النظام العام والاصلاح الدستوري

العالم الذي تسمعه ولا تراه هو العالم نفسه الذي أشاهده ولا أراه ” ياسر إبراهيم في (بهجة العمى) تهدف هذه الورقة إلى القول بأن الإصلاح الدستوري ضروري ولكن لابد أن يسبقه كمقدمة وكمدخل لهذا الإصلاح إصلاح النظام العام الحاكم لمبادئ تفاعل الدولة والمجتمع. فالإصلاح الدستوري كما ذكر الكاتب سابقاً مع زملاء له “

فتعديل الدستور لابد وأن يأتي في سياق حزمة تعديلات في القوانين وهي إجراءات ينص على بعضها الدستور الحالي واستقر عليه فقه المحكمة الدستورية العليا…. (بحيث) يأتى تعديل الدستور كنقطة نهاية لعملية قانونية سياسية وفقهية واجتماعية شاملة”. (1) هذه الورقة تطوير لهذه المقولة العامة من جهة تحديد نقطة البدء فى هذه العملية الشاملة .

I
يقصد بالظام العام كما تم تحديده في ورقة سابقة بكل ما يمس كيان الدولة ويتعلق بمصلحة أساسية من مصالحها بعبارة أخرى هي مجموعة الأسس التي تقوم عليها كيان الجماعة سواء كانت اسس سياسية او اقتصادية او مالية او اجتماعية او اخلاقية. (2)

فالنظام العام هو الذى يعكس التوجهات العامة للجماعة التى يتم كتابتها فى دستور ما بحيث تنظم حياة هذة الجماعة بالتالى تصاغ فى قوانين وقواعد وممارسات. فذا صادفت الجماعة اضطراب فى التوجهات والاسس تعثر وتعطل ميزان الانصاف الدستورى.

هذا اما يلعبة الدستور ووفق كلمات استاذنا الدكتور ابراهيم درويش، ” يعنى ان يكون للدستور السمو على ما عداة من تشريعات وان تكون لة مكانة الصدارة عليها ومن ثم يلتزم جميع السلطات فى النظام السياسى فى الدولة بوجوب التقيد بنصوصة واحترامة وعدم الخروج على حدودة والاتزام بة كقيد حاكم فى ممارساتها لسلتطها ومن بعد يمثل السياج العام للحقوق والحريات العامة”. (3)

ومع تعطل جهاز الانصاف الدستورى شاعت الاقانونية فى سلوك سلطات الدولة و والامعيارية فى سلوك الجماعات والافراد كأثار جانبية مدمرة لتكامل النظام العام وضاعت عقلانية الوجود الجمعى والاجتماعى .

فالنظام العام هو الأساس في أي جماعة قومية فذا اصابة الخلل جاء فى شكل تأثير مباشر على اولا على اداء الدولة وثانيا جاء التأثير فى شكل اثار جانبية على المجتمع. بعبارة دقيقة لا يمكن احداث اصلاح دستورى بغير اصلاح النظام العام أولاً باعتباره مستودع قيم وأخلاقيات الجماعة.

الشكل (1)

1-النظام العام يصيغ الدستور والدستور بالتالى يرسم حدود سلطات الدولة، من ثم سلطات الدولة تشرع للمجتمع المدنى والافراد السلوك الواجب والجائز. ويأتى الاثر المباشر لخلل النظام العام فى عدم انسجام بنائى فى العلاقة بين مكونات الدولة بعضها ببعض
(4) Structural Incoherence

2- يتأثر النظام العام بالتغيرات فى سلوك وقيم كل من المجتمع المدنى والافراد وسلطات الدولة والفقة و الممارسات الدستورية كل على حدة وتأخذ شكل تغذية استرجاعية فرعية وتظهر هذة التغذية الاسترجاعية فى شكل اثار جانبية Sub Feedback Side Effects

II
يمكن اجمال تأثير الخلل المباشرللنظام العام في مصر على سلطات الدولة في مظهرين أساسيين:

1- اضطراب العلاقة النموذجية بين مفهوم السلطة العامة ومفهوم الحرية (5)، فمن ناحية لا يوجد مفهوم حاكم للحرية فى الدستور او القانون المصريين. بل يأتى الحديث فى اطار المصلحة وحتى هذا الحديث يأتى مضطربا لاختلاف معنى المصلحة بين دعوى واخرى ويصل الامر الى عدم تحديد تعريف قانونى للمصلحة فى الدعوى الدستورية.

ثانيا، التشتت القانونى فى مجال تنظيم العلاقات المدنية الذى يظهر جليا بأفراد قوانين خاصة تمثل الالغاء ضمنيا لنصوص القانون المدنى ، الامر الذى يمثل غياب للمنطق الكلى الحاكم لتنظيم العلاقات المدنية. ثالثا، اعتماد مفهوم المستبد العادل والذى اطلقة السنهورى رئيس مجلس الدولة انذاك بأقتراح بتعين محمد نجيب رئيسا لمجلس الوزراء، الامر الذى صبغ السلطة العامة منذ ذالك الوقت بالاتجاة للتوسع على حساب الافراد.

ويعتقد ان فعل السنهورى كان مدفوعا بكراهية للوفد فى ذالك الوقت ولكن اعتقد ان المسألة اعمق حيث انها مرتبطة بالمنطق الذى صياغ بة السنهورى القانون المدنى من حيث اخذ موقف وسطا بين ارادة الحرة والمسؤلية الجماعية كما هو الحال فى مجال العقود والملكية والاعتراف بمفهوم بشئ اسمة الوظيفة الاجتماعية للحق.

واخذ هذا مفهوم ينمو ليقضى على مفهوم الحق الفردى الاصيل . واختفاء سمو مفهوم الحق الفردى الاصيل ادى بالتبعية الى كساح منطق المجتمع المدنى.

2- انهيار مبدأ الثقة العامة وانتشار الكذب على القانون، ويقصد بذالك شهادة الزور واليمين الكاذبة والمسكوكات الزيوف والمزورة وتقليد الاختام والدمغات والعلامات والغش فى المعاملات التجارية وتزوير وتقليدالعلامات والبيانات التجارية واختلاس الوظائف والالقاب والتزوير فى المحررات بجميع انواعة. الصحف اليوية تحتوى على امثلة عدديدة وكذالك المحاكم ووالواقع اليومى بحيث ضاعت ثقة المواطن فى النظام العام.

III
يمكن اجمال الاثار الجانبية لخلل النظام العام فى مصر في ثلاث مظاهر أساسية :
1- انتشار الغش العقلى، ويقصد بذالك وفق تعريف الدكتور صلاح قنصوة (7) هو الفصل بين قولين: القول العام والقول الخاص، حيث يترجم القول الخاص موقف الذاتي الحقيقي بينما ينصرف القول العام الى مراعاة مقتضيات الموقف العام المعلن من جانب السلطة الاعلى.

ويضع الدكتور ذكى نجيب محمود هذة الظاهرة فى سياق اعم بقولة ” ان العلاقات الى تربط المواطن بالوطن قد تغيرت فى صميمها، حتى يكاد الامر يتحول من كون الامة امة واحدة الى كونها تجمعا من الافراد، كل فرد يسعى الى الحصول على اكبر ممكن من الغنائم بأقل قدر من من العمل . اما النتيجة فهى ان الفائزين هم ابرع الناس حيلة وليس ارفعهم ذكاء او علما او عطاء”.

2- انتشار اللامعيارية فى الخطاب والسلوك العام والخاص، ويقصد بمعيارية السلوك سيادة القيم الى تحدد الاطار الثقافى والاجتماعى الذى بموجبة يتحدد سلوك المجتمع والتى بالتالى تحدد القيم الايجابية التى يتحدد على اساسها مكانة الفرد فى الهيئة الاجتماعية. وبالعكس الامعيارية تعكس حالة من الاضطراب الاجتماعى الشديد فى تحديد قيم السلوك المفروض او الجائز. والجرائد اليومية تعكس عمق هذة حالة متقدمة من الامعيارية فى المجتمع.

3- انتشار العشوائيات والتحايل على القانون، تعكس هذة الظاهرة حالة محاولة من التكيف السلبى مع القانون من خلال التحايل علية (8).

هذا علما انة فنيا التحايل على القانون عن الكذب على القانون حيث التحايل معنى اوسع وقد لا ينصرف بالضروره الى الكذب المباشر. والفاعل الرئيسى لهذة العمليات من التحايل هم جماعات تقف خارج نظام الانتاج المنظم مثل المهمشين و وغير الراغبين فى العمل على الاطلاق. وهناك معاناة واسعة فى مصر من هذة الظاهرة.

VI
القضية الهامة الان ليس تعديل الدستور هذا لان مفهوم الدستور فى نهاية الامر مفهوم كاشف عن واقع وحال النظام العام. الامر الذى يقودنا بالضرورة الى القول بان المفهوم الاساسى للجماعة السياسية فى مصر فى حاجة إلى اصلاح وإعادة تأسيس، وهذا قد لا يتأتى الا من خلال تأسيس نخبة ثقافية وسياسية لبرالية جديدة.

الهوامش

1- جهاد عودة ونجاد البرعى وحافظ ابوسعدة، باب على الصحراء: الانتخابات البرلمانية المصرية 2000- المسار ومعضلاتة وتوصيات للمستقبل. المجموعة المتحدة ، 2001 ، ص. 128

2- جهاد عودة ،” ابعاد فى معضلة العلاقة بين القطاعين الحكومى والاهلى فى مكافحة جرائم النظام العام”، الندوة العلمية السنوية للاحتفال بعيد الشرطة 25 يناير 2005 حول دور المجتمع المدنى فى منع الجريمة

3- ابراهيم درويش، القانون الدستورى: الظرية العامة والرقابة الدستورية، در النهضة العربية ،2004

4- جهاد عودة، جمال مبارك وتجديد الليبرالية الوطنية، دار الحرية، 2004، ص. 82

5- انظر: نعيم عطية، الفلسفة الدستورية للحريات الفردية، دار النهضة العربية،1989 ، ابراهيم محمد على،

المصلحة فى الدعوى الدستورية، دار النهضة العربية، 1996، محمد نور فرحات، البحث عن العدل، اصدارات سطور، 2000، صص: 103-129، فاروق عبد البر، موقف عبد الرزاق السنهورى من قضايا الحرية والديمقراطية، 2005، ص. 137 6- محمد عيد الغريب، الثقة العامة، دار النهضة العربية، 2000 – 2001

7- محمد الصدفى، ” منافقو هذا الزمان متحققون”، احوال مصرية، السنة السادسة، العدد 21، صيف 2003 .بالنسبة لرؤية ذكى نجيب محمود انظر : فاطمة اسماعيل، التفكير الفلسفى عند ذكى نجيب محمود-منهج وتطبيقة، مصر للخدمات العلمية، 1999

8- انظر :هناء الجوهرى، ثقافة التحايل: دراسة ميدانية لنماذج من المجتمعات العشوائية بالقاهرة الكبرى، كلية الاداب، جامعة القاهرة، 2004