الغلط في موضوع الحق محل الاعتداء

المؤلف : مجيد خضر احمد عبد الله
الكتاب أو المصدر : نظرية الغلط في قانون العقوبات
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

الركن المادي في الجريمة قوامه عناصر ثلاثة، هي السلوك الاجرامي ونتيجته والرابطة السببية بينهما. والسلوك الاجرامي يتكون بدوره من شقّين : الأول، نشاط ارادي. والثاني، محل ينصب عليه هذا النشاط. وهكذا لا ينفصل محل الجريمة عن النشاط الاجرامي فيها، الأمر الذي يجعل محل الجريمه عنصراً من عناصر الركن المادي، ولا يجعله شرطاً مفترضاً للجريمة.

بيد أن هناك من يؤكد وجود صلة بين الشروط المفترضة في الجريمة ومحلها القانوني، أي يؤكد استقلال الشروط المفترضة عن أركان الجريمة. والحق أن هذه الصلة لا يمكن الالتفات عنها أو إنكارها، ولكنها صلة غير مباشرة. فالمحل القانوني للجريمة بوصفه المصلحة التي تحميها القاعدة الجنائية لا يكون بذاته شرطاً مفترضاً خارج الإنموذج القانوني للجريمة، إنما هو بمثابة الحكمة من املائه وتقرير العقاب على السلوك الموصوف فيه.

فهذه الحكمة اذا لا تتحقق الا اذا توافرت شروط معينة قد ينص عليها المشرّع صراحة أو يشير اليها ضمناً، وهذه الشروط ماهي الا الشروط المفترضة في الجريمة. ومن هنا تبدو الصلة بين المحل القانوني للجريمة والشروط المفترضة فيها. فالمحل يفرض وجود هذه الشروط بالضرورة ويفترضها. وعلى سبيل المثال، اذا كان المحل القانوني في جريمة القتل هو (حق الحياة) أو (العدوان على هذا الحق)، فإن هذا الحق وذلك العدوان عليه يفرضان ويفترضان (وجود إنسان على قيد الحياة) قبل مباشرة الفاعل لسلوكه، يكون بمثابة الشرط المفترض في جريمة القتل.

والأمر نفسه يقال في حق الملكية بوصفه المحل القانوني في جريمة السرقة. ((وعلى ذلك فإن الشروط المفترضة تبتعد في موضوعها داخل بنيان الجريمة عن أركانها)) فتستقل هذه الشروط المفترضة عن أركان الجريمة التي ينتمي اليها المحل القانوني (1) .إن كلمة ((الحق)) لها أصل في اللهجة اللاتينية وتأتي بمعنى التوجيه والتنظيم. ومعناها الاصطلاحي (ماهو موافق للقاعدة)، أو هي (مجموعة من القواعد التي تنظم علاقات الناس بالمجتمع).

وكلمة الحق بالمعنى تمثل : الميزات والممكنات الممنوحة بالحقوق الوضعية والموضوعية الى شخص معين أو لأجل أمر من الأمور، اذ يملك صاحبها الطمأنينة الحقوقية للتمتع بحقه أو يملك المصالح التي يحميها القانون. أما الأستاذ السنهوري فيقول إنها (مصلحة مالية يقرّها القانون للفرد).

والحقوق اما عامة تتمثل بالحقوق السياسية التي تنظمها القـوانين المنظمة للعلاقات القائمة بين الحاكمين والمحكومين، واما حقوق خاصة تتمثل بالحقوق المدنية المنظمة لعلاقات الأفراد فيما بينهم (2) .

والحق في القانون الخاص عبارة عن: سلطة أو قدرة ارادية تُخوّل للشخص لتمكينه من القيام باعمال معينة تحقيقاً لمصلحة يعترف له القانون بها. فالحق اذا هو سلطة أرادية، وشخص هو بمثابة صاحب الحق تقوم فيه هذه السلطة، وموضوع الحق أو محله وهو بمثابة الشئ أو المال الذي ترد عليه السلطة أو القدرة. وهذه الامور الثلاثة تمثل أركان الحق (3) .

