لا تقف الوظيفة الاجتماعية لحق الملكية عند حد تقييد الملكية الفردية تحقيقاً للمصلحة العامة حسب وإنما تقييدها للمصلحة الخاصة أيضاً، طالما كانت أولى بالرعاية من مصلحة المالك أعمالاً لما يجب أن يسود الأفراد من تضامن اجتماعي، وإظهار لارتضائهم بالواجبات الاجتماعية والأخلاقية، والارتقاء بها إلى مصاف الواجبات القانونية الملزمة. وتأتي في مقدمة تطبيقات الوظيفة الاجتماعية لحق الملكية، مراعاة للمصلحة الخاصة، التزامات الجوار، وتقييد سلطة المالك بعدم التعسف باستعماله لحقه. لذلك نذكر أهم القيود القانونية التي تتقرر لمصلحة خاصة، وهي مسؤولية المالك عن مضار الجوار غير المألوفة وعلى النحو الآتي:

أولاً: مسؤولية المالك عن مضار الجوار غير المألوفة.

إن التزامات الجوار مردها الشريعة الإسلامية، وهي مقررة للمصلحة الخاصة بالدرجة الأولى، ولكن لا يعني أنها لا تحقق المصلحة العامة في النهاية. وقد إستقر الرأي في الفقه الإسلامي على ترجيح القول بتقييد حق المالك في تصرفه بملكه بقيد عدم الضرر الفاحش. وقد نهج القانون المدني العراقي هذا الاتجاه، فنصت المادة (1051) من القانون المدني العراقي على أن: ((1- لا يجوز للمالك أن يتصرف في ملكه تصرفاً مضراً بالجار ضرراً فاحشاً والضرر الفاحش يزال، سواء كان حادثاً أو قديماً)). وقد حدث اختلاف كبير بين الفقهاء بشأن الأساس القانوني لالتزامات الجوار. لذلك نوضح هذا الموضوع من خلال النقاط الآتية:

1- صور الإضرار بالجار.

إن الإضرار بالجار من قبل مالك العقار المجاور أو شاغله يمكن أن يحصل بإحدى الصور الآتية:

أ – حالة تعمد المالك الإضرار بالجار.

وفي هذه الحالة تكون نية المالك في استعمال عقاره ليس من أجل تحقيق أية منفعة خاصة به، وإنما يرمى إلى الإضرار بجاره حسب، أي وجود سوء النية لديه، مثال ذلك أن يبني حائطاً عالياً في ملكه لكي يحجب النور عن جاره، أو أن يحفر أحد بئراً في أرضه لا ليستقي منها وإنما لتفيض بئر جاره(1). ففي كل هذه الأحوال يكون عمل المال غير مشروع لأنه لا يريد أن يستعمل حقه، وإنما يتوفر لديه سوء النية لذلك عليه التعويض بإجماع الفقه والقضاء والقانون. وهنا لا تدخل هذه الإضرار في باب التزامات الجوار التي نحن بصدد بحثها.

ب – حالة إهمال المالك.

هنا يقوم المالك بعمل ما في ملكه لمصلحته. ولكنه لا يتخذ الاحتياطات اللازمة للحيلولة دون إلحاق الضرر بجاره، وكان في وسعه أن يتخذ هذه الاحتياطات فيحدث الضرر بالجار. أي ان بإمكانه أن يحصل على الفائدة نفسها والتي حصلت لديه. لو اتخذ الاحتياطات لمنع الضرر بالجار. مثال ذلك، مالك يقيم مدخنة حمامه فوق سطح داره، وكان بإمكانه أن يجعل اتجاهها بعكس اتجاه الجار، فلم يفعل، وحدث ضرر للجار، فالمالك مسؤول باتفاق الفقه والقضاء والقانون، وهنا لا تدخل هذه الإضرار في باب التزامات الجوار(2).

ج – حالة استعمال المالك حقه استعمالاً سلباً.

في هذه الحالة يقوم المالك باستعمال حقه بصورة صحيحة ويتخذ الاحتياطات اللازمة للحيلولة دون الإضرار بالجار، ولكن الضرر يقع على الجار على الرغم من ذلك، هذه الحالة هي التي أوردها القانون المدني العراقي في المادة (1051) والتي تسمى التزامات الجوار. وكما ذكر فأن خلافاً قد ثار حول الأساس القانوني لالتزامات الجوار مما يتطلب توضيحه.

2 – الأساس القانوني لالتزامات الجوار.

ثار خلاف بين الفقهاء وشراح القانون المدني في فرنسا ومصر والعراق حول الأساس القانوني لالتزامات الجوار. فتعددت الآراء التي تقوم عليها المسؤولية عن مضار الجوار غير المألوفة. وفيما يأتي نذكر أهم الآراء في هذا الشأن وعلى النحو الآتي:

أ – ذهب البعض إلى أن أساس هذه الالتزامات يستند إلى نظرية العمل غير المشروع. فمسؤولية مالك العقار تنهض بمجرد إلحاق الضرر بجاره نتيجةً لاستعماله لملكه، فيكون بذلك قد ارتكب فعلاً غير مشروع يوجب عليه تعويض جاره عن الضرر الذي لحق به. وعلى هذا الأساس بنى المشرع الفرنسي والمشرع اللبناني مبدأ هذه الالتزامات(3). إلا أن مما يؤخذ على هذا الرأي أن المالك على الرغم من استعماله حقه استعمالاً صحيحاً وعدم ارتكابه خطأ فهو مسؤول عن الضرر الفاحش الذي يصيب جاره. في حين نجد أن نظرية العمل غير المشروع تقتضي وجود ضرر، وخطأ، وعلاقة سببية بينهما. فركن الخطأ غير متحقق، ومن ثم لا يمكن الأخذ بهذا الرأي أساساً لقيود الملكية بسبب الجوار(4).

ب – أما الرأي الآخر فيذهب إلى اعتبار التزامات الجوار من تطبيقات نظرية (التعسف في استعمال الحق)، فالمالك الذي يلحق بجاره ضرراً غير مألوف يكون متعسفاً في استعمال حق الملكية. إلا أن هذا الرأي تعرض لانتقادات شديدة، منها أن للتعسف في استعمال الحق صوراً محددة لا يمكن تجاوزها، وهذه الصور هي: قصد الإضرار بالغير، ورجحان مصلحة الجار رجحاناً كبيراً، وأن المصلحة التي يرمي إليها صاحب الحق قليلة الأهمية لا تتناسب مع الضرر الواقع، أو عدم مشروعية المصلحة التي يرمي صاحب الحق إلى تحقيقها. ولا يمكن عد مسؤولية مضار الجوار غير المألوفة من هذه الصور المقررة للتعسف في استعمال الحق(5).

ج – ويذهب البعض إلى أن هذه المسؤولية تقوم على نظرية تحمل التبعة، وفي هذه الحالة فإن المالك لم يخطأ في استعمال حقه، وإنما قد ألحق بنشاطه وهو يستعمل حقه ضرراً غير مألوف بالجار من غير أن يتعسف في استعمال حقه. فعليه التبعة وتحمل ما يصيب جاره من ضرر مألوف تبعاً لذلك فالغرم بالغنم. وهذا الرأي أيضاً تعرض للنقد وهو أن تحمل التبعة يستلزم نصاً قانونياً ينشئ التزاماً على المالك في أن لا يضر بجاره ضرراً فاحشاً أو غير مألوف(6).

د – أما الرأي الآخر فيذهب إلى أن هذه المسؤولية تقوم على أساس الغلو في استعمال حق الملكية. إذ أن الغلو في استعمال حق الملكية هو في ذاته خطأ يستوجب التعويض.

هـ – ويذهب إلى هذا الرأي بعض الفقهاء، ومفاده أن أساس مسؤولية المالك عن مضار الجوار غير المألوفة يرد إلى أن الملكية ذات وظيفة اجتماعية، وإن أفراد المجتمع حين يتعايشون متجاورين يقوم بينهم نوع من التضامن الاجتماعي، فيتحمل بموجبه المالك تبعة نشاطه ما دام يستفيد من استعمال ملكه استعمالاً استثنائياً(7). (والذي يمكن قوله هنا إن أساس مسؤولية المالك هو نص القانون الذي يربط حق المالك في استعمال ملكه بعدم الإضرار بالجار. فمخالفة هذا الالتزام يعد تقصيراً موجباً للمسؤولية)(8).

__________________________

1- د. عبود عبد اللطيف البلداوي – القيود الواردة على حق الملكية بسبب الجوار – مجلة القضاء – العدد الأول والثاني – السنة التاسعة والعشرون – 1974 – ص 42.

2- سامي إبراهيم صالح – القيود الواردة على حق الملكية بسبب الجوار – (ب . م) – 1987 – ص 8.

3- د. عبود عبد اللطيف البلداوي – القيود الواردة على حق الملكية بسبب الجوار – مصدر سابق – ص 43.

4- سامي إبراهيم صالح – مصدر سابق – ص 7.

5- د. سعيد عبد الكريم مبارك – مصدر سابق – ص53. وأنظر كذلك د. شاكر ناصر حيدر – مصدر سابق – ص 255 و ص265.

6- د. عبد الرزاق السنهوري – مصدر سابق – ص 705 و ص 707. وأنظر كذلك د. سعيد عبد الكريم مبارك – مصدر سابق – ص 53.

7- د. منذر عبد الحسين الفضل – مصدر سابق – ص 280.

8- نقلاً عن د. سعيد عبد الكريم مبارك – مصدر سابق – ص 55.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .