوانين إلى البرلمان وفي عطلته يصدر هذه القوانين عن طريق المراسيم ،وبذلك يكون تصرفه داخل النص الدستوري لا خارجه كل ذلك دون ان يشترط النص وجود حالة ضرورة تستدعي اعطاء مثل هكذا سلطة لرئيس الجمهورية لذا فهو يمارسها في ظل الظروف العادية(5)، ومما يلاحظ في هذا الصدد ان نص المادة(31) قبل تعديله عام 2002 كان ينص على ان ((لرئيس الجمهورية ان يتخذ خلال عطلة المجلس باتفاق مع اللجنة القارة المختصة اصدار مراسيم يقع عرضها على مصادقة المجلس في دورته العادية المقبلة)) ، وبعد التعديل المذكور الغي القيد الخاص بضرورة اتفاق رئيس الجمهورية مع اللجنة القارة في مجلس النواب ،بحيث أصبح رئيس الدولة وخلال عطلة المجلس النيابي حرا في اتخاذ ما يشاء من المراسيم التشريعية دون الحصول على اية موافقة مسبقة من اية جهة معينة وبذلك فأن التعديل المذكور قد سلب من مجلس النواب صلاحية التشريع وهي من أهم صلاحياته واطلق يد رئيس الجمهورية فيها وهذا يجعل من رئيس الدولة سلطة تشريعية منفصلة عن البرلمان ويجعل من الاخير اداة ثانوية في التشريع(6) .

ونجد نص الفقرة الثانية من المادة (63) تنص على ان ((وفي حالة حل مجلس النواب وفقا للفقرة الأولى من هذا الفصل ،يمكن لرئيس الجمهورية اتخاذ مراسيم يعرضها فيما بعد على مصادقة مجلس النواب)) ، ويتضح من ذلك انفراد رئيس الدولة في ممارسة الوظيفة التشريعية وذلك عند حل البرلمان فبموجب هذا النص تصبح السلطة التشريعية ممثلة برئيس الدولة وحده ،وبذلك يستطيع ان يسن أي تشريع في أي مجال من المجالات التي يرتأيها وذلك عن طريق المراسيم الجمهورية والنص كسابقه لم يبين المجالات التي يستطيع رئيس الدولة ان يشرع فيها ولم يتضمن كذلك النص حالة عدم عرض هذه المراسيم على مجلس النواب للتصديق عليها وما هي الاثار التي تترتب على ذلك ،ولم يوضح النص الاثار التي تترتب في حالة رفض مجلس النواب لهذه المراسيم بعد عرضها عليه ،لذا فالنص قد جاء معيبا ويشوبه النقص في هذا المجال ،وكان من الأولى بالمشرع الدستوري ان يسد هذا النقص الواضح، لذا فأن هذه الصلاحيات التشريعية الواسعة الممنوحة لرئيس الدولة تقلل من اهمية الوظيفة التشريعية وتناقض جميع الاحكام الدستورية التي قضت بأن الشعب هو مصدر السلطات وصاحب السيادة(7) . اما في ظل دستور العراق لعام 1970 فنجد انه قد جعل من رئيس الدولة سلطة تشريعية مستقلة لاتخضع لاي قيد،فقد بينت المادة(42) من الدستور بأن مجلس قيادة الثورة (المنحل) هو سلطة تشريعية قائمة بذاتها(8) فقد نصت هذه المادة بأن له (( أ- إصدار القوانين والقرارات التي لها قوة القانون)) فضلاً عن المادة(43) التي اوردت العديد من صلاحيات المجلس المذكور الاخر وقد بينت الفقرة (ز) من المادة ذاتها بأن للمجلس ((تخويل رئيسه بعض اختصاصاته المبينة في هذا الدستور أو تخويل نائبه الإختصاصات نفسها عدا التشريعية منها)) ، فيفهم من نص الفقرة (ز) السالفة ان لرئيس الجمهورية الذي هو رئيس مجلس قيادة الثورة (المنحل) ممارسة السلطة التشريعية وبصورة منفردة ،دون ان تخضع هذه الصلاحية لاية قيود (9) فسلطة رئيس الدولة التشريعية تجد سندها في الفقرة ( ز) من المادة ( 43 ) واما القيد الوارد في عدم جواز تفويض ممارسة الوظيفة التشريعية تكون في السلطات المفوضة إلى نائب رئيس مجلس قيادة الثورة (المنحل) فقط . ونجد ان المادة ( 57 /ج ) قد نصت على ان (( لرئيس الجمهورية عند الاقتضاء إصدار قرارات لها قوة القانون )) .

فمن خلال النص السالف يتضح ان لرئيس الجمهورية سلطة إصدار قرارات لها قوة القانون ، وبذلك يكون له ان ينشىء قواعد قانونية جديدة أو يعدل أو يلغي قواعد قانونية قائمة وكل ذلك يتم بمبادرة من رئيس الدولة دون مشاركة من اية جهة اخرى ، وعليه يمارس الوظيفة التشريعية بصورة منفردة وهذا الاختصاص التشريعي المطلق لا يعد عرضة للطعن عليه أمام القضاء فهذه القرارات التي يصدرها رئيس الدولة والتي لها قوة القانون تعد من (اعمال السيادة) التي لا تختص محكمة القضاء الاداري في مجلس شورى الدولة بالنظر في الطعون المتعلقة بها فهذه القرارات لا يجوز الطعن بها أو الرقابة عليها (10) ، فرئيس الدولة يمارس الوظيفة التشريعية بصورة منفردة في الظروف العادية لا الاستثنائية فقط ، غير ان هناك من يرى ان نص المادة (57 /ج) يقتصر على الظروف الاستثنائية فقط (11) ، ونحن لا نتفق مع هذا الرأي وذلك لأن النص لم يشترط توافر حالة الضرورة التي تبرر استخدام هذه الصلاحية بل هو لم يشترط وجود أي ظرف غير عادي يستوجب اعماله وكل ما اشترطه النص هو حالة (الاقتضاء) وهذه العبارة لا تفيد حالة الضرورة ، فالفعل قَضَى يَقْضي قضاءً فهو قاضٍ إذا حكم وفَصَلَ، وقضاء الشيء : احكامه وامضاؤُه والفراغ منه فيكون بمعنى الخَلق (12) ، وتأتي قضى بمعنى الصَّنْع والتَّقْدير يقال قضاه أي صنعه وقَدَّرهُ (13) ، وبذلك فان (الاقتضاء) امر متروك تقديره إلى سلطة رئيس الدولة دون وجود رقابة عليها فضلاً عن ان هذا الاقتضاء قد يحدث في ظروف عادية واستثنائية كذلك لذا فنحن نتفق مع من يذهب إلى انه لا يمكن باي حال جعل نص الفقرة (ج) من مادة (57) ضمن النصوص الدستورية المتعلقة بالازمات الخاصة فقط وذلك لأن السبب يعود إلى سعة نطاق هذه الفقرة التي لم تشترط حدوث حالة حرب مثلا أو تهديد بها أو وجود خطر جسيم فهي ليست الا تعبيرا لاندماج السلطة (أي تركيز السلطة) فالقائم على السلطة التنفيذية يحق له ان يمارس السلطة التشريعية بموجب هذه الفقرة متى شاء مادام الامر يعود في النهاية إلى سلطته التقديرية ، فضلاً عن ان التطبيق العملي قد اسفر عن استعمال هذه المادة في ظل الظروف العادية (14) . ولئن كان دستور تونس لعام 1959 قد اعطى لرئيس الدولة سلطة التشريع المنفردة وذلك في حالات غيبة البرلمان فان الدستور العراقي لعام 1970 لم يفعل ذلك وانما جعل هذه السلطة مطلقة لرئيس الدولة يمارسها مع وجود المجلس الوطني وانعقاده ، ليعطي بذلك مثالا على تركيز السلطة وتسلط شخص الحاكم على جميع مؤسسات الدولة ووظائفها .

____________________

1- د.احمد سلامة بدر: الاختصاص التشريعي لرئيس الدولة في النظام البرلماني ، القاهرة ، دار النهضة العربية ، 2003 ، ص69 .

2- د. سليمان محمد الطماوي : السلطات الثلاث في الدساتير العربية المعاصرة وفي الفكر السياسي الإسلامي ، ط5 ، القاهرة ، مطبعة جامعة عين شمس ، 1986،ص73 .

