القضـاء الاستثنائي

 حبيب عيسى
(1)

على الرغم من أن دستور 1973 قد أهدر مبدأ الفصل بين السلطات، بالنص على أن رئيس السلطة التنفيذية هو من يرأس مجلس القضاء الأعلى؛ ما يؤدي إلى التدخل الواضح من السلطة التنفيذية في أعمال السلطة القضائية، وعلى الرغم من التأكيد على ذلك كله في دستور 2012، فإن السلطة التنفيذية لم تكتف بذلك، بل لجأت إلى إحداث العديد من محاكم القضاء الاستثنائي، بعد الاحتفاظ بالقوانين الاستثنائية السارية المفعول، وبالمحاكم الاستثنائية المحدثة سابقًا.

قال العلامة الأستاذ نصرت منلا حيدر -رحمه الله- رئيس المحكمة الدستورية : (هاجم رجال الفقه الدستوري بصورة عامة القضاء العسكري، ووصفوه بأنه أسلوب شاذ لا يأتلف مع قيام القضاء العادي كسلطة، كما لا يأتلف مع الأصول الديمقراطية التي تفصل فصلًا تامًا بين الحياة المدنية والحياة العسكرية، وبالتالي؛ بين القضاء المدني والقضاء العسكري، وهي أصول لا تُسوغ على الإطلاق محاكمة المدنيين أمام جهة عسكرية)(1) ، وأضاف : (لا يجوز إنشاء جهات قضائية استثنائية، لان في ذلك انتقاصًا من السلطة القضائية، التي ينبغي أن تكون ولايتها بالفصل في جميع المنازعات تامة غير ناقصة)(2) . قال ذلك رحمه الله، وهو رئيس المحكمة الدستورية العليا، ولم يستمع إليه أحد ، بل استمر مسلسل إحداث المحاكم الاستثنائية، وإصدار مراسيم القوانين الاستثنائية.

(2)

لقد تعددت وجوه القضاء الاستثنائي منذ الانقلاب العسكري في 8/ 3/ 1963 وتعددت وجوه الإلغاء والإضافة في هذا المجال منذ ذلك التاريخ، وحتى الآن:

القضاء العسكري: ويُمثل أحد وجوه القضاء الاستثنائي في سورية، من حيث تبعيته لوزارة الدفاع مباشرة، وليس للسلطة القضائية، بما يُعّد مخالفة لمبدأ وحدة السلطة القضائية، ومبدأ المساواة أمامها حيث على النائب العام (العسكري) أن يُلاحق جميع الجرائم التي هي من اختصاص المحكمة العسكرية، أمّا في حال توقف دعوى الحق العام على اتخاذ الشاكي صفة المدعي الشخصي، فإنه يحق للنائب العام –العسكري- أن يجري الملاحقة بناء على شكوى المتضرر، إن كان المدعى عليه مدنيًا، أما إذا كان المُدعى عليه عسكريًا، فليس للمدعي الشخصي أن يطلب تحريك دعوى الحق العام عليه إلا بموافقة النيابة العامة –العسكرية– إضافة إلى إذن المراجع الآمرة العسكرية بالملاحقة،

أما قُضاة التحقيق العسكري، فأنهم يتولون التحقيق في المخالفات والجُنح والجنايات، وهم يمارسون وظائف الضابطة العدلية العسكرية إلى جانب النائب العام والقضاة الفرد. ويتمتع ضباط الضابطة العدلية العسكرية فيما يتعلق بالجرائم التي هي من اختصاص المحاكم العسكرية بالصلاحيات نفسها التي تتمتع بها الضابطة العدلية فيما يتعلق بالجرائم العامة. وامتدّ ذلك إلى ما يُعرف بالغرفة الجزائية العسكرية لدى محكمة النقض، حيث يُستبدل أحد مستشاريها بضابط لا تقل رتبته العسكرية عن عميد عندما تنظر هذه المحكمة في قضايا تعيين المرجع بين المحاكم العسكرية والعادية. وقد منحت المواد 50 – 45 القضاء العسكري صلاحيات إقليمية وموضوعية وشخصية واسعة تشمل المدنيين.

(3)

محكمة الإرهاب: وحلّت مكان محكمة أمن الدولة العليا التي ألغيت بالمرسوم 53 تاريخ 21/ 4/ 2011، كما تم في التاريخ ذاته إصدار المرسوم 161 بإنهاء العمل بحالة الطوارئ، لكن وبعد عام واحد تقريبًا صدر عن رئيس الجمهورية (وبناء على أحكام الدستور): القانون 19 تاريخ: 2/ 7/ 2012 المعروف بقانون الإرهاب، وشُكلت -بناء عليه- محكمة استثنائية جديدة هي (محكمة الإرهاب)، حيث تُحيل إليها الأجهزة الأمنية القضايا التي تُكيفها تلك الأجهزة على أنها “إرهابية”.

باختصار شديد، كل ما قيل في محكمة أمن الدولة وأكثر يُقال في محكمة الإرهاب. وفي الوقت ذاته صدر المرسوم التشريعي بتعديل المادة 17 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، بحيث يُعطى النائب العام حق الاحتفاظ بالموقوف 60 يومًا بعد أن كان 48 ساعة فقط، وجاء التعديل كما يلي: (تختص الضابطة العدلية أو المفوضون بمهامها باستقصاء الجرائم المنصوص عليها في المواد من 260 حتى 339 والمواد 221 و388 و392 و393 من قانون العقوبات وجمع أدلتها والاستماع إلى المشتبه بهم فيها على ألا تتجاوز مدة التحفظ عليهم سبعة أيام قابلة للتجديد من النائب العام، وفقًا لمعطيات كل ملف على حدة، وعلى ألا تزيد هذه المدة على ستين يومًا).

محاكم الميدان العسكرية: جرى إحداث هذه المحاكم بالمرسوم التشريعي رقم 109 تاريخ 17/ 8/ 1968 ونصت المادة الأولى منه على أن:” تُحدث محكمة أو أكثر تُسمى “محكمة الميدان العسكرية” ، تتولى هذه المحكمة النظر في الجرائم الداخلة في اختصاص المحاكم العسكرية، التي يُقرر القائد العام للجيش والقوات المسلحة إحالتها إليها والمرتكبة زمن الحرب، أو خلال العمليات الحربية، أو أمام العدو، ويسري اختصاص هذه المحكمة من 5/ 6/ 1967، ويجوز بموجب المادة 5 من المرسوم للمحكمة وللنيابة العامة لديها عدم التقيد بالأصول والإجراءات المنصوص عليها في التشريعات النافذة، ولا تقبل الأحكام التي تصدرها هذه المحكمة بموجب (م6) أي طريق من طرق الطعن، وتخضع أحكام الإعدام التي تصدرها لتصديق رئيس الجمهورية، أما باقي الأحكام فيجري تصديقها من وزير الدفاع(3) .

المحاكم الحربية: إلى جانب المحاكم الاستثنائية السابقة، فقد صدر المرسوم التشريعي رقم 87 تاريخ 1/ 10/ 1972، متضمنًا قواعد تشكيل محاكم حربية في بعض الحالات، وبموجبه يمكن لنائب القائد العام للجيش والقوات المسلحة، وقادة القوى والفرق والألوية، وكذلك قادة الأفواج والكتائب المحاصرة والتي فقدت اتصالها مع قيادتها، صلاحية تشكيل محاكم حربية تختص بالنظر في جرائم معينة ترتكب من العسكريين في أثناء قتال العدو، أو عند الشك في القتال داخل البلاد أو خارجها، وتتألف تلك المحكمة من ثلاثة ضباط، أحدهم رئيسًا، ولا تتضمن هذه المحاكم نيابة عامة، أو قضاء تحقيق، ويحال العسكريون إليها بأمر من الجهة التي أمرت بتشكيل المحكمة، ولا تتقيد بالعقوبات الواردة في قانون العقوبات العسكري، ولا بالأصول والإجراءات المنصوص عليها في التشريعات النافذة، وتصدر أحكامها بالصورة المبرمة، وتنفذ بعد تصديقها من الجهة التي أمرت بتشكيل هذه المحكمة(4).

اللجان القضائية: وهي التي تتشكل لحالات أو موضوعات قضائية خاصة مثل: لجنة تحديد أجور العمل الزراعي بدمشق، لجنة تسريح العمال، لجنة إزالة الشيوع، لجنة القضاة العقاريين.

أما محكمة الأمن الاقتصادي، وكان من اختصاصها النظر في الجنايات والجنح المنصوص عليها في قانون العقوبات الاقتصادية رقم 37/ 66 وتعديلاته، فقد ألغيت بالمرسوم التشريعي رقم 16 تاريخ 14/ 2/ 2004، وأحيلت الدعاوى التي كانت منظورة أمامها إلى المرجع القضائي بحسب الاختصاص.

(4)

لم يقف الأثر السلبي لتداخل السلطات عند حد القضاء الاستثنائي والقوانين الاستثنائية، وإنما تعدى ذلك إلى طرق اختيار القضاة، فعلى الرغم من إنشاء معهد قضائي، المحدث بالمرسوم التشريعي رقم 42 لعام 2000، لتأهيل القضاة مدة سنتين، وبعدها يصبحون قضاة صلح، إلا أن تبعية هذا المعهد لوزارة العدل، وليس لمجلس القضاء الأعلى أدت إلى تدخل السلطة التنفيذية وأجهزة الأمن في الانتساب إلى المعهد، ذلك أن الانتساب لسلك القضاء يخضع -كما الانتساب لأي وظيفة في سورية- لما يعرف بالموافقة الأمنية من جهة، وللوساطات والمحسوبيات من جهة أخرى، وهذا أدى إلى مظاهر عدم الكفاءة من جهة، وإلى الخلل والفساد من جهة أخرى، وإلى تراكم الدعاوي والبطء في فصلها، وكذلك عدم التناسب بين حجم الدعاوي الكبير وبين عدد القضاة والمحاكم المتدني، كما أن التسيب أدى إلى تأخر القضاة في اعتلاء قوس المحاكم، بل إن ذلك يُترك غالب الأحيان لمساعد القاضي الذي يقوم بدور القاضي أغلب الأحيان، وكذلك لا يتقيد القاضي أغلب الأحيان بارتداء الرداء والشارات المُحددة مما يقلل من هيبة القضاء، وقد تفشت مظاهر الرشوة، فلم تُحلّ مشكلة اللصاقة القضائية ورفع قيمتها، التي أُحدثت تحت شعار محاربة الفساد في القضاء، وتحسين وضع القضاة المادي وإصلاح القضاء، إضافة إلى أن تلك الأعباء من المفترض أن تقع على عاتق الدولة، وليس على كاهل المواطن، يضاف إلى ذلك كثرة تنقل القضاة بدون مبرر أغلب الأحيان، وعدم التخصص في القضاء المدني أو الجزائي؛ ما أدى إلى ضعف الخبرة والمعرفة لدى القضاة.

(5)

عود على بدء، إن ما تقدم يعود بنا إلى القاعدة الأساسية التي اعتمدناها في هذا البحث، وهي أن الدستور هو أبو القوانين وأمها، وأن إصلاح العوار في القضاء والقوانين يبدأ من الدستور، حيث مبدأ الفصل بين السلطات لا شك فيه، فأي حديث عن استقلال القضاء دون سلطة قضائية مستقلة مجرد لغو، فانتهاك استقلال السلطة القضائية يبدأ من مواد الدستور أساسًا، فعندما ينص الدستور على مبدأ فصل السلطات، ثم ينص -في الوقت ذاته- على مواد تتناقض مع فصل السلطات نكون أمام مشكلة دستورية، فبموجب الدستور الحالي يُسمي رئيس الجمهورية أعضاء المحكمة الدستورية العليا، وله حلّها، كما له تعيين وحلّ الحكومة وحلّ مجلس الشعب، وتولي مهمات التشريع من خلال المراسيم التشريعية خارج انعقاده.

كما لرئيس الجمهورية أن يستفتي الشعب بما يراه ملائمًا، دون أن يحق للمحكمة الدستورية الاعتراض على مخالفة القضية المطروحة للاستفتاء للدستور، تعتبر من القضايا البارزة، وكذلك النص على أن رئيس الجمهورية هو الذي يعين جميع الموظفين المدنيين والعسكريين في الدولة ويشمل ذلك القضاة أدى إلى خلل بالغ. كما أن هناك تعارضًا واضحًا في الدستور، بما يخالف مبدأ الفصل بين السلطات، ذلك؛ لأن الدستور أعطى السلطة التشريعية والتنفيذية صلاحيات تُعدّ تعديًا على اختصاص السلطة القضائية ، حيث تنص المادة 117 من الدستور على أنه: (لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولًا عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهماته، إلا في حالة الخيانة العظمى، ويكون طلب اتهامه بناء على اقتراح من ثلث أعضاء مجلس الشعب على الأقل وقرار من مجلس الشعب بتصويت علني وبأغلبية ثلثي أعضاء المجلس، في جلسة خاصة سرية، ولا تجري محاكمته إلا أمام المحكمة الدستورية العليا). إن هذه المادة تتعارض مع مبدأ فصل السلطات، حيث أن المادة 141 من الدستور، نصت على أن: (تؤلف المحكمة الدستورية العليا من سبعة أعضاء، يكون أحدهم رئيسًا يسميهم رئيس الجمهورية بمرسوم)، لأن صلاحية تسمية أعضاء هذه المحكمة، وهي هيئة قضائية، من رئيس السلطة التنفيذية، يعطي حماية دستورية مُطلقة من المحاسبة والمساءلة لرئيس الجمهورية وللسلطة التنفيذية التي يرأسها، وهذا انتهاك واضح لحق المقاضاة ومسؤولية الشخص عن الأفعال التي يرتكبها. كذلك هناك تعارض واضح بين نص المادة 132 من الدستور السوري التي تقرر أن: (السلطة القضائية مستقلة ويضمن رئيس الجمهورية هذا الاستقلال، يعاونه في ذلك مجلس القضاء الأعلى).

مع نص المادة 133 منه، وفيها أنه: (يرأس رئيس الجمهورية مجلس القضاء الأعلى ويبين القانون طريقة تشكيله واختصاصاته وقواعد سير العمل فيه). ويتبين هذا التعارض من خلال التساؤل المشروع والمنطقي القانوني، حول الآليات التي يمكن بواسطتها الحفاظ على مبدأ الفصل بين السلطات، إذا كان رئيس السلطة التنفيذية نفسه يرأس مجلس القضاء الأعلى(5).

وهذا يعود بنا إلى قضية احترام مبدأ المساواة أمام القضاء 

هوامش ومراجع:

(1) نصرت منلا حيدر، مبدأ المساواة أمام القضاء، بحث منشور في مجلة المحامون، إصدار نقابة المحامين في الجمهورية العربية السورية، العددان 1 و2، 1993، ص30.

(2) المرجع السابق، ص31.

(3) ممدوح عطري (إعداد وتنسيق)، إحداث محاكم الميدان العسكرية، المرسوم التشريعي رقم 109 تاريخ 17/ 8/ 1968، موجود في: قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية مع التشريعات المكملة له وتعديلاته، مؤسسة النوري، 1998.

(4) المصدر السابق.

(5) نصرت منلا حيدر، استقلال السلطة القضائية، بحث منشور في مجلة المحامون، إصدار نقابة المحامين في الجمهورية العربية السورية، الأعداد 7 و8 و9، 1977، 114.