يترتب على مبدأ الشرعية الجنائية نتائج قانونية عدة تتمثل في إنفراد التشريع في تحديد الجرائم والعقوبات، وحظر القياس في مجال نصوص التجريم والعقاب، وعدم رجعية القواعد الجنائية الموضوعية إلى الماضي، وسنخصص لكلاً منها فرعاً مستقلاً.

الفرع الأول : إنفراد التشريع في تحديد الجرائم والعقوبات

إن القانون المكتوب (التشريع) هو المصدر الوحيد للقاعدة الجنائية الموضوعية وفقاً لمقتضيات مبدأ الشرعية الجنائية الموضوعية، فإذا لم يوجد نص مكتوب يحدد الفعل المجرم ويحدد العقوبة المقررة له فإنه يجب على القاضي الجنائي أن يحكم بالبراءة مهما كان الفعل في نظر القاضي الشخصي خطيراً أو منافياً للآداب أو الأعراف ويستحق التجريم.

وبهذا تبرز لنا ذاتية القواعد الجنائية الموضوعية، فكما هو معلوم لدينا أن القاضي المدني لا يستطيع الامتناع عن الفصل في الدعوى المعروضة أمامه وإلا عد منكراً للعدالة، فلا يستطيع أن يدرأ المسؤولية عنه بحجة عدم وجود نص قانوني ينطبق على الواقعة المطروحة أمامه، فله بموجب المادة الأولى من القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 أن يحكم بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية، ثم بمقتضى قواعد العدالة، كذلك له أن يسترشد بالأحكام القضائية وآراء الفقهاء، وبناءاً على هذا فإن القاضي المدني لا يستطيع التنصل من الواجب المفروض عليه مدعياً بعدم وجود نص مكتوب على عكس القاضي الجنائي الذي يتقيد بالنص التشريعي المكتوب كمصدر وحيد يلتزم بالحكم طبقاً له وإلا وجب عليه الحكم ببراءة المتهم. وتجدر الإشارة إلى أن النص التشريعي غالباً ما يتضمن عنصري التجريم والعقاب معاً، إلا أنه في بعض الأحوال قد يقتصر على العقوبة ويحيل في تحديد شق التكليف إلى نصوص قانونية أُخر، وهذا ما يسمى بالقاعدة الجنائية على بياض(1). وتقيد القاضي الجنائي بالقواعد المكتوبة في تحديد الجرائم والعقوبات لا يعني أنه مقيد بذلك في تحديد ما يتعلق بالأسباب التي تحول دون توقيع العقاب كأسباب الإباحة والتي ترجع إلى العرف السائد في البلاد كحق تأديب الزوج لزوجته وأولاده أو إباحة أفعال الضرب والجرح في ممارسة الألعاب الرياضية كالملاكمة والمصارعة، وكذلك عدم العقاب على جريمة الفعل الفاضح العلني لمن يظهر بلباس البحر على الشاطئ(2).

الفرع الثاني : حظر القياس في مجال نصوص التجريم والعقاب

القياس هو إعطاء حالة غير منصوص عليها في القانون حكم حالة أخرى لاتفاق الحالتين في العلة، فهو وسيلة عملية تهدف إلى استكمال ما يشوب القانون من نقص عن طريق إيجاد الحل لمسألة لم ينظمها القانون وذلك عن طريق استعارة الحل الذي قرره القانون لمسالة مماثلة لها في العلة، وبهذا فإن القياس ليس وسيلة لاستخلاص إرادة القانون (القصد التشريعي) في إطار الصيغة التي استعملها بل إنه يفترض بأن القانون لم ينظم مسألة معينة ولم يضع لها حلاً واجباً تطبيقه في حالة حدوثها(3)، فيقتضي القياس وجود نقص في التنظيم القانوني للواقعة المعروضة على القاضي وإن هذا التنظيم موجود في حالات مماثلة ومن واجب القاضي القيام بعملية ذهنية تربط بين الشيء المقيس والشيء المقيس عليه(4). ولا شك بأن القياس محظور في المواد الجنائية عموماً وبخاصة نصوص التجريم والعقاب، وبالتالي لا يجوز للقاضي الجنائي عند تطبيق هذه النصوص أن يلجأ إلى القياس لأن ذلك سيفضي إلى خلق جريمة أو إلى الحكم بعقوبة لم يرد بها نص تشريعي(5). وبهذا فإن موقف القاضي الجنائي يختلف عن موقف القاضي المدني الذي يستطيع فعل ذلك في حالة الافتقار إلى وجود نص قانوني، فواجبه أي القاضي المدني تحقيق العدالة عن طريق إيجاد الحل للواقعة المعروضة أمامه، أما القاضي الجنائي فالعدالة الوحيدة التي يملكها في حالة افتقاره إلى نص تجريمي يمكن تطبيقه هي الحكم ببراءة المتهم عملاً بمبدأ (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)، فهنا بروز واضح المعالم لذاتية القواعد الجنائية الموضوعية بشكل خاص وذاتية القانون الجنائي بشكل عام، حيث يستقل بأفكاره ونظرياته على نحو لا نظير له في فروع النظام القانوني الأُخر. وعلى الرغم من صراحة مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات (الشرعية الجنائية الموضوعية)، فإن قوانين بعض الدول تخول القضاة سلطة التجريم بالقياس(6)، كالدنمارك حيث قررت المادة الأولى من قانون العقوبات صراحة على تخويل القاضي الجنائي سلطة التجريم بالقياس، ويدافع الدنماركيون على الأخذ بمبدأ القياس في قانونهم بأن هذا المبدأ قائم منذ قانون 1866 دون أن يساء استعماله وإنه لا خطورة في السماح بالقياس لمعالجة الحالات التي غفل المشرع عنها، فهو أفضل من أن تكون نصوص التجريم فضفاضة. كذلك نص قانون ألمانيا النازية الصادر عام 1935 على أنه “يعد جريمة معاقب عليها كل فعل يجرمه القانون أو يستحق العقاب طبقاً للأسس العامة للتشريع الجنائي أو للشعور السليم”، وهذا النص بدوره يعطي القاضي الجنائي سلطة واسعة تخوله تفسير النصوص الجنائية تفسيراً واسعاً، بل تجريم الأفعال وتوقيع الجزاء عليها عن طريق القياس، ولكن هذا النص لم يعد له أهمية في قانون ألمانيا الاتحادية (سابقاً)، حيث نص دستورها على مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات (الشرعية الجنائية). وفي الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، كانت المادة (16) من قانون العقوبات الصادر عام 1926 تنص على أنه: “إذا كان الفعل الذي يعد خطراً على المجتمع غير منصوص عليه صراحة في هذا القانون، فإن المسؤولية عنه تتقرر طبقاً للمواد التي تنص على الجرائم الأقرب إليه في طبيعتها”، غير أن هذا النص أصبح ملغياً بصدور قانون العقوبات السوفيتي عام 1960، حيث نصت المادة الثالثة منه على مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات.

فدافع إجازة القياس في النصوص التجريمية في ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي سابقاً كانت الغاية منه هي توفير الحماية اللازمة للنظام السياسي، أما المشرع الدنماركي فقد استهدف من إقرار القياس تحقيق العدالة على نحو أفضل(7). وبذلك فإن مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات أصبح مبدءاً عالمياً، حيث رفض كل من المؤتمر الدولي للقانون الجنائي المنعقد في باريس عام 1937 والمؤتمر الثاني للقانون المقارن المنعقد في لاهاي عام 1937 إقرار القياس وإن مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات ضمانة لحماية حرية وحقوق الأفراد التي لا يجوز التخلي عنها(8). وإذا كان القياس محظوراً في مجال نصوص التجريم والعقاب، فإنه على العكس جائز في النصوص الجنائية التي تقرر أسباباً للإباحة وموانع للمسؤولية وموانع للعقاب، فالقياس في هذه الحالات لا يمس حقوق المتهم بل يخرجه من دائرة العقاب، وكذلك لا ضرر يصيب المجتمع لأن مطبق القانون لا يأخذ بالقياس إلا بعد التأكد من أن الأخذ به يتطابق مع قصد المشرع(9)، فهذا القياس هو استصحاب على الأصل العام في الأفعال وهو الإباحة، وهو تأكيد لهذا الأصل العام ومن ثم فهو جائز قانوناً(10).

الفرع الثالث : حظر رجعية القواعد الجنائية الموضوعية الى الماضي

يقصد بقاعدة حظر رجعية النصوص الجنائية الموضوعية الى الماضي أن نص التجريم لا يسري إلا على الأفعال التالية لنفاذه وعدم سريانه على ما وقع قبل ذلك من أفعال، فالنص الواجب التطبيق على الجريمة هو النص القائم والساري المفعول وقت إرتكابها وليس النص المعمول به وقت محاكمة مرتكبها(11). وقد حرصت على ذلك العديد من التشريعات في تقريرها لهذه القاعدة بصراحة فقد نصت المادة (1) من قانون العقوبات العراقي على أن: “1- لا عقاب على فعل أو امتناع إلا بناءاً على قانون ينص على تجريمه وقت اقترافه…”، ونصت المادة (5) من قانون العقوبات المصري النافذ على ذلك بقولها: “يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها”.

فهذه القاعدة نتيجة طبيعية ولازمة لمبدأ قانونية الجرائم والعقوبات، لأن في تطبيق القانون على وقائع سابقة على نفاذه هو خرق لهذه القاعدة، فقاعدة انعدام الأثر الرجعي للقوانين العقابية تعد من الأصول الجوهرية في النظام القانوني التي يجب على المشرع مراعاتها وإلا تعين على القاضي أن يمتنع عن تطبيق القانون الذي يصدر على خلافها، فلا يجوز للمشرع أن يخالف هذه القاعدة لا بصورة صريحة ولا مستترة بإصدار قانون تفسيري يتضمن حكماً جديداً أشد بوصف أنه تفسير لنص قديم(12). فتستند هذه القاعدة إلى اعتبارات العدالة وحماية حريات الأفراد، لأن من حق كل إنسان أن يعلم وقت ارتكاب الفعل ما إذا كان سلوكه مباحاً أو مجرماً، كما تستند إلى ضرورة احترام الحقوق المكتسبة واستقرار المراكز القانونية التي نشأت في ظل قانون معين(13). فالأصل العام المقرر في التشريع الجنائي هو عدم رجعية قانون العقوبات إلى الماضي، إلا أنه يستثنى من ذلك حالة كون القانون الجديد أصلح للمتهم، ففي هذه الحالة تطبق قاعدة رجعية القانون الجنائي الأصلح للمتهم(14) والقوانين المفسرة. ولم تقتصر الإشارة على هذه القاعدة على النصوص العقابية بل تضمنتها أيضاً نصوص الدستور(15)، فقد نصت المادة (19/ثانياً) من الدستور العراقي لعام 2005 على أن”… ولا عقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون وقت اقترافه جريمة،…”، ويقابلها نص المادة (20/ب) من الدستور العراقي الملغى عام 1970، كما نصت على ذلك المادة (66) من الدستور المصري النافذ لعام 1971 حيث نصت على أنه “لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون”، كما نصت المادة (187) من ذات الدستور المصري على أنه “لا تسري أحكام القوانين إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها، ولا يترتب عليها أثر فيما وقع قبلها، ومع ذلك يجوز في غير المواد الجنائية النص في القانون على خلاف ذلك بموافقة أغلبية أعضاء مجلس الشعب”. ومن ملاحظة هذا النص الأخير يتبين لنا بأنه من الجائز في جميع القوانين غير الجنائية النص فيها على سريانها على الماضي في حين أن ذلك محظور بنص الدستور على القوانين أو القواعد الجنائية الموضوعية، وهذا بدوره يظهر لنا معلم آخر من معالم ذاتية القواعد الجنائية الموضوعية، وإنفرادها بأحكام وقواعد دون مشاركة غيرها من القواعد الموضوعية غير الجنائية، فهذا بحد ذاته يعد اعترافاً من قبل القانون الدستوري وهو أعلى قانون في النظام القانوني للدولة بذاتية القانون الجنائي. ولكن ما تجدر الإشارة إليه هو أن هذا المبدأ على الرغم من صونه من قبل الدستور فقد تعرض لانتهاكات عدة(16)، منها ما نص عليه النظام الأساسي لمحكمة نورمبرغ لمجرمي الحرب العالمية الثانية، حيث قررت المادة (6/جـ) منه على جواز محاكمة المجرمين عن الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية ولو لم يكن معاقباً عليها في القوانين الداخلية للبلاد التي ارتكبوا جرائم على إقليمها، وبهذا المعنى ذاته قضى النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية التي أنشأتها الأمم المتحدة عام 1993 لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة، وذلك منذ أول يناير 1991، ومن ذلك يلاحظ بأنه هناك استثناءات ترتبط بالمحاكمات ذات الطبيعة الدولية، وكذلك استثناءات ترتبط بالمحاكمات السياسية وبخاصة في جرائم التعاون مع الأعداء.

______________________

1- للتفصيل في ذلك ينظر: د. عصام عفيفي حسيني، القاعدة الجنائية على بياض (دراسة مقارنة في القانون الوضعي والفقه الجنائي الإسلامي)، دار المجد للطباعة، مصر 2003، ص91-128.

2- ينظر: د. محمود محمود مصطفى، شرح قانون العقوبات (القسم العام)، الطبعة العاشرة، مطبعة جامعة القاهرة 1983، ص70، د. رضا حمدي الملاح، ذاتية الدعوى الجنائية، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق/جامعة القاهرة، 2003، ص50.

3- ينظر: د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات، (القسم العام) ، دار النهضة العربية، القاهرة 1985، ص158.

4- ينظر: د. هلالي عبد اللاه أحمد، تجريم فكرة التعسف كوسيلة لحماية المجني عليه في مجال استعمال الحق، دار النهضة العربية، القاهرة 2002، ص106.

5- ينظر: د. هلالي عبد اللاه، المرجع السابق، ص106.

6- ينظر: د. أكرم نشأت إبراهيم، السياسة الجنائية (دراسة مقارنة)، مكتبة النهضة، بغداد 1996، ص31-32.

7- ينظر: د. احمد محمد خليفة، النظرية العامة للتجريم (دراسة في فلسفة القانون الجنائي)، دار المعارف، مصر 1959، ص157-160.

8- ينظر :د. صالح محسوب، التفسير والقياس في التشريعات العقابية الحديثة، شركة التجارة والطباعة المحدودة، بغداد 1953، ص56.

9- ينظر: د. هلالي عبد اللاه أحمد، المرجع السابق، ص108-109، د. أكرم نشأت إبراهيم، السياسة الجنائية، المرجع السابق، ص32.

10- ينظر: د. أحمد فتحي سرور، القانون الجنائي الدستوري ، دار الشروق ، القاهرة 2001، ص105، وللمزيد من التفصيل ينظر: د. كاظم عبد الله حسين الشمري، تفسير النصوص الجزائية (دراسة مقارنة بالفقه الإسلامي)، أطروحة دكتوراه، كلية القانون، جامعة بغداد، 2001، ص349 – 377.

11- ينظر نص المادة (2/1) من قانون العقوبات العراقي، وللتفصيل في ذلك ينظر: د. محمود إبراهيم إسماعيل، شرح الأحكام العامة في قانون العقوبات، دار الفكر العربي، القاهرة، (بلا سنة طبع).، ص151 وما بعدها، د. نظام توفيق المجالي، شرح قانون العقوبات (القسم العام)، مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان 1998، ص110.

12- ينظر: د. محمود محمود مصطفى، المرجع السابق، ص98.

13- ينظر: د. سمير عبد السيد تناغو، النظرية العامة للقانون، منشأة المعارف، الإسكندرية، بلا سنة طبع، ص659-661.

14- ينظر: المادة (2/2، 3، 4) من قانون العقوبات العراقي، وقرار محكمة التمييز في العراق رقم 2592 / جنايات / 1975 والمؤرخ في 6 / 5 / 1976، مجلة الاحكام العدلية، العدد الثاني، السنة السابعة، 1976، وللتفصيل في ذلك ينظر: د. قانون العقوبات (القسم العام)، الطبعة العاشرة، مطبعة جامعة القاهرة 1983، ص99-105، د. عصام عفيفي، مبدأ الشرعية الجنائية (دراسة مقارنة في القانون الوضعي والفقه الجنائي الإسلامي)، دار النهضة العربية، القاهرة 2003، ص49-58.

15- لمزيد من التفصيل ينظر: د. الدستور والقانون الجنائي، دار النهضة العربية، القاهرة 1992،
ص13-15، د. رضا حمدي الملاح، ذاتية الدعوى الجنائية، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق/جامعة القاهرة، 2003، ص54.

16- ينظر: د. أحمد فتحي سرور القانون الجنائي الدستوري ، دار الشروق ، القاهرة 2001، ص110-111.

المؤلف : فاضل عواد محميد الدليمي
الكتاب أو المصدر : ذاتية القانون الجنائي

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .