معلومات قانونية حول تَوُصِيف مَبْدأ حُرِيَة القاضِي في تَكْوُيِن عَقِيدَتُهُ

أ * مصطفي عبد الهادي

مَبْدأ حُرِيَة القاضِي في تَكُوين عَقِيدَتُهُ مِن المَبادِئ التي إتَفَق عَليها فُقَهاء القانُون و مَوادِهِ , هَذا لأن نَفاذ القاضِي بِبَصيرَتُهُ إلى رَوح القانُون و تَشَبُع وِجْدانُهُ بِفَلْسَفَتُهُ تُتَرْجَم إلى جَعْل إرادَة القانُون أقْوى مِن نَزَوات الأفْراد و يُحَقِقَ أهْداف التَشْرِيع الرامِي إلى العَدْل و الإنْصاف

و قَد نَصَت المادَة 302 مِن قانُون الإجْراءات الجِنائِيَة عَلى :
” يَحْكُم القاضِي في الدَعْوَى حَسْب العَقِيدَة التِي تَكَوَنَت لَدَيِهِ بِكامِل حُرِيتُهُ و مَع ذَلِكَ لا يَجُوز لَهُ أن يَبْنِي حُكْمُهُ عَلى أي دَلِيل لَم يُطٌرَح أمامُهُ في الجَلْسَة
و كُل قَول يَثْبُت أنْهُ صَدَر مِن أحَد المُتَهَمِين أو الشُهُود تَحٌت وَطْأة الإكْرَاه أو التَهْدِيد بِهِ يُهْدَر و لا يُعَوَل عَلَيهِ “

و لا يُوجَد تَشْرِيع جِنائِي في العالَم يَخْلُو مِن مادَة تَحْمِلَ نَفْس المَضْمُون و هُو مِن الشُيوع بِمَكان و لَقَد أطْلِقَ عِلَيِهِ ” مَبْدأ حُرِيَة القَاضِي في تَكْوِين عَقِيدَتُهُ “

و كَلِمَة ” حُرِيَة ” التَي وَرَدَت في المادَة سَالِفَة الذِكْر تُثِير كَثيراً مِن اللَبْس و إنْعِدام التَحْدِيد سِيما و أنهُ لا يُوجَد حُرِيَة كامِلَة أو خالِيَة مِن القُيود , و هَذا ما نُناقِشَة في هَذه الصَفْحَة , في مُحاوَلَة لِضَبْطَ و تَحْدِيد لَفْظ ” الحُريَة ” و ذَلِكَ بِتَوصيف قَانُوني و مَنْطِقي صَحِيح لِهَذا المَبْدأ

* التَوصِيف القانُوني و المَنْطِقي لِمَبْدأ حُرِيَة القاضِي :

حُرِيَة القاضِي في تَكْوِين عَقِيدَتُهُ لَيسَت حُرِيَة كامِلَة أو مُطْلَقَة و لَكِنَها ” سُلْطَة مُنْضَبِطَة “, فَحَتى القاضِي الجِنائِي مِن حَيثُ المَبْدأ العَام الذِي يُمَثِل الأحْوال التَي لَم يُقَيِدُهُ المُشَرِع فِيها بأدِلَة مُعَيَنَة أو مُحَدَدة في الإثْبات لَيسَت لَهُ حُرِيَة كامِلَة مُطْلَقَة , ذَلِكَ أن مَحْكَمَة النَقْض مُراقِبَة ما إسْتَقَرَت عِلَيِهِ عَقِيدَة القاضِي مِن حَيثُ التَدْلِيل و تُلْزِمُهُ بِذِكْر مَضْمُون الأدِلَة التي إسْتَنَد إليها دُون إبْهام أو غُموض و بأن تَكُون هَذه الأدِلَة غَير مُتناقِضَة مَع بَعْضِها و بأن تَكُون إسْتِخْلاص المَحْكَمَة المُسْتَفاد مِن الإدِلَة مُسْتَسَغاً و فِقاً لِمُقْتَضَيات العَقْل القانُوني و المَنْطِق العادِي و إلا كان حُكْمَها يَشُوبَهُ البُطْلان أو الفَساد بِحَسْب الحَالَة

و قَد حَكَمَت مَحْكَمَة النَقْض في الطَعْن رَقْم 19050 لِسَنَة 63 ق. عام 1997م.
” … مِن المُقَرَر أن أصْل البَراءَة يُعْتَبَر قَاعِدَة أساسِيَة في النِظام الإتْهامي لا تَرَخُصَ فِيها تَفْرِضُها حَقائِق الأشْياء , و تَقْتَضِيها الشَرْعِيَة الإجْرائِيَة و حِمايَة الفَرْد فِي مُواجَهَة صِوَر التَحَكُم و التَسَلُط و التَحامُل بِما يَحُول دُون إعْتِبار وَاقِعَة تَقُوم بِها الجَرِيمَة الثابِتَة بِغَير دَلِيل جاد قَاطِع يَبْلُغ مَبْلَغ الجَزْم و اليَقِين و لا يَدَع مَجالاً لِشُبْهَة إنْتِقاء التُهْمَة أو الشَك فِيها , و دُون ذَلِكَ لا يَنْهَدِم أصْل البَراءَة و كَان مِن اللْازِم في أصُول الإسْتِدْلال أن يَكُون الدَلِيل الذي يُعَوَلَ عَلَيِهِ الحُكْم مُؤَدِياً إلى ما رَتَبَهُ عَلَيِهِ مِن نَتائِج في غَير تَعَسُف في الإسْتِنْتاج و لا تَنافُر مَع حُكْم العَقْل و المَنْطِق …”

و لِلْمُحامِي المُدافِع عَن المُتَهَم دَوراً فَعَالاً و مُؤَثِراً في تَأسِيس و تَكْوِين و تَوِجِيه عَقِيدَة القاضِي الجِنائِي نَحو الجَزْم بِبَراءَة المُتَهَم أو عَلى الأقَل الشَك – الذِي يُفَسَر لِصالِح المُتَهَم – في إدانَتِهِ

و أخِيراً فإن عَقِيدَة القاضِي الجِنَائِي أمْر نِسْبِي و ذَلِكَ سَواءاً أكانَت إسْتَقَرَت عَلى الإدانَة أو البَراءَة إي أنْها تَخْتَلِف مِن قاضٍ لِأخَر بَل و قَد يَصِل الإخْتِلاف إلى العَكْسِيَة و التَضاد حَيثُ أنْها في النِهايَة عَقِيدَة إنْسان و ثَمَرَة تَفْكِير بَشَر

و مِن هُنا فَقَد أصابَت مَحْكَمَة النَقْض في حُكماً بِجَلسَة 20/12/1920م. فيما أوُرَدَتهُ , حَيثُ قالَت :
” تَقْدِير القاضِي الجِنائِي لِلْأدِلَة التي تَوصَلَ بِها إلى تَكُوِين عَقِيدَتُهُ أمْر نِسْبِي يَتَفاوَت فِيه القُضَاة كَما يَتَفَاوَت فِي مِثْلِهِ كُل النَاس بَل قَد يَخْتَلِفُون لِدَرَجَة التَضاد و يَسْتَحِيل أن يَدَعِي أحَد أن تَقْدِير قاضٍ في هَذا الصَدَد هُو الحَق دُون تَقْدِير قَاضٍ أخَر “