وفكرة الحق لا يقتصر استعمالها على نطاق القانون الخاص، بل هي فكرة عامة تسود فروع القانون العام كافة ومنها قانون العقوبات الذي يسبغ ((الحماية الجنائية)) لبعض الحقوق التي يعترف المشرّع الجنائي بها لأصحابها. ولذلك كانت العلة في تجريم القتل هي حماية (حق الإنسان في الحياة)، وعلة تجريم الضرب أو الجرح أو العنف أو اعطاء مادة ضارّة أو ارتكاب أي فعل آخر مخالف للقانون هي حماية (حق الإنسان في سلامة جسده)،وعلة تجريم الاختطاف هي(حماية حق الإنسان في حريته)، وعلة تجريم السرقة والاحتيال وخيانة الامانة وغصب الأموال أو اتلافها هي (حماية حق الإنسان في ملكيته)، وعلة تجريم القذف والسب هي (حماية حق الإنسان في سلامة اعتباره وسمعته)، وعلة تجريم اغتصاب الإناث وهتك العرض هي (حماية حق الإنسان في سلامة عرضه)، وهكذا في الحقوق الأخرى.

وهذه الحقوق التي يعترف بها المشرّع الجنائي ويحميها لابد لها من (موضوع أو محل) تنصب عليه ويتعلق به مضمون هذا الحق، أي لابد لهذه الحقوق من شئ أو مال ترد عليه تلك القدرات والسلطات التي خولها القانون للشخص صاحب الحق، فيقع عليه فعل الجاني المتمثل بالاعتداء ونتيجة جرمية تتحصل عنه.

كان الأمر كذلك، وكانت علّة النصوص الجزائية هي حماية الحقوق التي يعترف القانون بها للأشخاص، ولما كان القصد هو إنصراف نيّة الجاني الى تحقيق الاعتداء على الحق الذي يحميه القانون، وكان الحق لا يمكن تصوره من دون محلٍ يقع عليه فعل الجاني وتتحقق فيه النتيجة الجرمية، فإن القصد الجرمي يقتضي منطقياً أن يكون الجاني عالماً علماً حقيقياً صحيحاً لا مفترضاً عند مباشرة سلوكه بوجود ذلك المحل أوالموضوع في الواقع واستكماله الصفات أو(الأوصاف) والتكييفات أو (الشروط) التي ينص عليها المشرّع والتي تجعله صالحاً لأن يتعلق الحق به (4) ؛

فالقصد الجرمي يمثل إرادة الاعتداء على الحق الذي قدّر المشــرع جدارته بالحماية الجنائية ، والإرادة على هذا لابد من أن تكون محيطة بهذا الحق ، وإن هذا الحق عادة ما يكون ذا محل وكيان مادي ينصب عليه فعل الجاني وتتحقق فيه النتيجة الاجرامية، فهذا الحق له موضوع مستجمع لخصائص معينة تؤهله لأن يكون محلاً للحق وموضوعاً للاعتداء الذي يلحق به. فيلزم علم الجاني بهذا الموضوع واستجماعه لخصائصه، فاذا غلط في فهمه فإن ارادة الاعتداء على الحق ومحله لابد من ان تنتفي وينتفي معها القصد الجرمي (5) ؛ فيمكن ان يكون إنتفاء العلم ثم إنتفاء القصد في جريمة القتل مثلاً مردّه تصوّر مغلوط للواقع يقوم في ذهن الجاني، وذلك بأن يعتقد بأن فعله لا يرد على محل مطلقاً أو إنه يرد على غير إنسان، لابل قد ينتفي القصد كذلك وإن كان الجاني عالماً بأن فعله سيقع على إنسان اذا انتفى علمه تماماً بكون هذا الإنسان (حيّاً).

فمن يدفن إنساناً لاعتقاده بأنه قد مات ينتفي لديه العلم والقصد من بعد، اذا تبين فيما بعد أنه كان مغشياً عليه فقط وإن دفنه هو الذي تسبب في موته خنقاً. فالفاعل هنا قد إنتفى علمه بصفة أساسية تتعلق بإنموذج الجريمة وهي (الحياة)، لأنه كان مقتنعاً ومعتقداً بأن فعله يرد على إنسان قد فارقته الحياة، الأمر الذي يعني أن الغلط في صفة أساسية في محل القتل – وهي كون هذا المحل (إنساناً) وكونه (حيّاً) – ينفي القصد الجرمي. فالفاعل لابد من أن يعلم أن فعله إنما ينصب على موضوع صالح لتحقيق النتيجة فيه، فلكي يعد الفاعل قاصداً القتل لابد من أن يعلم أن فعله ينصب على إنسان حي بغية ازهاق روحه، فإن اعتقد أنه يأتي فعله على جثة هامدة، فلا يمكن القول انه كان مريداً إحداث الوفاة مادام لم يكن يتصوّر حدوث مثل هذه النتيجة للمحل الذي إنصب عليه فعله، وعلى ذلك لا يعد الجراح قاتلاً قتلاً عمدياً أو شارعاً فيه اذا وضع مشرطه في جسم إنسان معتقداً إنه جثة هامدة تم احضارها اليه لغرض التشريح والوقوف على أسباب وفاته، اذا تبين لاحقاً أن هذا الإنسان مازال على قيد الحياة وقد فارقها بسبب التشريح.

وهكذا الحال في جريمة الاجهاض التي يتطلب اتمام عناصرها أن يكون الفاعل عالماً بأن موضوع الحق المعتدى عليه أنثى (حيّة) وأن تكون (حاملاً). وفي جريمة السرقة يتعين أن يعلم الفاعل أن المال الذي يختلسه ملك لغيره ولاحق له في تملكه، أما تصوّره أن ذلك المال يعود له بناءً على أسباب معقولة مقبولة فإنه ينفي قصد الاختلاس لديه، كما لو اعتقد أنه يتصرف في ملكه، كمن يفتح سيارة كانت واقفة في موقف عام فينطلق بها متوهماً أنهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا سيارته لشدة الشبه بينهما فاذا هي سيارة غيره (6) .

ومن يجري اتهامه بحيازة مواد مخدّرة يتعين اثبات علمه بطبيعة المادة، فاذا ظنّ أن المادة التي يحوزها عقاراً غير مخدّر فلا ينسب قصد اليه (7) . وهكذا يظهر أن العلم بموضوع الجريمة وهو محل الحق الذي يحميه القانون بتقرير العقاب على فعل الاعتداء الذي ينتهكه أو يهدره، هو أول الوقائع التي يتعين العلم بها لقيام لقصد الجرمي (8) .وإن الصفات التي يستلزمها المشرع في المحل ليكون صالحاً لأن يتعلق الحق به والتي تميز موضوع الحق الذي ينبغي اأن يعلم به الفاعل علماً حقيقياً صحيحاً لامفترضا، هي صفات اما أن تكون ((طبيعية)) واما أن تكون ((قانونية)).

ومثال الصفات الطبيعية، صفة المنقول أو العقار. اذ يراد بصفة المنقول في القانون الجنائي المعنى الطبيعي (الفطري) وليس المعنى الفني (العلمي)المعروف في القانون المدني. وعليه فإن ما يعده القانون المدني عقاراً بالتخصيص فإنه في نظر القانون الجنائي يعد (منقولاً) مادام قابلاً للإنفصال والنقل وإن ترتب على ذلك إتلافه. وقد يستوي في الجريمة أن يكون موضوع الحق منقولاً أو عقاراً كما هو الحال في جريمة الهدم أو التخريب أو الإتلاف الواردة في المادة ( 477 / 1 عقوبات عراقي))، إذ نصت هذه المادة على أنه ((يعاقب بالحبس… من هدم أو خرب أو أتلف عقارا أو منقولا غير مملوك له أو جعله غير صالح للاستعمال أو أضر به أو عطله بأية كيفية كانت)). في حين قد يستلزم القانون في هذا الموضوع صفة المنقول فقط، كما يدل على ذلك تعريف السرقة الوارد في المادة (439عقوبات عراقي) ونصها أن (( السرقة اختلاس مال منقول مملوك لغير الجاني عمدا…)).

وقد يستلزم القانون صفة العقار فحسب، كما هو الحال في جريمة انتهاك حرمة المساكن (دخول عقار الغير) في نص المادتين (428 و429 عقوبات عراقي)، فنصّـت المادة (428) على أنه: ((1. يعاقب بالحبس… أ. من دخل محلاً مسكوناً أو معداً للسكنـــــى أو أحد ملحقاته وكان ذلك بدون رضاء صاحبه…))، ونصت المادة (429) على أنه: ((اذا ارتكبت الجريمة المبينة في المادة 428 في محل معد لحفظ المال أو عقار غير ما ذكر فيها فتكون العقوبة الحبس…)) وكذلك الصفات الطبيعية الواردة في جريمة نقل أو ازالة الحدود أو العلامات الأخرى المعدّة لضبط المساحات أو لتعيين الحدود أو للفصل بين الأملاك المملوكة للغير أو للجهات الرسمية وشبه الرسمية المنصوص عليها في المادة (481 عقوبات عراقي)، كما تعد من قبيل الصفات الطبيعية أيضا صفة القطارات والسفن والطائرات وأية وسيلة من وسائل النقل العام في جريمة الاعتداء على سلامة النقل ووسائل المواصلات العامة الواردة في المادة (354 عقوبات عراقي ). وكذلك صفة الحيوان في جرائم قتل الحيوانات والاضرار بها.

من دون مقتضى. ويدخل في صفة الحيوان دواب الركوب والجر والحمل بمقتضى نص المواد (482 ـ486 عقوبات عراقي ).أما الصفات أو التكييفات ((القانونية)) في موضوع الحق، فمثالها كون صفة المال المنقول في جريمة السرقة ((مملوكاً للغير)) في المادة (439 عقوبات عراقي). وصفة ((المرفق العام)) أو صفة العمل أن يكون ((من أعمال مصلحة ذات منفعة عامة)) في جريمة تخريب واتلاف الأموال الواردة في نص المادة (477/2 عقوبات عراقي). وصفة ((الأشياء المحجوز عليها قضائياً أو ادارياً)) المنصوص عليها في المادة (439/ الشق الثاني عقوبات عراقي). ولما كانت الصفات أو التكييفات – طبيعية كانت ام قانونية في موضوع الحق المعتدى عليه تمثل عنصراً يلزم العلم به لقيام القصد الجرمي، فإن الغلط فيه يكون مؤثراً نافياً لذلك القصد (9) .

وبناءً على ما تقدم، فان جريمة الاختلاس المنصوص عليها في المادة (315عقوبات عراقي) تفرض عقوبة السجن على كل موظف أو مكلف بخدمة عامة يختلس أو يخفي مالاً أو متاعاً أو ورقة مثبتة لحق أو غير ذلك مما وجد في حيازته، وتشدد العقوبة الى السجن المؤبد أو المؤقت اذا كان الموظف أو المكلف بخدمة عامة من مأموري التحصيل أو المندوبين له أو الأمناء على الودائع أو الصيارفة ويختلس شيئاً مما له بهذه الصفة، والمادة (339 عقوبات عراقي) ونصّها :((يعاقب بالسجن… كل موظف أو مكاف بخدمة عامة له شأن بتحصيل الضرائب أو الرسوم أو الغرامات أو نحوها، وكل ملتزم للعوائد أو الأجورأو نحوها طلب أو أخذ أو أمر بتحصيل ما ليس مستحقاً أو ما يزيد على المستحق مع علمه بذلك…)).

فهي جرائم تطلب المشرع لقيامها أن يكون (محل) الفعل المكون لها – وهو الاختلاس أو الاخفاء – عبارة عن متاع أو مال أو ورقة مثبتة لحق أو رســـوم أو غرامات أو عوائد أو ضرائب تؤول للدولة فيستحوذ عليها من دون وجه حق؛ فاذا اعتقد اعتقاداً مسوغاً على سبيل الغلط بأنه يأخذ مما هو مستحق له أو كما لو كان غلطه يعود الى خطأ حسابي أو جهل بمفهوم القانون المالي أو الاداري، أو كان نتيجة خلط بين نقوده ونقود لا تعود له مثلاً، فلا ينسب قصد اليه ولا تقوم مسؤولية عمدية عن ذلك. ويقال الشئ نفسه عن الجريمة المنصوص عليها في المادة (319 عقوبات عراقي) ونصّها: ((يعاقب بالسجن… كل موظف أو مكلف بخدمة عامة إنتفع مباشرة أو بالواسطة من الأشغال أو المقاولات أو التعهدات التي له شأن في اعدادها أو احالتها أو تنفيذها أو الاشراف عليها…))، وكذلك الجريمة المنصوص عليها في المادة (444/11 عقوبات عراقي) التي تعاقب بالسجن على السرقة التي ترتكب على شئ مملوك للدولة أو احدى المؤسسات العامة أو احدى الشركات التي تسهم الدولة في مالها بنصيب.

فالجاني يلزم فيها أن يكون عالماً بأن المال موصوف بتلك الصفة القانونية وانه مملوك للدولة ولاحق له فيه، فاذا اعتقد بأن المال مملوك له وكان اعتقاده مسوغاً فلا ينسب قصد اليه، أو اذا اعتقد أن المال مملوك لأحد الأفراد وليس مملوكاً للدولة فيتخلّف عنه قصد السرقة المشددة. أما اذا انصب غلطه على صفات وتكييفات ليس لها أهمية قانونية، كما لو عمد شخص الى اختلاس بعض المصوغات معتقداً أنها من الذهب الخالص فاذا بها من النحاس أو بالعكس، فإن غلطه في نوع المعدن وقيمته لا تأثير له في توافر قصد السرقة لديه، اذ إنصب الغلط على أمر لا يعدّه القانون عنصراً موضوعياً في الجريمة ولا يلزم العلم به.

ومن قبيل الغلط المنصب على عنصر يتعلق بموضوع الحق، جريمة السرقة الواردة في الشق الثاني والثالث من المادة(439 عقوبات عراقي) اذ نصت على أنه: ((… ويعتبر مالاً منقولاً لتطبيق أحكام السرقة النبات وكل ماهو متصل بالأرض أو مغروس فيها بمجرد فصله عنها والثمار بمجرد قطفها والقوى الكهربائية والمائية وكل طاقة أو قوة محرزة أخرى. ويعد في حكم السرقة اختلاس المنقول المحجوز عليه قضائياً أو ادارياً أو من جهة مختصة أخرى والمال الموضوع تحت يد القضاء باي وجه ولو كان الاختلاس قد وقع من مالك المال، وكذلك اختلاس مال منقول مثقل بحق إنتفاع أو بتأمين عيني أو بحق حبس أو متعلق به حق الغير ولو كان ذلك حاصلاً من مالكه)).

فاذا لم يتوافر العلم الفعلي والحقيقي الصحيح لدى الجاني بأن الأشياء ((محجوز عليها)) مثلاً، بأن كان الحجز قد وقع في غيابه ولم يعلم به مطلقاً، انتفى القصد الجرمي لديه.أما اذا انصب الغلط على وصف ليس له أهمية قانونية في قيام الجريمة، أي اذا إنصب على وصف لا يعدّه المشرع عنصراً في الجريمة، كما لو اعتقد الجاني أن المال المحجوز عليه الذي اختلسه حُجز عليه حجزاً تحفظياً فقط وليس تنفيذياً، فاعتقد أن المال قد فقد صفة من الصفات التي تجعله صالحاً لأن يكون موضوعاً للاعتداء، فإن القصد الجرمي يبقى قائماً لدى الجاني بالرغم من الغلط وتقوم مسؤوليته العمدية على أساس ذلك. وذلك لأن الحجز التحفظي متى أوقعه الموظف فيجب أن يحوز الاحترام والالتزام والالزام ولو لم يحكم بتثبيته أو تحويله الى حجز تنفيذي، الا اذا صدر حكم من جهة مختصة ببطلانه. أما جريمة حيازة أو اخفاء أو استعمال أشياء متحصلة من جريمة أو تصرف بها الفاعل على أي وجه مع علمه بذلك، المنصوص عليها في المادتين (460و461 عقوبات عراقي)، فقد تطلب فيها المشرع أن يكون (الشيء محل الاخفاء) موصوفاً بأنه متحصل من أية جناية أو جنحة، دون الأشياء المتحصلة من (المخالفات)، وتتوافر عناصر الجريمة ولو كان الشيء متحصلاً من فعل لاحق لتلك الجناية أو الجنحة، كمن يحوز ثمن مبيعات مسروقة؛ فيجب أن يعلم الجاني علماً حقيقياً لا مفترضاً ولا يشوبه غلط بأن الشيء محل الاخفاء موصوف بالاوصاف التي استلزم المشرع استكماله لها، وكان المشرع صريحاً في اشتراطه علم الجاني عندما قال ((مع علمه بذلك))، أي يعلم بان الشئ الذي يخفيه مسروق بغض النظر عن الباعث (المادة/460)، أو كان في ظروف تحمله على الاعتقاد بعدم مشروعية مصدره (المادة/461).

وكذلك الحال في جريمة القتل العمد (المادة/405 عقوبات عراقي)، وجرائم الجرح والضرب والايذاء العمد (المواد/412-415 عقوبات عراقي)، فالمشرع قد تطلب أن يكون محل الحق متصفاً بأنه ( جسد إنسان على قيد الحياة) فحسب، بصرف النظر عن أي وصف آخر في ذلك الجسد الذي يعود الى إنسان حيّ، وبغير ذلك لا تقوم هذه الجرائم، وإن أمكن في حالات معينة قيام جرائم أخرى. فاذا اعتقد الجاني اعتقاداً زائفاً مسوغاً بأنه جسد حيوان أو أنه جسد يعود الى إنسان قد فارقته الحياة، فإنه غلط ينفي قصد الفاعل. ومن قبيل هذه الجرائم أيضاً جريمة قتل الحيوانات والاضرار بها عمداً أو دون مقتضى (المادة/482 عقوبات عراقي).

فيشترط المشرع لتكامل هذه الجريمة أن يكون الحيوان وهو موضوع الحق المعتدى عليه ((دابة من دواب الركوب أو الجر أو الحمل)). فلو قتل الفاعل كلباً كبيراً بدون مقتضى، وكان لا يعلم أن ذلك الكلب من النوع المستخدم في جر العربات الصغيرة، فإن الجريمة لا تقوم بحقه لتخلف علمه بالمحل الذي تحقق فيه الاعتداء، وهي صفة تطلبها المشرع لقيام الجريمة وهي كون الحيوان من دواب الجر. كذلك يكون الأمر في جرائم النشر لاسيما ما ورد في (المادتين/81و82 عقوبات عراقي)، اذ تطلب المشرع فيها صراحة العلم الفعلي والصحيح لدى رئيس التحرير والمحرر المسؤول عن القسم لإمكان معاقبتهما (المادة /81 منه). وكذلك العلم الفعلي والصحيح لدى المستورد والطابع والبائع والموزع والملصق (المادة/82 منه). فلا جريمة اذا غلط أي منهم غلط مسوغا صادرا عن حسن نيةمن دون إهمــــــــــــــــــــال أو تقصير.

ومن قبيل هذه الجرائم تلك الجريمة المنصوص عليها في (المادة/177/1/2/3 عقوبات عراقي)، فهي تعاقب بالسجن المؤبد كل من سلّم أو أفشى أو أتلف لمصلحة دولة أجنبية أو لمن يعملون لمصلحتها سراّ من أسرار الدفاع عن البلاد، وتعاقب بالاعدام من يفعل ذلك وهو مكلف بخدمة عامة أو يرتكب الجريمة في زمن الحرب أو اذا كانت الدولة الأجنبية معادية. فهذه الجريمة يشترط المشرّع لقيامها أن يكون الشيء ذا صفة أو طبيعة سريّة، وأن يكون متعلقاً بالدفاع عن البلاد. وذلك يعني أن القصد الجرمي لا يقوم الا اذا كان الفاعل عالماً بتوافر هذين الوصفين في الشيء الذي حصل عليه، سواء أكان بيانات ام معلومات ام وثائق ام افلام وصور ونحوها؛ فاذا اعتقد الفاعل على سبيل الغلط أنها أشياء ليس لها صفة السرية أو أنها ليست متصلة بالدفاع عن البلاد تعذّر اسناد القصد الى الفاعل وامتنعت مسؤوليته العمدية عنها.

وقصارى القول أن الغلط في الوصف المتعلق بموضوع الحق المعتدى عليه ينفي القصد الجرمي اذا كان الوصف يمثل عنصراً موضوعياً لازماً في الجريمة حيث ينص المشرع صراحة على تطلبه، والافهو غلط غير جوهري لايؤثر في قيام القصد الجرمي اذا لم يتطلب المشرع ذلك الوصف في موضوع الحق المعتدى عليه (10) .
____________________
1- د. عبد العظيم مرسي وزير – الشروط المفترضة في الجريمة – دار الجليل للطباعة/ مصر–1983-ص90وص111.
2- المحامي اسماعيل العمري –الحق ونظرية التعسف في استعمال الحق في الشريعة والقانون – ط/1 – مطبعة الزهراء الحديثة – الموصل/ العراق – 1984 – ص22-24.
3- د. .محمد زكي محمود-آثار الجهل والغلط في المسؤولية الجنائية-دار الفكر العربي للطباعة والنشر-1967 – ص217
4- د. محمد زكي محمود–المصدر السابق– ص217-220. ويُنظر د. علي أحمد راشد – مبادئ القانون الجنائي – المدخل وأصول النظرية العامة – ط/2–دار النهضة العربية–مطبعة جامعة القاهرة/القاهرة – 1974 – ص370.
5- د. علي عبد القادر القهوجي – قانون العقوبات القسم العام – الدار الجامعية -2000 – ص319 و ص398 ومابعدها. ويُنظر: د. محمود نجيب حسني –شرح قانون العقوبات القسم العام – ص 564.
6- د. كامل السعيد-شرح الأحكام العامة في قانون العقوبات-ط1-الناشر الدار العلمية الدولية ودار الثقافة للنشر والتوزيع-عمان/الأردن-2002، ص283. د. محمد زكي أبو عامر-قانون العقوبات/القسم الخاص-دار المطبوعات الجامعية-الأسكندرية-1977ص469 ومابعدها. د. علي أحمد راشد-مبادىء القانون الجنائي-المدخل وأصول النظرية العامة-ط2-دار النهضة العربية-القاهرة-1974– ص370. د. أحمد أمين – شرح قانون العقوبات القسم الخاص – ط/3 – مكتبة النهضة – بيروت/ بغداد – بدون ذكر السنة – ص 640. د. محمد علي السالم عياد الحلبي – شرح قانون العقوبات القسم العام – ص330 ومابعدها. د. محمد صبحي نجم – قانون العقوبات القسم العام – ط/1 – مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع – عمان/الأردن – الاصدار الرابع 2000 – ص259. د. علي حسن الشرفي – شرح قانون الجرائم والعقوبات اليمني القسم العام – ص353. ويُنظر في هذا السياق قرار محكمة التمييز في العراق 229/ هيئة عامة ثانية / 1977 في 11/2/1978 – مجلة الأحكام العدلية – العدد الأول – السنة التاسعة – ص174، وفيه قررت أنه:((لايسأل المتهم عن جريمة الاحتيال وفق المادة /457 عقوبات اذا كان يجهل بأن المال الذي تصرف به لايعود له أو ليس له حق التصرف فيه)).
7- د. محمد مصطفى القللي – شرح قانون العقوبات / في جرائم الأموال – 1945 – ص 58.
8- Stefani (G) et levasseur (G): Droit penal general – Paris-1975 – No.190 a 191 – P.164-165.
ويُنظر قريب من هذا المعنى : د. نظام توفيق المجالي-شرح قانون العقوبات/القسم العام-مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع-عمان/الأردن-1997 – ص414 ومابعدها.
9- د. محمد زكي محمود – المصدر السابق – ص222. ويُنظر موقف القانون المصري في المصدر نفسه–ص 220 ومابعدها.
10- يُنظر في موقف المشرّع المصري من الموضوع: د. محمد زكي محمود – المصدر لسابق – ص223-234..