3- لقد تم تعديل المادة في عام 2002 .

4- حميد حنون خالد الساعدي : الوظيفة التنفيذية لرئيس الدولة في النظام الرئاسي –دراسة مقارنة مع الدستور العراقي – ، أطروحة دكتوراه ، جامعة عين شمس ، كلية الحقوق ، 1981، ص361 .

5- وبذلك فنحن لانتفق مع ما يذهب اليه الدكتور (حميد الساعدي) في رسالته للدكتوراه السابق الاشارة اليها من ان تطبيق المادة(31) انما يتم في ظل الظروف الاستثنائية ،وذلك لأن النص المذكور صريح في عدم اشتراطه لأية ظروف غير عادية تسوغ استخدام هذه السلطة ، وانما أشار النص فقط الىعطلة البرلمان كسبب لممارسة هذه السلطة التشريعية وكما هو معروف ان عطلة البرلمان لاتعد ضمن الظروف الاستثنائية ،وايضا لايعد نص المادة(31) السالف ذكره الأساس الدستوري للوائح التفويضية- كما يشير إلى ذلك الدكتور الساعدي –لأن اللوائح التفويضية تجد سندها الدستوري في نص الفقرة الثانية من المادة(28) التي اصبحت تنص بعد إضافة (مجلس المستشارين) إلى السلطة التشريعية ان ((لمجلس النواب ولمجلس المستشارين ان يفوضا لمدة محدودة ولغرض معين إلى رئيس الجمهورية اتخاذ مراسيم يعرضها حسب الحالة على مصادقة مجلس النواب أو المجلسين وذلك عند انقضاء المدة المذكورة)) ينظر حميد حنون خالد الساعدي:المصدر نفسه، ص359-361 .

6- لمزيد من التفاصيل ينظر: د.عبد الوهاب معطر : مشروع الاصلاح الدستوري الجوهري http://www.tunisie2004.net .

7- طه حميد حسن العنبكي : النظام السياسي التونسي 1956 – 1989 ، رسالة ماجستير ، جامعة بغداد ، كلية العلوم السياسية ، 1992،ص62 .

فقد نصت المادة(3) من الدستور التونسي على ان ((الشعب التونسي هو صاحب السيادة يباشرها على الوجه الذي يضبطه هذا الدستور )) .

8- د. رعد ناجي الجدة:دراسات في الشؤون الدستورية العراقية ،مصدر سابق،ص39-40 .

9- ساجد أحميد عبل الركابي : المسؤولية السياسية لرئيس الدولة في الأنظمة السياسية العربية ، أطروحة دكتوراه ، جامعة بغداد ، كلية العلوم السياسية ، 2000 ، ص 326 .

10- د.غازي فيصل مهدي : الحدود القانونية لسلطات محكمة القضاء الاداري في العراق ، مجلة العدالة، العدد(2) ، بغداد ، 2001 ، ص 88 -89 .

11- ساجد احميد عبل الركابي : المصدر السابق ، ص 327 .

12- جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور : لسان العرب، الجزء 21، بيروت ، دار صادر ، 1956 ، ص 186 .

13- محمد بن ابي بكر بن عبد القادر الرازي : مختار الصحاح ، القاهرة ، دار الكتاب العربي ، بلا سنة الطبع ، ص 540 – 541 .

14- حيث أصدر رئيس الدولة انذاك بموجب الفقرة المذكورة قرار رقم 6 بتاريخ 31/3/1993 قرر فيه انه (( لا يجوز ممارسة أي مهنة في سوق الصفارين الواقع في مدينة بغداد أو غير المهنة المعتادة لهذه السوق ( الصفارة) صنعا وعرضا ويلزم اصحاب المحلات التي تمارس فيها مهن اخرى باعادتها إلى ممارسة تلك المهنة )) ينظر كاظم علي الجنابي : سلطات رئيس الدولة التشريعية في ظل الظروف الاستثنائية ، رسالة ماجستير ، جامعة بغداد ، كلية القانون ، 1995 ، ص 35 – 36 هامش رقم (1 ) .

المؤلف : علي سعد عمران
الكتاب أو المصدر : ظاهرة تقوية مركز رئيس الدولة في بعض النظم الدستورية
الجزء والصفحة : ص159-163

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .