ان القاعدة التي تحكم الإثبات في الدعوى المدنية تقرر ان عبء الإثبات يقع على المدعي، وقد نصت على ذلك مختلف قوانين الإثبات المدنية، ومنها قانون الإثبات المدني العراقي بقوله (البينة على من ادعى واليمين على من انكر ) (1). باعتبار ان الأصل براءة ذمة كل شخص، وانها غير مشغولة بحق الآخر مهما كانت طبيعة هذا الحق، وان المدعى هو من يتمسك بخلاف الظاهر والمنكر هو من يتمسك بابقاء الأصل. فكل من يدعي خلاف هذا الأصل الثابت يتوجب عليه ان يثبت عكسه (2). فمن يدعي وجود واقعة ما، يقع عليه وحده عبء إثباتها، وليس على من ينكرها فإذا ادعى احد الأشخاص انه اقرض شخصاً آخر مبلغاً من المال، ورفع عليه الدعوى لمطالبته برد هذا المبلغ، فانه يلتزم بإثبات واقعة القرض بعده المدعي، ولا يلتزم المدعي عليه بإثبات عدم صحة هذه الواقعة، فله ان يقتصر على مجرد الإنكار. واذا لم ينجح المدعى في اثبات صحة ما يدعيه فإنه يخسر دعواه(3).

نخلص من ذلك ان عبء الإثبات في القانون المدني يقع على عاتق المدعى، ولكن هل هذا امر ثابت؟ يقول بعض فقهاء القانون المدني ان هذا المبدأ عام التطبيق، ولكن الفقهاء المحدثين يقرون اليوم بان هذا المبدأ ليس أصلياً وإنما هو ظاهري فقط، لأن عبء الإثبات ينتقل دائماً من على عاتق المدعى إلى المدعى عليه باستمرار أثناء نظر الدعوى، كما ان ما يقع على عاتق المدعى اثباته، ليس ادعاءاته كلها، فهو ليس ملزماً بإثبات ما لم ينازع المدعى عليه فيه من الادعاءات، وتنحصر مهمته في اثبات تلك التي ينازع فيها، وذلك لأن النزاع المدني ينحصر في الادعاءات المقدمة من الطرفين وتكون متعارضة(4). بل واحياناً قد يسلم المدعى عليه، بحصول واقعة القرض أو الدين، ومع ذلك يدفع بالوفاء بالالتزام الملقى على عاتقه، في هذه الحالة يتعين على المدعى عليه ان يثبت واقعة الوفاء بالمبلغ محل القرض، لأنه يصبح حينئذ مدعياً بالدفع، ومن ثم يكلف بأثبات صحة هذا الدفع، إلى ذلك اشار نص قانون الإثبات المدني بقوله (على الدائن اثبات الالتزام وعلى المدين اثبات التخلص منه) (5). وغنى عن البيان ان المقصود بالمدعى ليس هو رافع الدعوى، وانما هو كل من يتمسك بالواقعة المراد اثباتها، سواء كان المدعى ام المدعى عليه في الدعوى، أي ان عبء الإثبات يعاد توزيعه بين المدعى والمدعى عليه بحسب الواقعة التي يمكن ان يدعيها أي منهما(6). وهكذا صح القول بأن من يحمل عبء الإثبات هو المدعي في الدعوى، والمدعى عليه في الدفع، فكلاهما مدع في دعواه(7).

ويفسر الفقهاء خضوع الإثبات في المواد المدنية لهذين المبدأين، انما هو انعكاس للشكل الاتهامي للإجراءات المدنية، إذ يكون دور القاضي – من حيث المبدأ – سلبياً أو حيادياًَ، معتمداً على المنطق والإحساس السليم، فيقع عبء الإثبات كاملاً على عاتق من يريد هدم أو تعديل “الوضع القائم” أصلاً أو عرضاً أو ظاهراً، وإلا خسر دعواه، فاذا أقام الدليل على دعواه فلا يكون أمام المدعى عليه إلا الاختيار بين أمرين، اما أن ينكر الوقائع المقدمة من المدعي، أو يدعي بدوره واقعة يترتب عليها انقضاء حق المدعي، وهنا يكون عليه اثبات ما يدعيه، لأن المدعي عليه ينقلب مدعياً في الدفع(8). كما يعفى المدعي من الإثبات إذا كانت هناك قرائن إتفاقية، أي أن عبء الإثبات في هذه الحالة ينتقل إلى الطرف الآخر(9).وبمعنى آخر، يجوز للطرفين – ما لم يوجد نص قانوني يقضي بغير ذلك – أن يتفقا على جعل عبء الإثبات على عاتق أي منهما، على خلاف ما تقضي به القاعدة العامة، أي ان للمدعى عليه ان يحمل عبء الإثبات منذ البداية، وأن يقدم من الأدلة، ما يدحض دعوى المدعي(10).

نخلص مما تقدم إلى ان المدعى هو المكلف بالإثبات، وان المدعى عليه في الدعوى المدنية لا يكلف بشيء إذا اقتصر على مجرد الإنكار، اما إذا دفع ادعاء المدعى بواقعة معينة، فإنه يصير مدعياً بهذا الدفع، وحينئذ يتعين عليه ان يثبت صحة هذه الواقعة، كما يجوز للمدعى عليه ان ينزل عن الحماية المقررة له، وان يحمل هو عبء الإثبات، لأن قواعد الإثبات ليست من النظام العام، ومن ثم يجوز الاتفاق على مخالفتها….

___________________

1- انظر المادة السادسة من قانون الإثبات المدني رقم 107 لسنة 1979.

2- انظر المادة السابعة من قانون الإثبات المدني رقم 107 لسنة 1979.

3- محمد لبيب شنب، “دروس في نظرية الالتزام”، دار النهضة العربية، القاهرة، 1974، ص12.

4- محمد محي الدين عوض، “الإثبات بين الازدواج والوحدة في الجنائي والمدني في السودان”، المرجع السابق، ص27.

5- نص المادة الأولى من قانون الإثبات المدني رقم 107 لسنة 1979.

6- جميل الشرقاوي، “الإثبات في المواد المدنية”، دار النهضة العربية، القاهرة، 1976، ص23.

7- يوسف قاسم، “البراءة الأصلية”، المرجع السابق، ص26.

8- محمد زكي ابو عامر، “الإثبات في المواد الجنائية”، المرجع السابق، ص34.

9- محمد محي الدين عوض، “الإثبات بين الازدواج والوحدة”، المرجع السابق، ص27.

10-عبدالرزاق السنهوري، “الوسيط في شرح القانون المدني”،ج2،دار النشر للجامعات المصرية،القاهرة،1956، ص87

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .